وفي
الفصل السابق تقصَّينا معتقدات الشعوب
البدائية بحثًا عن الصيغة الأولى للعقيدة
الدينية عند الإنسان، ووجدناها في مبدأ
«القوة» السابق على ظهور الآلهة. فإذا ما
كانت النتائج التي توصَّلنا إليها صحيحة؛
فإن ما عثرنا عليه لدى الثقافات البدائية
يجب أن ينطبق على ثقافات العصر الحجري؛
لأنها السلَف المباشر لتلك الثقافات التي
عاشت على هامش التطور الرئيسي للحضارة.
ولكن سبر معتقدات العصر الحجري ليست
بالمهمة السهلة؛ لأن الباحث هنا لا يمتلك
الوسائل التي أعانت زملاءه من دارسي
الثقافات البدائية؛ فهو لا يستطيع القيام
باستطلاعاتٍ ميدانية، أو الاستماع إلى
الشهادات المباشرة، أو مراقبة ما يجري من
طقوس، وجُل ما لديه عبارة عن شواهد مادية
صامتة، مثل الفنون التصويرية وبقايا دفن
ومنتجات يدوية لا تنبِّئ عن قيم استعمالية
واضحة. إنه مضطرٌّ لإعادة تصوُّر وبناء
الوسط الفكري لجماعاتٍ بائدة، انطلاقًا من
مادة تبدو للوهلة الأولى صماء وبعيدة عن
الترابط، ولكننا بعد إمعان النظر في هذه
المادة، نجدها محمَّلة بشيفرات يمكن حلُّها
من خلال منهجٍ استقرائي يكشف عن الرسائل
المتضمنة فيها.
تشغل حقبة العصر الحجري القديم، أو
الباليوليتي
Paleolithic
ما يزيد عن ٩٩٪ من تاريخ العصور الحجرية،
أما النسبة الضئيلة الباقية فيشغلها العصر
الحجري الحديث، أو النيوليتي
Neolithic.
ولسوف يتركز اهتمامنا فيما يلي على عصر
الباليوليت الذي يقسم إلى ثلاثة أطوار؛
الطور الأول ويُدعى
بالباليوليت الأدنى، وفيه ظهرت فصائل أشباه
الإنسان ممن ندعوهم بالأناسي
Hominids.
والطور الثاني ويُدعى بالباليوليت الأوسط،
وفيه ظهر الإنسان النياندرتالي
Neanderthal،
والطور الثالث ويُدعى بالباليوليت الأعلى،
وفيه ظهر الإنسان العاقل
Homosapien
الذي ننتمي إليه. ولمَّا كان من غير المجدي
البحث في الوسط الفكري للأناسي الشبيهين
بالقرود رغم استخدامهم للأدوات؛ فإن
استقصاءنا للوسط الفكري لعصر الباليوليت
سوف يبدأ من الباليوليت الأوسط وإنسان
النياندرتال.
(١-١) النياندرتال
ظهر النياندرتال منذ حوالي ٢٠٠٠٠٠
سنة من يومنا هذا، ووُجدَت آثاره في
أوروبا وآسيا وأفريقيا. وهو يشبه
الإنسان العاقل، ولكنه يتميز بضخامة
الرأس وبروز عظام الحاجبَين وضمور
الذقن. ولقد أظهرت الاكتشافات
المتزايدة لآثار هذا الإنسان مدى ضيق
الفجوة بينه وبين الإنسان العاقل، وإلى
درجة دفعت الباحثين مؤخرًا لأن
يُطلِقوا عليه تسمية الإنسان العاقل
النياندرتالي
Homosapien
Neanderthalensis.
لم يترك لنا إنسان النياندرتال شواهد
على عنايته بالفنون التصويرية، غير
أننا نستطيع استجلاء ملامح ثقافته غير
المادية من خلال مدافنه؛ فقد أظهر
النياندرتال عناية في دفن موتاه لا
نجدها عند سابقه المدعو بالإنسان
المنتصب
Homoerectus.
١ كما أن التقاليد التي
اتَّبعها في الدفن تدل على تمتعه بحياة
روحية، وتنبِّئ عن وسطٍ فكري غني
بالتأمل والأفكار المجردة. وسأورِد
فيما يلي الخصائص المشتركة التي ميَّزت
القبور المكتشَفة حتى الآن، وما توحيه
لنا من معانٍ:
-
(١)
في أغلب الحالات وُجدت الجثث
في قبورٍ إفرادية على شكل حفر
صغيرة، وهي مطوية بشدة في وضعٍ
جانبي؛ بحيث تلامس ركبتا الميت
مرفقَيه. ويشف هذا الإجراء عن
اعتقادٍ بأن الإنسان يتألَّف من
جسدٍ مادي وروحٍ أثيرية، وأن هذه
الروح تُرحَّل بعد الموت إلى عالمٍ
آخر، ولكنها بعد استقلالها تكتسب
قوة غير عادية تتخذ شكلًا نافعًا
أو ضارًّا، وقد تعود إلى جسد الميت
محمَّلة بالقُوى المؤذية، ولهذا
كانت الجثة تُطوَى في حيزٍ ضيق حتى
لا تستطيع التمدُّد والخروج إذا
عاودتها الروح.
-
(٢)
جرى توجيه الجثث المدفونة
بحيث يتجه الرأس نحو الشرق والعقِب
نحو الغرب، كما يُحمى الرأس
بألواحٍ حجرية. ويشف هذا الإجراء
عن اعتقادٍ بأن الرأس هو مقر الروح
ولهذا يتوجَّب حمايته، أما توجيهه
نحو الشرق فلأن هذه الجهة هي بوابة
الشمس والقمر أكبر الأجرام
السماوية، وبالتالي فهي رمز
للميلاد الجديد للروح.
