تطبيق التحليل النقدي للخطاب عمليًّا: التفسير والشرح، وموقع المحلل
يواصل هذا الفصل تقديم الإجراء اللازم للتحليل النقدي للخطاب، وكان الفصل الخامس قد عالج مرحلة التوصيف، وننتقل الآن إلى مرحلتَي التفسير والشرح، اللتين سوف أُناقشهما بهذا الترتيب. وسوف يُختتم الفصل ببعض المسائل الخاصة بالعلاقة بين المحلل والخطاب الذي يتولَّى تحليله. ولنبدأ بالعودة لإلقاء نظرة سريعة على العلاقة بين المراحل الثلاث التي رسمَت خطوطها العريضة في الفصل الثاني؛ لإنعاش ذاكرة القراء من ناحية، وتأكيد جوانب القصور في الاكتفاء بالتوصيف من ناحية أخرى.
وهكذا فإذا كان اهتمام المرء مُنصبًّا على القيم الاجتماعية المرتبطة بالنصوص وعناصرها، وبالدلالة الاجتماعية للنصوص بصفة أعم، فلا بد من استكمال التوصيف بالتفسير والشرح. ولاحظ أيضًا أن المشاركين في الخطاب لا يُدركون بوضوح، وبصفة عامة، اعتماد الخطاب على الافتراضات القائمة في الخلفية، ولا الخصائص الأيديولوجية لهذه الافتراضات التي تربطها بضروب الصراع الاجتماعي وعلاقات السلطة. ومن ثَم فلنا أن نعتبر التفسير والشرح إجراءين يطبقان على التوالي ابتغاء إماطة اللثام أو إزالة الغموض.
(١) التفسير
-
(١)
سطح الكلام الملفوظ. يتعلق هذا المستوى الأول من مستويات تفسير النص بالعملية التي يحوِّل بها المفسرون سلاسل الأصوات أو العلامات فوق الورق إلى كلمات وعبارات وجمل يمكن التعرف عليها. وتحقيقًا لهذا عليهم أن ينهلوا من ذلك الجانب (من «موارد الأعضاء» لديهم) الذي كثيرًا ما يشار إليه بتعبير «معرفتهم باللغة»، وهو الذي قلت: إنه يشتمل تحديدًا على «الصوتيات والنحو والمفردات» في العمود الأيمن. هذا المستوى لا يتصل اتصالًا خاصًّا بموضوعنا، ولن أقول المزيد عنه.
-
(٢)
معنى الكلام الملفوظ. يتمثل المستوى الثاني من مستويات التفسير في إضفاءِ معانٍ على الأجزاء التي يتكون النص منها، وهي التي أطلق عليها «الملفوظات»، مستخدمًا هذا المصطلح بمعنى فضفاض. ففي بعض الحالات — لا كلها — تتفق الملفوظات مع الجمل، أو مع «مقولات» دلالية. وينهل المفسرون هنا من الجوانب الدلالية «لموارد الأعضاء» لديهم، بمعنى الصور الممثلة لمعاني الألفاظ، والقدرة على الجمع بين معاني الألفاظ والمعلومات النحوية والتوصل إلى المعاني المضمرة ابتغاء التوصل آخر الأمر إلى معاني المقولات بأكملها. كما ينهل المفسرون أيضًا من الأعراف التداولية داخل مواردهم، وهي التي تُتيح لهم أن يحددوا أيَّ فعل من أفعال الكلام يُستخدم الكلام الملفوظ في «أدائه». وأما أفعال الكلام فأناقشها في موقع لاحق من هذا القسم.
-
(٣)
الترابط الموضعي. وأما المستوى الثالث للتفسير فيقيم «روابط المعنى» بين الملفوظات، بحيث يُنتج (إذا أمكن ذلك) تفسيرات مترابطة بين كلِّ ملفوظَين أو عدد متوالٍ من الملفوظات. ولك أن ترجع إلى مناقشة الترابط في المعنى في الفصل الرابع. ولكن المسألة هنا ليست مسألةَ علاقات ترابط «شاملة» تربط أجزاء النص كلها بعضها بالبعض، أي مقالة صحفية كاملة أو محادثة تليفونية كاملة، على سبيل المثال، ولكنها تتعلق بعلاقات الترابط «الموضعية» داخل جزء معين من أجزاء النص. وأما الترابط الشامل فيظهر في الصورة في المستوى التالي. وفي المستوى الثالث يعتمد المفسرون على «معرفتهم باللغة» وهو ما يتعلق بالتماسك النصي الذي نوقش في إطار السؤال الثامن في الفصل الخامس. ولكن الترابط في المعنى لا يمكن اختزاله في التماسك الشكلي؛ فالمفسرون يستطيعون استنباط علاقات ترابط بين الملفوظات حتى في غيبة مفاتيح التماسك الشكلية، استنادًا إلى الافتراضات المضمرة التي بيَّن الفصل الرابع أنها كثيرًا ما تكون ذات طابع أيديولوجي. وتعتبر العمليات الاستنباطية عمومًا من قضايا التداولية؛ ولذلك فإن تعريف التداولية في الشكل ٦-١ يقول إنها عملية تفسيرية لهذا المستوى من مستويات التفسير والمستوى السابق أيضًا.
