لقالق شالة
ليست الكلمات هي ما أكتب، بل هي منطقة الصمت الشاسعة والدغلية، حيث تثوي كلمات لم أكتبها، لم أفكِّر فيها، لم يرفرف إليها خيالي وأنا هنا قابع وسط ضجيج الكتبة ومحترفي تنظيم جمعيات ومهرجانات الكلام، والورقة موضوعة أمامي بيضاء؛ أي صامتة، لا أفكر في شيء قبلها، لا أريد أن أفكر في شيء بعدها، ستأتي الكلمات وحْدَها، منفردةً تفرد المفردات فرادتها لتحط على صفحة البياض الصامت أو الصمت الأبيض، المنسي، الغابر، لا غرَض لها إلا أن تُعمِّق سكونه وتفرخ فيه كائنات إضافية تترعرع في سُؤددِ البياض. لو شئت تقريب الصورة لقلتُ: إنها تشبه سِرْب إناث اللقالق آتياتٍ من أصقاع شَمال الأرض الباردة — وهذه حقيقة مبذولة للناظرين لا خيال — صانعات لها أعشاشًا مُدعَّمةً في حدائق شالة الداخلية، لقالق مهاجرة تضع بيضها في مدينة مهجورة، متخفية، فائتة، ينظر الزُّوار إليها، يقفون أمام الأعشاش مَشدُوهين لا يفهمون، هم لم يفهمُوا شيئًا أبدًا، سينتظر البَيْض الأبيض عُبور الزائرين اللاغطين، المُدجَّجِين بآلات التصوير وكاميرات الفيديو، وفي هدأة الليل، بعيدًا عن الأنظار، أي حين يكون الصمتُ قد استرجع سيادته المُطلَقة، سيفقس في الليل لتخرج فراخ ستُربِّي الريش الأبيض، وحين تحس بقدرتها على الطيران بعيدًا عن الكلام ستحلق صاعدة نحو الشمال الثلجي، الأبيض، الصَّمُوت، بعد أن قامت شالة بواجب الضيافة (رغم وجودها إلى جِوار مدينة أبوابها مُوصَدة دون كل وافد). تفهم اللقالق أن الصَّمت إذا جاور جنسه طويلًا سيضطر للكلام، وعندئذٍ سينقض على نوعه ويزعج صنوه، هكذا الكتابة مهاجرة دائمًا، حلَّت أو ارْتَحلت. ليس كل من وضع كلامًا على ورق مطبوع صار كاتبًا. الكلمات طالبة لنزوح دائم في صمت غيابها، لا أفكر في شيء قبلها، لا أريد أن أفكر في شيء بعدها.
«إن وحدة الكتابة هي وحدة بدونها لا ينتج المكتوب أو تراه يَتفتَّت باحثًا عمَّا يكتبه أيضًا.»، «لا بُدَّ من الانفصال عن الآخَرِين الذين يحيطون بالشخص الذي يكتب الكتب، إنها وحدة؛ وحدة المؤلف، وحدة المكتوب، نبدأ الشيء (العمل) نتساءل عمَّا هو الصمت الذي حولنا، وعمليًّا، ففي كل خطوة نخطوها في بيت، وطيلة ساعات النهار، تحت كل الأضواء، سواء مصابيح الخارج أو المُضاء في النهار، تُمْسي الوحدة الحقيقية للجسد هي تلك المتمنعة عن الاختراق للمكتوب.» درءًا للبس، لسوء الفهم، تشرح دوراس قصدها بإيجاز:
«إننا لا نعثر على الوحدة، بل نصنعها، وهي تُصْنَع بمفردها.»
هنا يَكمُن معنًى ماكر مُوجَّه لمن — لكتاب مُفتَعَلِين — يُؤثِّثُون وجودَهم بصمت اصطناعي ويصرحون دون خوف من المجازَفة: أنا أكتبُ، أو أنا كاتب. والعبارة التالية تفصح عن تتمة المعنى: «أستطيع أن أقول ماذا أريد؟ بَيْدَ أني لن أجد الجواب أبدًا عن سؤال لماذا نكتب؟ وكيف لا نكتب؟»، إنما الوحدة هي الهاجس المِلْحاح «الوحدة معناها أيضًا: إما الموت أو الكتاب.» ما يقود إلى الكتابة لا تعرفه بالتحديد، والكتاب هو المجهول «أن تجد نفسك في ثُقْب، في قَعْر ثُقْب، في وحدة شبه مُطلَقة وتكتشف أن الكتابة وحْدَها هي ما سينقذك، أن تكون خِلوًا من موضوع أي كتاب، دون أيَّةِ فكرة عن كتاب هو أن تجد نفسك ثم تَجِدُها مُجدَّدًا أمام كتاب، فراغ هائل، أمام لا شيء، أمام ما يُشْبِه كتابة حية وعارية، مثل فظاعة لا تطاق.» المُنتِج الأدبي، صانع الكلام مرتبط بنتاجه، هو منه سلفًا، هذا ما نفترضه، نؤمن به سلفًا لكن الشك يُخَلخِل البداهة ويحول بيننا والقول الذي هو مصير يَتصوَّر الآخرون أننا نقترحه عليهم أو نأخذهم إليه عنوة، الشيء الذي يصنع هيئة فادحةَ التَّوهُّم عن الكتاب، وهو ما تُصوِّره دوراس على طريقتها: «عجيب هو الكاتب؛ إنه تناقُض، وأيضًا لا — معنى. فأن تكتب هو كذلك ألَّا تتكلَّم، أن تصمت، أن تصرخ بدون ضجيج، وغالبًا ما هو مريح الكاتب، إنه يُنصِت كثيرًا، إنه لا يكثر من الكلام؛ لأنه يستحيل أن نتحدث لأحد عن كتاب كتبناه وخاصَّةً عمَّا نحن بصدَد كتابته، خلافًا للسينما أو المسرح؛ لكلٍّ كتابته، خلافًا للسينما أو المسرح، لكل القراءات؛ فالكتاب هو المجهول، إنه الليل، المنغلق، هو ذا.»
