إن مفهوم الإله الكُلي الحضور هو
مفهوم متأخر في تاريخ الدين، أما
الآلهة القديمة فلم يكن من المفترض
فيها أن تكون موجودة في كل مكان من
المجال الدنيوي، وإنما في أمكنة معينة
هي الأقداس. والقدس أو القدش في اللغات
السامية، هو حيز مكاني محدَّد يتجلَّى
فيه الإله، ويُعرب عن موافقته على
الدخول في علاقة ثابتة مع أتباعه،
وقبول عبادتهم له. تُرسَم حدود هذا
الحيز بشكلٍ دقيقٍ بواسطة أحجارٍ
مرصوفة تحيط به، أو جدارٍ يفصل المنطقة
المقدسة عما سواها من المكان الدنيوي.
وفي داخل هذه المنطقة لا تتوزَّع
القداسة بشكلٍ متساوٍ؛ وإنما تتكاثف
كلما انتقلنا من الأطراف نحو المركز؛
حيث تُنصب شارة الألوهة التي تُعتبَر
بمثابة مسكن فعلي للإله، يحل فيه متى
شاء، ويغادره متى شاء.
مثل هذه الألوهة التي لم تَنسب
لنفسها بعدُ كلية الحضور، كانت شأنًا
يناسب طبيعة الساميِّين الذين كانوا
يضيقون ذرعًا بالسُّلطة، ولا يميلون
إلى الخضوع لسلطانٍ صارمٍ، يأتي من جهة
بشرية أو إلهية. من هنا فقد كان الإله
الذي يرغبون فيه هو الإله الذي لا يظل
منشغلًا على الدوام بشئونهم، بل
ويتركهم لأنفسهم في معظم الأحيان، ولكن
يمكن الوصول إليه، وطلب عونه عند
الحاجة. وهم يفضِّلونه على إله لا تغفل
عيناه عنهم لحظة، ولا يستطيعون خداعه،
كما هو حال إله العبرانيين.
أما لماذا بقيت شارة الألوهة قائمة
في أقداس الكنعانيين، على الرغم من أن
الألوهة كانت تنحو نحو التشخيص منذ
نهايات العصر النحاسي واستهلال العصر
المديني؛ فذلك راجع إلى أن الآلهة
المشخَّصة ابتدأت عهدها ككياناتٍ
روحانية نشأت عن القوة الشمولية
الغُفلة دون أن تكتسب شخصيات ذات ملامح
واضحة أو هيئة بشرية، وإنما بقيت
بمثابة قوًى متجزئة، بلا سِمات فردية
تميز بعضها عن بعض؛ ولذلك لم يجد
الإنسان ضرورة لتحويل شارة الألوهة،
التي ورثها عن أسلافه القدماء، إلى
تمثالٍ يطابق صورته ويعكس شخصيته. يضاف
إلى ذلك أن الدين خلال تلك المرحلة،
وما تلاها، وصولًا إلى عصر الأديان
الشمولية، لم يكن مزودًا بعقيدة صارمة،
ولا يتمتع ببِنية منتظمة من الأفكار
اللاهوتية على ما صار إليه فيما بعد،
وإنما عبارة عن أحاسيس ومشاعر وأحوال،
وسلسلة من الشعائر التي يتوجَّب على
الفرد أداؤها دون أن يكون مجبَرًا على
الإيمان بمعتقداتٍ معينة بخصوص طبيعة
الألوهة، وما إليها من تجريداتٍ وصِيَغ
لاهوتية، وكانت هذه الطقوس تهدف إلى
رغد العيش، ودفع غائلة الفاقة
والجوع.
وعلى الرغم من أن الكنعانيين صاروا
يصنعون صورًا لآلهتهم، لا سيما في سياق
الألف الثاني قبل الميلاد؛ فإن هذه
الصور اقتصرت على الأختام والتعاويذ
التي تتخذ شكل قلائد، وعلى النذور التي
تُقدَّم إلى المعبد، أما المحراب
الداخلي للمعبد (أو قدس الأقداس) فكان
خاليًا من أيةِ صورة أو تمثال، ولكنَّ
حجرًا مقدسًا يمثِّل الألوهة المعبودة
كان يتصدَّر المكان. وفي أحيان كثيرة
فإن المنقبين الذين كانوا يفترضون وجود
التمثال اعتمادًا على الأفكار المسبقة،
لم ينتبهوا إلى وجود هذه الأحجار
المقدسة التي اختلطت بغيرها في ركام
المكان. وهم على افتراضهم وجود التمثال
إلا أنهم لم يخرجوا بتعليلاتٍ تفسِّر
اختفاءه.
