الفصل السادس
تطبيق التحليل النقدي للخطاب عمليًّا: التفسير والشرح، وموقع
المحلل
يواصل هذا الفصل تقديم الإجراء اللازم للتحليل النقدي للخطاب، وكان الفصل
الخامس قد عالج مرحلة التوصيف، وننتقل الآن إلى مرحلتَي التفسير والشرح،
اللتين سوف أُناقشهما بهذا الترتيب. وسوف يُختتم الفصل ببعض المسائل الخاصة
بالعلاقة بين المحلل والخطاب الذي يتولَّى تحليله. ولنبدأ بالعودة لإلقاء
نظرة سريعة على العلاقة بين المراحل الثلاث التي رسمَت خطوطها العريضة في
الفصل الثاني؛ لإنعاش ذاكرة القراء من ناحية، وتأكيد جوانب القصور في
الاكتفاء بالتوصيف من ناحية أخرى.
قلت في الفصل الخامس: إن المعالم الشكلية للنصوص ذات قيم خبراتية، أو
علائقية، أو تعبيرية، أو ترابطية، أو أي عدد من هذه القيم، كما أقمت الروابط
بين الثلاث الأولى من هذه القيم بالجوانب الثلاثة للممارسة الاجتماعية التي
قد تخضع (وفق ما يقوله الفصل الثالث) لقيود السلطة (المضمون والعلاقات
والذوات) وما يرتبط بها من آثار بنائية (في المعارف والمعتقدات، وفي العلاقات
الاجتماعية، والهويات الاجتماعية). ولكن المرء لا يستطيع، كما هو واضح، أن
يستقرئ هذه المعالم الشكلية لنصٍّ من النصوص مباشرةً حتى يستنبط تأثيرَ هذه
الأبنية في تركيب مجتمع من المجتمعات! فالعلاقة بين النص والأبنية الاجتماعية
علاقة غير مباشرة تعتمد على وسائط معينة. وأول هذه الوسائط جميعًا الخطاب
الذي يُشكل النصُّ جزءًا منه؛ إذ إن قيم المعالم النصية لا تُصبح حقيقةً
واقعة، وفاعلة في المجتمع، إلا إذا كانت باطنة في التفاعل الاجتماعي حيث يجري
إنتاج النصوص وتفسيرها في إطار من الافتراضات القائمة على المنطق السليم (وهي
جزء مما أسميته موارد الأعضاء) فإن هذه هي التي تمنح المعالم النصية قيمها.
وأما عمليات الخطاب المذكورة واستنادها إلى إطار الافتراضات القائمة على
المنطق السليم (وهي جزء مما أسميته موارد الأعضاء) فإن هذه هي التي تمنح
المعالم النصية قيمَها. وأما عمليات الخطاب المذكورة واستنادها إلى إطار
الافتراضات القائمة على المنطق السليم، فهي تنتمي إلى المرحلة الثانية من
الإجراءات، أي مرحلة التفسير.
وأما الوسيط الثاني الذي تعتمد عليه هذه العلاقة فهو السياق الاجتماعي
للخطاب؛ لأن ضروب الخطاب التي تحمل في باطنها هذه القيم لا تستطيع أن تُصبح
حقيقةً واقعة وفاعلة في المجتمع هي الأخرى، إلا إن كانت تمثل حلقات من
العمليات المؤسسية والمجتمعية للصراع؛ ولأن افتراضات الخطاب القائمة على
المنطق السليم تتضمن أيديولوجيات تتفق مع علاقات معينة للسلطة. وأما علاقة
ضروب الخطاب بعمليات الصراع وعلاقات السلطة فتنتمي إلى المرحلة الثالثة من
الإجراءات، أي مرحلة الشرح.
وهكذا فإذا كان اهتمام المرء مُنصبًّا على القيم الاجتماعية المرتبطة
بالنصوص وعناصرها، وبالدلالة الاجتماعية للنصوص بصفة أعم، فلا بد من استكمال
التوصيف بالتفسير والشرح. ولاحظ أيضًا أن المشاركين في الخطاب لا يُدركون
بوضوح، وبصفة عامة، اعتماد الخطاب على الافتراضات القائمة في الخلفية، ولا
الخصائص الأيديولوجية لهذه الافتراضات التي تربطها بضروب الصراع الاجتماعي
وعلاقات السلطة. ومن ثَم فلنا أن نعتبر التفسير والشرح إجراءين يطبقان على
التوالي ابتغاء إماطة اللثام أو إزالة الغموض.
(١) التفسير
أستخدم مصطلح التفسير باعتباره اسمًا
لمرحلة من مراحل الإجراء المذكور، وأيضًا للدلالة على التفسير الذي يضعه
المشاركون في الخطاب للنصوص. وغايتي في هذا تأكيدُ التماثل الجوهري بين ما
يفعله المحلل، وما يفعله المشاركون، وإن كانت توجد اختلافات أيضًا أناقشها
في آخر الفصل. وأما مرحلة التفسير فتتناول إنتاج المشاركين للنص وتفسير
النص معًا، ولكنني أركز في هذا الفصل على الجانب الأخير فقط. وسوف يتضمن
الفصل السابع قدرًا من مناقشة عمليات الإنتاج.
رأينا في الفصل الثاني أن التفسيرات تتولَّد من خلال الجمع بين ما في
النص وما «في» داخل المفسر، بمعنى «موارد الأعضاء» التي يستعين بها الأخير
في التفسير. ورأينا أيضًا أن المعالم الشكلية للنص تعتبر من وجهة نظر مفسر
النص «مفاتيح» تبثُّ الحياة في بعض عناصر «موارد الأعضاء»، وأن التفسيرات
تتولَّد من خلال التفاعل الجدلي بين المفاتيح و«موارد الأعضاء»، ومن ثَم
فلنا أن نُشير إلى هذه الموارد، من زاوية الدور الذي تقوم به في المساعدة
على توليد التفسيرات، بتعبير الإجراءات
التفسيرية. وكثيرًا تسمَّى هذه الموارد باسم المعارف الخلفية أو الخلفية المعرفية، لكنني
أعتقد أن هذه التسمية تفرض قيودًا لا لزوم لها؛ إذ لا تشمل الحجة التي
أقمتها في مناقشة الافتراضات القائمة على المنطق السليم في الفصل الرابع،
والتي تُثبت أن الكثير من هذه الافتراضات أيديولوجية وهو ما يجعل كلمة
المعارف مصطلحًا مُضلِّلًا.
والشكل
٦-١ يقدم نظرة مختصرة لعملية التفسير التي
سوف أخصص باقي هذا القسم لشرحها.
في العمود الأيسر من هذا الشكل، تحت عنوان التفسير، حددت ستة مجالات
رئيسية للتفسير؛ فالمجالان الأولان في القسم العلوي من الشكل البياني
يتعلقان بتفسير السياق، وأما الموجودة في النصف السفلي فتتعلق بمستويات
تفسير النص. وفي العمود الأيمن [وعنوانه الإجراءات
التفسيرية (موارد الأعضاء)] قائمة
بالعناصر الرئيسية لموارد الأعضاء وهي
التي تقوم بوظيفة الإجراءات التفسيرية. وكل عنصر من عناصر هذه الموارد
يرتبط بصفة محددة بمستوى التفسير الذي يقابله على الخط الأفقي داخل الشكل.
وأما العمود الأوسط فيحدد نطاق الموارد
التي ينهل منها كلُّ مجال من مجالات التفسير على اليسار. ولاحِظ أن هذه
الموارد تتضمن في كل حالة ما يزيد على الإجراء التفسيري المبين في العمود
الأيمن، بمعنى وجود ثلاثة «مدخلات» أو أربع في كل «خانة». دعني أبيِّن
بوضوح ما أعنيه في العمودين الأيمن والأيسر، قبل أن أتطرق إلى «الخانات».
وأبدأ بالقسم السفلي من الشكل البياني، المتعلق بتفسير النص، وأحدد
المستويات الأربعة وفق مجالات التفسير المبينة في العمود الأيسر.
-
(١)
سطح الكلام الملفوظ. يتعلق هذا
المستوى الأول من مستويات تفسير النص بالعملية التي يحوِّل بها
المفسرون سلاسل الأصوات أو العلامات فوق الورق إلى كلمات وعبارات
وجمل يمكن التعرف عليها. وتحقيقًا لهذا عليهم أن ينهلوا من ذلك
الجانب (من «موارد الأعضاء» لديهم) الذي كثيرًا ما يشار إليه بتعبير
«معرفتهم باللغة»، وهو الذي قلت: إنه يشتمل تحديدًا على «الصوتيات
والنحو والمفردات» في العمود الأيمن. هذا المستوى لا يتصل اتصالًا
خاصًّا بموضوعنا، ولن أقول المزيد عنه.
-
(٢)
معنى الكلام الملفوظ. يتمثل
المستوى الثاني من مستويات التفسير في إضفاءِ معانٍ على الأجزاء التي
يتكون النص منها، وهي التي أطلق عليها «الملفوظات»، مستخدمًا هذا
المصطلح بمعنى فضفاض. ففي بعض الحالات — لا كلها — تتفق الملفوظات مع
الجمل، أو مع «مقولات» دلالية. وينهل المفسرون هنا من الجوانب
الدلالية «لموارد الأعضاء» لديهم، بمعنى الصور الممثلة لمعاني
الألفاظ، والقدرة على الجمع بين معاني الألفاظ والمعلومات النحوية
والتوصل إلى المعاني المضمرة ابتغاء التوصل آخر الأمر إلى معاني
المقولات بأكملها. كما ينهل المفسرون أيضًا من الأعراف التداولية
داخل مواردهم، وهي التي تُتيح لهم أن يحددوا أيَّ فعل من أفعال
الكلام يُستخدم الكلام الملفوظ في «أدائه». وأما أفعال الكلام
فأناقشها في موقع لاحق من هذا القسم.
-
(٣)
الترابط الموضعي. وأما المستوى
الثالث للتفسير فيقيم «روابط المعنى» بين الملفوظات، بحيث يُنتج (إذا
أمكن ذلك) تفسيرات
مترابطة بين
كلِّ ملفوظَين أو عدد متوالٍ من الملفوظات. ولك أن ترجع إلى مناقشة
الترابط في المعنى في الفصل الرابع. ولكن المسألة هنا ليست مسألةَ
علاقات ترابط «شاملة» تربط أجزاء النص كلها بعضها بالبعض، أي مقالة
صحفية كاملة أو محادثة تليفونية كاملة، على سبيل المثال، ولكنها
تتعلق بعلاقات الترابط «الموضعية» داخل جزء معين من أجزاء النص. وأما
الترابط الشامل فيظهر في الصورة في المستوى التالي. وفي المستوى
الثالث يعتمد المفسرون على «معرفتهم باللغة» وهو ما يتعلق
بالتماسك النصي الذي نوقش في إطار السؤال
الثامن في الفصل الخامس. ولكن الترابط في المعنى لا يمكن اختزاله في
التماسك الشكلي؛ فالمفسرون يستطيعون استنباط علاقات ترابط بين
الملفوظات حتى في غيبة مفاتيح التماسك الشكلية، استنادًا إلى
الافتراضات المضمرة التي بيَّن الفصل الرابع أنها كثيرًا ما تكون ذات
طابع أيديولوجي. وتعتبر العمليات الاستنباطية عمومًا من قضايا
التداولية؛ ولذلك فإن تعريف التداولية في الشكل
٦-١ يقول إنها عملية تفسيرية لهذا المستوى من
مستويات التفسير والمستوى السابق أيضًا.
