الفصل الثالث

أصل الآلهة

ليس البحث عن أصل الآلهة في تاريخ الدين وقفًا على الفكر الحديث، ولعل أول من دوَّن رأيًا في هذا الموضوع هو الكاتب الإغريقي يوهيميروس Euhemeros الذي قال في كتابه «التاريخ المقدس» بأن الآلهة كانوا في الماضي رجالًا بارزين، ولهم مكانة عالية في مجتمعهم، ثم قدَّسهم الناس بعد مماتهم.١ وهذه أول إشارة في تاريخ الأفكار إلى نشوء الآلهة عن عبادة الأسلاف. بعد يوهيميروس قام الكاتب السوري فيلو الجبيلي (نسبة إلى مدينة جبيل الفينيقية) بوضع مؤلَّف عن تاريخ الفينيقيين، أورد في مقدمته لمحة موجزة عن تاريخ البشرية وعقائدها، فقال إن الجيل الأول من البشر قدَّس الأشجار وأقاموا لها الطقوس، وبعد ذلك تتالت الأجيال التي كان لكل جيل منها فضل اكتشاف هام من مكتشفات الحضارة، وذلك مثل النار والزراعة وتأهيل الماشية والتعدين وغيرها. وبمرور الوقت قام الناس بتقديس أصحاب تلك المكتشفَات من الأفراد المميزين في الماضي، ورفعوهم تدريجيًّا آلهةً معبودة.٢
وقد سار أوائل الدارسين المحدثين للظاهرة الدينية على النهج نفسه؛ ففي عام ١٨٥١م نشر الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر مقالته الشهيرة، حول دور معتقد الأرواح في نشوء الدين؛ فلقد لاحظ سبنسر أن الثقافات البدائية تعتقد أن لأرواح الموتى دورًا هامًّا في حياة ذويها ومحيطها الذي عاشت فيه إبان حياتها الأولى، وبأن تحرُّر الأرواح من أجسادها يعطيها نوعًا من القوة لا يمتلكها الأحياء، ويمكن توجيهها للنفع أو للضَّر تبعًا للطريقة التي تجري معاملتها بها، والطقوس التي تقام لها. وتتسع دائرة تأثير الروح بما يتناسب مع مكانتها السابقة، والمحيط الذي كانت تنشط فيه؛ فروح الفرد العادي تؤثر بعد الموت في دائرة الأهل والأقارب المباشرين، أما روح الساحر أو زعيم القبيلة فيشمل تأثيرها الجماعة كلها. وقد قادته دراسته لدور هؤلاء السحرة والزعماء خلال حياتهم وبعد مماتهم، إلى نتيجة مفادها أن الآلهة الأولى التي عبدها الإنسان لم تكن في أصلها إلا أفرادًا من هذا النوع، استمرت قُواهم فاعلة في محيط الجماعة بعد مماتهم، ثم قامت الأجيال اللاحقة بتأليههم وتقديم فروض العبادة لهم.٣
وبتأثير سبنسر قام رائد الأنتروبولوجيا النظرية البريطاني إ. ب. تيلور بصياغة نظريته في أصل الدين والمعروفة بالأرواحية Animism، والتي أثَّرت على أجيالٍ عديدة من الباحثين قبل أن يضعف تأثيرها مع بدايات القرن العشرين. وقد وصف تيلور نظريته بأنها نظرية الحد الأدنى في تعريف الدين، وشرحها في كتابه الشهير «المجتمع البدائي» الصادر في لندن عام ١٨٧١م.٤ يفترض تيلور أن أقدم شكل للدين يقوم على الاعتقاد بوجود الروح؛ فلقد رفض الإنسان النظر إلى الموت باعتباره نهاية للحياة الفردية، وقاده هذا إلى الإيمان بأن حياة الفرد سوف تستمر بعد الممات عن طريق استمرار روحه في مستوًى آخر للوجود. وقد تكوَّنت لديه فكرة انقسام الكائن إلى جسدٍ مادي وروح أثيرية من خلال مراقبته لظاهرة الأحلام، التي فسَّرها بانفصال التوءم الأثيري للجسد وتجواله بحُرية ليزور مناطق نائية، أو يتصل بأشخاصٍ ماتوا منذ زمنٍ بعيد. وهذه الخصائص الحركية للروح ناتجة عن طبيعتها اللطيفة وطاقتها القوية؛ فهي تنسلُّ من الفم، وتتحرك دون قيدٍ، وتصل بسرعاتٍ فائقة إلى حيث تريد. ثم إن قوة الروح تزداد بعد موت الجسد، وتكتسب طاقاتٍ إضافية، وتستطيع في حالتها الجديدة أن تسكن في أي موضوع من موضوعات العالم المادي أو الحيوي، وأن تُغير مكان سكنها هذا متى تشاء أو تبقى هائمة بلا مسكن، ولكنها تبقى على صلة بعالم البشر، تقدِّم لهم العون أو تسبِّب الأذى، وإليها يعزو البدائي كلَّ خير وشر؛ ولذلك فقد وجد أن من الحكمة العمل على استرضائها وتهدئة خواطرها من خلال تقديم الذبائح والقرابين، وهذا ما قاد إلى ظهور أولى أشكال الممارسات التي ندعوها اليوم ﺑ «الدينية». وبما أن أرواح الأسلاف المتميزين من زعماء وقادة وسَحرة هي أقوى الأرواح وأكثرها تأثيرًا؛ فإن الطقوس قد تركزت على هذه الأرواح أكثر من غيرها، وبذلك صاغ الإنسان لنفسه مفهوم الآلهة. ثم ينتقل تيلور إلى وصف زمرة أخرى من الأرواح غير الإنسانية، وهي الأرواح التي تسكن، من حيث الأصل، في مظاهر الطبيعة، وتتسبب فيما يبدو للبدائي من دينامية وحركة في هذه المظاهر؛ فإذا تحرك الهواء فلأن به روحًا تحركه، وكذلك الأمر فيما يتعلق بحركة الماء ونمو النبات وحركة الأجرام السماوية؛ وبذلك فقد وسَّع البدائي نظرته الأرواحية لتشمل العالم من حوله؛ فجعله عالمًا حيًّا تسكنه وتحركه الأرواح من كل نوع.