-
(٣)
أُحيط جسد الميت في بعض
الحالات ببراعم وأزهار، وهي ترمز
هنا إلى البعث أيضًا؛ لأن ظهور
الأزهار في الربيع بشارة ببعث
الطبيعة وَجُودِ الأشجار بالثمر
الذي يعتمد عليه النياندرتالي إلى
جانب اللحوم في غذائه.
-
(٤)
وُجدت شواهد عديدة على
حيواناتٍ ذُبحَت عند الدفن،
ودُفنَت بقاياها بشكلٍ مستقل.
ويبدو أن دماء الحيوانات المذبوحة
طَقسيًّا كانت في اعتقادهم تُطلِق
طاقة حيوية تُعين الروح على عبور
البرزخ الفاصل بين العالم المادي
والعالم الآخر الموازي، ومما يرجح
هذا الافتراض أن الإنسان العاقل في
الطَّور اللاحق كان يطلي أجساد
المتوفين وجدران قبورهم بالمَغرة
الحمراء التي تشير إلى الدم الذي
يمثِّل طاقة الحياة.
-
(٥)
وُجدت في أحيانٍ كثيرة داخل
القبور هدايا جنائزية من منشأ
طبيعي، مثل الأصداف وأنواع مُنتقاة
من عظام الحيوانات، أو من منشأ
صُنعي مثل الأدوات الحجرية. ولربما
كانت الأدوات من أجل الاستخدام في
العالم الموازي، لا سيما وأن بعض
الجثث وُجدت ممسكة بفأس حجرية، أما
العظام فهي مختلفة عن عظام
الذبيحة، ويبدو أنها اعتُبرَت
مقرًّا لقوة من نوعٍ ما تتصل
بالعالم الموازي.
٢
بناء على هذه الملاحظات نستطيع القول
بأن الإنسان في هذه المرحلة المبكرة من
تاريخ الدين، قد آمن بوجود قوة قدسية
تنبعث من عالم ما ورائي مجهول موازٍ
للعالم الذي يعيش فيه، وهو يرحل من هذا
العالم إلى ذلك عبر برزخ الموت، يساعده
على هذا العبور طقوس خاصة وجدنا آثارها
المتماثلة في جميع أماكن انتشار
الثقافة النياندرتالية. وهكذا نستطيع
الحديث عن دين نياندرتالي دون أن نتعب
أنفسنا في البحث عن آلهة نياندرتالية؛
لأننا عند عتبة الدين هذه لن نجد آلهة
بالمعنى المتعارَف عليه، وإنما قوة غير
مادية تفعل في العالم المادي. وكما هو
الحال في معتقدات الشعوب البدائية
الحديثة؛ فإن هذه القوة لا تصدر عن
شخصيات إلهية، بل إن الشخصيات الإلهية،
إذا وُجدت تستمد وجودها وفعاليتها من
القوة.
ولكن هل عبَّر النياندرتالي عن عقيدة
القوة بغير ما وصفناه من بقايا مقابره؟
وكيف عمل على إقامة الصلة بينه وبين
عالم تلك القوة؟
نظرًا لغياب الفنون التصويرية عن
ثقافة النياندرتال؛ فإن أي عملية ترتيب
مقصود لعناصر مُنتقاة من الوسط الطبيعي
لا تبدي هدفًا نفعيًّا ما، يمكن أن
تساعدنا على الولوج إلى الوسط الفكري
لأولئك الناس. وسنُورِد فيما يلي أمثلة
منتقاة على ذلك. ففي جبال الألب تم
اكتشاف ثلاثة كهوف تعود إلى أواخر
الباليوليت الأوسط، احتوى كلٌّ منها
على عظام دببة المغاور تم ترتيبها
بشكلٍ مقصود، أطلق عليها مكتشفوها اسم
«مقامات الدب»، ورأَوا فيها دليلًا على
عبادة منظمة تتركز طقوسها على ذلك
الحيوان. في الكهف الأول والثاني وجد
المكتشفون حائطًا قليل الارتفاع
مبنيًّا بأحجارٍ مرصوفة يرسم ما يشبِه
صندوقًا بلا سقف، حُفظت في داخله عدة
جماجم لدِببة المغاور مرتَّبة بشكلٍ
مقصود؛ فبعضها قد أحيط بحجارة صغيرة،
وبعضها وُضع على ألواحٍ حجرية، وهناك
جمجمة ارتكزت مقدمتها على عظمة ساعد،
وأخرى اخترق عظما ساعدٍ محاجرَ
العينَين. أما في الكهف الثالث فلدينا
ما يشبه الخزانة الحائطية عُرضت فيها
خمس جماجم دِببة مع عظام الساعد. وفي
ألمانيا عُثر على كهف نياندرتالي
يتشارك مع كهوف الألب في السِّمات
ذاتها؛ فقد وُجدَت فيه كوى حائطية
عُرضَت فيها خمس جماجم مع عظام
الساقين. وهنالك كهف قرب مونتسبان
بفرنسا ينفتح مدخله على ممرٍّ طويل
يؤدي إلى ردهة وُجدت فيها دمية طينية
كبيرة لدبٍّ بلا رأس في وضعية الربوض
منفَّذة بطريقة فجة، ودون عناية
بالتفاصيل. وقد لاحظ المكتشفون أن
الرقبة منفَّذة بطريقة لا تشير إلى
أنها قد اتصلت برأسٍ مفقود، وهي تحتوي
في الوسط على ثقبٍ عميق بعض الشيء، يدل
على أن عصًا كانت تغرس فيه لحمل شيء ما
يرتكز على الرقبة. وهذا ما دعاهم إلى
الاستنتاج بأن رأسًا لدبٍّ كان يُنصَب
فوق رقبة الدمية، وأن هذه الردهة في
عمق الكهف كانت مقامًا دينيًّا تُقام
فيه طقوس ذات علاقة بعبادة الدب.