-
(٤)
بناء النص وغايته. تفسير
بناء النص على المستوى الرابع
يعني أن يُدرك المفسر كيف يرتبط النصُّ كلُّه بعضه بالبعض، أو ما
أسميتُه آنفًا الترابط الشامل للنص. وذلك يعني المطابقة بين النص
وبين إحدى الصور الذهنية الأساسية المختزنة لدى المفسر، أو فلنَقُل
إنها الصور التمثيلية لأنماط الخطاب المميزة والمرتبطة بأنماط مختلفة
من الخطاب. فما إنْ يُقرر المفسر أنه بصدد محادثة تليفونية — مثلًا —
حتى يعرف أن له أن يتوقع حدوث أشياء معينة وبترتيب معين (التحايا،
تحديد موضوع المحادثة، تغيير الموضوعات، اختتام المحادثة، وكلمات
الوداع). وأما أسميته «غاية» النص فهو التفسير الموجز للنص —ككل —
الذي يتوصل إليه المفسرون، وهو الذي عادةً ما يختزن في الذاكرة
الطويلة الأجل؛ حتى يصبح متاحًا لمن يريد استرجاعه. والجانب الخبراتي
لغاية النص يتمثل في موضوعه الشامل، وأنا أفضل مصطلح الغاية على
مصطلح الموضوع هنا باعتباره مصطلحًا عامًّا؛ لأن غاية النص ذات جوانب
علائقية وتعبيرية أيضًا. وسوف تَرِد أدناه مناقشات للغاية وللصور
الذهنية الأساسية.
ولأنتقل الآن إلى القسم العلوي من الشكل البياني، وهو الذي يتعلق (كما
ذكرت آنفًا) بتفسير السياق. وأنا أفترض أن التفسير تفسيرٌ للسياق مثلما هو تفسير للنص، ولسوف أشرح افتراضي
هذا وأُبرِّره فيما بعد. فالواقع أن المفسرين يتوصلون إلى تفسيرات
لسياق الحال اعتمادًا، إلى حدٍّ ما،
على مفاتيح خارجية، أي على عالم الموقف المادي، وخصائص المشارك، وما سبق أن
قيل، ولكنهم يعتمدون، إلى حدٍّ ما أيضًا، على بعض جوانب «مواردهم الذاتية»،
وهي التي يفسرون من خلالها هذه المفاتيح، وخصوصًا الصور الممثلة للنظم
الاجتماعية — المجتمعية والمؤسسية — التي تسمح لهم بتحديد انتماء الحالات
التي يوجدون «فيها» فعلًا إلى أنماط حالات محددة. وصورة تفسير المشاركين
للحالة هي التي تحدد أنماط الخطاب التي يقوم عليها التفسير، ويؤثر هذا
بدوره في طبيعة الإجراءات التفسيرية التي يتخذها مفسر النص. ولكن علينا أن
نُشير أيضًا إلى سياق التناص؛ فالمشاركون
في أي خطاب يستندون إلى افتراضات معينة بشأن أنواع الخطاب السابقة التي
يرتبط بها الخطاب الراهن، وتحدد افتراضاتهم ما يمكن اعتباره معطيات أولية
بمعنى كونه جزءًا من الخبرة المشتركة وجزءًا مما يقبل الإحالة إليه، أو
الاختلاف معه، وهلمَّ جرًّا.
فلننظر الآن في «الخانات» المظللة في العمود الأوسط في الشكل
٦-١؛ إذ إن الشكل يقصد أن يعتبر «مضمون» كل خانة مزيجًا من
شتى «المدخلات» التي تبين الأسهم مصادرها. ولاحِظ أولًا أن السهم الذي يربط
كلَّ خانة بمجال التفسير المبين إلى يساره سهمٌ ذو رأسين، وهو ما يعني أن
التفسيرات السابقة تمثِّل جانبًا من جوانب الموارد المستخدمة في التفسير،
في لحظة معينة من لحظات تفسير نص من النصوص، وأن هذا ينطبق على كل مجال من
مجالات التفسير.
ولاحِظ ثانيًا أن الخانات في العمود الأوسط ترتبط فيما بينها رأسيًّا
بأسهم مزدوجة الرءوس، وهو ما يعني أن كلَّ مجال من مجالات التفسير ينهل من
التفسيرات الخاصة بالمجالات الأخرى باعتباره جزءًا من «مواردها»، وأعتقد أن
هذا الاعتماد المتبادل واضح، إلى حد ما، بالنسبة لمستويات تفسير النص
الأربعة. فأنت عند تفسيرك مثلًا لترابط المعنى الشامل و«غايته» في نص من
النصوص، تستفيد من تفسيراتك للترابط الموضعي لأجزائه، وتستفيد في التوصل
إلى هذه التفسيرات الأخيرة بتفسيراتك لمعاني الملفوظات، كما تستفيد في
التوصل إلى هذه أيضًا بتفسيرات الأشكال السطحية للملفوظات. ولكن الاعتماد
المتبادل قائم أيضًا في الاتجاه العكسي. فالمفسرون يتوسلون، مثلًا بتقديرات
حدسية في بداية تفسيرهم للنص بشأن بنائه النصي و«غايته»، ومن المحتمل أن
تؤثر هذه التقديرات الحدسية في المعاني المرتبطة بالملفوظات الفردية،
وعلاقات الترابط الموضعية القائمة فيما بينها. ولنا أن نعبِّر بدقة عن هذا
قائلين: إن التفسيرات تتسم بخصيصة مهمة هي الجمع بين الانتقال من القمة إلى
القاعدة (أي إن التفسيرات على المستوى الأعلى تشكِّل المستوى الأسفل)
والانتقال من القاعدة إلى القمة.
وتماثل هذا العلاقة بين تفسيرات السياق وتفسيرات النص؛ إذ يضع المفسرون
أحكامًا سريعة على ماهية السياق، ومن الممكن أن تؤثر هذه الأحكام في
تفسيرهم للنص، ولكن تفسير السياق يعتمد في جانب منه على تفسير النص ويمكن
أن يتغير في أثناء تفسير النص.
وإذن فإن صورة التفسير التي نواجهها صورة مركبة إلى حدٍّ ما، وسوف
أناقش فيما تبقَّى من هذا القسم، بمزيد من التفصيل، بعض جوانب ما يمثِّله
الشكل
٦-١، بسبب أهميتها الخاصة في سياق هذا الكتاب،
تحت العناوين التالية: سياق الحالة ونمط الخطاب؛ السياق المتناص
والافتراضات المسبقة؛ أفعال الكلام؛ الصور الذهنية الأساسية، والأفكار ذات
الصلة بهذه جميعًا مثل السيناريو، والإطار، والموضوع، والغاية.
(٢) سياق الحال ونمط الخطاب
سوف تستند مناقشة هذه القضية إلى الشكل
٦-٢ الذي
يمثل «بالرسم الصوري»، كيف يَصِل المفسرون إلى تفسيراتهم لسياق الحال وكيف
يحدِّد ذلك القرارات الخاصة بنمط الخطاب المناسب للنهل منه. وأنا أفترض —
ابتغاء التبسيط — أن كلَّ تفاعل لا ينهل إلا من نمط خطاب واحد، على الرغم
من أن ما قلته سلفًا ينفي ذلك في الواقع، ويناقش الفصل السابع باستفاضة كيف
يمكن لأحد التفاعلات أن ينهل من نمطين أو أكثر من أنماط الخطاب.
فلننظر إلى النصف الأسفل من هذا الشكل البياني أولًا. فعلى الجانب
الأيمن قدَّمت أربعة أسئلة تتعلق بالأبعاد الرئيسية الأربعة للحال: الذي
يحدث، ومَن الفاعل، وما العلاقات المطروحة، وما دور اللغة فيما يحدث؟ ولنا
أن نُعيد تقديم جانب من المقابلة الشخصية في مخفر الشرطة، الواردة في الفصل
الثاني، لإيضاح هذه الأبعاد.
(١) رجل الشرطة
:
هل رأيت الذي كان في السيارة؟
(٢) الشاهدة
:
رأيت وجهه، نعم.
(٣) رجل الشرطة
:
وما كان عمره؟
(٤) الشاهدة
:
نحو ٤٥. وكان يرتدي …
(٥) رجل الشرطة
:
وما كان طوله؟
(٦) الشاهدة
:
ست أقدام وبوصة.
(٧) رجل الشرطة
:
ست أقدام وبوصة، وشعره؟
(٨) الشاهدة
:
أسود ومجعد.
-
(١)
«ما الذي يجري؟» وضعت أقسامًا
فرعية «للذي يجري» وهي النشاط، والموضوع، والغرض، ولا شك أننا نستطيع
وضعَ أقسام أدق، ولكن هذه كافية لما نحن بصدده. أما الأول فهو الأعم
الأشمل؛ إذ يسمح لنا بتحديد الموقف من حيث انتماؤه إلى نمط واحد من
أنماط النشاط، أو الفئات المتميزة للنشاط، وهي التي نُدرك تميُّزَها
داخل نظام اجتماعي محدد في مؤسسة معينة، ولهذه المؤسسة أبنية نصية
كبيرة من النوع الذي أشرتُ إليه في إطار السؤال العاشر من الفصل
الخامس. فعلى سبيل المثال، من شأن أنماط النشاط في العمل الشرطي أن
تتضمن القبض على أحد الأشخاص، وتقديم تقرير، وإجراء مقابلة شخصية مع
شاهد من الشهود، وفحص أحد المشتبه بهم وهلمَّ جرًّا. ونمط النشاط في
هذه الحالة إجراء مقابلة شخصية مع الشاهدة. ومن المحتمل أن يفرض نمط
النشاط قيودًا على مجموعة الموضوعات التي يمكن تناولها، وإن كان هذا لا يعني أنه
من الممكن التنبؤ بصورة آلية بتلك الموضوعات في ضوء معرفتنا بنمط
النشاط. وأما الموضوع هنا فهو وصف الشخص الذي زُعِم ارتكابُه
للجريمة. وعلى غرار ذلك ترتبط أنماط النشاط أيضًا بأغراض معترف بها
من الزاوية المؤسسية. والغرض الرئيسي في هذه الحالة هو الحصول على
أوصاف وروايات للجريمة المزعومة وتوثيقها (وتذكَّرْ أن رجل الشرطة
يقوم بتعبئة استمارة معينة أثناء المقابلة الشخصية).
-
(٢)
«مَن الفاعل؟» الواضح أن
السؤالَين «مَن الفاعل؟» و«ما نوع العلاقات؟» يرتبطان ارتباطًا
وثيقًا، وإن كانا من الزاوية التحليلية منفصلين. ففي حالة السؤال
الأول يحاول المرء أن يحدد مواقع الذوات التي أُنشئت، وتختلف مواقع
الذوات الناشئة وفقًا لنمط الحالة. ومن المهم أن نُشير إلى أن مواقع
الذوات تتسم بتعدد أبعادها؛ إذ يرجع أحد الأبعاد أولًا إلى نمط
النشاط، وهو في هذه الحالة مقابلة شخصية، والمقابلات الشخصية تتضمن
مواقع ذوات لمن يتولَّى إجراءها (فردًا كان أو أكثر) ولمن تُجرَى
المقابلة معه. وثانيًا: نجد أن المؤسسة تنسب هويات ثقافية للذوات
العاملين في داخلها، ولدينا في هذا المثال «رجل شرطة» و«فرد من أفراد
الجمهور»، وهو أيضًا «شاهد»، ومن المحتمل أن يكون ضحية. ونجد ثالثًا
أنه إذا اختلفت الحالة اختلفت مواقع الحديث والاستماع المرتبطة بها،
أي مواقع المتكلم والمخاطب، ومَن يستمع عرضًا لما يقال، والمتحدث
باسم المؤسسة وهلمَّ جرًّا، ولدينا في هذا المثال دوران للمتكلم
والمخاطب متناوبان بين رجل الشرطة والشاهدة.