-
(٤)
بناء النص وغايته. تفسير بناء النص على المستوى الرابع يعني أن يُدرك المفسر كيف يرتبط النصُّ كلُّه بعضه بالبعض، أو ما أسميتُه آنفًا الترابط الشامل للنص. وذلك يعني المطابقة بين النص وبين إحدى الصور الذهنية الأساسية المختزنة لدى المفسر، أو فلنَقُل إنها الصور التمثيلية لأنماط الخطاب المميزة والمرتبطة بأنماط مختلفة من الخطاب. فما إنْ يُقرر المفسر أنه بصدد محادثة تليفونية — مثلًا — حتى يعرف أن له أن يتوقع حدوث أشياء معينة وبترتيب معين (التحايا، تحديد موضوع المحادثة، تغيير الموضوعات، اختتام المحادثة، وكلمات الوداع). وأما أسميته «غاية» النص فهو التفسير الموجز للنص —ككل — الذي يتوصل إليه المفسرون، وهو الذي عادةً ما يختزن في الذاكرة الطويلة الأجل؛ حتى يصبح متاحًا لمن يريد استرجاعه. والجانب الخبراتي لغاية النص يتمثل في موضوعه الشامل، وأنا أفضل مصطلح الغاية على مصطلح الموضوع هنا باعتباره مصطلحًا عامًّا؛ لأن غاية النص ذات جوانب علائقية وتعبيرية أيضًا. وسوف تَرِد أدناه مناقشات للغاية وللصور الذهنية الأساسية.
ولاحِظ ثانيًا أن الخانات في العمود الأوسط ترتبط فيما بينها رأسيًّا بأسهم مزدوجة الرءوس، وهو ما يعني أن كلَّ مجال من مجالات التفسير ينهل من التفسيرات الخاصة بالمجالات الأخرى باعتباره جزءًا من «مواردها»، وأعتقد أن هذا الاعتماد المتبادل واضح، إلى حد ما، بالنسبة لمستويات تفسير النص الأربعة. فأنت عند تفسيرك مثلًا لترابط المعنى الشامل و«غايته» في نص من النصوص، تستفيد من تفسيراتك للترابط الموضعي لأجزائه، وتستفيد في التوصل إلى هذه التفسيرات الأخيرة بتفسيراتك لمعاني الملفوظات، كما تستفيد في التوصل إلى هذه أيضًا بتفسيرات الأشكال السطحية للملفوظات. ولكن الاعتماد المتبادل قائم أيضًا في الاتجاه العكسي. فالمفسرون يتوسلون، مثلًا بتقديرات حدسية في بداية تفسيرهم للنص بشأن بنائه النصي و«غايته»، ومن المحتمل أن تؤثر هذه التقديرات الحدسية في المعاني المرتبطة بالملفوظات الفردية، وعلاقات الترابط الموضعية القائمة فيما بينها. ولنا أن نعبِّر بدقة عن هذا قائلين: إن التفسيرات تتسم بخصيصة مهمة هي الجمع بين الانتقال من القمة إلى القاعدة (أي إن التفسيرات على المستوى الأعلى تشكِّل المستوى الأسفل) والانتقال من القاعدة إلى القمة.
وتماثل هذا العلاقة بين تفسيرات السياق وتفسيرات النص؛ إذ يضع المفسرون أحكامًا سريعة على ماهية السياق، ومن الممكن أن تؤثر هذه الأحكام في تفسيرهم للنص، ولكن تفسير السياق يعتمد في جانب منه على تفسير النص ويمكن أن يتغير في أثناء تفسير النص.
(٢) سياق الحال ونمط الخطاب
فلننظر إلى النصف الأسفل من هذا الشكل البياني أولًا. فعلى الجانب الأيمن قدَّمت أربعة أسئلة تتعلق بالأبعاد الرئيسية الأربعة للحال: الذي يحدث، ومَن الفاعل، وما العلاقات المطروحة، وما دور اللغة فيما يحدث؟ ولنا أن نُعيد تقديم جانب من المقابلة الشخصية في مخفر الشرطة، الواردة في الفصل الثاني، لإيضاح هذه الأبعاد.
-
(١)
«ما الذي يجري؟» وضعت أقسامًا فرعية «للذي يجري» وهي النشاط، والموضوع، والغرض، ولا شك أننا نستطيع وضعَ أقسام أدق، ولكن هذه كافية لما نحن بصدده. أما الأول فهو الأعم الأشمل؛ إذ يسمح لنا بتحديد الموقف من حيث انتماؤه إلى نمط واحد من أنماط النشاط، أو الفئات المتميزة للنشاط، وهي التي نُدرك تميُّزَها داخل نظام اجتماعي محدد في مؤسسة معينة، ولهذه المؤسسة أبنية نصية كبيرة من النوع الذي أشرتُ إليه في إطار السؤال العاشر من الفصل الخامس. فعلى سبيل المثال، من شأن أنماط النشاط في العمل الشرطي أن تتضمن القبض على أحد الأشخاص، وتقديم تقرير، وإجراء مقابلة شخصية مع شاهد من الشهود، وفحص أحد المشتبه بهم وهلمَّ جرًّا. ونمط النشاط في هذه الحالة إجراء مقابلة شخصية مع الشاهدة. ومن المحتمل أن يفرض نمط النشاط قيودًا على مجموعة الموضوعات التي يمكن تناولها، وإن كان هذا لا يعني أنه من الممكن التنبؤ بصورة آلية بتلك الموضوعات في ضوء معرفتنا بنمط النشاط. وأما الموضوع هنا فهو وصف الشخص الذي زُعِم ارتكابُه للجريمة. وعلى غرار ذلك ترتبط أنماط النشاط أيضًا بأغراض معترف بها من الزاوية المؤسسية. والغرض الرئيسي في هذه الحالة هو الحصول على أوصاف وروايات للجريمة المزعومة وتوثيقها (وتذكَّرْ أن رجل الشرطة يقوم بتعبئة استمارة معينة أثناء المقابلة الشخصية).
