ما قبل الآلهة
وقد قادت المفاهيم التطورية إلى إحداث مصطلح «البدائي» و«البدائية»؛ فالبدائي هو الإنسان الذي عاش في بداية عملية النشوء والارتقاء، ومثله إنسان القبائل «الهمجية» المعاصِرة لنا، والذي يعتبره التطوريُّون بقايا أُحفورية من ثقافة العصور الحجرية الابتدائية. وقد تم النظر إلى كل ما يمُتُّ إلى هذه الجماعات من ثقافة ودين وأخلاق ومؤسسات اجتماعية باعتباره بدائيًّا وَفق الحُكم القِيَمي التطوري. غير أن هذا الحُكم القِيَمي الذي يرى في كل ما هو «بدائي» حالة متدنية هو حُكم غير دقيق، ومسألة «البدائية» موضوعٌ لا يمكن حسمه بمثل هذه السهولة. فمما لا شك فيه أن المنكاش الذي يُستعمَل في بذر الحبوب أكثر بدائية من المحراث الذي تجرُّه الحيوانات، وأن هذا بدوره أكثر بدائية من الجرار ذي المحرك الانفجاري. ولكن من يستطيع القول إن الحكم الاستبدادي الذي ساد الحضارات الكبرى هو أكثر تطورًا من الحكم القَبَلي القائم على حرية وتساوي أفراد القبيلة الواحدة؟ أو إن الأديان المتأخرة التي يمتلئ تاريخها بالاضطهاد ومحاكم التفتيش وملاحقة الهراطقة والحروب الطائفية، هي أكثر تطورًا من الأديان البدائية التي تتسم بالتسامح وحرية الممارسة الدينية؟ أو إن العلاقات في المدينة الحديثة القائمة على التنافُس المحموم، هي أكثر تطورًا من العلاقات البدائية القائمة على التعاون والمشاركة؟ وفي الواقع؛ فإن الشعوب البدائية هي أقل تطورًا في النواحي التكنولوجية وبعض النواحي الأخرى، ولكنها من بعض الوجوه أكثر تطورًا من المجتمعات المتقدِّمة تكنولوجيًّا؛ فالبدوي في صحاريه الرملية، والإسكيمو في صحاريه الجليدية، هو أكثر ودًّا وشجاعة وصدقًا وإخلاصًا وتعاونًا من الإنسان المتمدِّن، كما أن المجتمعات التي ندعوها بدائية هي أكثر أشكال التجمُّع الإنساني إتاحةً لحرية الفرد وتفتيحًا لإمكانياته.
لقد اعتقد الباحثون طويلًا أن إنسان الثقافات البدائية، ومثله إنسان العصور الحجرية، هو إنسان محكوم بحواسه، وأن علاقته بالعالم لا تتعدَّى حدود مواجهته الحسية المباشرة مع ظواهره. ولكن المراجعة الشاملة للمفاهيم التقليدية حول البدائية، والتي قادها جيل جديد من الأنتروبولوجيين في الغرب، وما قاموا به من دراسة موضوعية للمعلومات التي تكدست خلال القرن العشرين، تجعلنا الآن نرى بوضوحٍ أن الإنسان البدائي ليس أقل مقدرةً على التعامل مع المجرَّدات، وعلى صياغة أفكار مجرَّدة من الإنسان الحديث، ويتجلَّى هذا بشكلٍ خاص في مجال الفن التصويري ومجال الدين. ففيما يتعلق بالفن يُورِد آشلي مورجان، وهو أحد الأنتروبولوجيِّين البارزين في الجيل الجديد، عددًا من الملاحظات أسوقها بتلخيصٍ فيما يلي:
«إن الخطأ الذي يرتكبه من يتحدَّث عن الفن البدائي (من منطلَق قِيَمي)، هو أنه يعمِّم مفهوم البدائية انطلاقًا من بعض النواحي غير المتطورة نسبيًّا في ثقافة ما، وذلك مثل التكنولوجيا والاقتصاد. فهو يفترض أن كل النواحي الأخرى لتلك الثقافة لا بد أن تكون غير متطورة بالمقدار نفسه. على أننا عندما نقارن خصائص معينة في الثقافات غير الكتابية (= بدائية)، لا سيما في مجال الفن، فإن أفراد الثقافات غير الكتابية لن يقفوا على قدم المساواة مع أفراد المجتمعات المتمدِّنة فحسب، بل سيتفوقون عليهم في أحيانٍ كثيرة. ولا أدل على ذلك من الصدمة التي أحدثها اكتشاف روائع النحت النيجيري البرونزية في الأوساط الفنية الأوروبية، والتي دفعت أوائل المعلِّقين المتعصبين إلى الخروج بفرضية مفادها أن فنانًا كبيرًا ينتمي إلى أحد الأصول العرقية المتقدمة، قادته جولاته إلى نيجيريا حيث أنتج تلك الأعمال. ولقد كانت هذه الفرضية أسهل على هؤلاء من أن ينسبوا لشعبٍ بدائي، لا يقرأ ولا يكتب، مثل هذه العبقرية الخلَّاقة، والأساليب المتنوِّعة والخيال الرفيع، مما نجده في الفن النيجيري.»