٣
قد لا تكون الدلالات الدقيقة لتلك
الترتيبات المقصودة للجماجم والعظام
ممكنة التفسير في الوقت الحاضر، ولكنها
بالتأكيد ذات دلالة رمزية تتصل بالطقوس
الهادفة إلى إقامة علاقة مع القوة أو
المجال القدسي. ومما يدعم هذا الرأي،
أن عملية الترتيب المقصود لجماجم
الحيوانات قد استمرت إلى وقتٍ متأخر؛
حيث نجد في العصر الحجري الحديث
(٩٠٠٠–٥٠٠٠ق.م.) مقامات دينية في القرى
الزراعية الأولى، عُرضت فيها جماجم
الثيران بطريقة خاصة توحي بدلالاتٍ
رمزية دينية. إن جمجمة الدب (أو الثور
على ما سنرى فيما بعد) تقوم هنا بدور
شارة القدسية أو شعار الألوهة.
والنياندرتالي اختار جمجمة الدب الذي
كان موضوع صيده الرئيسي، دون غيرها،
لأنه رأى في هذا الحيوان نموذجًا أعلى
للقوة في البيئة التي يعيش فيها،
وبالتالي فإنه الأصلح للتعبير رمزيًّا
عن القوة العليا السارية في مظاهر
الكون.
ولتقريب مفهوم الشارة القدسية إلى
الأذهان، أقول إنَّ أكثر أشكال
التأمُّل الديني تجريدًا في ديانات
الهند والشرق الأقصى، والمعروف بالتأمل
الباطنيMeditation،
يستعين عادة بشارة قدسية معروفة لديهم
باسم المندالا، وهي رسم يحتوي على
دائرة تنتظم في داخلها أشكال بطريقة
توحي بصدورها عن المركز الثابت وعن
عودتها إليه. فإذا كان طالب الاستنارة
الروحية في هذه الديانات، وهو أقدر
الناس طرًّا على التفكير التجريدي،
راغبًا في شارة من هذا العالم تعينه
على عقد صلة مع العالم الآخر؛ فإن
الإنسان الأول كان أكثر منه حاجة إلى
مثل هذه الشارة. وإذا كانت المندالا
عملًا فنيًّا مُعَدًّا بدقة، ويحمل
وراءه تاريخًا طويلًا من التجربة
الفكرية والروحية؛ فإن شارة الإنسان
الأول كانت هيئة مُختارة من بيئته، ومن
أكثر مجالات الطبيعية قربًا
إليه.
ونحن عندما نتحدث عن شارة قدسية؛
فإننا نستبعد أن تكون الهيئة الحيوانية
بذاتها موضوعًا للعبادة، وطقوس إنسان
العصر الحجري لم تكن قائمة على معتقد
يؤلِّه هذا الحيوان أو ذاك، ولكنها
توسَّلت بصورة الحيوان من أجل النفاذ
إلى ما وراءها، واعتبرتها رداءً لقوة
ما ورائية يتم استحضارها من خلال تلك
الصورة. إن الإنسان النياندرتالي الذي
قال عنه المفسِّرون الأوائل إنه يعبد
الدب، كان في الواقع صيادًا للدب،
والإنسان العاقل الذي قالوا إنه يعبد
الثور كان صيادًا للثور؛ فكيف يؤلِّه
ذلك الصياد طريدة من طرائده، ويتوجه
إليها بالعبادة؟
(١-٢) الإنسان العاقل
ظهر الإنسان العاقل على مسرح الأرض
دون مقدمات واضحة منذ نحو ٥٠٠٠٠ سنة من
يومنا هذا في أوروبا،
٤ حاملًا معه نهضة جمالية
غير مسبوقة تجلَّت في صناعة الحُلي
وقطع الزينة، مثل الأطواق المصنوعة من
أسنان الغزال والمزخرفة بأشكال محزوزة،
والأساور وشبكات الشعر المصنوعة من
الخرز، والأقراط التي تتدلى منها أقراص
مصنوعة من عاج محفور. وكانت الزينة
شأنًا مشتركًا بين الجنسَين، وترافق
الموتى إلى قبورهم، أما الفنون
التصويرية فقد تمثلت في رسوم الكهوف
وفي نحت الدُّمى الأنثوية، وهي التي
سنركز عليها فيما يلي.
تشكِّل المنطقة الفرانكو-كانتربيرية،
الممتدة بين جنوب فرنسا وشمال إسبانيا،
الموطن التقليدي لرسوم الكهوف
الجدارية. وقد تم الكشف حتى الآن عن
مائة كهف أو يزيد، سواء في هذه المنطقة
أم في امتداداتها داخل كلٍّ من فرنسا
وإسبانيا وجنوب إيطاليا. تتشابه الكهوف
الكانتربيرية في تكوينها الطبيعي
وهيئاتها الداخلية وطريقة توزيع الرسوم
في ردهاتها وأروقتها. فجميعها تمتد في
أعماق الأرض على مسافة تصل في بعض
الأحيان إلى الكيلومتر، ويتوجَّب على
من يريد الوصول إلى أماكن الرسوم
الجدارية أن يسير في ممراتٍ طويلة
مظلِمة ومتعرجة قد تضيق إلى درجة لا
يمكن معها متابعة التقدم إلا حبوًا أو
زحفًا. وعندما تنفتح هذه الممرات على
القاعة الرئيسية للمعرض يكون الزائر
إلى هذه البقعة النائية قد غادر الجو
الدنيوي وإيقاعه الزمني، وولج إلى مركز
مكان سحري ينتمي إلى مستوًى آخر للوجود
ومفهوم آخر للزمن، وتنكشف أمام عينَيه
تلك الرسوم بكل جلالها على ضوء مصابيح
اليد الكهربائية، أو فيما مضى على
الضوء الباهت والمتراقص للمصابيح
الزيتية.