-
(٢)
«مَن الفاعل؟» الواضح أن السؤالَين «مَن الفاعل؟» و«ما نوع العلاقات؟» يرتبطان ارتباطًا وثيقًا، وإن كانا من الزاوية التحليلية منفصلين. ففي حالة السؤال الأول يحاول المرء أن يحدد مواقع الذوات التي أُنشئت، وتختلف مواقع الذوات الناشئة وفقًا لنمط الحالة. ومن المهم أن نُشير إلى أن مواقع الذوات تتسم بتعدد أبعادها؛ إذ يرجع أحد الأبعاد أولًا إلى نمط النشاط، وهو في هذه الحالة مقابلة شخصية، والمقابلات الشخصية تتضمن مواقع ذوات لمن يتولَّى إجراءها (فردًا كان أو أكثر) ولمن تُجرَى المقابلة معه. وثانيًا: نجد أن المؤسسة تنسب هويات ثقافية للذوات العاملين في داخلها، ولدينا في هذا المثال «رجل شرطة» و«فرد من أفراد الجمهور»، وهو أيضًا «شاهد»، ومن المحتمل أن يكون ضحية. ونجد ثالثًا أنه إذا اختلفت الحالة اختلفت مواقع الحديث والاستماع المرتبطة بها، أي مواقع المتكلم والمخاطب، ومَن يستمع عرضًا لما يقال، والمتحدث باسم المؤسسة وهلمَّ جرًّا، ولدينا في هذا المثال دوران للمتكلم والمخاطب متناوبان بين رجل الشرطة والشاهدة.
-
(٣)
«وما نوع العلاقات؟» إذا كان الأمر خاصًّا بمسألة العلاقات كان علينا أن نزيد من دينامية النظرة إلى مواقع الذوات حتى نتبيَّن أنواع علاقات السلطة، والمسافة الاجتماعية وغيرها مما تُنشئه الحالة وتُجسِّده. وفي المثال المذكور نهتمُّ عادةً بطبيعة العلاقات القائمة بين أفراد الشرطة وأفراد «الجمهور»، فنلاحظ مثلًا أن استكمال المهمة من حيث الإجراءات الرسمية يبدو أشدَّ إلحاحًا في عينَي الشُّرطي الذي يُجري المقابلة من التعاطف مع مشاعر الشاهدة التي شهدت لتوِّها جريمةً تتسم بالعنف.
-
(٤)
«ما دور اللغة؟» تُستخدم اللغة باعتبارها أداةً من أدوات تحقيق هدف مؤسسي وبيروقراطي واسع الإطار؛ فهي تُستعمل للحصول على معلومات معينة من الشاهدة، وهي المعلومات اللازمة لملء استمارة رسمية تعتبر من وثائق القضية. ولا يقتصر دور اللغة من هذه الزاوية على تحديد نمطها، بمعنى أن نمط المقابلة المذكورة أسلوبٌ واضح للحصول على المعلومات اللازمة، ولكنه يحدِّد «القناة» الخاصة بها، أي إذا كان المستخدم هنا لغةً منطوقة أو مكتوبة. فأحيانًا ما يتخذ الحصول على مثل هذه المعلومات البيروقراطية شكلَ اللغة المكتوبة؛ إذ يُطلب من الأشخاص أن يملئوا الاستمارات بأنفسهم. ولما كان الواقع في هذا المثال مختلفًا عن الشكل الأخير، أي لما كان إجراء ملء الاستمارة قد تعقد بسبب إجراء المقابلة الشخصية، فإنه يدل على درجة السيطرة التي تمارسها الشرطة على جميع جوانب القضية، بمعنى أن المعلومات التي تُدلي بها الشاهدةُ لن تتمتع بالصحة رسميًّا إلا بالشكل الذي تقوم فيه الشرطة بدور الوسيط ودور مَن يتحقق من صحتها.
ولنا أن نتصور حدوث ذلك على مرحلتين. ففي المرحلة الأولى التي يمثِّلها السطران العلويان في الشكل البياني، يَصِل المفسر إلى تحديد التركيبة المؤسسية، والقطع في أمر المجال المؤسسي الذي يحدث فيه التفاعل، استنادًا إلى النظام الاجتماعي المجتمعي في «موارده الذاتية». ومعنى هذا أن النظام الاجتماعي المجتمعي يقسم الحيز الاجتماعي الشامل إلى أحوزة مؤسسية كثيرة، ولا بد من وضع أية حالة فعلية في قسم مؤسسي معين وفق هذا التقسيم. وفي المرحلة الثانية، التي يمثلها السطران الثالث والرابع في الشكل البياني، يَصِل المفسر إلى تحديد إطار الحالة، أو البت في إطار نمط الحالة الذي يحدث التفاعل فيه استنادًا إلى النظام الاجتماعي المؤسسي الذي اختاره في المرحلة الأولى. وهكذا فكل نظام اجتماعي مؤسسي يقسم الحيز المؤسسي إلى أنماط كثيرة من الحالات، وكل حالة فعلية يرمز لها بفئة من هذا البناء للأنماط (أو على الأقل من حيث علاقتها بهذه الفئة).