وفي الحقيقة؛ فإن أولئك المفكرين القُدامى والمحدَثين ممن بحثوا في أصل فكرة الآلهة، قد قدَّموا خدمة جُلَّى إلى علم الدين، وذلك بإخضاعهم هذه الفكرة إلى الاستقصاء التاريخي، ولم ينظروا إليها كبدهية من بدهيات الوعي؛ فقد مرَّ على البشرية أزمان لم تعرف فيها الآلهة، ولكنها تعرَّفت عليها في سياقٍ فكري تاريخي معين، عندما قدَّس الناس أرواح أسلافهم الذين تحوَّلوا بعد ذلك إلى آلهة. ولسوف أقدم فيما تبقَّى من هذا الفصل ما يؤيد نتائجهم الحدسية هذه، وأُدعِّمها بوقائع مستمَدة من الأنتروبولوجيا وعلم الآثار، ولكن ما آخذه عليهم هو مطابقتهم بين أصل الآلهة وأصل الدين، وتأسيسهم لفكرة ما زالت تتمتع بمؤيدين مفادها أن الدين ابتدأ عند الإنسان عندما اعتقد بوجود الآلهة، وما الطقوس شبه الدينية التي مارسها الإنسان قبل ذلك إلا نوعٌ من السحر، الذي يهدف إلى التحكُّم في سير عمليات الطبيعة وتحويلها لصالحه، وقد قدَّمنا في الفصلَين السابقَين ما يكفي لنقد هذه الآراء.

إذا كانت هذه الفرضية الحدسية عن نشوء الآلهة صحيحة، فإننا لا بد واجدون ما يؤيدها في ثقافات الشعوب البدائية وثقافات العصور الحجرية، وهذا ما سنشرع به الآن مبتدئين بأكثر الثقافات البدائية أصالة وهي ثقافة الأستراليين.