-
(٣)
«وما نوع العلاقات؟» إذا كان
الأمر خاصًّا بمسألة العلاقات كان علينا أن نزيد من دينامية النظرة
إلى مواقع الذوات حتى نتبيَّن أنواع علاقات السلطة، والمسافة
الاجتماعية وغيرها مما تُنشئه الحالة وتُجسِّده. وفي المثال المذكور
نهتمُّ عادةً بطبيعة العلاقات القائمة بين أفراد الشرطة وأفراد
«الجمهور»، فنلاحظ مثلًا أن استكمال المهمة من حيث الإجراءات الرسمية
يبدو أشدَّ إلحاحًا في عينَي الشُّرطي الذي يُجري المقابلة من
التعاطف مع مشاعر الشاهدة التي شهدت لتوِّها جريمةً تتسم
بالعنف.
-
(٤)
«ما دور اللغة؟» تُستخدم اللغة
باعتبارها أداةً من أدوات تحقيق هدف مؤسسي وبيروقراطي واسع الإطار؛
فهي تُستعمل للحصول على معلومات معينة من الشاهدة، وهي المعلومات
اللازمة لملء استمارة رسمية تعتبر من وثائق القضية. ولا يقتصر دور
اللغة من هذه الزاوية على تحديد نمطها، بمعنى أن نمط المقابلة
المذكورة أسلوبٌ واضح للحصول على المعلومات اللازمة، ولكنه يحدِّد
«القناة» الخاصة بها، أي إذا كان المستخدم هنا لغةً منطوقة أو
مكتوبة. فأحيانًا ما يتخذ الحصول على مثل هذه المعلومات البيروقراطية
شكلَ اللغة المكتوبة؛ إذ يُطلب من الأشخاص أن يملئوا الاستمارات
بأنفسهم. ولما كان الواقع في هذا المثال مختلفًا عن الشكل الأخير، أي
لما كان إجراء ملء الاستمارة قد تعقد بسبب إجراء المقابلة الشخصية،
فإنه يدل على درجة السيطرة التي تمارسها الشرطة على جميع جوانب
القضية، بمعنى أن المعلومات التي تُدلي بها الشاهدةُ لن تتمتع بالصحة
رسميًّا إلا بالشكل الذي تقوم فيه الشرطة بدور الوسيط ودور مَن يتحقق
من صحتها.
وأنا أضع في الجانب الأيسر من الجزء السفلي للشكل البياني
٦-٢ أربعة أبعاد رئيسية لنمط من أنماط الخطاب، بالمعنى
الذي ذكرناه وهو مجموعة الأعراف الأساسية الخاصة بأحد أنظمة الخطاب
المذكورة. فأما الثلاثة الأولى منها فهي مألوفة، أي إن نمط الخطاب تتجسد
فيه قيود معينة على المضمون، وعلى الذوات، وعلى العلاقات، أو على المعاني
الخبراتية والتعبيرية والعلائقية التي يُنشئها هذا النمط. وأما الذي
يُبيِّنه الشكل، فهو أن هذه الأبعاد الخاصة بنمط الخطاب (الذي يرتبط
عرفيًّا بنمط معين من أنماط الحالة) تتشكل وفقًا لأبعاد الحالة التي أشرت
إليها لتوِّي، أي إن المضمون يُشكله ما يجري، والذوات يشكلها الفاعل (أو
الفواعل)، والعلاقات تُشكلها العلائق فيما بين الذوات. ويُضاف إلى هذا
بُعدٌ رابع، وهو الروابط، والذي يحدده دور اللغة فيما يجري، وتتضمن الروابط
أساليب ارتباط النصوص بسياقات الحالات التي تقع فيها وأساليب الارتباطات
القائمة بين أجزاء نص من النصوص (بما في ذلك ما أشرنا إليه باسم «التماسك»
بين الجمل) وتتغير هذه الأساليب وتلك ما بين أنماط الخطاب.
والواقع أن تحديد نوع الخطاب الذي يُعتمَد عليه في إنتاج النصوص
وتفسيرها في أثناء أي تفاعل، وهو التحديد الذي تتحكم فيه كلُّ حالة على
حدة، يتحكم بدوره في عناصر الموارد الذاتية [أي الخبرات الشخصية] التي
يستعين بها الفرد في تفسير النصوص، على نحو ما يُبيِّنه الشكل
٦-١. ولنا أن نتصور أن نمط الخطاب يعتبر
معنًى ممكنًا إذا استعرنا مصطلح عالم اللغة مايكل
هاليداي؛ إذ يقول إنه يُعَدُّ تجميعًا خاصًّا مقيَّدًا للمعاني الممكنة
خبراتيًّا وتعبيريًّا وعلائقيًّا وترابطيًّا. كما أن بعض عناصر الموارد
الذاتية التي يُستعان بها بصفتها مبادئ تفسيرية، تختص بنمط الخطاب المذكور
وحده، وكذلك بتحقيق المعنى الممكن: المفردات، والعلاقات الدلالية، والأعراف
التداولية، إلى جانب الصور الذهنية الرئيسية، والأطر، والنصوص
الخاصة.
فلننظر الآن إلى قمة الشكل
٦-٢. وأول ملاحظة لنا
هنا تقول: إن تحليل حالة من الحالات من حيث الأبعاد الأربعة المشار إليها
آنفًا للحالة
يتوقف على التفسير. فلا
المعالم الظاهرة للحالة المادية، ولا النص الذي سبق وضعه يستطيعان بأنفسهما
تحديد سياق الحالة، على الرغم من أنها من المفاتيح المهمة التي تساعد
المفسر على تفسير ذلك السياق. فالمفسر يجمع بين «قراءة» هذه المفاتيح وبين
أحد عناصر «موارده الذاتية» وعلى ضوء هذا العنصر نفسه، ألَا وهو عنصر
النظم الاجتماعية التي يستعين بها في
التفسير، أي الصور المحددة التي تبيِّن كيفية تنظيم «الحيز الاجتماعي»
والتي يختزنها المفسر في «موارده الذاتية». والنظام الاجتماعي نوع من
البناء الرمزي لأنماط الحالة الاجتماعية، وينحصر التفسير في تخصيص نمط معين
منها لحالة من الحالات الاجتماعية. ولك أن ترجع إلى المناقشة السابقة للنظم
الاجتماعية في الفصل الثاني.
ولنا أن نتصور حدوث ذلك على مرحلتين. ففي المرحلة الأولى التي يمثِّلها
السطران العلويان في الشكل البياني، يَصِل المفسر إلى تحديد التركيبة
المؤسسية، والقطع في أمر المجال المؤسسي الذي يحدث فيه التفاعل، استنادًا
إلى النظام الاجتماعي المجتمعي في «موارده الذاتية». ومعنى هذا أن النظام
الاجتماعي المجتمعي يقسم الحيز الاجتماعي الشامل إلى أحوزة مؤسسية كثيرة،
ولا بد من وضع أية حالة فعلية في قسم مؤسسي معين وفق هذا التقسيم. وفي
المرحلة الثانية، التي يمثلها السطران الثالث والرابع في الشكل البياني،
يَصِل المفسر إلى تحديد إطار الحالة، أو البت في إطار نمط الحالة الذي يحدث
التفاعل فيه استنادًا إلى النظام الاجتماعي المؤسسي الذي اختاره في المرحلة
الأولى. وهكذا فكل نظام اجتماعي مؤسسي يقسم الحيز المؤسسي إلى أنماط كثيرة
من الحالات، وكل حالة فعلية يرمز لها بفئة من هذا البناء للأنماط (أو على
الأقل من حيث علاقتها بهذه الفئة).
قلت في الفصل الثاني إن
نظام الخطاب
يمثِّل بُعدًا من أبعاد أي نظام اجتماعي، سواء كان مجتمعيًّا أو مؤسسيًّا.
ومن ثَم فعندما يحدِّد المرء نمطَ حالة ما في إطار أي نظام اجتماعي، فإنه
يحدد نمطها أيضًا في إطار نمط معين من أنماط الخطاب بناءً على نظام الخطاب
الذي ترتبط به. وقد بينت هذا الازدواج في الانتماء للأنماط في الشكل ٦–٢
بصورة تُوحي بأن تحديد نمط الحال يسبق تحديد نمط الخطاب، وعلى الرغم من أن
هذا التصور مفيد في التحليل، فالواقع أن هذا وذاك متزامنان. كما يُوحي
الشكل
٦-٢ أيضًا بأن البتَّ في قيمِ كلِّ بُعدٍ من
الأبعاد الأربعة للحالة خطوة مستقلة عن غيرها وأن كلَّ بُعْدٍ يتولَّى وحده
اختيارَ القيم الكامنة في البُعد الخاص بنمط الخطاب الذي يقابله. وأقول من
جديد إن هذا التصور يُفيد في التحليل، ولكن كل نظام اجتماعي مؤسسي يُنشئ
عددًا صغيرًا نسبيًّا من المُركَّبات العرفية للقيم الخاصة بأبعاد الحالات
وهي المركَّبات التي تعتبر أنماطَ حالاتٍ معترفًا بها؛ كما يمكننا أن نعتبر
أن كلَّ نمط من أنماط الحالة يمثل في جانب منه نمطًا من أنماط الخطاب، وهو
مجموعة من القيم العرفية الخاصة بالأبعاد الأربعة لأنماط الخطاب.
سبق أن أقام الفصل الثاني الحجة على الصلة التي تربط ما بين النظم
الاجتماعية ونظم الخطاب من ناحية، وبين أيديولوجيات معينة وعلاقات سلطة
محددة من ناحية أخرى. ومما يترتب على ذلك أن الحالات قد يختلف تفسيرها إذا
اختلف المفسرون واستندوا إلى نظم اجتماعية مختلفة باعتبارها إجراءات
تفسيرية. وأمثال هذه الاختلافات مألوفة عبر الثقافات، ومن المحتمل أن تكون
من وراء حالات سوء التواصل أو انهيار الاتصال فيما بين المنتمين إلى ثقافات
مختلفة (انظر الفصل الثالث). ولكن هذا وذاك يحدثان أيضًا داخلَ كلِّ ثقافة
من الثقافات بين المواقع الأيديولوجية المختلفة. ومعنى هذا أننا لا نستطيع
وحسب أن نتجاهل السياق، أو نفترض أنه ذو شفافية تجعله متاحًا لجميع
المشاركين عندما ندفع بأهمية دور السياق في تفسير النص أو إنتاجه، بل علينا
أن نحدِّد في كل حالة ما يستند إليه عملُ المفسرين من تفسير لسياق الحالة،
وأن نفصل فيما إن كانوا يشتركون في تفسير واحد أم لا. وعلينا أيضًا أن نعيَ
كيف يمكن فرض تفسير مشارك يتمتع بسلطة كبرى على المشاركين الآخرين.