في كهف لاسكو المتعدد القاعات الذي
يدعوه البعض بقبة سستين العصر
الباليولي، (تيمنًا بقبة السستين في
الفاتيكان التي نفَّذ رسوماتها مايكل
أنجلو) وكذلك في كهف الإخوة الثلاثة
وكهف نيو والتاميرا، وهي أشهر الكهوف
التي يعرفها السُّواح، تمتلئ الجدران
بصورٍ لا حصر لها تمثِّل أربع فصائل
حيوانية، هي الثور والبيسون والحصان
البري والوعل. مئات من صور الحيوانات
تتوضَّع قرب بعضها، أو يتعدى حيز بعضها
على الحيز المجاور؛ فتتداخل حدود
الأشكال وتتراكب، وكل صورة لحيوان
منفَّذة في معزلٍ عن الصورة الأخرى،
وفي تجاهل تام لوجودها القريب؛ بحيث لا
نكاد نعثر على مشهدٍ يجمع بين حيوانَين
أو أكثر.
وقد قام واحد من دارسي هذه الرسوم،
وهو القس آبي برويل، بتقصِّي الفترات
الزمنية المتتابعة التي نُفِّذت عبرها،
ووجد أنها قد رُسمت على مدى عشرات من
القرون. فأقدم الصور مرسوم باللون
الأسود، يليها زمنيًّا المرسومة
بالأحمر، وأخيرًا تلك المرسومة بثلاثة
ألوان هي الأسود والأحمر والأصفر. كما
لاحظ أن بعضها قد خضع مرارًا للترميم
والتجديد، وأن بعض الصور القديمة كانت
تُغطى أحيانًا بأرضية لونية جديدة
تُرسَم فوقها صور جديدة، وبمرور الزمن
فإن هذه الأرضية تزول بفعل التأكسد
لتعود الصور الأصلية إلى الظهور، وهذا
ما أدى إلى التداخل والتراكب الذي
أشرنا إليه أعلاه.
٥ فما هو مضمون هذه الرسائل
البصرية التي تركها لنا إنسان
الباليوليت؟
رأى المفسِّرون الأوائل لرسوم الكهوف
أن هذا الفن قد أُنجز لغاياتٍ فنية
وجمالية بحتة. ولكن هذا الرأي لم يصمد
طويلًا أمام النقد؛ لأنه إذا كان الأمر
كذلك فلماذا لم تُعرض هذه الرسوم في
أماكن تساعد على رؤيتها في ضوء النهار
بدلًا من اجتياز رحلة مضنية لرؤيتها
على ضوء المشاعل؟ بعد ذلك ظهرت المدرسة
السحرية في التفسير، والتي تقول بأن
هذا الفن قد أُنجز لغاياتٍ نفعية لا
جمالية، وأن صور الحيوانات ليست إلا
أدوات سحرية استُخدمت في طقوسٍ تهدف
إلى السيطرة على الطرائد والإيقاع بها،
وذلك استنادًا إلى مبدأ السحر التعاطفي
حيث الشبيه ينتج الشبيه، وحيث السيطرة
على صورة الحيوان تقود إلى السيطرة
الفعلية عليه في حقول الصيد. وقد رسخت
هذه المدرسة أقدامها، واستمالت إليها
جمهرة من كبار الباحثين، لا سيما بعد
أن زوَّدنا علم الإثنولوجيا بفيضٍ عن
عادات السحر التعاطفي الشائعة في
الثقافات البدائية المعاصرة، ومنها
قيام الصيادين برسم الحيوان الجريح على
الأرض قبل الانطلاق لصيده؛ فعقدوا
المقارنة بين هذه الممارسة وبين تصوير
فنان الكهوف لحيواناتٍ تخترقها السهام،
أو تسيل الدماء من جروحها المفتوحة.
وقد ساعدت الدراسات المبكرة التي نشرها
آبي برويل في بدايات القرن العشرين على
الترويج لأفكار المدرسة السحرية، لا
سيما في كتابه المعروف «أربعمائة قرن
من فن الكهوف»،
٦ وسيطرت النظرية السحرية
لأكثر من نصف قرن على المجال
الأكاديمي.
ولكن المدرسة السحرية فشلت في تقديم
نظرية شاملة بالفعل، وتعرضت لكثيرٍ من
النقد، لا سيما وأن المعلومات
الإحصائية لا تؤيدها؛ فالمعلومات
الناتجة مثلًا عن دراسة أكثر من مائة
كهف في المنطقة الكانتربيرية وبعض
امتداداتها، تفيد بأن عدد الرسوم التي
تصوِّر حيوانات جريحة أو مطعونة
بالحراب لا يمثِّل سوى ١٥٪ من مجموع
الصور، فماذا عن بقية الصور التي تُعَد
بالآلاف؟ إلا أن مساهمة هذه المدرسة
تكمن في لفت النظر إلى الطابع غير
الاعتيادي لرسوم الكهوف، وإلى وظيفتها
التي تتجاوز الشكل الفني الجمالي. وفي
هذا، تقول الباحثة ب. م. جراند، وهي من
تلاميذ آبي برويل اللامعين ما
يلي:
«إن الصور الجدارية تضعنا في
حالة مشحونة بعاطفة جيَّاشة تجعلنا
ننظر إليها بعين القداسة … إن كل
كهوف الصور الجدارية تشارك،
بدرجاتٍ متفاوتة، في نشر هذا الجو
الجليل الذي يغمر المكان، كما أن
رسومها تشكِّل كُلًّا منسجمًا،
يخضع للقوانين الداخلية نفسها،
وينشأ عن مصدر إلهام واحد. إن
التكرار الذي يتبدَّى في الرسوم
ينطوي على هَمٍّ أساسي تحاول
التعبير عنه بإلحاح، وتتخذ هذه
المحاولة شكلَ هاجس مسيطر … إنها
تضعنا أمام أحاسيس متضاربة؛ فهي
تخلق لدينا إحساسًا غامرًا بوجود
قِيَم كبيرة، تحاول هذه الرسوم
نقلها إلينا، وإحساسًا آخر بعجزنا
عن فهم ما تود قوله … قد تكون رسوم
الكهوف جزءًا من ميثولوجيا تحتل
أقوى الحيوانات العاشبة فيها مركز
الصدارة، إلا أن مفاتيحنا إلى حقبة
الصيد العظيمة تلك قد ضاعت، وكل ما
لدينا هو صور وشارات لا تعيننا إلا
على صياغة فرضيات لا بد من صياغتها.»