تتنوَّع أقداس الكنعانيين تبعًا
لحجمها، وعدد العاملين على خدمتها،
وأماكن تواجدها، وعدد من يؤمها، ولعل
باستطاعتنا أن نجمعها في ثلاث
زُمر:
(ب) المقام
Sanctuary،
أو المُرتَفعة
وهو مَقْدِس ديني يقع في نقطة
الوسط بين المصلَّى العائلي
والمعبد الضخم، يقام في الهواء
الطلق، غير مسقوفٍ في معظم
الأحيان، يحيط به جدار قليل
الارتفاع أو صفٌّ من الحجارة.
والأصل في هذا النوع من الأقداس أن
تتخذ مكانها على التلال العالية؛
ولهذا يدعوها المحررون التوارتيون
بالمرتفعات، ويذكرونها في معرض
تنديدهم بمعتقدات وطقوس
الكنعانيين، وترد الكلمة بصيغة
«بامه
Bamah»
وجمعها باموت
Bamot،
سواء في العبرية أم في بقية
اللهجات الكنعانية في سورية
الجنوبية. وقد استخدمها ميشع ملك
مَواب بشرقي الأردن في معرض تعداد
إنجازاته، وبينها بناؤه «بامه»
للإله كموش، وهو إله سوري قديم
يرجع في أصوله إلى بانتيون مدينة
إيبلا في أواسط الألف الثالث قبل
الميلاد؛ حيث ورد اسمه بصيغة
«كاميش». وبعد ذلك صارت المرتفعات
تقام في الأراضي المنبسطة، وتُرفع
على شكل منصة يُصعد إليها بدرج،
كما صارت تقام عند بوابات المدن
يقصدها القادم أو المغادِر لأجل
طلب سلامة السفر من آلهته، وهي
التي يذكرها المحرر التوراتي تحت
اسم «مرتفعات الأبواب»، ويمكن
توسيع مفهوم المقام أو المرتفعة
ليشمل أي مقام.
أبسط أنواع هذه المرتفعات عبارة
عن أرضٍ حرام يحيط بها جدار،
ويتوسَّطها مذبح ولا شيء آخر، ونحن
هنا أمام نزعة لا أيقونية في أصفى
تعبيراتها، استغنت حتى عن شارة
الألوهة المادية المرئية. والنموذج
المعبِّر عن هذا النوع من
المرتفعات هو المقام الديني
المشهور على جبل الكرمل الذي يصفه
المؤلفون الإغريق بأنه أكثر الجبال
قداسة. ويقول المؤرخ تاكيتوس في
وصفه لزيارة الإمبراطور الروماني
فيسبازيان لهذا المقام من أجل
استخارة إله الجبل، إن ذلك الإله
الذي يتطابق اسمه مع اسم الجبل
نفسه لم يكن له معبد هناك ولا
تمثال، وأن مقامه لا يحتوي إلا على مذبح.
٦ وأغلب الظن أن اسم جبل
الكرمل مؤلَّف من مقطعَين هما
«كَرْم» و«إيل»، كرْمُ-إيل. ويعني
حقل الكرمة الخاص بالإله إيل.
والكرمة، أو كارمو في اللهجات
الكنعانية من بين أقدم الألفاظ
السامية الغربية، وقد انتقلت إلى
الهيروغليفية المصرية منذ زمنٍ
مبكرٍ من الألف الثاني قبل الميلاد.
٧
على أن الأثاث الطقسي في
المرتفعة الكنعانية التقليدية كان
يشتمل، إلى جانب المذبح، على شجرة
مزروعة قرب المذبح ترمز إلى
الألوهة المؤنثة، وعلى نَصب حجري
يرمز إلى الألوهة المذكرة. ولكن
النَّصب في بعض الأحيان قد يرمز
إلى الألوهة المؤنثة أيضًا عندما
يكون المقدس مخصصًا لها وحدها، كما
هو الحال في مقدس الإلهة إستارت
الفينيقية في قبرص، ومقدس اللات
إلهة العرب الكبرى في الطائف، على
ما سنرى لاحقًا. ولدينا في الشكل
١-٢ صورة على
عملة معدنية مسكوكة في مدينة صور
الفينيقية تمثِّل مقام بعل صور
المُلقَّب بملكارت «أي ملك
المدينة»؛ حيث نرى بوضوح العناصر
الثلاثة الرئيسية للمرتفعة، وهي
نَصبان حجريان وشجرة ومذبح للبخور.
ولكن في معظم الأحيان كانت الشجرة
الحية يستبدل بجذعها المقطوع
والمغروس إلى جانب المذبح، وهو
الذي يدعوه المحررون التوراتيُّون
بالعشيرة في معرض تنديدهم بطقوس
الكنعانيين.
ونظرًا للطابع الأكثر عمومية
للمقام، واستخدامه من قِبَل شرائح
أوسع من السكان مقارنةً بالمصلَّى؛
فإن عددًا من الكُهان يعملون على
خدمته، وقيادة الطقوس الدينية فيه.