سبق أن أقام الفصل الثاني الحجة على الصلة التي تربط ما بين النظم الاجتماعية ونظم الخطاب من ناحية، وبين أيديولوجيات معينة وعلاقات سلطة محددة من ناحية أخرى. ومما يترتب على ذلك أن الحالات قد يختلف تفسيرها إذا اختلف المفسرون واستندوا إلى نظم اجتماعية مختلفة باعتبارها إجراءات تفسيرية. وأمثال هذه الاختلافات مألوفة عبر الثقافات، ومن المحتمل أن تكون من وراء حالات سوء التواصل أو انهيار الاتصال فيما بين المنتمين إلى ثقافات مختلفة (انظر الفصل الثالث). ولكن هذا وذاك يحدثان أيضًا داخلَ كلِّ ثقافة من الثقافات بين المواقع الأيديولوجية المختلفة. ومعنى هذا أننا لا نستطيع وحسب أن نتجاهل السياق، أو نفترض أنه ذو شفافية تجعله متاحًا لجميع المشاركين عندما ندفع بأهمية دور السياق في تفسير النص أو إنتاجه، بل علينا أن نحدِّد في كل حالة ما يستند إليه عملُ المفسرين من تفسير لسياق الحالة، وأن نفصل فيما إن كانوا يشتركون في تفسير واحد أم لا. وعلينا أيضًا أن نعيَ كيف يمكن فرض تفسير مشارك يتمتع بسلطة كبرى على المشاركين الآخرين.
والنتائج المضمرة في اعتماد التفسير اعتمادًا جذريًّا على سياق الحال قد تكون مزعجةً إلى حدٍّ ما للغويين الذين اعتادوا اعتبار المعنى خصيصةً لغوية محضة في الأشكال اللغوية نفسها. ويتمثل أحد ردود الفعل المفهومة في محاولة تضييق حدود السياق، أي ضغط المساحة الشاسعة التي يشغلها. ولكن الذي قلتُه لتوِّي يترتب عليه أن يتضمن سياق الحال الخاص بكل خطاب — مهما يكن — نظام العلاقات الاجتماعية والسلطوية على أعلى مستوى مجتمعي. ومثلما دأبت التقاليد على اعتبار الجملة، حتى ولو كانت جملةً واحدة، قادرةً على الإيحاء بلغة كاملة، فإن الخطاب المفرد يوحي بمجتمع كامل. والسبب أن نظم التصنيف والتنميط للممارسة الاجتماعية والخطاب التي يعتمد عليها كلُّ شيء آخر — ما درَجتُ على تسميته النظم الاجتماعية ونظم الخطاب — تتشكل في الأرحام المجتمعية والمؤسسية لذلك الخطاب المفرد.
(٣) سياق التناص والافتراضات السابقة
لكل خطاب وكل نص يقع في إطاره تاريخ، فهما ينتميان إلى سلسلة زمنية، وتفسير سياق التناص يعني تحديدَ السلسلة التي ينتمي إليها النص، ومن ثَم ما يمكن اعتباره أساسًا مشتركًا للمشاركين، أو افتراضًا سابقًا. ومثلما رأينا في مسألة سياق الحالة، قد يصل المشاركون في الخطاب إلى تفسير واحد تقريبًا أو إلى تفسيرات مختلفة، وقد يُفرض تفسير المشارك ذي السلطة الكبرى على الآخرين. وهكذا فإن التمتع بالسلطة قد يعني القدرةَ على تحديد الافتراضات السابقة.
ألم يكن يومًا جميلًا؟
أشرقت الشمس، واحتشدت الجماهير بشتى ألوانها، وفي قلب ذاك كله رأينا سارة وأندرو، ينشران سعادتهما في كل اتجاه حتى جعلاه يومًا لا يُنسى … لهما ولنا.
وكنت قد شاهدت في الليلة التي سبقت الزفاف، تلك المقابلة التليفزيونية الساحرة، وربما شاهدها نصف سكان الأرض، وأذهلني اكتمال علاقتهما. كيف كانا يتكاملان، في الروح الفكهة، وفي ابتهاجِ كلٍّ منهما بشخصية الآخر، وفي التزامهما بالمستقبل. كان من الواضح أن سارة تُدرك مقتضيات دورها الجديد باعتبارها زوجة بحَّار ودوقة ملكية، مع احتفاظها في الوقت نفسه بحياتها العملية. لا شك أن ذلك أمر فريد في تاريخ الأسرة المالكة، ولكن ما أشد تناغمه مع الحياة المعاصرة وعلاقاتها.
وتتضمن الافتراضات السابقة في هذا المقتطف أن اليوم كان جميلًا، وأن الجماهير كانت زاهية الألوان، وأنها كانت سعيدة، وأن المقابلة التليفزيونية كانت ساحرة، وأن علاقة الزوجين كانت كاملة، وأنهما متكاملان، ويستمتع كلٌّ منهما بشخصية الآخر، ويلتزمان بالمستقبل، وأن الدور الذي اضطلعت به له مطالبُه، وأن لها حياة عملية خاصة بها. والفقرة فذة في مقدار الافتراضات السابقة، وبسبب طبيعة الموضوع وعدد الذين شاهدوا الزفاف في التليفزيونية، كان من المحتوم أن تنقل الفقرة إلى معظم الناس على الأقل ما يعرفونه سلفًا، أي أن تُقدم إلى الناس شذرات مما يُفترض أنه نصوص سابقة اطَّلعوا عليها بصفتهم من مشاهدي التليفزيون، أو مستمعي الإذاعة أو قراء الصحف.