٧
والفرضية التي أتقدم بها هنا، هي أن
القيمة الرمزية لرسوم الكهوف أمر مؤكد،
وهاجس الصيد لا يشغل بال فنان
الباليوليت أكثر مما شغل بال رسام
الأيقونات البيزنطية هاجس الولادة
والتكاثر وهو يرسم مريم العذراء وهي
حُبلى، أو وهي تحمل الطفل يسوع. فنحن
في كلا الحالين أمام تكوين رمزي يشير
إلى ما وراءه، والهيئة الحيوانية في
تلك الرسوم ليست إلا وعاءً لقوة ما
ورائية وجدت تعبيرها الأمثل في طاقة
الحيوان المحسوسة على المستوى الطبيعي.
ولعل مما يقطع أي صلة لهذه الهيئات
الحيوانية بالمجال الدنيوي، هو خلو
المشاهد من أي خلفية طبيعانية أو عنصر
يمت إلى عالم الطبيعة؛ حيث لا وجود
لشمس أو قمر، ولا لصخرة، أو شجرة أو
نهر، ولا لأرض تخطو عليها الحيوانات،
أو أفق يحدد موقعها، ومع ذلك فإنها
تبدو متوازنة على خلفية غير مرئية. ومع
أن الفنان قد بذل عناية فائقة في تظليل
الكتل وإبراز معالمها من خلال تداخل
النور والظل، إلا أن هذه الكتل لا
تُلقي ظلًّا على الأرض، وتبدو وكأنها
تتحرك في حيزٍ ينتمي إلى مجالٍ آخر،
وبُعدٍ آخر للوجود. أما جو الجلال الذي
يحيط بتلك الثيران والأفراس المندفعة
بقوة، أو تلك التي تقف في وضعية
التحفُّز وهي تحبس طاقة جبارة توشك على
الانفلات؛ فيرتفع بها إلى حالة القداسة
التي تشع من الأيقونات البوذية أو
المسيحية. كما أن الولوج إلى هذه
القاعات يعطينا إحساسًا شبيهًا
بإحساسنا عندما ندلف إلى كاتدرائية
قوطية. ولعل مما يؤكد قداسة هذه
الأمكنة عند إنسان الباليوليت، هو أنها
لم تُستخدَم لأغراضٍ دنيوية؛ فهنا لا
وجود لعظام الطرائد التي يعثر عليها
الآثاريون عادة في الكهوف السكنية، ولا
أثر لنار الموقِد، ولا دلالة على بقايا
دفن، كل ما أمكن العثور عليه هو بقايا
أدوات الرسم مثل أقلام المغرة، وبعض
المصابيح الزيتية.
لقد كان إنسان الباليوليت الأعلى في
هذه البقع القصية المظلمة، يبحث عن
تواصل مع القوة الكونية من خلال شاراتٍ
قدسية تُعبِّر عن حضورها. وكما فعل
إنسان الباليوليت الأوسط؛ فقد اختار
إنسان الباليوليت الأعلى شارته هذه من
العالم الحيواني، لا ليعبدها بذاتها،
ولكن لكي يصنع نقاط تواصُلٍ مع المجال
الآخر للوجود، والذي تُفصِح عنه تلك
الحيوانات المنطلقة والمعبِّرة عن قدرة
طاغية لا حدود لها.
أما الدُّمى العشتارية، أو الفينوسات
كما يدعوها الباحثون الغربيون؛ فهي
تماثيل صغيرة لهيئة نسائية يبلغ ارتفاع
أقصرها ٢ سم وأطولها قدمًا واحدة،
ولهذا ندعوها بالدُّمى لا بالتماثيل
(الشكل
٢-١) وقد
بدأت بالظهور منذ نحو ٤٠٠٠٠ سنة في
أوروبا، وتم العثور على أعدادٍ كبيرة
منها خارج المنطقة الكانتربيرية على
محورٍ أفقي يمتد من شرق أوروبا إلى
غربها فيما بين ضفاف نهر الدون والسفوح
الشرقية لجبال البيرنيه. وهي مصنوعة من
مواد طبيعية متنوعة؛ مثل عاج الماموث
والحجر الكلسي والكالسيت والطين
المشوي. ولم يتم العثور في مناطق
وأزمنة انتشار هذه الدُّمى إلا على
دمية واحدة تمثِّل هيئة ذكرية، وهي
منفَّذة بسرعة ودونما عناية.
٨ وعلى الرغم من آلاف
الكيلومترات التي تفصل بين المواقع
التي وُجدت فيها هذه الدُّمى؛ فإنها
تبدو لنا نتاج مدرسة فنية واحدة أتقن
فنَّانوها أسلوبًا متماثلًا في التنفيذ
يتمثَّل في النواحي التالية:
- (١)
تتخذ كتلة الجسد شكلًا
مغزليًّا مستدق الطرفَين عند الرأس
والقدمَين، ومنتفخًا في
الوسط.
- (٢)
عدم التركيز على الرأس، الذي
يبدو في معظم الأحيان على شكل كتلة
غير متمايزة، مع غياب تام لملامح
الوجه، وقد يُستبدَل الرأس بنتوء
بارز.
- (٣)
عدم التركيز على الذراعين،
وإلى درجة لا تكاد نتبينها في بعض
الأحيان.
- (٤)
تستدق الساقان بعد الركبة
تدريجيًّا حتى تنتهيا إلى طرف
ناتئ، مع غياب كامل
للقدمَين.