ولكن ما يميز أديان الثقافات العليا عن الدين البدائي، هو أن تلك الأديان قد ملأت المستوى القدسي للوجود بحشدٍ من الكائنات الروحانية التي ندعوها بالآلهة. والإله هو كينونة ما ورائية، ولكنه يشبه الإنسان في كثير من النواحي؛ فهو يتمتع بشخصية ذات ملامح واضحة، ووعي وإدراك وإرادة، وعنده رغبات وأهواء خاصة به، وله سيرة حياة وروابط عائلية، وقد يموت في بعض الأحيان كما يموت البشر. من هنا؛ فإن علاقة البشر بآلهتهم تقوم على استمالة واسترضاء تلك الكائنات المشخَّصة الواعية من خلال الصلوات والطقوس، لكي تلبي لهم حاجاتهم، وتمُنَّ عليهم على قدر تقرُّبهم. أما الثقافات البدائية فقد رأت في المجال القُدسي قوةً غُفلة وغير مشخَّصة، لا يمكن لأي شخصية بالغًا ما بلغ من تنزيهها أن تعبِّر عنها أو تلخصها. وهذه القوة هي أشبه بمفهوم الطاقة في العلوم الحديثة؛ فهي بلا رغباتٍ، أو عواطف أو أهواء، وبلا تاريخ أو سيرة حياة، وبالتالي فهي طاقة حيادية منبثة في عالم الظواهر، تفعل الخير مثلما تفعل الشر، تمامًا كالتيار الكهربائي الذي يُشعِل المصباح، وفي الوقت نفسه يُحدث صاعقة مدمِّرة. من هنا؛ فإن علاقة الإنسان بها ليست علاقة استمالة واسترضاء بل علاقة مؤثِّر بمتأثِّر؛ فهو يعتقد أن باستطاعته، من خلال أداء طقوس معينة، توجيهها لكي تعمل لصالحه، أو لكي تدفع أذاها عنه. وباستخدام مصطلح يقرب هذا المفهوم إلى الأذهان، يمكن أن نقول إنَّ هذه القوة هي «ألوهة» من غير أن تكون إلهًا ما أو مجموعة من الآلهة.
إن الحديث عن مفهوم القوة في الأديان البدائية ليس ضربًا من فلسفة نظرية في الدين، ولكنه قائم على استقراء علمي لمعتقدات شعوبٍ بدائية معاصِرة لنا، ولمعتقدات ثقافات العصر الحجري التي توفَّرت لنا الآن وثائق آثارية، تعيننا على الولوج إلى وسَطها الفكري. ولما كان سكان أستراليا الأصليُّون هم أكثر الشعوب المعروفة لنا بدائيةً، وكانوا حتى وصول المستعمرين الأوروبيين يعيشون في العصر الحجري؛ فإن دين هؤلاء سيكون محطتنا الأولى في هذا الاستقصاء.
تُدعى الأدوات الطَّقسية بالتشورينجا، وهي عبارة عن قطعٍ من الخشب أو الحجر المصقول، يغلب عليها الشكل البيضاوي أو المستطيل، تحفر عليها الجماعة صورة طوطمها، وتنظر إليها بعين القداسة. فإذا أتمَّت الجماعة طقوسها قامت بحفظ هذه الأدوات في مكانٍ آمن، قد يكون كهفًا في جبل أو وهدة في مكان مهجور، ثم يموَّه الموضع بطريقة لا تسمح لأحد بمعرفة محتوياته. ويشع هذا الموضع هالةً من القداسة على محيطٍ واسعٍ من حوله، يُعتبر مكانًا حرامًا لا يجوز فيه الصيد أو الاقتتال، ومن لجأ إليه صار آمنًا من أعدائه. ويُحظر على النساء، وغير البالغين الذين لم يمروا بطقوس التعدية إلى عالم الرجال، الاقتراب من هذا الحرم، كما يحظر عليهم حتى النظر إلى الأدوات الطَّقسية حين يتم إخراجها لإقامة الطقوس. وهم يعزون إلى التشورينجا قوًى غير اعتيادية؛ فهي تشفي من الأمراض عن طريق اللمس، وتهب القوة لأفراد الجماعة في نزاعاتها، وتفتُّ في عضد أعدائها، كما أن مصير الجماعة رهنٌ بتلك الأدوات، فإذا ضاعت لسببٍ من الأسباب تعرَّضت العشيرة للمصائب والفواجع.