وهذه الطقوس تُقام بشكلٍ دوري
وفقًا لمواعيد السنة الطقسية
المتعارَف عليها، أو كلما دعت
الحاجة إليها، وعلى رأسها طقس
القربان الحيواني الذي يقدِّمه
العابدون إلى الإله في مقابل ما
أنعم عليهم به من خيرات، أو سُلفة
تُبذل لمعروفٍ مرتقب. وهذا القربان
على شكلَين؛ فإما أن يُقطَّع
الحيوان المذبوح، ويُراق دمه على
المذبح، ثم يُحرق بكامله لكي
تتناوله الآلهة غذاءً عن طريق
الشم، ولا يُسمح للمشاركين في
الطقس بتناول شيء منه، وإما أن
يُطبَخ الحيوان، ويجري تناول لحمه
من قِبَل الجميع في وجبة طقسية.
وفي الشكل رقم
١-٣ رسم توضيحي لأحد
أنماط المذبح الكنعاني، وهو المذبح
ذو القرون الأربعة.
أما في الشكل رقم
١-٤ فرسم توضيحي آخر
للمنصب النَّذري الذي يُصنَع من
الفخار بواسطة دولاب الخزاف مع
الإبقاء على فتحات في جداره ليخرج
منها دخان البخور الذي يُحرَق في
الداخل، وللمنصب طاسة متحركة
تُثبَّت على فوهته، توضع عليها
تقدمات الثمار والكعك المُحلَّى.
إن وظيفة هذَين العنصرَين وبقية
عناصر الأثاث الطقسي للمرتفعة
تتركز على الخدمة الطقسية للعشيرة
(= الشجرة)، والنَّصب الحجري
اللذين سنخصهما بالشرح اللازم فيما
يلي:
لقد ربط الكنعانيون بين الأشجار
الضخمة ذات الفيء الواسع، لا سيما
البطم والبلوط، وبين الأم
الكنعانية الكبرى عشيرة، إلهة
الوفرة في الطبيعة وخصوبة الإنسان
والماشية. وكانت مقاماتهم الدينية
المكشوفة تتخذ من ظل هذه الأشجار
موضعًا لها؛ ولذلك فقد أدان أنبياء
التوراة مثل هذه المقامات والطقوس
التي كانت تجري عندها بعد أن
تبنَّاها العبرانيون: «يذبحون على
رءوس الجبال، ويبخرون على التلال
تحت البلوط واللُّبنى والبطم لأن
ظلها حسنٌ» (هوشع، ٤: ١٣). وفي
جميع المواضع التي ورد فيها ذكر
البلوط والبطم، نجد أن العبرية
التوراتية قد حافظت على إرثٍ لغوي
كنعاني يُطلِق على هذه الأشجار
اسمًا مشتقًّا من الاسم الآخر
للإلهة عشيرة، وهو إيلة أو إيلات
(مؤنث إيل إله السماء بما هي
زوجته). فالبطمة تُدعى إيلة أي
إلهة، والبلوطة تُدعى إيلون أو
ألون. ولهذه الكلمة صلة بالكلمة
الآرامية إيلانا الدالة على الشجرة
المقدسة. ولدينا أمثلة من ثقافات
الشرق القديم الأخرى على الصفة
الإلهية للشجرة، نكتفي بإيراد
شاهدٍ عليها من الفن المصري الذي
صوَّر الإلهة في هيئة شجرة تبذل
عصير الحياة لعِبادها (الشكل
١-٥).
على أن أغزر المعلومات النصِّية
عن الرمز الشجري للألوهة المؤنثة
جاءتنا من كتاب التوراة. وأول ما
يلفت نظرنا بشكلٍ خاص هو تحريم
استخدام هذا الرمز على العبرانيين،
والتحريم لا يأتي إلا لإبطال
ممارسة رائجة ضمن الجماعة. نقرأ في
سفر التثنية: «لا تنصب لنفسك سارية
من شجرة ما بجانب مذبح الرب إلهك،
ولا تُقم لك نَصبًا» (التثنية، ١٦:
٢١-٢٢). وكلمة سارية، أي العمود
الخشبي، في هذا المقتبَس من النص
العربي للتوراة، الترجمة
البروتستانتية، ترِد في مقابل كلمة
«عشيرة» التي استخدمها الأصل
العبري، وهي تُعبِّر أفضل تعبير عن
مدلولات الكلمة العبرية؛ لأن
السياقات التي وردت فيها الكلمة في
التوراة مثل قولهم: قطع العشيرة أو
أحرق العشيرة تدل على أنها تشير
إما إلى شجرة مقدسة تُزرَع إلى
جانب المذبح في المقدس الكنعاني،
وإما إلى جذع شجرة مقطوعٍ ومنصوب
كبديلٍ عن الشجرة الحية.