يؤمن سكان أستراليا الأصليون، على اختلاف قبائلهم، بأنهم يتحدَّرون من أسلافٍ أسطوريين لم يُولَدوا من جيلٍ سابقٍ عليهم، وإنما انبثقوا إلى الوجود في بداية الزمن مع ما انبثق من مظاهر العالم المادية والحيوية. وقد تمتع أولئك الأسلاف بقوًى لم تتيسَّر لغيرهم بعد ذلك، وهم الذين قاموا بأهم الإنجازات التي يسَّرت الاستمرار لأجيال البشر اللاحقة من بعدهم، وذلك مثل الابتكارات التكنولوجية والمؤسسات الاجتماعية والطقوس الدينية. وعندما انتهت مهمتهم غادروا الحياة، وولجوا إلى باطن الأرض، من هيئاتٍ طبيعية تحوَّلت بعد ذلك إلى بقاع مقدسة، ولكن أرواحهم بقيت خالدة ترعى سلالاتهم من بعدهم. ويعزو الأستراليون إلى هذه الأرواح قوًى فوق طبيعانية خارقة؛ فهم قادرون على الحركة والانتقال بلمح البصر فوق الأرض أو تحتها، ويخترقون الجبال والحواجز الطبيعية، مثلما يعبر الشعاع في الماء، وقد يغمرون الأرض بطوفانات عظيمة، أو يفجرون الينابيع التي تملأ بحيراتٍ لا حصر لها. ولعل من أهم المعتقدات المتعلقة بهم هي مسئوليتهم عن إخصاب النساء وتكوين الأجنة في الأرحام؛ فالفعل الجنسي لدى الأسترالي ليس السبب المباشر في حمل المرأة، وإنما مجرد وسيط يسمح لأحد الأسلاف بأن ينفخ من روحه في الرحم فيُودِع جزءًا منها هناك. وبذلك فإن السلف يزدوج في كل مرة يولَد فيها طفل، وذلك إلى ما لا نهاية، من دون أن يفقد من كيانه الروحي شيئًا؛ لأن ما يحل في الرحم لا يعدو أن يكون نفحة لطيفة من خزان لا ينضب. وبهذه الطريقة يغدو كل فرد في العشيرة مرتبطًا بشكلٍ وثيق بأحد أولئك الأسلاف؛ لأنه ممثِّله وصورة عنه بين الجماعة، ونظرًا لمسئوليته المباشرة عن إنجاب الطفل؛ فإن السلف يتابع اهتمامه به وحمايته له، من الميلاد إلى الممات.٥

إضافة إلى هذا الدور الاجتماعي المميز للأسلاف؛ فإن بعض العشائر أوكلت إليهم أدوارًا يلعبونها على المستوى الطبيعاني، أو حتى على المستوى الكوني؛ فقد يكون هذا السلف موكلًا بالمطر، وآخر بحركة الأجرام السماوية، ويقال إن أحدهم هو الذي أشعل الشمس، وما إلى ذلك. وهذا ما دعا بعض الباحثين إلى تسمية هذا النوع من الأسلاف بالآلهة. إلا أن تعبير الآلهة غير دقيق تمامًا في حالتنا هذه؛ لأننا لا نزال عند هذه المرحلة من تطور مفهوم الآلهة أمام أرواحٍ انتقلت إلى منزلة أرقى، وصار لها مجال فعل أوسع. كما أن هذه الشخصيات القدسية ما زالت محافظة على نسبها البشري، على عكس الآلهة التي ستدَّعي لنفسها نسبًا ما ورائيًّا مستقلًّا، لا صلة له بنسب البشر. وهذه النقلة سوف نتابعها بالعودة إلى خط التطور الرئيسي لحضارتنا الحالية، مبتدئين من حيث انتهينا في الدراسة السابقة، أي من العصر الحجري، لنرى كيف انتقل الفكر الديني من تقديس الأسلاف إلى التصورات الأولى عن الآلهة المشخَّصة.

لقد دلَّتنا طقوس الدفن عند إنسان النياندرتال على اعتقاده بوجود الروح، وبانقسام الأحياء إلى جسدٍ مادي وشبحٍ أثيري يستقل عنه عند الموت، ويرحل إلى عالم آخر، ورأينا في هذه العقيدة الشواهد المبكرة على ظهور الدين. كما أمدتنا بقايا قبور الإنسان العاقل في عصر الباليوليت الأعلى بدلائل تشير إلى استمرار هذه العقيدة وتطورها. فكما كان الحال في ترتيبات الدفن لدى النياندرتال؛ فقد نال الرأس عناية خاصة لدى الإنسان العاقل؛ فقد نجده متوسدًا كومةً من الأصداف والقواقع، أو محميًّا بحجرٍ كبيرٍ ملاصق، أو موضوعًا ضمن صندوق مؤلَّف من حجرَين يسندان حجرًا أفقيًّا موضوعًا فوقهما، أو محاطًا بدائرة من الأحجار. وهنالك آثار تدل على أن جسد المتوفَّى قد طُلي بمادة المَغرة الحمراء التي ترمز إلى الدم شعار الحياة، وذلك في رمزية إلى بعث الروح. ولدينا حالات نادرة تدل على عرض جمجمة الميت في مكانٍ بارزٍ من كهف السكن.٦