أو بالأحرى يقصد النص أن يُخبر الناس بما يعرفونه سلفًا، والواقع أن أمثال هذه النصوص «الإعلامية» تجعل من المُحال على الكاتب أن يعرف خبرات القراء الفعلية بنصوص أخرى، وعليه من ثَم أن يبنيَ لنفسه «قارئًا مثاليًّا» يتمتع بخبرات متناصة خاصة. ولا يوجد بطبيعة الحال ما يضمن أن النصوص التي يفترض الكاتب اطلاع قرائه عليها قد وُجدت خارج خيال منتج النص! وهكذا فإن مُنتجي النصوص في أجهزة الإعلام لديهم وسيلة فعالة للتلاعب بالجماهير؛ وذلك بأن ينسبوا إلى خبراتها ما يريدون لها أن تقبله. ولما كانت الفقرة لا تصرِّح بمقولاتها المقصودة، فإن الناس أحيانًا ما يصعب عليهم تحديدها، ورفضها إذا شاءوا.
ويستطيع منتجو النصوص أيضًا، إلى جانب افتراض وجود عناصر السياق المتناص سلفًا، أو يُبدوا اختلافهم مع هذه العناصر أو الطعن في صحتها. ومن الوسائل المهمة لتحقيق ذلك استخدام صيغة النفي في النص ٦–٢، وهو مقال منشور في مجلة للمراهقين.
لن ينجح أي مقدار من معدات التجميل ولوازم الشعر في تحويلك إلى فتاة ذات جمال باهر إن لم تكن أسنانك على ما يرام. وليس من دواعي الفخر أن تكوني قد امتنعت عن زيارة طبيب الأسنان في السنوات الخمس الماضية، لكنه يعني أنك تطلبين المتاعب وحسب. ليس العلاج مساويًا لقضاء أسبوع في الاستماع إلى أغاني نانا موسكوري، ولا يتمثل عمل طبيب الأسنان في رؤيتك لكوابيس أو التسبب في إيلامك دونما داعٍ والكشف المنتظم على الأسنان أفضل خيار، فالوقاية خير من العلاج! إن لم تكوني ذهبت إلى طبيب الأسنان دهرًا طويلًا فتشجعي وحددي موعدًا للزيارة، فقيمته مؤكدة! لقد نشرت المؤسسة البريطانية لصحة الأسنان سلسلة من الكتيبات المفيدة عن العناية بالأسنان، ومن بينها معلومات عن طرابيش الضروس، وأمراض اللثة، وصحة الفم، والسكر، واختيار طبيب أسنان، وهي معلومات جديرة بالاطلاع عليها. للحصول على نسخة مجانية من أي كتيب، أرسلي ظرفًا عليه عنوانك إلى المؤسسة البريطانية لصحة الأسنان، وعنوانها:
ومفهوم السياق التناصي يقتضي منَّا النظر إلى ضروب الخطاب وإلى النصوص من زاوية تاريخية، على عكس الموقف المعتاد في الدراسات اللغوية، وهو الذي يقول بإمكان تحليل النص من دون الإحالة إلى غيره من النصوص، وبعد تجريده من سياقه التاريخي. ويقوم الفصلان التاليان في هذا الكتاب على القول بمثل هذا المنظور التاريخي. فالفصل السابع يدور حوله النظرة إلى النص باعتباره من إنتاج منتج يستمد مادته من مزيج من نمطين أو أكثر من أنماط الخطاب — أي من عرفَين أو تقليدَين أو أكثر — باعتبار ذلك أداة للانتفاع الإبداعي بموارد الماضي في تلبية مقتضيات الاتصال المتغيرة للحاضر. وأما الفصل الثامن فيتضمن نطاقًا زمنيًّا أطول؛ إذ يبحث كيف تتجلى الفترات التاريخية في تحولات نظم الخطاب، وكيف تشكل هذه التحولات، من جانب معين، تلك الفترات التاريخية.
(٤) أفعال الكلام
كنت أشرت إلى أفعال الكلام في مواقع معينة في الفصول السابقة دون أن أشرح ما أعنيه بهذا المصطلح. فالقول بأن أحد أجزاء النص يمثِّل فعلًا من أفعال الكلام، يعني أنه يحدد الوظيفة التي يؤديها منتج النص من خلال إنتاجه له، أي: هل يُخبر عن شيء، أم يُقدِّم وعدًا، أم يتوعد أم يحذر أم يطرح سؤالًا أم يُصدر أمرًا وهلمَّ جرًّا. ومن الممكن أن يؤديَ منتج النص عدة أشياء في الوقت نفسه، وهكذا قد يكون لعنصر مفرد عدة قيم من قيم أفعال الكلام، وهي قيم من المحال تخصيصها استنادًا إلى المعالم الشكلية لقول ما وحسب؛ فعند تخصيص القيم يأخذ المفسرون في اعتبارهم السياق النصي لهذا القول (ما يسبقه وما يتلوه في النص) وسياق الحال وسياق التناص له، وعناصر «الموارد الذاتية».