ومن العواقب الأخرى لذلك أن الأيديولوجيات وعلاقات السلطة التي تقوم
عليها هذه الأيديولوجيات تؤثر تأثيرًا عميقًا ونفاذًا في تفسير الخطاب
وإنتاجه؛ إذ إنها راسخة في باطن الإجراءات التفسيرية — النظم الاجتماعية —
التي تمثل الأساس لأعلى مستوى من مستويات القرار التفسيري الذي يعتمد عليها
غيرُها ويتلخص في إجابة سؤالك ما الحالة التي
أُواجهها؟ وقد تأكد هذا التأثير نتيجة للأبحاث الحديثة التي
أُجريت في طبيعة تركيب الخطاب؛ إذ بيَّنت أن سياق الحال عاملٌ يتحكم في
التفسير تحكمًا أكبر كثيرًا مما كان متصورًا. فليس صحيحًا — على سبيل
المثال — أن التفسير يتكون أولًا من حساب «المعاني الحرفية» للجمل في نص من
النصوص، ويتلوه تعديلٌ لهذه المعاني على ضوء السياق، على نحو ما كان
مفترضًا (ولا يزال) في أحيان كثيرة. فالواقع أن المفسرين يعملون من البداية
وفق مفترضات معينة عن السياق (وهي التي يمكن أن تخضع لتعديلات لاحقة) وهذه
تؤثر في أسلوب تحليل المعالم اللغوية للنص نفسها؛ بحيث لا يخلو تفسير لنص
من النصوص من صورة ذهنية للسياق الخاص به. ويعني هذا أن القيم التي تتمتع
بها المعالم المعينة للنص تعتمد على تحديد المفسر للنمط الذي ينتمي إليه
سياق الحالة.
والنتائج المضمرة في اعتماد التفسير اعتمادًا جذريًّا على سياق الحال
قد تكون مزعجةً إلى حدٍّ ما للغويين الذين اعتادوا اعتبار المعنى خصيصةً
لغوية محضة في الأشكال اللغوية نفسها. ويتمثل أحد ردود الفعل المفهومة في
محاولة تضييق حدود السياق، أي ضغط المساحة الشاسعة التي يشغلها. ولكن الذي
قلتُه لتوِّي يترتب عليه أن يتضمن سياق الحال الخاص بكل خطاب — مهما يكن —
نظام العلاقات الاجتماعية والسلطوية على أعلى مستوى مجتمعي. ومثلما دأبت
التقاليد على اعتبار الجملة، حتى ولو كانت جملةً واحدة، قادرةً على الإيحاء
بلغة كاملة، فإن الخطاب المفرد يوحي بمجتمع كامل. والسبب أن نظم التصنيف
والتنميط للممارسة الاجتماعية والخطاب التي يعتمد عليها كلُّ شيء آخر — ما
درَجتُ على تسميته النظم الاجتماعية ونظم الخطاب — تتشكل في الأرحام
المجتمعية والمؤسسية لذلك الخطاب المفرد.
(٣) سياق التناص والافتراضات السابقة
لكل خطاب وكل نص يقع في إطاره تاريخ، فهما ينتميان إلى سلسلة زمنية،
وتفسير سياق التناص يعني تحديدَ السلسلة التي ينتمي إليها النص، ومن ثَم ما
يمكن اعتباره أساسًا مشتركًا للمشاركين، أو افتراضًا سابقًا. ومثلما رأينا
في مسألة سياق الحالة، قد يصل المشاركون في الخطاب إلى تفسير واحد تقريبًا
أو إلى تفسيرات مختلفة، وقد يُفرض تفسير المشارك ذي السلطة الكبرى على
الآخرين. وهكذا فإن التمتع بالسلطة قد يعني القدرةَ على تحديد الافتراضات
السابقة.
ليست الافتراضات السابقة من خصائص النصوص، بل إنها تمثِّل جانبًا من
جوانب تفسيرات منتجي النصوص لسياق التناص. وكانت رغبتي في توكيد هذه
المسألة من وراء إرجائي مناقشتها حتى الآن، وعدم إدراجها في المرحلة
الوصفية في الفصل الخامس. لكننا نستطيع الوصول إلى الافتراضات المسبقة من
طريق مفاتيحها في النصوص، وتتضمن مفاتيحُها عددًا كبيرًا من المعالم
اللغوية المنوعة. وقد سبقت الإشارة إلى اثنين منهما في إطار السؤال الثامن
في الفصل الخامس، وهما أداة التعريف والجمل التابعة أو الثانوية. ومن
المعالم الأخرى العبارات التي تبدأ بأدوات الاستفهام
(مَن/ماذا/متى/أين/لماذا/ كيف/أي)، والعبارات التكميلية بعد أفعال وصفات
معينة (يأسف، يدرك، يشير، يعي، يغضب … إلخ ومشتقاتها الوصفية). [معنى
العبارة التكميلية العبارة التي يمكن أن يستكمل بها المعنى وتتخذ صورة
إضافة يمكن أيضًا أن تُحذف]
١⋆
والمقتطف التالي يتضمن أنواعًا كثيرة من المفاتيح، وهو مقتطف من خبر منشور
في إحدى المجلات النسائية عن زفاف سارة فيرجسون إلى الأمير أندرو، واسم
الكاتبة برندا ماكدوجال:
ألم يكن يومًا جميلًا؟
أشرقت الشمس، واحتشدت الجماهير بشتى ألوانها، وفي قلب ذاك كله
رأينا سارة وأندرو، ينشران سعادتهما في كل اتجاه حتى جعلاه يومًا لا
يُنسى … لهما ولنا.
وكنت قد شاهدت في الليلة التي سبقت الزفاف، تلك المقابلة
التليفزيونية الساحرة، وربما شاهدها نصف سكان الأرض، وأذهلني اكتمال
علاقتهما. كيف كانا يتكاملان، في الروح الفكهة، وفي ابتهاجِ كلٍّ منهما
بشخصية الآخر، وفي التزامهما بالمستقبل. كان من الواضح أن سارة تُدرك
مقتضيات دورها الجديد باعتبارها زوجة بحَّار ودوقة ملكية، مع احتفاظها
في الوقت نفسه بحياتها العملية. لا شك أن ذلك أمر فريد في تاريخ الأسرة
المالكة، ولكن ما أشد تناغمه مع الحياة المعاصرة وعلاقاتها.
النص ٦–١ المصدر مجلة المرأة
الأسبوعية، ٩ أغسطس ١٩٨٧م
وتتضمن الافتراضات السابقة في هذا المقتطف أن اليوم كان جميلًا، وأن
الجماهير كانت زاهية الألوان، وأنها كانت سعيدة، وأن المقابلة
التليفزيونية كانت ساحرة، وأن علاقة
الزوجين كانت كاملة، وأنهما متكاملان، ويستمتع كلٌّ منهما بشخصية الآخر،
ويلتزمان بالمستقبل، وأن الدور الذي اضطلعت به له مطالبُه، وأن لها حياة
عملية خاصة بها. والفقرة فذة في مقدار الافتراضات السابقة، وبسبب طبيعة
الموضوع وعدد الذين شاهدوا الزفاف في التليفزيونية، كان من المحتوم أن تنقل
الفقرة إلى معظم الناس على الأقل ما يعرفونه سلفًا، أي أن تُقدم إلى الناس
شذرات مما يُفترض أنه نصوص سابقة اطَّلعوا عليها بصفتهم من مشاهدي
التليفزيون، أو مستمعي الإذاعة أو قراء
الصحف.
أو بالأحرى يقصد النص أن يُخبر الناس بما يعرفونه سلفًا، والواقع أن
أمثال هذه النصوص «الإعلامية» تجعل من المُحال على الكاتب أن يعرف خبرات
القراء الفعلية بنصوص أخرى، وعليه من ثَم أن يبنيَ لنفسه «قارئًا مثاليًّا»
يتمتع بخبرات متناصة خاصة. ولا يوجد بطبيعة الحال ما يضمن أن النصوص التي
يفترض الكاتب اطلاع قرائه عليها قد وُجدت خارج خيال منتج النص! وهكذا فإن
مُنتجي النصوص في أجهزة الإعلام لديهم وسيلة فعالة للتلاعب بالجماهير؛ وذلك
بأن ينسبوا إلى خبراتها ما يريدون لها أن تقبله. ولما كانت الفقرة لا
تصرِّح بمقولاتها المقصودة، فإن الناس أحيانًا ما يصعب عليهم تحديدها،
ورفضها إذا شاءوا.
وهكذا فإن الافتراضات السابقة يمكن أن تكون صادقة أو متلاعبة، ولكنها
قد تكون لها وظائف أيديولوجية، فيما
يفترضه منتج النص قد يكون في عداد «المنطق السليم في خدمة السلطة»، وفق ما
جاء في الفصل الرابع. ومن الأمثلة على ذلك تعبيرات مثل «التهديد
السوفييتي»، وهي التعبيرات التي تتكرر كثيرًا في الموضوعات الصحفية، مثلًا،
ومن الممكن أن تساعد على تطبيع مقولات مثيرة للخلافات الحادة، من خلال
تراكمها، بمعنى أنها تغدو افتراضات سابقة، والافتراض السابق في هذه الحالة
أن الاتحاد السوفييتي يمثِّل تهديدًا (لبريطانيا أو لأوروبا أو للغرب).
ومثل هذه الافتراضات السابقة لا تستدعي إلى الذهن نصوصًا معينة أو سلاسل
نصوص، ولكنها تُنسب إلى خبرات القراء النصية بأسلوب غامض؛ فإذا كانت
الافتراضات السابقة تُستقَى أحيانًا من نصوص محددة، فإنها تستند في حالات
أخرى وبأسلوب عام إلى «الخلفية المعرفية».
ويستطيع منتجو النصوص أيضًا، إلى جانب افتراض وجود عناصر السياق
المتناص سلفًا، أو يُبدوا اختلافهم مع هذه العناصر أو الطعن في صحتها. ومن
الوسائل المهمة لتحقيق ذلك استخدام صيغة النفي في النص ٦–٢، وهو مقال منشور
في مجلة للمراهقين.
لن ينجح أي مقدار من معدات التجميل ولوازم الشعر في تحويلك إلى
فتاة ذات جمال باهر إن لم تكن أسنانك على ما يرام. وليس من دواعي الفخر
أن تكوني قد امتنعت عن زيارة طبيب الأسنان في السنوات الخمس الماضية،
لكنه يعني أنك تطلبين المتاعب وحسب. ليس العلاج مساويًا لقضاء أسبوع في
الاستماع إلى أغاني نانا موسكوري، ولا يتمثل عمل طبيب الأسنان في رؤيتك
لكوابيس أو التسبب في إيلامك دونما داعٍ والكشف المنتظم على الأسنان
أفضل خيار، فالوقاية خير من العلاج! إن لم تكوني ذهبت إلى طبيب الأسنان
دهرًا طويلًا فتشجعي وحددي موعدًا للزيارة، فقيمته مؤكدة! لقد نشرت
المؤسسة البريطانية لصحة الأسنان سلسلة من الكتيبات المفيدة عن العناية
بالأسنان، ومن بينها معلومات عن طرابيش الضروس، وأمراض اللثة، وصحة
الفم، والسكر، واختيار طبيب أسنان، وهي معلومات جديرة بالاطلاع عليها.