- (٥)
المبالغة في تضخيم مناطق
الخصوبة، وهي البطن والثديين
والوركين، إلى درجة تجعل هذه
الهيئات أبعد ما تكون عن الملامح
التشريحية للإنسان العاقل في ذلك
الزمان.
هذه الخصائص تشير بوضوحٍ إلى أن
الفنان لم يكن يصوِّر جسدًا أنثويًّا
مما يراه في عالم الواقع، وإنما يُنتِج
رموزًا أنثوية من أجل التعبير عما
يتجاوز الجسد الأنثوي الذي تحوَّل إلى
مجرد شارة ترمز إلى الألوهة، أو
بالمصطلح الذي استخدمناه حتى الآن،
القوة الشمولية السارية في مظاهر
المادة والطبيعة. وهذه القوة تبدو هنا
مخزونة في مناطق الخصب الأنثوية، حتى
لتكاد تنفجر وتفيض على ما حولها، وذلك
مثلما رأيناها مخزونة في تلك الأشكال
الحيوانية المتجمعة على نفسها وهي على
وشك الانطلاق. فالشكل الشبيه بالإنسان
في فن الدُّمى يهدف إلى نفس الغاية
التي للشكل الحيواني في فن الكهوف،
والأنثى المرمَّزة المحرومة من الملامح
التي تدل على شخصية صاحبها، ليست شخصًا
بعينه إلهًا ما وكائنًا روحانيًّا ما،
بقدر ما هي شارة مجردة وفكرة عن ألوهة
غير مشخَّصة ذات خصائص أمومية، لما لها
من صلة بخصب الطبيعة ووفرة الغذاء.
ويبدو أن هذه الدُّمى ذات الشكل
المستدق الطرف السفلي، كانت تُغرس في
الأرض أثناء تأدية طقوسٍ معينة تهدف
إلى إحلال الخصب في الأرض، لكي تفيض
بثمارها على الإنسان، وبعشبها على
حيوانات صيده.
(١-٣) العصر الحجري الحديث
مع نهاية عصر الباليوليت الأعلى
تتوقف الفنون التصويرية في أوروبا،
فيما يبدو وكأنه حالة انحطاطٍ شاملٍ
للثقافة الباليوليتية، وينتقل مركز
الثقل الحضاري نحو مناطق شرقي المتوسط
في الهلال الخصيب واستطالاته في جنوب
الأناضول؛ حيث كانت هذه المناطق
تتأهَّب للدخول في عصرٍ حاسمٍ بالنسبة
لتطور تاريخ البشرية هو عصر الزراعة،
الذي استقر فيه الإنسان الصياد في
الأرض وبنى لنفسه أولى القرى، وأخذ
بإنتاج الغذاء بدلًا من جمعه معتمدًا
على الزراعة وعلى تأهيل الحيوان، فيما
صار يُعرف لدى الآثاريين بالثورة
الزراعية في العصر الحجري الحديث أو
النيوليتي (=
Neolithic)،
وقد وضعوا تاريخًا لابتدائها لا
يتعدَّى أواسط الألف التاسع ق.م. وسوف
نركز فيما يلي على موقعَين هامَّين من
مواقع هذه الثقافة؛ هما تل المريبط على
الفرات الأوسط الذي يُعتبَر موقعًا
نيوليتيًّا رائدًا، وشتال حيوك في جنوب
الأناضول الذي يمثِّل ذروة إنجازات هذه
الثقافة.
منذ أواخر الألف التاسع قبل الميلاد،
تتوفَّر لدينا شواهد من تل المريبط على
تقديس الثور البري، وذلك في وسطٍ قروي
آخذٍ بالاعتماد التدريجي على الزراعة
في استراتيجياته الغذائية. ففي بعض
البيوت التي تتميز بملامح معمارية خاصة
تشير إلى وظيفتها كمقاماتٍ دينية،
رُفعت مصاطب طينية، وُضعت فوقها عدة
جماجم لثيران برية مع قرونها، وفي إحدى
الحالات كان رأس الثور مفككًا إلى قطعٍ
معروضة في صفوف إضافة إلى القرنَين
الكبيرَين اللذين تم عرضهما على
التوازي. هذه الترتيبات المقصودة التي
لا تنبِّئ عن قيمة استعمالية معينة،
والاستخدام الرمزي لعناصر من الهيكل
العظمي الحيواني، إنما تعكس مدلولاتٍ
إيديولوجية دينية معينة نستطيع متابعة
تجلياتها في مواقع نيوليتية أخرى.
٩ أي إن رأس الثور قد صار
مركزًا لإجماعٍ روحي واختيار أيديولوجي
يتخطى شكله الطبيعي ليغدو شارة قدسية
ترمز للقوة الشمولية في
الطبيعة.
هذا الاختيار الأيديولوجي لم يكن
مدفوعًا بضغطٍ من الوسط الطبيعي بقدر
ما كان مدفوعًا بضغطٍ فكري من نوعٍ
خاص. فعِلم البقايا الحيوانية الذي جرى
الاستعانة بخبرائه في مكتشفات تل
المريبط، يؤكد أن الفصيلة البقرية في
بيئة المريبط كانت نادرة جدًّا خلال
فترة السوية الأثرية موضع البحث، وأن
الفصيلة المهيمنة عدديًّا كانت فصيلة
الغزال الذي اصطاده إنسان المريبط أكثر
من غيره، أما البقر البري فلم تتزايد
أعداده إلا بعد عدة قرون من تقديس
رءوسه. وهذا يدل بوضوحٍ على أن الثور
قد لعب دورًا أساسيًّا في الأيديولوجيا
الدينية قبل وقت طويل من هيمنة دوره
الغذائي. وهذه واقعة على درجة كبيرة من
الأهمية؛ لأنها تُظهِر أن الدين ليس
مرآة تعكس الأوضاع المادية والعلاقات
الاجتماعية. وبناءً على هذه الواقعة
يمكن الاستنتاج بأن الموقف الفكري من
حيوانٍ ما ربما كان الدافع إلى الدخول
معه في علاقة نفعية، وأن تقديس ذلك
الحيوان ليس نتيجة لكونه الأكثر صيدًا
بل قد يكون العكس هو الصحيح؛ أي أن
يساعد تقديس الحيوان على خلق شروط
نفسية تشجع على صيده، ومن ثَم العمل
على تأهيله مستقبلًا.