ولنضرب على هذا مثالًا آخر من الدورين الأولين (سؤال وجواب) من المقابلة الشخصية في مخفر الشرطة الواردة في الفصل الثاني ولا بد أن القارئ يذكرها:
إن سؤال الشرطي مباشرٌ إلى حدٍّ كبير. ومع ذلك فلن نستطيع أن ننسب إليه قيمة إلا إذا أحلناه إلى قائمة الخيارات التي يمثِّل أحدها في إطار نمط الخطاب العامل هنا، وهو في هذه الحالة نمط خطاب المقابلات الشخصية بين الشرطة والشهود بهدف الحصول على المعلومات. والاختيار في هذه الحالة غير مميز في إطار نظام الخيارات المرتبطة بأفعال الكلام «الأمرية» [أي التي تتضمن الأمر بشيء] وقولي غير مميز يعني أنه يخلو من فظاظة واضحة أو تلطف واضح.
والأعراف الخاصة بأفعال الكلام التي تشكِّل جانبًا من نمط الخطاب تجسِّد صورًا أيديولوجية للذوات وعلاقاتهم الاجتماعية. فإن وجوه عدم التناظر في الحقوق والواجبات بين الذوات (وليكن بين رجل الشرطة الذي يُجري المقابلة وبين الشاهدة) قد تكون كامنةً في عدم التناظر بين الحقوق في طرح الأسئلة، أو طلب القيام بعمل ما، أو الشكوى، وعدم التناظر في الواجبات، كواجب الإجابة، أو القيام بالعمل، أو تبرير أفعال المرء. أو فلنقل أيضًا: إن الأعراف التي تتحكم في درجة التعبير عن أحد أفعال الكلام بطريقة مباشرة أو غير مباشرة قد تختلف باختلاف الذوات، وفقًا للافتراضات الخاصة بمدى وجوب التزام الذات بالتأدب تجاه الذوات الأخرى وأساليب ذلك التأدب، ومدى تحاشي الذات لمظهر التسلط على الآخرين، وهلمَّ جرًّا. والخلاصة أنه من المفيد للمرء أن يسأل عندما يعرض له أي نمط من الخطاب أو أي جزء يمثِّله، عمَّن يستعمل أنواعًا معينة من أفعال الكلام وأن يحددها ويتحرَّى الأشكال التي تتخذها.
(٥) الأطر والسيناريوهات والصور الذهنية
وإذا كانت الأطر تمثِّل كياناتٍ يمكن استدعاء صورها أو الإحالة إليها في الأنشطة التي تمثِّلها الصور الذهنية، فإن السيناريو يمثِّل الذوات التي تقوم بهذه الأنشطة وعلاقاتها. فهي تُشير إلى طرائق سلوك فئات محددة من الذوات في الأنشطة الاجتماعية، وكيف تتصرف فئاتٌ محددة من الذوات تجاه بعضها البعض، أي أسلوب إدارتها للعلاقات. فلدى الناس مثلًا سيناريوهات للطبيب وللمريض والتفاعل المتوقع ما بين الطبيب والمريض.
(٦) الموضوع والغاية
كيف ينقل النص هذا المعنى ضمنًا؟ أعتقد أنه يعتمد بوضوح وجلاء على قدرة الموارد الذاتية للمفسر على القيام بهذا؛ فالنص لا يصرح بالمعنى المذكور، أي إن جيني كيبيل «زوجة صالحة»، ولو لم تكن لدى المفسرين صورةٌ ذهنية عن الصفات النمطية المفترضة للزوجة الصالحة لما استطاعوا إدراك بعض هذه الصفات الموجودة في النص ومن ثَم استنباط المعنى المذكور. فإذا عبَّرنا عن هذا بمصطلحات القسم السابق؛ قلنا إن المفسرين ينتفعون بالسيناريو الخاص «بالزوجة الصالحة». والواقع أن لنا أن نعتبر أن الصور الذهنية والأطر تشارك السيناريو في القيام بدورٍ ما في تفسير الغاية، فهي تُعتبر أنساقًا نمطية يمكن تطبيقها على نصوص تختلف فيما بينها اختلافات لا نهائية. وما إن نتبين أن النص يمثِّل نسقًا من الأنساق، حتى نتخلص بسرور من التفاصيل الكثيرة فيه ونختزله في الشكل الهيكلي للنسق المألوف ونحفظه في الذاكرة الطويلة الأجل ونستدعيه عندما نريد. ولنا أن نطبق هذا على وحدات نصية متفاوتة الأطوال، من فقرة واحدة، إلى فصل في كتاب، إلى محادثة، إلى كتاب كامل أو سلسلة محاضرات.
وإذا كان من خصائص غاية النص أن تكون لها آثارها الطويلة الأجل في المفسر، فمن المهم أن نكون على وعيٍ بالأصول الاجتماعية للجهاز المعرفي الذي يرتكن المفسر إليه في تفسيره للغاية. فالصور الذهنية والسيناريوهات والأطر تتغير، كما سبق أن قلت، أيديولوجيًّا، مثل الموارد الذاتية، وهذه جميعًا هي التي تحمل الطابع الأيديولوجي لأصحاب السلطة المهيمنين اجتماعيًّا، ومن المحتمل أن تُصبح موردًا مُطبَّعًا للجميع. ومن ثَم فإن علاقات السلطة غير المتكافئة يمكن أن تفرض قيودًا غير مباشرة على الطرائق المعتادة لاستيعاب النصوص وتمثُّلِها. ولكن هذا يبدأ إدخالنا مرحلة الشرح، وهي قضية الجزء الثاني من هذا الفصل.
(٧) الخلاصة
قبل تلخيص ما قلته في هذا القسم عن التفسير في صورة مجموعة من الأسئلة، أجد لزامًا عليَّ أن أبيِّن بإيجاز التضادَّ بين عملية المشاركة في التفسير (التي انصبَّ تركيزي عليها حتى الآن) وبين عملية إنتاج النصوص، وأن أُشير إلى وجود اختلافات بين المشاركين في الخطاب من حيث مواردهم الذاتية.