للحصول على نسخة مجانية من أي كتيب، أرسلي ظرفًا عليه عنوانك إلى
المؤسسة البريطانية لصحة الأسنان، وعنوانها:
88
Gurnards Avenue, Unit2, Fishermead, Milton Keynes,
Bucks.
النص ٦–٢: المصدر مجلة بلوجینز، العدد ٤٨٨، ٢٤ مايو ١٩٨٦م.
يتكون هذا المقال من سلسلة من المقولات معظمها منفية. ولكن ما الدافع
من وراء هذه المقولات المنفية جميعًا ما دام في مقدور الكاتب التعبير عن
مقصده بمقولات مثبتة؟ الواضح أن الكاتب يستخدم النفي للتعبير ضمنًا عن
اختلافه مع المقولات المثبتة المقابلة (العلاج يعادل
الاستماع إلى أغاني نانا موسكوري أسبوعًا كاملًا … إلخ) ولكن
هذا عجيب ما دامت تلك المقولات المثبتة لم يَقُل بها أحد، وما دام القول
بها غير متصل بهذا الخطاب بأية صورة من الصور. وأما ما يبدو أن الكاتب
يفترضه فعلًا فهو أن هذه المقولات يمكن العثور عليها في نصوص سابقة تقع في
إطار خبرة القراء. ويمكن أن يكون النفي، مثل الافتراضات المسبقة، صادقًا أو
متلاعبًا أو أيديولوجيًّا.
وهذا المقتطف يعتبر ضربًا من الحوار بين منتج النص و«منتجي» غيره من
النصوص التي تعتبر جزءًا من سياق التناص. والافتراضات السابقة تُضفي صفةً
حوارية مماثلة مع نصوص أخرى، وإن تكن «ديناميتها» أقل. ولما كانت النصوص
مشتبكة على الدوام مع بعضها البعض في علاقات تناص، فلنا أن نقول: إنها
دائمًا «حوارية»، وهي الصفة التي يشار إليها أحيانًا تحت عنوان عام هو
التناص.
ومفهوم السياق التناصي يقتضي منَّا النظر إلى ضروب الخطاب وإلى النصوص
من زاوية تاريخية، على عكس الموقف المعتاد في الدراسات اللغوية، وهو الذي
يقول بإمكان تحليل النص من دون الإحالة إلى غيره من النصوص، وبعد تجريده من
سياقه التاريخي. ويقوم الفصلان التاليان في هذا الكتاب على القول بمثل هذا
المنظور التاريخي. فالفصل السابع يدور حوله النظرة إلى النص باعتباره من
إنتاج منتج يستمد مادته من مزيج من نمطين أو أكثر من أنماط الخطاب — أي من
عرفَين أو تقليدَين أو أكثر — باعتبار ذلك أداة للانتفاع الإبداعي بموارد
الماضي في تلبية مقتضيات الاتصال المتغيرة للحاضر. وأما الفصل الثامن
فيتضمن نطاقًا زمنيًّا أطول؛ إذ يبحث كيف تتجلى الفترات التاريخية في
تحولات نظم الخطاب، وكيف تشكل هذه التحولات، من جانب معين، تلك الفترات
التاريخية.
(٤) أفعال الكلام
تعتبر أفعال الكلام جانبًا رئيسيًّا من جوانب
التداولية، وهي الخاصة بالمعاني التي ينسبها المشاركون في
الخطاب إلى عناصر أحد النصوص استنادًا إلى «مواردهم الذاتية» وتفسيراتهم
للسياق، وهي التي تمثِّل جزءًا من المستوى الثاني لتفسير النص في الشكل
٦-١. ومن ثَم فإن الخصائص التداولية (أو معاني النص)
ليست شكليةً ولا تنتمي إلى مرحلة التوصيف للإجراءات الواردة في الفصل
الخامس، بل إلى هذه المرحلة.
كنت أشرت إلى أفعال الكلام في مواقع معينة في الفصول السابقة دون أن
أشرح ما أعنيه بهذا المصطلح. فالقول بأن أحد أجزاء النص يمثِّل فعلًا من
أفعال الكلام، يعني أنه يحدد الوظيفة التي يؤديها منتج النص من خلال إنتاجه
له، أي: هل يُخبر عن شيء، أم يُقدِّم وعدًا، أم يتوعد أم يحذر أم يطرح
سؤالًا أم يُصدر أمرًا وهلمَّ جرًّا. ومن الممكن أن يؤديَ منتج النص عدة
أشياء في الوقت نفسه، وهكذا قد يكون لعنصر
مفرد عدة قيم من قيم أفعال الكلام، وهي
قيم من المحال تخصيصها استنادًا إلى المعالم الشكلية لقول ما وحسب؛ فعند
تخصيص القيم يأخذ المفسرون في اعتبارهم السياق النصي لهذا القول (ما يسبقه
وما يتلوه في النص) وسياق الحال وسياق التناص له، وعناصر «الموارد
الذاتية».
وعلى سبيل المثال، يشير مَن كتبوا عن خطاب قاعة الدرس إلى أن بعض الجمل
الإخبارية والأسئلة النحوية التي يقولها المعلم قد تكتسب عند التلاميذ قيمة
فعل أمر من أفعال الكلام إذا كانت تُشير إلى عمل أو نشاط يلتزم التلاميذ
بأدائه. ومن الأمثلة قول المعلم «الباب لا يزال
مفتوحًا» أو قوله: «هل أغلقتم
الباب؟» وقاعات الدرس التي يَصِفها هؤلاء الكتاب تقليدية إلى
حدٍّ بعيد من حيث علاقات المعلم بالتلاميذ، كما أن الأوامر غير المباشرة
التي تُوحي وحسب بالمطلوب تتسم بعلاقة سلطة قاطعة. وأما في قاعات الدرس
الليبرالية؛ حيث تسود أنماط خطاب ذات أيديولوجية مختلفة، فربما لم نسمع مثل
هذه الأوامر الموحى بها، وإن نطق المعلم بها فربما لم يعتبرها التلاميذ
أوامر (أو لم يعتبروها أوامر بالسهولة نفسها)، ولا شك أن اعتبارَها أوامرَ
أقلُّ احتمالًا في مراحل التعليم العالي أو اللاحق. والهدف الرئيسي الذي
أرمي إليه أن تحديد قيم فعل الكلام أو «القوى» الكامنة في هذه الأمثلة
يقتضي منَّا أن نعرف نوع سياق الحالة التي تصدر فيها الأقوال، ومن ثَم
تحديد أنماط النصوص العاملة. وأما شكل القول نفسه فلا يكاد يُطلعنا على
شيء.
لقد أشرت إلى الأوامر غير المباشرة. ولكن أفعال الكلام يمكن التعبير
عنها تعبيرًا مباشرًا نسبيًّا (فعبارة أغلق
الباب على سبيل المثال أمر) أو تعبيرًا غير مباشر نسبيًّا، مع
تفاوت درجات غير المباشرة. وتختلف أنماط الخطاب في أعرافها الخاصة بالتعبير
المباشر عن أفعال الكلام، وترتبط هذه الاختلافات عمومًا بدرجة تمثيلها
للعلاقات الاجتماعية التي تنطوي عليها. فالأوامر أو الطلبات غير المباشرة —
على سبيل المثال — قد توجد في المثال الوارد أعلاه؛ حيث تتضح علاقات السلطة
وضوحًا لا يلزم المعلم بأن يكون مباشرًا. وعلى العكس من ذلك، قد توجد في
المواقف التي تكون فيها سلطة الآمر أقلَّ من سلطة المأمور، أو أن يكون
المأمور غريبًا لا يطلب منه عادةً تنفيذ أمثال هذه الأوامر، وهكذا تكون
الصيغة غير المباشرة وسيلةً لتخفيف وقْع الأمر عليه. ومن جديد نرى أن هذه
القيم البديلة المرتبطة بالصيغ غير المباشرة تؤكد أن تحديد قيم أفعال
الكلام يتوقف على سياق الحالة ونمط الخطاب.
ولنضرب على هذا مثالًا آخر من الدورين الأولين (سؤال وجواب) من
المقابلة الشخصية في مخفر الشرطة الواردة في الفصل الثاني ولا بد أن القارئ
يذكرها:
الشرطي
:
هل رأيت الذي كان في السيارة؟
الشاهدة
:
رأيت وجهه. نعم.
إن سؤال الشرطي مباشرٌ إلى حدٍّ كبير. ومع ذلك فلن نستطيع أن ننسب إليه
قيمة إلا إذا أحلناه إلى قائمة الخيارات التي يمثِّل أحدها في إطار نمط
الخطاب العامل هنا، وهو في هذه الحالة نمط خطاب المقابلات الشخصية بين
الشرطة والشهود بهدف الحصول على المعلومات. والاختيار في هذه الحالة غير
مميز في إطار نظام الخيارات المرتبطة بأفعال الكلام «الأمرية» [أي التي
تتضمن الأمر بشيء] وقولي غير مميز يعني أنه يخلو من فظاظة واضحة أو تلطف
واضح.
ومن الممكن أن يعتبر الشكل المباشر نفسه للسؤال ذا فظاظة في نمط خطاب
مختلف، أي في حلقة دراسية جامعية مثلًا. وطريقة إجابة الشاهدة عن السؤال
تعتمد هي الأخرى على نمط الخطاب. وتوجد طرائق كثيرة وغير محددة للإجابة عن
السؤال، ولكن معظمها مستبعد هنا. فعلى سبيل المثال كان يمكن أن تكون
الإجابة على النحو التالي: «يا ربي! هذا سؤال صعب.
فلأنظر في الأمر. إني واثقة أنني لمحت وجهه. نعم» وكان من
الممكن قطعًا أن نسمع هذه الإجابة، وقد تكون في هذه الحالة طريقة فعالة
لتحدِّي التوقعات المعيارية لنمط الخطاب المذكور! ولكن المتوقع هنا يتمثل
في الإجابة التي نسمعها فعلًا، أي الإجابة التي تقتصر على تقديم المعلومات
المطلوبة.
والأعراف الخاصة بأفعال الكلام التي تشكِّل جانبًا من نمط الخطاب
تجسِّد صورًا أيديولوجية للذوات وعلاقاتهم الاجتماعية. فإن وجوه عدم
التناظر في الحقوق والواجبات بين الذوات (وليكن بين رجل الشرطة الذي يُجري
المقابلة وبين الشاهدة) قد تكون كامنةً في عدم التناظر بين الحقوق في طرح
الأسئلة، أو طلب القيام بعمل ما، أو الشكوى، وعدم التناظر في الواجبات،
كواجب الإجابة، أو القيام بالعمل، أو تبرير أفعال المرء. أو فلنقل أيضًا:
إن الأعراف التي تتحكم في درجة التعبير عن أحد أفعال الكلام بطريقة مباشرة
أو غير مباشرة قد تختلف باختلاف الذوات، وفقًا للافتراضات الخاصة بمدى وجوب
التزام الذات بالتأدب تجاه الذوات الأخرى وأساليب ذلك التأدب، ومدى تحاشي
الذات لمظهر التسلط على الآخرين، وهلمَّ جرًّا. والخلاصة أنه من المفيد
للمرء أن يسأل عندما يعرض له أي نمط من الخطاب أو أي جزء يمثِّله، عمَّن
يستعمل أنواعًا معينة من أفعال الكلام وأن يحددها ويتحرَّى الأشكال التي
تتخذها.