هذه الشعائر الجنائزية المتنوعة تدل على عقيدة راسخة بوجود الروح، ولكنها لا تدل على وجود عبادة منظَّمة لأرواح الأسلاف، ونحن لا نجد الشواهد الأكيدة على هذه العبادة إلا مع مقدمات الثورة الزراعية في عصر النيوليت. فمنذ العصر النطوفي الذي مهَّد لعصر الزراعة في منطقة الهلال الخصيب، نلاحِظ شيوع عادة دفن جماجم الموتى في استقلالٍ عن هياكلها العظمية، وفي المواقع التي وُجدت في مقابرها هياكل كاملة؛ فقد استمرت عادات الدفن التي سادت في الباليوليت الأوسط والأعلى؛ فالهياكل مثنية بقوة في حفرٍ صغيرة، والرأس يستند إلى وسادة حجرية، بينما وُضعت على المفاصل أحجار ثقيلة، وهنالك آثار لطلاء أحمر على جسد المُتوفَّى.

إن الأهمية الخاصة للرأس سوف تتوضَّح أمامنا تدريجيًّا، كلما تقدمنا زمنيًّا في العصر النيوليتي، ويتبدَّى لنا معتقَد يرى في الرأس مستودعًا لقوة قُدسية. ففي السويات الأثرية للنيوليت ما قبل الفخار (٨٣٠٠–٧٦٠٠ق.م.) تعلِن عبادة الجماجم عن نفسها لأول مرة وبكل قوة ووضوح، وذلك في موقع أريحا بفلسطين، حيث كُشف عن عدد من القبور يحتوي كلٌّ منها على جماجم مرتَّبة في مجموعاتٍ، تتألف كلٌّ منها من خمس أو ثلاث جماجم مرصوفة على شكل دائرة، ووجوهها تتجه نحو الداخل. وهنالك دلائل على أن بعض الأسر كانت تدفن جمجمة سلفها المبجل تحت المنزل الجديد عند التقاء الجدارَين كنوعٍ من حجر التأسيس، والهدف من هذا الإجراء، على ما يبدو، هو الاحتفاظ بالقوة الروحية لذلك السلف في البيت.٧ وفي تل المريبط في سورية عُثر على الهياكل العظمية مدفونة تحت أرضيات البيوت من دون جماجمها، أما الجماجم فقد وُضعت في الأعلى على قواعد طينية، ورُصفت على طول الحائط الداخلي للمنزل، وذلك كنوعٍ من الأثاث الطقسي الجنائزي المعروض باستمرار.٨
فإذا جئنا إلى السويات الأثرية للنيوليت الفخاري (٧٦٠٠–٦٠٠٠ق.م.) نجد تطورًا ملفتًا للنظر في ترتيبات عرض الجماجم داخل المنازل. ففي أريحا لم يكتفِ الإنسان النيوليتي بعرض جماجم الموتى بشكلها الطبيعي، وإنما عمد إلى إعادة تشكيل الملامح؛ بحيث تغدو الجمجمة نوعًا من الصورة الشخصية للسَّلف المبجَّل، واستخدم في عملية التشكيل عجينة من كلسٍ وطين، وملأ محاجر العيون بأصدافٍ تعطي شكل البؤبؤ، تم طلي الوجه بلون قريب من لون البشرة الحية، وحُشِي تجويف الجمجمة بالطين المدكوك (الشكل ٣-١). بعد ذلك عُرضت الجمجمة إما مفردة أو في مجموعة مؤلَّفة من خمس جماجم أو ثلاث. وقد توضع الجمجمة على كتلة تمثِّل الجزء الأعلى من الجسد الإنساني ليغدو التكوين أشبه بتمثالٍ نصفي. ويقدم لنا موقع تل الرماد عند سفوح جبل الشيخ شواهد على شعائر مشابِهة؛ فقد وجدت الجماجم المشكَّلة الملامح هنا أيضًا، وباستخدام التقنيات نفسها، وهي موضوعة على قواعد طينية تقوم بدور الجذع، ولكن أسلوب التنفيذ لم يصل درجة الرهافة والإتقان التي رأيناها في جماجم أريحا. وفي شتال حيوك وُجدت الجماجم معروضة بشكلها الطبيعي على مصاطب إلى جانب رءوس الثيران. ولدينا أمثلة أخرى متفرقة في سورية وفلسطين على شعائر الجماجم هذه. إلا أن ما يلفت النظر هو وجود مقابر تحتوي على هياكل عظمية بدون رءوسها، وعدم العثور على هذه الرءوس في أي مكان في الموقع، الأمر الذي يدل على أن السكان قد حملوا معهم جماجم أسلافهم عندما هجروا المكان.٩
fig6
شكل ٣-١