لا تعدو التشورينجا كونها قطعًا تؤخذ مادتها مما هو متوفِّر في الوسط الطبيعي للجماعة، إلا أن ما يميِّزها عن بقية الموضوعات المادية الدنيوية هو صورة الطوطم التي تحملها، والتي تعطيها صفة القداسة. أما الطريقة التي يرسم بها الأسترالي صورة الطوطم فتتميز بالاختزال الشديد؛ حيث يكتفي المصور بتنفيذ شكلٍ مكوَّن من خطوطٍ هندسية فجة لا تربطه بالهيئة الطبيعية للطوطم سوى أوهَى الروابط؛ فهو شكلٌ اصطلاحي لا يعرف مدلوله إلا المعنيُّون بالحياة الطقسية في العشيرة، وشارة غير مقصودة لذاتها، بل لما وراءها من تصورات عن العوالم القدسية.
إلا أن القدرات التي تُعزَى إلى شارة الطوطم لا تتجاوزها إلى الحيوان الطوطمي نفسه، فهذا الحيوان يتمتع بالكثير من الاحترام والتبجيل، ولكن الأمر لا يصل بالجماعة حدَّ تأليهه، كما هو حال شارته المقدسة. وعلى الرغم من أن صيده وأكل لحمه محرَّم إلا في مناسبات طقسية معينة؛ فإن هذا التحريم لا ينسحب على أفراد العشائر الأخرى التي تجد نفسها حرة في صيده وأكله، كما أن صيد الحيوان ممكنٌ لجماعته في حال التعرُّض للمجاعة، أو في حال الدفاع عن النفس. ومن شواهد التمييز بين الحيوان الطوطمي وشارته، أن الحيوان يمكن لمسه والاقتراب منه من قِبَل النساء وغير البالغين، أما الشارة الطوطمية فتُحاط بشتَّى ضروب تحريمات اللمس والنظر وحتى الاقتراب. والحيوان الطوطمي يعيش في العالم الدنيوي الذي يعيش فيه الإنسان، على عكس صورته المحفورة على التشورينجا، والتي تُخفَى بعيدًا عن جو العالم الدنيوي. والأسترالي طقوسه الدينية أمام شارة الطوطم، ولكنه لا يستبدل هذه الشارة بالحيوان الطوطمي نفسه. من هنا فإن الاعتقاد الساذج بأن الطوطمية هي نوع من عبادة الحيوان لا يُعبِّر عن واقع الحال، وقد جاء نتيجة للكتابات المتعجِّلة التي قُدِّمت إلى الجمهور من أجل تعريفه بالطوطمية خلال الفترات المبكرة لاكتشافها.
ولكن إلى ماذا تشير صورة الحيوان الطوطمي؟ وما الذي يعبده الأسترالي من وراء هذه الشارة المقدسة؟ إن تحليل المعلومات التي تم جمعها عن حياة المجتمعات الأسترالية وطقوسها منذ أواسط القرن التاسع عشر، يقودنا إلى الخروج بنتيجة مفادها أن الطوطم المُمَثَّل في هيئة مادية ليس إلا رداءً لقوة غير مادية، وأن ما يقدِّسه الأسترالي في المقام الأول هو قوة غُفلة غير مشخَّصة تسري في مظاهر الكون المادي. وقد عبَّر عن هذه القوة وعن حضورها في العالم من خلال موضوعٍ مرئي مأخوذ من العالم الدنيوي. وهو يرى هذه القوة باعتبارها سيالة طاقية تتخلل الموجودات، ويخشى من التعامل معها بطريقة مخالفة للأصول كي لا تصيبه بصدمة تشبه ما نعرفه عن الصدمة الكهربائية.
فإذا انتقلنا إلى القارة الأمريكية؛ فإننا نجد لدى الهنود الحمر الشماليين مجتمعًا طوطميًّا أكثر تطورًا من صِنوه الأسترالي، وقد قاد هذا التطور إلى وجود الكائنات الإلهية في عقائدهم الدينية، إلا أن هذه الكائنات تستمد وجودها وقدرتها من مبدأ القوة الذي وجدناه في أستراليا وفي جزر المحيط الهادي.
في الفصل التالي سوف نختبر نتائجنا هذه، لنرى ما إذا كانت تنطبق على البدايات الحقيقية للدين في العصور الحجرية.
وانظر أيضًا: الترجمة العربية للكتاب المذكور أعلاه، تحت عنوان «البدائية»، والصادرة عن سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ١٩٨٢م، ص٢٥٠–٢٥٦، وص١٦-١٧.
Emile Durkheim, Elementary Forms of Religious Life. Free press, 1955.
انظر بشكل خاص الباب الثاني، الفصول من ١–٣، والصفحات من ٢١٧–٢٢٤.