(٥) الأطر والسيناريوهات والصور الذهنية
تمثِّل الصورة الذهنية جانبًا من الإجراءات التفسيرية على المستوى
الرابع من مستويات تفسير النص في الشكل
٦-١، وأما
الإطار والسيناريو فهما يرتبطان بها ارتباطًا وثيقًا وهذا سبب إدراجهما في
هذه المناقشة. وهي جميعًا تمثِّل أسرة من أنماط التمثيل الذهني لجوانب
معينة من هذا العالم، وتتميز بخصيصةِ كلِّ تمثيل ذهني بصفة عامة، ألَا وهو
أنه ذو طابع أيديولوجي متغير. واستخدام المصطلحات الثلاثة ليس قياسيًّا؛ إذ
نصادف استخدامها بمعانٍ مختلفة. والشكل
٦-٣ يلخص أسلوب
التمييز بين الأفكار الثلاث؛ بحيث يتفق مع التمييز بين المضمون والعلاقات
والذوات الذي أستخدمه دائمًا.
والصورة الذهنية (schema) تمثيلٌ لنمط معين من أنماط النشاط
(وهو الذي أشرت إليه عاليه بتعبير نمط النشاط) من حيث العناصر المتوقعة في
تتابع متوقع. أي إنها تمثيل ذهني «للأبنية النصية الواسعة النطاق» التي
ناقشتها في السؤال العاشر بالفصل الخامس. ولعلك تذكر المثال الذي أوردته
آنئذٍ للخبر الصحفي عن إحدى الحوادث، وهو ما ذكرت أنه يتكون من: سبب
الحادثة، شكل التعامل معها، والأضرار أو الإصابات الناجمة عنها، ونتائجها
في الأجل الطويل. أو لعلك تذكر مثالَ المحادثة التليفونية الذي استخدمته
آنفًا. وهكذا فإن الصور الذهنية صور نمطية ذهنية لأمثال هذه الأبنية وهي
تقوم بوظيفة إجراءات التفسير.
وإذا كانت الصور الذهنية تمثِّل طرائق السلوك الاجتماعي، فإن الأطر
تمثِّل الكيانات التي تَعمُر العالم (الطبيعي والاجتماعي). فالإطار يمثِّل
أيَّ شيء يمكن اعتباره موضوعًا، أو مادة يتناولها المرء أو أي شيء يقبل
الإحالة إليه داخل نشاط من الأنشطة. وكنت قد استخدمت المصطلح من قبل في
القسم الخاص بالافتراضات المضمرة والمعنى المترابط
والاستنباط في الفصل الرابع؛ حيث أشرت إلى الأطر الخاصة
«بالمرأة»، وهي الأطر التي فعَّلَتها المفاتيحُ النصية في النص. وقد تمثل
الأطر أنماطًا من الأشخاص أو غيرهم من الأحياء (امرأة، معلم، سياسي، كلب …
إلخ) أو كائنات من الجماد (منزل، كمبيوتر … إلخ) أو أنشطة (الجري، الهجوم،
الموت … إلخ) أو مفاهيم مجردة (الديموقراطية، الحب … إلخ). وقد تمثِّل
أيضًا عملياتٍ مركَّبةً أو سلسلة من الأحداث التي تشارك فيها أمثال هذه
الكيانات: مثل وقوع طائرة، أو مصنع سيارات (إنتاج السيارات) أو عاصفة
رعدية.
وإذا كانت الأطر تمثِّل كياناتٍ يمكن استدعاء صورها أو الإحالة إليها
في الأنشطة التي تمثِّلها الصور الذهنية، فإن السيناريو يمثِّل الذوات التي
تقوم بهذه الأنشطة وعلاقاتها. فهي تُشير إلى طرائق سلوك فئات محددة من
الذوات في الأنشطة الاجتماعية، وكيف تتصرف فئاتٌ محددة من الذوات تجاه
بعضها البعض، أي أسلوب إدارتها للعلاقات. فلدى الناس مثلًا سيناريوهات
للطبيب وللمريض والتفاعل المتوقع ما بين الطبيب والمريض.
وتتداخل السيناريوهات والأطر في نقاط معينة؛ «إذ توجد علاقة وثيقة بين
السيناريو الخاص بفئة من الذوات والإطار الخاص بفئة الأحياء المقابلة لها
مثلًا» وبين الصور الذهنية والأطر؛ «فالأطر الخاصة بالأنشطة المعقدة لا
تختلف اختلافًا شاسعًا عن الصور الذهنية مثلًا». وهذا متوقع لأن المصطلحات
الثلاثة تحدِّد ثلاثةَ أبعاد عامة إلى حدٍّ بعيد لشبكة بالغة التعقيد من
الصور التمثيلية الذهنية. لاحِظ أيضًا وجودَ حالات اعتماد متبادل بين هذه
المفاهيم الثلاثة، بمعنى أن الصورة الذهنية قادرة على التنبؤ بموضوعات
معينة ومواد معينة، وكذلك بعض المواقع المحددة للذوات وعلاقاتها، ومن ثَم
أطر وسيناريوهات معينة. ومع ذلك فالمفاهيم الثلاثة تختلف اختلافات تجعلها
مستقلةً بعض الشيء عن بعضها البعض، ومن ثَم فمن المعقول التمييز بينها في
التحليل. وعلى الرغم من أنني خصصت دورًا في التفسير للصور الذهنية وحدها في
الشكل
٦-١، فإن الأطر والسيناريوهات تنهض بدور خاص بها
في إجراءات التفسير، وعلى سبيل المثال في التوصل إلى تفسيرات للموضوع
والغاية (وتفاصيل ذلك في القسم التالي). وهي تقوم بهذا كلِّه وفقًا للعلاقة
الجدلية بين المفاتيح النصية والموارد الذاتية، وهو ما أؤكده باستمرار:
فالمفاتيح النصية تستدعي الصور الذهنية أو الأطر أو السيناريوهات، وتأتي
هذه جميعًا بتوقعات تؤثر في أسلوب تفسير المفاتيح النصية اللاحقة.
(٦) الموضوع والغاية
لأسلوب تفسير الناس للغاية التي يرمي إليها النصُّ أهميةٌ كبرى في
تحديد تأثير نصٍّ من النصوص. فالغاية هي التي تحفظها الذاكرة عمومًا، أو
تستدعيها، أو تُحيل إليها تناصًّا أو تُشير إليها في نصوص أخرى. والاسم
المألوف للجانب الخبراتي أو مضمون الغاية هو الموضوع، ولكن الغاية لا يمكن اختزالها في الموضوع، ما دامت
للغاية أيضًا أبعادٌ علائقية وتعبيرية. وانظر مثالًا على هذا النص المقتطف
من صحيفة الديلي ميل في الفصل الثالث
(النص ٣–٤) وعنوانه القائد الجديد لقوات
المظلات. إن موضوع هذا النص يمكن تمثيله بمقولة معينة، وهي:
زوجة قائد الكتيبة الثانية للمظلات تقول إن زوجها سوف يُحسن أداء مهمته.
ولكن للغاية من النص بُعدًا تعبيريًّا آخر يتعلق بالمرأة نفسها. إذ إن
النص، كما قلت في تعليقاتي عليه في الفصل الثالث، ينقل معنًى ضمنيًّا يقول:
إن السيدة جيني كيبيل «زوجة صالحة» وشخص يدعو للإعجاب، من خلال القيم
التعبيرية المنسوبة إليها.
كيف ينقل النص هذا المعنى ضمنًا؟ أعتقد أنه يعتمد بوضوح وجلاء على قدرة
الموارد الذاتية للمفسر على القيام بهذا؛ فالنص لا يصرح بالمعنى المذكور،
أي إن جيني كيبيل «زوجة صالحة»، ولو لم تكن لدى المفسرين صورةٌ ذهنية عن
الصفات النمطية المفترضة للزوجة الصالحة لما استطاعوا إدراك بعض هذه الصفات
الموجودة في النص ومن ثَم استنباط المعنى المذكور. فإذا عبَّرنا عن هذا
بمصطلحات القسم السابق؛ قلنا إن المفسرين ينتفعون بالسيناريو الخاص
«بالزوجة الصالحة». والواقع أن لنا أن نعتبر أن الصور الذهنية والأطر تشارك
السيناريو في القيام بدورٍ ما في تفسير الغاية، فهي تُعتبر أنساقًا نمطية
يمكن تطبيقها على نصوص تختلف فيما بينها اختلافات لا نهائية. وما إن نتبين
أن النص يمثِّل نسقًا من الأنساق، حتى نتخلص بسرور من التفاصيل الكثيرة فيه
ونختزله في الشكل الهيكلي للنسق المألوف ونحفظه في الذاكرة الطويلة الأجل
ونستدعيه عندما نريد. ولنا أن نطبق هذا على وحدات نصية متفاوتة الأطوال، من
فقرة واحدة، إلى فصل في كتاب، إلى محادثة، إلى كتاب كامل أو سلسلة
محاضرات.
وإذا كان من خصائص غاية النص أن تكون لها آثارها الطويلة الأجل في
المفسر، فمن المهم أن نكون على وعيٍ بالأصول الاجتماعية للجهاز المعرفي
الذي يرتكن المفسر إليه في تفسيره للغاية. فالصور الذهنية والسيناريوهات
والأطر تتغير، كما سبق أن قلت، أيديولوجيًّا، مثل الموارد الذاتية، وهذه
جميعًا هي التي تحمل الطابع الأيديولوجي لأصحاب السلطة المهيمنين
اجتماعيًّا، ومن المحتمل أن تُصبح موردًا مُطبَّعًا للجميع. ومن ثَم فإن
علاقات السلطة غير المتكافئة يمكن أن تفرض قيودًا غير مباشرة على الطرائق
المعتادة لاستيعاب النصوص وتمثُّلِها. ولكن هذا يبدأ إدخالنا مرحلة الشرح،
وهي قضية الجزء الثاني من هذا الفصل.
(٧) الخلاصة
قبل تلخيص ما قلته في هذا القسم عن التفسير في صورة مجموعة من الأسئلة،
أجد لزامًا عليَّ أن أبيِّن بإيجاز التضادَّ بين عملية المشاركة في التفسير
(التي انصبَّ تركيزي عليها حتى الآن) وبين عملية إنتاج النصوص، وأن أُشير
إلى وجود اختلافات بين المشاركين في الخطاب من حيث مواردهم الذاتية.
تعتبر عملية إنتاج النص في الحقيقة موازيةً لعملية تفسيره، غير أن
إجراءات التفسير المرتبطة بالمستويات الأربعة لتفسير النص في الشكل
٦-١ يُعتمد عليها هنا في
إنتاج أبنية سطحية للملفوظات، ومعاني الملفوظات، ومجموعات
ذوات معانٍ مترابطة محليًّا من الملفوظات، ونصوص تتميز بالترابط الشامل في
المعنى، بدلًا من تفسيرها. وأما في حالة تفسير السياق فالفروق تختفي؛ إذ
يقوم منتجو النصوص ومفسروها بتوليد تفسيرات لسياقات الحال وسياقات التناص
الخاصة بالخطاب. كما تتوازى عمليتَا الإنتاج والتفسير من زاوية أخرى لم
أُشِر إليها من قبل؛ إذ لا بد أن يفترض منتجو النصوص أن مفسِّريها، أو مَن
يحتمل أن يفسروها؛ قادرون على استخدام إجراءات تفسيرية معينة، والعكس صحيح،
أي إن على المفسرين أن يفترضوا أن النصوص التي يفسرونها تتمتع بهذه
الإجراءات. وكثيرًا ما يصبح هذا بمثابة افتراضات متبادلة، أي افتراض
المتحدث أن مَن يُحادثه يحيط بإجراءات التفسير التي يحيط بها المتحدث
نفسه.