١٠
إضافة إلى رءوس الثيران التي ساعدتنا
على تلمُّس الوسط الفكري لهذا الموقع
الرائد في الثقافة النيوليتية؛ فقد
أنتج تل المريبط الأمثلة الأولى على فن
الدُّمى العشتارية في العصر النيوليتي،
وذلك منذ مطلع الألف الثامن قبل
الميلاد. وقد لجأ الفنان في البداية
إلى تمثيل الهيئة الأنثوية في وضعية
الوقوف وهي تسند نهدَيها بكفَّيها،
ولكنه ما لبث أن مَثَّلها في وضعية
القعود على عجيزة ضخمة بحيث تتخذ كتلة
الجسم شكل مخروط مستقر. وقد شاع هذا
التقليد فيما بعد، في جميع مواقع
الثقافة النيوليتية في الهلال الخصيب
(الشكل
٢-٢)، ويبدو
أن الفارق بين الشكل المغزلي للدمية
الباليوليتية والشكل المخروطي للدمية
النيوليتية يعكس اختلافًا في استخدامها
الطقسي؛ فقد كانت الدمية الباليوليتية
تُغرس في الأرض في وضعية الوقوف على ما
استنتجنا سابقًا، أما الدمية
النيوليتية فقد كانت توضع على مصطبة في
المُصلى تقوم مقام المحراب. إن
الأساليب الفنية التي اتبعها الفنان
النيوليتي في تشكيل هذه الهيئات
الأنثوية، تدل بوضوح على أنه لم يكن
يفكر في تمثيل هيئة لكائن إلهي معين،
وإنما يعمل على صياغة رسالة بصرية
مكثفة ومفعمة بالرمز يُودِعها في شارة
قدسية تُوَسِّطُ الشكل الأنثوي
المحوَّر من أجل الدلالة على قوة
شمولية ذات خصائص أنثوية من غير أن
تكون أنثى مشخَّصة.
في موقع شتال حيوك الذي سكنه الإنسان
النيوليتي المشرقي منذ أواسط الألف
السابع، تتحوَّل المقامات الدينية
النيوليتية البسيطة إلى معابد حقيقية
تم العثور على أربعين منها موزَّعة على
السويَّات الأثرية العشر للموقع.
وغالبًا ما توضَّعت هذه المعابد فوق
بعضها عبر تلك السويات، واحتوت على
الأثاث الطقسي نفسه، الأمر الذي يدل
على استمرارية في التصورات الدينية
لمدة تقارب الألف عام. وقد صوَّر
الفنان في هذه المعابد عددًا من
الحيوانات لا يزيد عن أصابع اليد
الواحدة، هي الثور والكبش والنمر
والأيل والنسر، ولكن الثور احتل مكان
الصدارة بين هذه الحيوانات. ففي جميع
هذه المعابد اتخذت رءوس الثيران
المشكَّلة بالجص مكان الصدارة على
الحائط الرئيسي، وبالغ الفنان في
التوكيد على قرونها حتى بلغ طول القرن
في بعض الأحيان قرابة المتر، وقد تصطف
على الأرضية تحت التكوين الرئيسي
الحائطي مجموعة من شعار البوكرانيا،
وهي عبارة عن نَصب قليل الارتفاع ينبعث
منه قرنان عظيمان (الشكل
٢-٣). وربما انتظمت
البوكرانيا في رتل ضمن تكوين يعطي
الناظر إليها إحساسًا بالرهبة والخشوع
أمام قوة غير منظورة تشع منها.
إضافة إلى هذه التكوينات الجدارية؛
فقد عثر المنقِّبون في هذه المعابد على
دُمًى أنثوية منفَّذة وفق التقاليد
النيوليتية مصنوعة من مادة الرخام أو
الحجر أو الطين، وبتقنياتٍ راقية تشبه
تقنيات النحت اللاحق المعروفة في
الحضارات الكبرى، لا سيما أن طول بعضها
قد بلغ ستة عشر سنتيمترًا. جميع هذه
الدُّمى مُثلت في وضعية القعود مع
المبالغة في تضخيم مراكز الخصوبة في
الهيئة النسائية (الشكل
٢-٤)، وقد وجدت
مُلْقاة في المكان هنا وهناك، مما يدل
على أنها لم تكن جزءًا أساسيًّا من
الأثاث الطقسي، وإنما جُلبَت إليه من
الخارج كنذورٍ يأتي بها المتعبِّدون معهم.
١١ والأمر المرجح أن هذه
الدُّمى كانت تُستخدَم في الطقوس
المنزلية خارج المعبد.
في شتال حيوك بلغت فنون الإنسان
النيوليتي قمةً غير مسبوقة أو لاحقة،
وقد قدمت لنا هذه الفنون المعتقدات
النيوليتية في أكثر تعبيراتها وضوحًا.
لقد تحوَّلت جماجم الثيران المأخوذة من
عالمها الطبيعي والمعروضة على المصاطب
في تل المريبط إلى أعمال مصنوعة بعناية
لتؤدي الرسالة البصرية التي لجماجم تل
المريبط، ولكن بشكلٍ أكثر تأثيرًا
وقدرةً على نقل إحساس الفنان بعالم
الألوهة وقوته السارية في الطبيعة.
والأشكال المصورة هنا، وعلى رأسها
الثور والهيئة الأنثوية، قد فقدت
روابطها مع العالم الطبيعاني الذي
استُمدت منه، وغدت موضوعًا لاختيار
روحي وبؤرًا رمزية يتجلى من خلالها
المستوى الآخر غير المنظور
للوجود.