وهكذا تثبت المعلومات المستمدة من علم آثار ما قبل التاريخ، أن عبادة الأسلاف لم تنشأ عند جذور الدين، ولم تكن مصدرًا للظاهرة الدينية في الثقافة الإنسانية كما قال هربرت سبنسر وأتباع المدرسة الأرواحية، وإنما نشأت في سياق تاريخي معين، وفي وسط قروي مستقر يتمتع بحياة دينية منظَّمة، تحمل وراءها عشرات ألوف السنين من التأمُّل، ومن صياغة الأفكار المجردة عن عالم الألوهة. إن عبادة الأسلاف لم تؤسِّس لمفهوم «المقدس» عند الإنسان، وقدسية الأسلاف قد صدرت عن مفهومٍ مؤسِّس وراسخ للقداسة وعن المقدس والدنيوي. وإذا كانت أرواح هؤلاء الأسلاف قد اكتسبت قوة فوق طبيعانية؛ فلأنها انضمَّت إلى المجال القدسي، واستمدت من قوته، ولكن هذه الجماجم المُشكَّلة الملامح التي اعتُبرت مستودعًا للقوة كانت البداية الأولى للتصورات اللاحقة عن الألوهة المشخَّصة؛ لأنه منذ أن أخذ الإنسان بتشكيل ملامح وجه إنساني لشخصٍ بعينه، ثم عزا إلى هذه الشخصية قوة فوق طبيعانية، صار الفكر الديني على أعتاب مرحلة تشخيص الألوهة، وشيئًا فشيئًا سوف تكتسي القوة الشمولية غير المشخَّصة بملامح إنسانية، وتتحوَّل إلى إله ذي قوة، وقد ساعد على إحداث هذا التحول جملة من التغيرات في العلاقات الاجتماعية وأنماط الإنتاج لدى الجماعات الزراعية.

مما لا شك فيه أن التغيُّرات التي طرأت على أنماط الإنتاج لدى الجماعات الزراعية الأولى، وتبدُّل البِنى السياسية والاجتماعية في تلك القرى التي كانت تسير بخُطًى حثيثة نحو التحوُّل إلى أشباه مدن، قد ساعد على إحداث تغيرات مقابِلة في المفاهيم الدينية، وشجع على ترسيخ مفهوم الشخصية الإلهية. وبشكلٍ خاص فإننا نعزو إلى التحولات التي طرأت على مفهوم السلطة ضمن الجماعة، وعلى أساليب ممارساتها الأثر الأكبر في تكوين مفهوم جديد للسلطة على مستوى الكون. فجماعات الصيادين في الباليوليت الأعلى كانت تعيش في ظل نظام يقوم على المشاعية الاقتصادية، ونظام سياسي بسيط يرأسه قائد غير متفرغ لمهام الرئاسة، يرعى تطبيق الأعراف المتوارثة ويعمل على فض المنازعات العرضية التي قد تنشأ بين الأفراد. وإلى جانب هذا الرئيس الزمني هنالك الشامان أو ساحر القبيلة الذي يقود الطقوس في المناسبات الدينية. هذه الصورة العامة لمجتمع الصيادين الأوائل لم تتغير كثيرًا في مطلع عصر النيوليت عندما استقر الإنسان في الأرض، واعتمد في اقتصادياته على الزراعة بشكلٍ رئيسي؛ فالمشاعية الاقتصادية بقيت قائمة على ما يبدو، وكانت الأرض ملكًا مشترَكًا لأفراد القبيلة الواحدة الذين تمتعوا بالمساواة في كل شيء. وتظهر هذه المساواة في البيوت المتشابِهة للقرى الزراعية الأولى ومحتوياتها؛ حيث لم يكتشف المنقِّبون بيوتًا مميَّزة بسعتها أو بأثاثها تدل على انتمائها لأشخاصٍ مميزين في المرتبة الاجتماعية أو الملكية الفردية؛ أو قبورًا تحتوي على هدايا جنائزية أثمن مما يحتويه غيرها.