ولكن هذا لا يتحقق في حالات كثيرة. فقد يختلف المشاركون، كما قلت
آنفًا، فيما يتوصلون إليه من تفسيرات لسياق الحال (وسياق التناص أيضًا).
ومن ثَم فقد يعتمدون على إجراءات تفسيرية مختلفة على المستويات الأربعة
للتفسير النصي في الشكل
٦-١؛ وبذلك تختلف القيم
المنسوبة لمعالم نصية معينة باختلاف المفسرين. زِد على ذلك أن تفسيرات
السياق، وبالتالي إجراءات التفسير، قد تتغير أثناء التفاعل بالنسبة لأحد
المشاركين أو بالنسبة لهم جميعًا. وتؤكد هذه الاعتبارات أهميةَ الحساسية
للاختلافات بين المشاركين، وفيما يتعلق بالتفسير من زمن إلى زمن، وعلينا أن
نُبديَ الحساسية لإمكانية أخرى، وهي أن مثل ذلك التنوع للمشاركين قد يعني
أن المشارك ذا السلطة قد يحاول أن يفرض تفسيرَه الخاص للسياق وإجراءاته
التفسيرية على المشاركين الأقل سلطة. ولعلك تذكر مناقشة السلطة المواقفية
في الفصل الثالث (قسم
السلطة في
الخطاب).
ولألخص الآن ما قلته عن التفسير في ثلاثة أسئلة يمكن طرحها بشأن أيِّ
خطاب، وقد يجد القراء فائدةً في الرجوع إليها عند القيام بتحليلاتهم:
- (١)
السياق: ما التفسير أو
التفسيرات التي يقدمها المشاركون لسياق الحال وسياق التناص؟
- (٢)
نمط الخطاب أو أنماطه: على أي
نمط أو أنماط للخطاب يعتمد النص؟ (ومن ثَم علامَ يعتمد من قواعد أو
نظم أو مبادئ الصوتيات، أو النحو، أو تماسك الجمل، أو المفردات، أو
الدلالة أو التداولية، ومن الصور الذهنية والأطر
والسيناريوهات)؟
- (٣)
الاختلاف والتغيير: هل تختلف
الإجابات عن السؤالين الأول والثاني باختلاف المشاركين؟ وهل تتغير في
أثناء التفاعل؟
ومرحلة التفسير تقوم بتصحيح أوهام الاستقلال من جانب الذوات في الخطاب،
فهي تُفصح عما يعتبر مضمرًا بصفة عامة عند المشاركين، ألَا وهو اعتماد
ممارسة الخطاب على افتراضات المنطق السليم في مواردهم الذاتية وفي نمط
الخطاب. وأما المهمة التي لا تضطلع بها وحدها فهي شرح علاقات السلطة
والهيمنة والأيديولوجيات القائمة في صُلب هذه الافتراضات، والتي تجعل
ممارسةَ الخطاب العادية موقعًا للصراع الاجتماعي. وتحقيقًا لهذا نحتاج إلى
مرحلة الشرح.
(٨) الشرح
ننتقل من مرحلة التفسير إلى مرحلة الشرح بالإشارة إلى أن الاستفادة من
بعض جوانب الموارد الذاتية باعتبارها إجراءات تفسيرية في إنتاج النصوص
وتفسيرها تؤدي إلى إعادة إنتاج هذه الجوانب؛ ولعلك تذكر مناقشةَ إعادة
الإنتاج في الفصل الثاني (في قسم جدلية الأبنية
والممارسات). وتعتبر إعادة الإنتاج عند المشاركين عمومًا من
الآثار الجانبية غير المقصودة و«غير الواعية»، إن صح هذا التعبير، للإنتاج
والتفسير. فإعادة الإنتاج تربط ما بين مرحلتَي التفسير والشرح؛ لأنه ما
دامت المرحلة الأولى تتعلق بأسلوب الإفادة من الموارد الذاتية في تحليل
الخطاب، فإن الأخيرة تتعلق بتكوين الموارد الذاتية وتغييرها اجتماعيًّا،
وهو ما يتضمن — بطبيعة الحال — إعادة إنتاجها في ممارسة الخطاب.
وأما هدف مرحلة الشرح فهو رسم صورة الخطاب باعتباره جزءًا من عملية
اجتماعية، وباعتباره ممارسة اجتماعية، وتبيان كيف تتحكم فيه الأبنية
الاجتماعية، وما يمكن لضروب الخطاب أن تؤديَ إليه من آثار تراكمية في هذه
الأبنية، بالحفاظ عليها أو تغييرها. وحالات التحكم والتأثير المذكورة تعتمد
على «وساطة» الموارد الذاتية، وهكذا فإن الأبنية الاجتماعية تُشكِّل
الموارد الذاتية، وهذه بدورها تُشكِّل ضروب الخطاب، وضروب الخطاب تحافظ على
الموارد الذاتية أو تُغيرها، وهي التي تقوم بدورها بالحفاظ على الأبنية أو
تغييرها. ونظرًا لتوجه هذا الكتاب، فإن الأبنية الاجتماعية التي يركز عليها
هي علاقات السلطة، والعمليات والممارسات الاجتماعية التي يركز عليها هي
عمليات الصراع الاجتماعي وممارساته. وهكذا فإن الشرح يعني النظر إلى الخطاب
باعتباره جزءًا من الصراع الاجتماعي داخل إطار علاقات السلطة.
ولنا أن نتصور أن للشرح بُعدَين، وهو ما يتوقف على تأكيدنا للعملية أو
للبناء، أي على عمليات الصراع أو علاقات السلطة. فلنا أن نرى من ناحية
معينة أن ضروب الخطاب تمثِّل أجزاءً من الصراعات الاجتماعية، وأن نضعَها في
سياقاتها الخاصة بهذه الصراعات (غير الخطابية) وآثار هذه الصراعات في
الأبنية. ومن شأن هذا تأكيد الآثار الاجتماعية للخطاب، وتأكيد الإبداع،
وتأكيد المستقبل. ونستطيع أن نبيِّن من ناحية معينة أن علاقات السلطة تتحكم
في ضروب الخطاب، وهذه العلاقات نفسها ناجمة عن الصراعات (وفي حالتها
المثالية المطبَّعة) يُنشئها أصحاب السلطة. ومعنى هذا تأكيد التحديد
الاجتماعي للخطاب وتأكيد الماضي، أي تأكيد نتائج صراعات الماضي. وينبغي فحص
الآثار الاجتماعية للخطاب وعوامل التحكم الاجتماعي في الخطاب، على ثلاثة
مستويات للتنظيم الاجتماعي، وهي المستوى المجتمعي، والمستوى المؤسسي،
والمستوى الموقفي. وهذا يوضحه الشكل
٦-٤.
ولنا أن نستعين في العمل بافتراض يقول: إن كلَّ خطاب له عواملُ تتحكم
فيه وآثارٌ يُحدثها على المستويات الثلاثة جميعًا، وإن كان المستويان
«المجتمعي»، و«المؤسسي» لن يتميزا بوضوح إلا في أنماط الخطاب الأقرب إلى
الطابع المؤسسي، ومن ثَم فإن أيَّ خطاب تُشكله علاقات السلطة المؤسسية
والمجتمعية، ويُسهم (وإن يكن إسهامًا طفيفًا) في الصراعات
الاجتماعية.
فلأحاول إيضاح ما يعنيه هذا الإسهام في الصراعات وما لا يعنيه. إنه لا
يعني أن كل خطاب يتجلى فيه التنازع، أي الصراع الاجتماعي، كما رأينا في
الفصل الثاني، ولا أن يتخذ بالضرورة شكل الصراع السافر أو التنازع السافر.
فمن الجائز أن نجد أن الخطاب الذي يتوصل فيه المشاركون — فيما يبدو — إلى
تفسيرات متطابقة (تقريبًا) للموقف، ويستعينون بالموارد الذاتية (الإجراءات
التفسيرية) نفسها، وأنماط الخطاب نفسها، ثمرة من ثمار علاقات السلطة،
وإسهامًا في الصراع الاجتماعي. ولنضرب لذلك مثلًا من محادثة متناغمة وعادية
تمامًا بين زوج وزوجة؛ إذ يؤدي عدم التكافؤ في تقسيم «العمل» في المحادثة
بين المرأة والرجل، وهو أمر معتاد تمامًا، إلى أن تتجلَّى في كلامِ كلٍّ
منهما العلاقاتُ الاجتماعية الأبوية داخل مؤسسة الأسرة والمجتمع كلِّه، كما
يُسهم إسهامًا ضئيلًا، مرجحًا الجانب المحافظ، في الصراعات الدائرة حول
موقع المرأة في الأسرة والمجتمع.
وأما من حيث المستويات الثلاثة للتنظيم الاجتماعي في الشكل
٦-٤، فإنني أقول بوجود ثلاث طرائق للنظر إلى الخطاب نفسه،
وأن ذلك يتوقف على تركيزنا عليه باعتباره ممارسةً موقفية أو مؤسسية أو
مجتمعية. ولا يعني هذا بالضرورة أو في الأحوال العادية أننا ننظر إلى معالم
مختلفة في الخطاب على هذه المستويات المختلفة، بل كثيرًا ما تكون أنظارنا
موجهةً إلى المعالم نفسها من منظورات مختلفة، كأنما كنَّا نغير الفلاتر
[مرشحات الضوء] أمام عدسة آلة التصوير. فلقد لوحظ مثلًا في المحادثات
المنزلية المعتادة تمامًا بين المرأة والرجل، أن المرأة أكثر انفعالًا
واندماجًا وتفهمًا وتقديرًا لما يقوله الرجل أثناء حديثه (بألفاظ مميزة مثل
الغمغمة أو نعم، لا، حقًّا، أوه) مما
يُبديه الرجل أثناء حديث المرأة. ويمكن اعتبار هذه الظاهرة أو لا، من حيث
الموقف، دليلًا على موقف بعض النساء الداعم لأزواجهن في بعض العلاقات
المنزلية الخاصة، ولكننا يمكن أن ننظر إليها من الزاوية المؤسسية
والمجتمعية بصفتها مَعْلمًا من عدد المعالم التي تبين الميل إلى وضع المرأة
في موقف «الممثل الثانوي» على مسرح المحادثة وظفر الرجال بأدوار
النجوم.
وأما من حيث الآثار فقد يُعيد الخطاب إنتاج العوامل الاجتماعية التي
تتحكم فيه والموارد الذاتية التي ينهل منها دون تغيير يُذكر، وقد يُسهم
بدرجات متفاوتة في تغيير هذه وتلك. ونستطيع أن نرى هذه الإمكانيات المتضادة
في العلاقات المتضادة بين منتجي النصوص (ومفسِّريها) وبين مواردهم الذاتية.
ففي الحالة الأولى يشتبك المنتج في علاقة معيارية مع موارده الذاتية، بمعنى أنه يتصرف وفقًا لها
بأسلوب مباشر إلى حدٍّ ما. وفي الحالة الأخيرة يتخذ المنتَج علاقة
إبداعية مع موارده الذاتية بمعنى أنه
ينهل منها ويجمع بين عناصرها بأساليب خلاقة، وبهذا يغيرها. وقد تصبح بعض
اتجاهات الانتفاع الخلاق بالموارد الذاتية وتطويعها اتجاهات منتظمة، وبقدر
هذا الانتظام تحدث تحولات طويلة الأجل في الموارد الذاتية، ومن ثَم في
العلاقات الاجتماعية التي تقوم عليها هذه الموارد.