مَن توفَّرَت له هذه الرؤية سيتنازل لكل العارفين عن الفهم المُسبَق للعالم، والتشكيل الجاهز لمواد الكتابة وطرائقها ما يجعل دوراس تُؤاخِذ الكُتُب على وقوعها فيما يشبه الأسر الاختياري «إنها مصنوعة، مُنظَّمة، مُقنَّنة، وتكاد تقول مُطابِقة للأصل وفيها يَتحوَّل الكاتب إلى شرطيه الخاص.»
وإذن اكتبي يا مارغريت دوراس، أيَّتُها المبتلاة بالعشق والعُشَّاق، والمريضة بداء عُضَال اسمه الزمن، اكتبي أنتِ التي أنتجتِ عشرات الروايات الباقية، وقد عُدْتِ للصمت الأبدي المنشود. بعد كل ما فات أسمعها تجيب: «لا أستطيع، ولا أحد أيضًا، لا بُدَّ من القول: لا نستطيع؛ إنه المجهول ما نحمل في داخلنا: أن نكتب، هذا ما أصيب فينا، هذا أو لا شيء (…) أجَل إنه مجهول الأنا، لشخص آخر يظهر ويتقدَّم خَفيًّا، موهوبًا بالفكر، بالغضب، ومَن يجد نفسه أحيانًا مُهدَّدًا بفقدان حياته (…) المكتوب يصل كالريح، إنه عار، إنه الحبر، المكتوب، ويسير كما لا يمر شيء في الحياة، لا شيء أكثر، سوى هي، الحياة.»
سأترك دوراس إلى فخامة وحدتها وأبدية صَمْتها بعد أن وهبَتْنا أدبًا بلا نظير، الأدب الذي أعلنَت فيه ذاتها وتَمجَّدَت به الذات مطلقًا دون أن يَتصدَّى لها مَن يطالب برأسها، كما طالَب برءوسنا منذ أزيد من عقدين مُتطفِّلُون على الأدب، لا هُم في العِير ولا في النفير. وقْتَها كان الأدب المغربي قد أرسى أُسس تحديثه وبَلْوَر صيغه التعبيرية الحديثة الأولى، وظهر رهط من الشعراء والقَصَّاصين والمتكلمين في شئون النقد، كان واقعنا مزيجًا من أصوات مُعتَركة بشجون الهموم الوطنية والنضالية والقومية. وهذا المزيج هو الذي صاغ مفهوم الذات التي بدت جماعية أكثر من أي شيء آخَر، هناك كثير من التفاصيل، يضيق المقام عن عرضها، رغم أهمية التذكير بها في زمن قلة الحياء وفُقْدان الذاكرة، سأعود إلى هذا في حينه وأكتفي بالإشارة إلى أن الرُّوَّاد ومَن جاءوا بعدهم، على امتداد العقد الستيني، آمنوا بوطنهم وتفانَوا في حُبِّ شعبهم، وتماهَت ذواتهم بذوات الآخَرين، المحرومين والمضطهدين، في سبيل إرساء قيم مُعيَّنة. ولم تتخل التعابير الأدبية التي جاءت عقب ذلك عن هذه القيم ولا شكَّكتْ فيها، بل زادتها تعميقًا في المعنى وصَقلًا في الأداء، مع بروز خاصية أو حساسية مركزية تَبدَّت في التسويغ التدريجي لمقولة ذات فردية مُرسَلة للخطاب، مستقطبة لرؤيته ومُنتِجة لمرجعياته. إن التَّحوُّل النوعي الذي شَرعَت الكتابة السردية في الانتقال إليه منذ مَطلَع العقد السبعيني كفيل بتقديم أكثر من مثال على ما نقول، وهذا لمن ابتغى التَّمحُّص وعفَّ بعلم ونزاهة عن مُجاراة شَقْشَقة الجهلة والجاحدين. الأدب تعبير ذاتي! عجبًا وأين كنتم قبل عُقود حين قُدْنا هذا المشروع وقامتْ حولنا الدنيا كأننا من المارقين؟ اليوم تستفيقون من الغيبوبة، أم هو آخِرُ عُكَّاز في الطريق؟!
لا يحتاج الكاتب إلى عكاكيز، بل ذلك الصمت المُعجِز، في ضرب من الوحدة المُؤلَّهة، كي يمارس عملًا محفوفًا بالمخاطر … بعيدًا عن لغط اللاغطين.