خلال الهزيع الأخير من عصر النيوليت،
وبتداخلٍ مع عصر النحاس اللاحق، ظهرت
في منطقة الهلال الخصيب أربع ثقافات
راقية تميزت بنهضة فنية وحساسية
جمالية. وقد دُعيت كل ثقافة باسم أول
مواقعها المكتشَفة وهي: ثقافة سامراء،
وثقافة حسونة، وثقافة حلف، وثقافة تل
العبيد. ولما كان استقصاء الوسط الفكري
لهذه الثقافات يتطلب، بحد ذاته، بحثًا
مطولًا مستقلًّا؛ فقد اخترت التوقف عند
الثقافة الحلفية واعتبارها نموذجًا
لأخواتها.
عاشت الثقافة الحلفية مدة ألف عام،
وذلك من أواسط القرن السادس إلى أواسط
الألف الخامس قبل الميلاد. وقد استمدت
اسمها من موقع تل حلف في الشمال السوري
قرب بلدة رأس العين على الحدود
السياسية الحالية مع تركيا. شملت هذه
الثقافة جميع المناطق الشمالية الواقعة
بين نهر الدجلة شرقًا، ونهر الخابور
الذي يرفد الفرات غربًا، مع استطالات
وصلت إلى لبنان وشرقي الأردن وفلسطين.
تجلَّت جماليات الثقافة الحلفية في
صناعة الملابس والمطرزات والسلال،
وبشكلٍ خاص في صناعة الأواني الخزفية
الملونة، التي اعتمد فيها الفنان
أسلوبَين؛ أسلوب الخطوط والأشكال
الهندسية الجيومترية، وأسلوب الزخارف
التي استمدت موضوعاتها من الطبيعة،
وأبرزها الزهرة ذات الوريقات الأربعة
التي تتخذ شكلًا متصالبًا، دُعي فيما
بعد بصليب مالطا. وفيما يتعلق بالرموز
والشارات ذات الطبيعة الدينية؛ فقد
صوَّر الفنان رءوس الثيران والفأس
المزدوجة والحمامة. ويبدو من تكرار
ظهور رءوس الثيران، سواء في الرسوم أم
في الدُّمى الطينية، أن الثور قد احتل
مكانة مركزية ضمن المنظومة الرمزية
الحلفية، كما شَغلت الهيئة الأنثوية
المرمَّزة المصنوعة وفق التقاليد
النيوليتية حيزًا كبيرًا من فن الدُّمى الحلفية.
١٢
هذه المنظومة الرمزية الحلفية تابعت
ظهورها في الثقافات العليا للعصور
التاريخية، وتحوَّلت شاراتها القدسية
إلى رموزٍ لأهم الآلهة المشخَّصة.
فشارة الثور تحوَّلت في مصر إلى الثور
آبيس الذي ابتدأ تاريخه كرمزٍ للخصوبة،
ثم تحوَّل بعد ذلك إلى رمزٍ للإله
بتاح، ثم إلى رمزٍ للإله أوزوريس. وفي
سورية كان لقب الثور يُطلَق على كبير
الآلهة إيل. وفي سومر وأكاد كان يدل
على الإله دوموزي الذي دُعي في أكثر من
نص سومري بالثور البري. وفي الفنون
المصورة للشرق القديم عمومًا تحوَّل
قرنا الثور إلى رمزٍ للألوهة، وغالبًا
ما نلجأ اليوم في تمييزنا لشخصية الإله
عن شخصية الملك في تلك الفنون إلى
ملاحظة القرنَين اللذين ينبعثان من
جانبَي غطاء الرأس. وفيما يتعلق
بالحمامة؛ فقد صارت واحدًا من الرموز
ذات الصلة بعبادة إلهة الحب والخصب في
الثقافات المشرقية وفي الثقافة
اليونانية. أما الفأس المزدوجة فقد
صارت في الثقافة المينوية (كريت وجزر
بحر إيجة) التي كانت مقدمة للثقافة
اليونانية، شارة للإلهة الكريتية
الكبرى، التي صوَّرها أكثر من عمل فني
وهي تحمل بيدَيها الاثنتَين فأسًا
مزدوجة (الشكل
٢-٥). كما حفلت التزيينات الخزفية
بأشكالٍ متنوعة لهذه الشارة؛ حيث نجدها
إما منفردة وإما تعلو رأس الثور الحلفي
الذي رحل معها إلى كريت. وقد تمتعت هذه
الشارة التي رمزت للقوة الشمولية في
ثقافة حلف بمكانة مميزة في المنظومة
الرمزية لأديان الإنسان حول المعمورة،
مما سأسرده باختصارٍ فيما يلي:
في بعض الديانات الأفريقية رمزت
الفأس المزدوجة إلى قوة السحر، وإلى
الصاعقة، وفي البوذية رمزت إلى دورة
الحياة والموت، ولدى السلت في أوروبا
ما قبل المسيحية رمزت إلى رئيس
المحاربين المؤلَّه، وفي الصين إلى
السلطة العليا، وفي مصر إلى الألوهة
الشمسية، وفي الهند إلى إله النار الذي
يجسِّد الطاقة الكونية، وفي اليونان
إلى كبير الآلهة زيوس، ولدى الحثيين
إلى إله العاصفة تيشوب، وفي المسيحية
إلى يوحنا المعمدان، وفي سومر وأكاد
إلى الإله دوموزي، وفي اسكندنافيا إلى
عددٍ من الألوهات، على رأسها زعيم المحاربين.
١٣
والسؤال الذي صرنا مطالبين بالإجابة
عليه بعد عرضنا لمفهوم القوة السابق
على مفهوم الآلهة في تاريخ الدين، هو:
متى وكيف وُلد الآلهة من رحم القوة
الشمولية ذات الخصائص الأنثوية؟