وبصفة عامة يعتمد اختيار أحد هذين النوعين المتضادَّين من العلاقات بين
المشاركين ومواردهم الذاتية على طبيعة الموقف. فالعلاقات المعيارية مع
الموارد الذاتية ترتبط بالمواقف التي لا إشكالية فيها للمشاركين، في حين أن
العلاقات الإبداعية مع الموارد الذاتية
تتميز بها المواقف ذوات الإشكاليات. ويعتبر الموقف غير ذي إشكالية إذا كان
المشاركون يستطيعون تفسيرَه بيسر وتناغم باعتباره مثالًا لنمط الموقف
المألوف، أي إذا كان ما يحدث، ومَن يشمله الحدث، والعلاقات بين مَن يشملهم
الحدث، تتسم بالوضوح و«تتفق مع أنماطها المألوفة». وفي مثل هذه الحالات
تمثل الموارد الذاتية معايير مناسبة (أنماط الخطاب وإجراءات التفسير) يمكن
اتِّباعُها وحسب. وينشأ العكس إن لم تكن الأمور واضحة، وعجزت الموارد
الذاتية عن تقديم معايير حاسمة. وهنا لا يتفق نمطُ الموقف العملي مع نمط
الموقف المألوف، مما يضطر المشاركين إلى النهل من الموارد المختزنة في
«مواردهم الذاتية» بأساليب خلاقة حتى ينجحوا في التصدي للخصائص الإشكالية
للموقف. وأمثال هذه المواقف تُشكل لحظات أزمة للمشاركين، وعادة ما تنشأ
عندما يصبح الصراع الاجتماعي سافرًا، وعندما تتأزم الموارد الذاتية وعلاقة
السلطة من ورائها، وهي من نتائج الصراعات السابقة التي تتسم باستقرار مؤقت.
ويقدم الفصل السابع مثالًا موسعًا لموقف أزمة من هذا النوع الإشكالي
الإبداعي.
ما أيسر أن يؤديَ النظر في عوامل التحكم في الخطاب وآثاره، خصوصًا على
المستويَين المؤسسي والمجتمعي، إلى تحليل تفصيلي من وجهة نظر علم الاجتماع.
وليس هذا مستغربًا ما دمنا نبحث الخطاب باعتباره ممارسة اجتماعية. ولكن
المرء يواجه عادةً حدودًا عملية تمنعه من المغالاة في اتباع هذا النهج في
تحليله النقدي للغة. ولا توجد قواعد عرفية تحدِّد المدى الذي يجوز للمرء أن
يبلغه في تحليل الجوانب المؤسسية والمجتمعية من زاوية علم الاجتماع. وإذا
كان المرء ينتوي الشروع في إجراء بحث تفصيلي فربما كان عليه إجراء قدر من
التحليل من الزاوية المذكورة، ومن المفيد للباحث الذي تقع اهتماماته
الأساسية في مجال اللغة أن يتعاون مع عالم الاجتماع، وأما في الحالات التي
لا تتسم بالطموح نفسه فقد تكفي الإحاطة ولو بصفة عامة بالمؤسسة وبالمجتمع
من حيث الفئات والعلاقات الاجتماعية لتهيئة الإطار الاجتماعي
للخطاب.
ومرحلة الشرح تتعلق بمنظور خاص للموارد الذاتية؛ إذ ينظر إليها على وجه
التحديد باعتبارها أيديولوجيات. ومعنى هذا أن الافتراضات الخاصة بالثقافة
والعلاقات الاجتماعية والهويات الاجتماعية التي تشتمل عليها الموارد
الذاتية يُنظر إليها من زاوية خضوعها لسيطرة علاقات السلطة الخاصة في
المجتمع أو المؤسسة ما دامت هذه العلاقات تتحكم فيها، وكذلك من حيث إسهامها
في ضروب الصراع الدائرة للحفاظ على علاقات السلطة المذكورة أو تغييرها، أي
إن النظرة إليها أيديولوجية.
ولألخص الآن ما سبق أن قيل عن الشرح، في صورة أسئلة ثلاثة يمكن طرحها
(مثل الأسئلة الثلاثة الخاصة بالتفسير أعلاه) عن أي خطاب معين يتعرض
للفحص.
-
(١)
التحكم الاجتماعي: ما علاقات السلطة على المستويات الموقفية
والمؤسسية والمجتمعية التي تساعد على تشكيل الخطاب؟
-
(٢)
الأيديولوجيات: ما عناصر الموارد الذاتية ذات الطابع الأيديولوجي
التي يُنهل منها؟
-
(٣)
الآثار: ما موقع هذا الخطاب بالنسبة للصراعات على المستويات
الموقفية والمؤسسية والمجتمعية؟ هل هذه الصراعات سافرة أم خفية؟ هل
الخطاب معياري فيما يتعلق بالموارد الذاتية أم إبداعي؟ هل يُسهم في
الحفاظ على علاقات السلطة القائمة أم في تغييرها؟
الخاتمة: موقع المحلل
هذا ختام تقديم الإجراءات التي تتكون من ثلاث مراحل، والتي استغرق
عرضها الفصلين السابقين، ويقتضي اختتامها النظر في موقع المحلل في مرحلتَي
التفسير والشرح، ابتداءً بالأولى. كيف يستطيع المحلل الاطلاع على عمليتَي
إنتاج الخطاب وتفسيره؟ إن هاتين العمليتَين تحدثان في أذهان الناس، ويتعذر
على المرء إذن أن يراقبهما مراقبته للعمليات الجارية في العالم المادي.
والمدخل الوحيد المتاح للمحلل يتمثل في قدرته شخصيًّا على المشاركة في
العمليات الخطابية التي يفحصها. ونقول بعبارة أخرى إن على المحلل أن يرتكن
إلى موارده الذاتية (الإجراءات التفسيرية) حتى يشرح كيف يرتكن المفسرون إلى
مواردهم الذاتية. أي إن تحليل العمليات الخطابية مهمة موكلة إلى شخص ينتمي
إلى «داخل الحلقة» [أي حلقة محللي النصوص ومفسِّريها] ومن ثَم فهو «عضو»
فيها؛ ولذلك أطلقت على الموارد التي ينهل منها المفسر والمحلل مصطلح «موارد
الأعضاء». [وبسبب غرابة التصور الذي يقوم عليه المصطلح، أي وجود ما يجعل
المحلل عضوًا في «حلقة»، أو مجموعة أو فئة تقتصر عضويتُها عليه وعلى
المفسر، وأيضًا بسبب عدم تقبُّل الباحثين والكُتَّاب له منذ أن قدَّمه
المؤلف عام ١٩٨٩م، حرصت على أن أقرنه بمعناه الحقيقي في البداية أي
«الموارد الذاتية»، ثم الاكتفاء بهذا الأخير بعد ذلك].
ولكن إذا كان المحللون يستندون إلى مواردهم الذاتية حتى يشرحوا كيف
تعمل الموارد الذاتية للمشاركين في الخطاب، فمن المهم أن يُبديَ المحللون
حساسيةً لنوع الموارد التي يعتمدون عليها في التحليل. ويقتصر الاختلاف الذي
يميز المحلل عن المشاركين في هذه المرحلة من مراحل الإجراءات على الوعي
الذاتي وحده في الحقيقة. فالمحلل يقوم بما يقوم به المفسر المشارك نفسه،
ولكن اهتمام المحلل ينصبُّ — على عكس حال المفسر — على شرح ما يفعله. زِد على ذلك أن ممارس التحليل
النقدي يرمي إلى إزالة هذا الاختلاف نفسه، أي إن عليه اكتسابَ الوعي الذاتي
بشأن جذور الخطاب في الافتراضات القائمة على المنطق السليم في الموارد
الذاتية. ارجع إلى الفصل التاسع حيث المزيد من التفاصيل.
وتمييز موقع المحلل في مرحلة الشرح أيسر من تمييز موقع المشارك؛ لأن
«الموارد» التي يستند إليها المحلل هنا مستمدة من نظرية اجتماعية، ولعلك
تذكر أنني وضعت الخطوط العريضة للعناصر الأساسية لمواردي في هذا الصدد في
الفصل الثاني. ولكن الوعي الذاتي يتمتع بالأهمية نفسها إذا كان المرء يريد
أن يتجنب الارتكان إلى افتراضات عن المجتمع دون الاستناد إلى نظرية معينة،
أو كان يتصور أن الشرح يمكن أن يتمتع بالاستقلال عن النظرية أو أن يكون
محايدًا نظريًّا. ولا شك أن المفسرين يتمتعون بدرجات متفاوتة بنظرات
عقلانية خاصة عن ممارسة الخطاب، تتمثل في افتراضاتهم عن المجتمع، ولكن هذه
النظرات العقلانية لا ينبغي أن تُقبل دون تمحيص. وأقول من جديد إن الغاية
التي يرمي إليها ممارسُ التحليل النقدي تتمثل في سد الفجوة بين المحلل
والمشارك من خلال التنمية الواسعة الانتشار للفهم العقلاني للمجتمع
والنظريات الاجتماعية. انظر الفصل التاسع.
المراجع
فيما يتعلق بالتمييز بين الوصف والتفسيرات والشرح انظر: فيركلف
(١٩٨٥م)، وكاندلين (١٩٨٦م)؛ وعن التفسير انظر: جيمسون (١٩٨١م)، وج. ب.
طومسون (١٩٨٤م) ليسيركيل (١٩٩٩م)؛ وعن إجراءات التفسير انظر شيكوريل
(١٩٧٣م). وتعتبر دراسات ليفنسون (١٩٨٣م)، وتوماس (١٩٩٥م)، وفيرسويرين
(١٩٩٩م) مقدمات للتداولية، وهي تعالج أفعال الكلام، والإضمار
implication
وimplicature والافتراضات المسبقة. انظر
أيضًا: سيرل (١٩٦٩م) بشأن أفعال الكلام، وتعتبر دراسة شانك وإيبلسون
(١٩٧٧م) دراسة كلاسيكية عن الصور الذهنية وما يتصل بها من أفكار. ويتوافر
كمٌّ هائل من الدراسات من منظور علم اللغة الاجتماعي عن تحليل سياق الحالة.
ودراسة داونز (١٩٨٤م) مقدمة لعلم اللغة الاجتماعي؛ وانظر أيضًا كوبلاند،
وديافورسكي (١٩٩٩م)، وهايمز (١٩٦٢م). وأما كتاب هاليداي وحسن (١٩٨٥م) فهو
مكتوب من وجهة نظر اللغويات المنهجية. وبخصوص اعتماد التفسير اعتمادًا
جذريًّا على سياق الحال انظر جارود (١٩٨٦م). وتتضمن دراسة جيدينز (١٩٩١م)
وصفًا عامًّا من وجهة نظر علم الاجتماع للمشكلات المتعلقة بموقع المحلل في
التحليل الاجتماعي. والمثال الذي ضربته لاستخدام أفعال الكلام في خطاب قاعة
الدرس عاليه مقتطفٌ من كتاب سينكلير وكولتارد (١٩٨٥م).