- (١) السياق: ما التفسير أو التفسيرات التي يقدمها المشاركون لسياق الحال وسياق التناص؟
- (٢) نمط الخطاب أو أنماطه: على أي نمط أو أنماط للخطاب يعتمد النص؟ (ومن ثَم علامَ يعتمد من قواعد أو نظم أو مبادئ الصوتيات، أو النحو، أو تماسك الجمل، أو المفردات، أو الدلالة أو التداولية، ومن الصور الذهنية والأطر والسيناريوهات)؟
- (٣) الاختلاف والتغيير: هل تختلف الإجابات عن السؤالين الأول والثاني باختلاف المشاركين؟ وهل تتغير في أثناء التفاعل؟
ومرحلة التفسير تقوم بتصحيح أوهام الاستقلال من جانب الذوات في الخطاب، فهي تُفصح عما يعتبر مضمرًا بصفة عامة عند المشاركين، ألَا وهو اعتماد ممارسة الخطاب على افتراضات المنطق السليم في مواردهم الذاتية وفي نمط الخطاب. وأما المهمة التي لا تضطلع بها وحدها فهي شرح علاقات السلطة والهيمنة والأيديولوجيات القائمة في صُلب هذه الافتراضات، والتي تجعل ممارسةَ الخطاب العادية موقعًا للصراع الاجتماعي. وتحقيقًا لهذا نحتاج إلى مرحلة الشرح.
(٨) الشرح
وأما هدف مرحلة الشرح فهو رسم صورة الخطاب باعتباره جزءًا من عملية اجتماعية، وباعتباره ممارسة اجتماعية، وتبيان كيف تتحكم فيه الأبنية الاجتماعية، وما يمكن لضروب الخطاب أن تؤديَ إليه من آثار تراكمية في هذه الأبنية، بالحفاظ عليها أو تغييرها. وحالات التحكم والتأثير المذكورة تعتمد على «وساطة» الموارد الذاتية، وهكذا فإن الأبنية الاجتماعية تُشكِّل الموارد الذاتية، وهذه بدورها تُشكِّل ضروب الخطاب، وضروب الخطاب تحافظ على الموارد الذاتية أو تُغيرها، وهي التي تقوم بدورها بالحفاظ على الأبنية أو تغييرها. ونظرًا لتوجه هذا الكتاب، فإن الأبنية الاجتماعية التي يركز عليها هي علاقات السلطة، والعمليات والممارسات الاجتماعية التي يركز عليها هي عمليات الصراع الاجتماعي وممارساته. وهكذا فإن الشرح يعني النظر إلى الخطاب باعتباره جزءًا من الصراع الاجتماعي داخل إطار علاقات السلطة.
ولنا أن نستعين في العمل بافتراض يقول: إن كلَّ خطاب له عواملُ تتحكم فيه وآثارٌ يُحدثها على المستويات الثلاثة جميعًا، وإن كان المستويان «المجتمعي»، و«المؤسسي» لن يتميزا بوضوح إلا في أنماط الخطاب الأقرب إلى الطابع المؤسسي، ومن ثَم فإن أيَّ خطاب تُشكله علاقات السلطة المؤسسية والمجتمعية، ويُسهم (وإن يكن إسهامًا طفيفًا) في الصراعات الاجتماعية.
فلأحاول إيضاح ما يعنيه هذا الإسهام في الصراعات وما لا يعنيه. إنه لا يعني أن كل خطاب يتجلى فيه التنازع، أي الصراع الاجتماعي، كما رأينا في الفصل الثاني، ولا أن يتخذ بالضرورة شكل الصراع السافر أو التنازع السافر. فمن الجائز أن نجد أن الخطاب الذي يتوصل فيه المشاركون — فيما يبدو — إلى تفسيرات متطابقة (تقريبًا) للموقف، ويستعينون بالموارد الذاتية (الإجراءات التفسيرية) نفسها، وأنماط الخطاب نفسها، ثمرة من ثمار علاقات السلطة، وإسهامًا في الصراع الاجتماعي. ولنضرب لذلك مثلًا من محادثة متناغمة وعادية تمامًا بين زوج وزوجة؛ إذ يؤدي عدم التكافؤ في تقسيم «العمل» في المحادثة بين المرأة والرجل، وهو أمر معتاد تمامًا، إلى أن تتجلَّى في كلامِ كلٍّ منهما العلاقاتُ الاجتماعية الأبوية داخل مؤسسة الأسرة والمجتمع كلِّه، كما يُسهم إسهامًا ضئيلًا، مرجحًا الجانب المحافظ، في الصراعات الدائرة حول موقع المرأة في الأسرة والمجتمع.
ما أيسر أن يؤديَ النظر في عوامل التحكم في الخطاب وآثاره، خصوصًا على المستويَين المؤسسي والمجتمعي، إلى تحليل تفصيلي من وجهة نظر علم الاجتماع. وليس هذا مستغربًا ما دمنا نبحث الخطاب باعتباره ممارسة اجتماعية. ولكن المرء يواجه عادةً حدودًا عملية تمنعه من المغالاة في اتباع هذا النهج في تحليله النقدي للغة. ولا توجد قواعد عرفية تحدِّد المدى الذي يجوز للمرء أن يبلغه في تحليل الجوانب المؤسسية والمجتمعية من زاوية علم الاجتماع. وإذا كان المرء ينتوي الشروع في إجراء بحث تفصيلي فربما كان عليه إجراء قدر من التحليل من الزاوية المذكورة، ومن المفيد للباحث الذي تقع اهتماماته الأساسية في مجال اللغة أن يتعاون مع عالم الاجتماع، وأما في الحالات التي لا تتسم بالطموح نفسه فقد تكفي الإحاطة ولو بصفة عامة بالمؤسسة وبالمجتمع من حيث الفئات والعلاقات الاجتماعية لتهيئة الإطار الاجتماعي للخطاب.