ولكن مع الاقتراب من فجر المدنية في الشرق الأدنى القديم، ومع التحوُّل التدريجي للقرى الزراعية إلى أشباه مدن، نبدأ بملاحظة حدوث تغييرات في البِنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمواقع النيوليتية، التي دخلت الآن في العصر النحاسي الذي مهَّد للاستخدام الواسع للمعادن عوضًا عن الحجارة؛ فقد تحوَّل المقام الديني البسيط إلى معبدٍ، وتحوَّل الشامان إلى كاهنٍ كبيرٍ يخدمه عدد من الكُهَّان الأدنى مرتبة، وبُني قصر للرئيس الذي تحوَّل إلى مَلكٍ متفرغ لشئون الحكم، يفرض سُلطته بعد أن كان يستمدها من الجماعة، وظهر التملُّك الفردي للأرض ولوسائل الإنتاج، وتنوَّعت الحِرَف والاختصاصات. هذه التغيرات انعكست على الوسط الفكري للجماعة؛ فبعد أن تأسَّس مفهوم السُّلطة على المستوى الاجتماعي، صار الكون يبدو وكأنه محكومٌ ومسيَّر بسلطة عليا، وتحوَّلت القوة الشمولية التي تفيض من المجال القُدسي، وتتخلل مظاهر الكون والطبيعة إلى نظام سُلطوي يتدرَّج من الأعلى إلى الأسفل، ويتربَّع على قمته كائن سماوي يحيط به معاونوه من ذوي الاختصاصات المختلفة. وهكذا وجدت عملية تشخيص الألوهة التي كانت جارية ضمن مؤسسة عبادة الأسلاف ما يؤيدها في التحولات الجارية على المستوى الاجتماعي.

ولعل أهم ما أفرزته هذه التغيرات التي أخرجت الآلهة المشخَّصة من رحم القوة الشمولية الغُفلة والعارية عن الشخصية، هو جنوح الإنسان إلى تصوير آلهته على شاكلته في هيئة إنسانية، وحلول الأيقونة (وهي الصورة الإلهية) محل شارة الألوهة، ولكن هذه النقلة النوعية لم تحدث دفعة واحدة، وشارة الألوهة بقيت لقرونٍ مديدة تقاوم تحوُّلها إلى تمثال، وبقيت النزعة الأيقونية والنزعة اللاأيقونية في تناقضٍ لم يُحسم. هذا التناقض هو الذي سيكون موضوعًا لنا فيما يلي من هذه الدراسة؛ حيث سنرصد استمرار النزعة اللاأيقونية في عبادات الشرق القديم. ونظرًا لاتساع الموضوع وتشعُّبه؛ فإن تركيزنا سوف ينصبُّ بشكلٍ أساسي على عبادات الشعوب السامية الغربية والجنوبية، أي بلاد الشام وبلاد العرب.

١  Mircea Eliade, ed. Encyclopedia of Religion, vol. 2, pp. 172-173.
٢  L. Dellaport. Phoenician Mythology, in: Larousse Encyclopedia of Mythology, p. 82.
٣  من أجل عرضٍ ملخص ووافٍ لأفكار سبنسر، راجع:
J. W. Burrow. Evolution and Society, Cambridge, 1970, pp. 179–227.
٤  انظر آخر طبعة جديدة للكتاب:
E. B. Tylor, Primitive Culture, New York, 1971.
٥  هذا العرض لمعتقَد الأسلاف عند الأستراليين قدمتُه استنادًا إلى المادة المعلوماتية التي عرضها إميل دوركهايم في الباب الثاني، الفصل التاسع من كتابه:
Emile Durkheim. The Elementary Forms of Religious Life, London, 1903/1915—free press, New York, 1965, pp. 72–86.
٦  جاك كوفان، ديانات العصر الحجري الحديث، ترجمة د. سلطان محيسن، دمشق، ١٩٨٨م، ص٣٢-٣٣.
٧  المرجع نفسه، ص٤٧.
٨  Kathleen Kenyon. Archaeology in the Holy Land, London, 1985, p. 34.
٩  جاك كوفان، المرجع السابق، ص٥٧–٦٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