ومرحلة الشرح تتعلق بمنظور خاص للموارد الذاتية؛ إذ ينظر إليها على وجه التحديد باعتبارها أيديولوجيات. ومعنى هذا أن الافتراضات الخاصة بالثقافة والعلاقات الاجتماعية والهويات الاجتماعية التي تشتمل عليها الموارد الذاتية يُنظر إليها من زاوية خضوعها لسيطرة علاقات السلطة الخاصة في المجتمع أو المؤسسة ما دامت هذه العلاقات تتحكم فيها، وكذلك من حيث إسهامها في ضروب الصراع الدائرة للحفاظ على علاقات السلطة المذكورة أو تغييرها، أي إن النظرة إليها أيديولوجية.
ولألخص الآن ما سبق أن قيل عن الشرح، في صورة أسئلة ثلاثة يمكن طرحها (مثل الأسئلة الثلاثة الخاصة بالتفسير أعلاه) عن أي خطاب معين يتعرض للفحص.
-
(١)
التحكم الاجتماعي: ما علاقات السلطة على المستويات الموقفية والمؤسسية والمجتمعية التي تساعد على تشكيل الخطاب؟
-
(٢)
الأيديولوجيات: ما عناصر الموارد الذاتية ذات الطابع الأيديولوجي التي يُنهل منها؟
-
(٣)
الآثار: ما موقع هذا الخطاب بالنسبة للصراعات على المستويات الموقفية والمؤسسية والمجتمعية؟ هل هذه الصراعات سافرة أم خفية؟ هل الخطاب معياري فيما يتعلق بالموارد الذاتية أم إبداعي؟ هل يُسهم في الحفاظ على علاقات السلطة القائمة أم في تغييرها؟
الخاتمة: موقع المحلل
هذا ختام تقديم الإجراءات التي تتكون من ثلاث مراحل، والتي استغرق عرضها الفصلين السابقين، ويقتضي اختتامها النظر في موقع المحلل في مرحلتَي التفسير والشرح، ابتداءً بالأولى. كيف يستطيع المحلل الاطلاع على عمليتَي إنتاج الخطاب وتفسيره؟ إن هاتين العمليتَين تحدثان في أذهان الناس، ويتعذر على المرء إذن أن يراقبهما مراقبته للعمليات الجارية في العالم المادي. والمدخل الوحيد المتاح للمحلل يتمثل في قدرته شخصيًّا على المشاركة في العمليات الخطابية التي يفحصها. ونقول بعبارة أخرى إن على المحلل أن يرتكن إلى موارده الذاتية (الإجراءات التفسيرية) حتى يشرح كيف يرتكن المفسرون إلى مواردهم الذاتية. أي إن تحليل العمليات الخطابية مهمة موكلة إلى شخص ينتمي إلى «داخل الحلقة» [أي حلقة محللي النصوص ومفسِّريها] ومن ثَم فهو «عضو» فيها؛ ولذلك أطلقت على الموارد التي ينهل منها المفسر والمحلل مصطلح «موارد الأعضاء». [وبسبب غرابة التصور الذي يقوم عليه المصطلح، أي وجود ما يجعل المحلل عضوًا في «حلقة»، أو مجموعة أو فئة تقتصر عضويتُها عليه وعلى المفسر، وأيضًا بسبب عدم تقبُّل الباحثين والكُتَّاب له منذ أن قدَّمه المؤلف عام ١٩٨٩م، حرصت على أن أقرنه بمعناه الحقيقي في البداية أي «الموارد الذاتية»، ثم الاكتفاء بهذا الأخير بعد ذلك].
وتمييز موقع المحلل في مرحلة الشرح أيسر من تمييز موقع المشارك؛ لأن «الموارد» التي يستند إليها المحلل هنا مستمدة من نظرية اجتماعية، ولعلك تذكر أنني وضعت الخطوط العريضة للعناصر الأساسية لمواردي في هذا الصدد في الفصل الثاني. ولكن الوعي الذاتي يتمتع بالأهمية نفسها إذا كان المرء يريد أن يتجنب الارتكان إلى افتراضات عن المجتمع دون الاستناد إلى نظرية معينة، أو كان يتصور أن الشرح يمكن أن يتمتع بالاستقلال عن النظرية أو أن يكون محايدًا نظريًّا. ولا شك أن المفسرين يتمتعون بدرجات متفاوتة بنظرات عقلانية خاصة عن ممارسة الخطاب، تتمثل في افتراضاتهم عن المجتمع، ولكن هذه النظرات العقلانية لا ينبغي أن تُقبل دون تمحيص. وأقول من جديد إن الغاية التي يرمي إليها ممارسُ التحليل النقدي تتمثل في سد الفجوة بين المحلل والمشارك من خلال التنمية الواسعة الانتشار للفهم العقلاني للمجتمع والنظريات الاجتماعية. انظر الفصل التاسع.