وردت كلمة عشيرة في النص التوراتي
نحو أربعين مرة، ولكنَّ المحررين
التوراتيين لم يحفلوا بتقديم
شروحاتٍ تدل على معناها، وهذا ما
جعل الترجمات القديمة للنص تقف
حائرة بشأنها؛ فالترجمة اليونانية
المعروفة بالسبعينية استخدمت كلمة
alalos
التي تعني غيضة أو أيكة، وتبعتها
في ذلك الترجمة الإنجليزية
الكلاسيكية التي استخدمت كلمة
grove
بالمعنى نفسه. ولكن الترجمات
الحديثة التي ظهرت في القرن
العشرين أبقت على الكلمة بصيغتها
الأصلية، وقالت
Ashirah،
لا سيما وأن نصوص مدينة أوغاريت
التي حُلَّت أبجديتها في ثلاثينيات
ذلك القرن، قد أطلعتنا ولأول مرة
عن وجود إلهة كنعانية تُدعى أشيرة،
كانت زوجة كبير الآلهة إيل، وأمًّا
لسبعين إلهًا يشكِّلون مجمع آلهة
أوغاريت. وقد صار في حكم المؤكد
اليوم أن هذا الشعار الطقسي
الكنعاني الذي يتطابق اسمه مع اسم
الأم الكنعانية الكبرى، ما هو إلا
شارة تعبِّر عن حضور الألوهة
المؤنثة في المقدس الكنعاني. ولكن
الجذع اليابس، بشكله الخام، لا
يصلح لأن يكون شعارًا لقوة الحياة
في الطبيعة، ولا بد أن يكون قد خضع
لعملية تشكيل أعطته هيئةً ما، وهذا
ما تطوَّع محرر سفر إرميا بإعطائنا
فكرة عامة عنه في معرض تنديده
بالعشيرة: «لأنها شجرة يقطعونها من
الوعر، صنعةُ نجار بالقدوم، بالفضة
والذهب يزيِّنونها، وبالمطارق
يشدُّونها فلا تتحرك … أدب أباطيل
هو الخشب، فضة مُطرَّقة تُجلب من
ترشيش، وذهبٌ من أوفار، صنعة صانع
ويدَي صائغ، إسمانجوني وأرجوان
لباسها» (إرميا ١٠: ٣–٩). إضافة
إلى هذه الزينة اللائقة بالحضور
الأنثوي؛ فإني أخلُص إلى استنتاجٍ
منطقي، مفاده أن إشاراتٍ دالَّة
على الجسد الأنثوي كانت تُحفَر على
الجذع: النهدَين، السرة ومثلث
الأنوثة.
وفيما يتعلق بالنَّصب الحجري؛
فيبدو أنه كان الرمز الأكثر
تعبيرًا عن حضور الألوهة والتواصُل
معها عند إنسان الشرق القديم.
فالحجر الذي يوحي بالثبات
والاستقرار والدوام وعدم التغير،
كان إشارة للوجود السرمدي في مقابل
وجود الإنسان المتغيِّر
والزائل.
وقد توصَّل عالِم الآثار
عوزي
آفنر
Uzi Avner من دراساته
الميدانية للعبادات الصحراوية في
سيناء والنقب إلى نتيجة مفادها أن
أول ظهور موثَّق للأحجار المقدسة
كان في الألف الحادي عشر قبل
الميلاد وفي مناطق صحراوية، ثم
تزايدت أعدادها بدءًا من الألف
السادس قبل الميلاد، واستمرت إلى
أن محاها الإسلام كظاهرة دينية في
القرن السابع الميلادي. أما في
المناطق الزراعية فقد تأخر شيوعها
حتى مطلع الألف الثاني قبل
الميلاد، الأمر الذي يدل في
اعتقاده على أنها ظاهرة دينية
صحراوية بالدرجة الأولى.
٨ ولكني أنظر إلى هذه
النتيجة الأخيرة بكثيرٍ من التحفظ؛
لأننا نملك الآن دلائل على أن
النَّصب الحجري كان موجودًا في
أقدم المقامات الدينية للعصر
النيوليتي في بلاد الشام. فقد كشفت
المنقِّبة البريطانية كاثلين
كينيون خلال حملتها التنقيبية في
موقع أريحا بفلسطين إبَّان
خمسينيات القرن العشرين، عن بِنية
معمارية ذات وظيفة دينية واضحة
ترجع بتاريخها إلى الألف الثامن
قبل الميلاد، وهي عبارة عن غرفة
مستطيلة، في جدارها الشمالي تجويف
طولاني في الوسط يقوم بوظيفة
المحراب، ووجدت في أسفل هذا
المحراب قاعدة من حجرٍ بركاني،
وبقُربها عمود مُلقًى على الأرض من
المادة نفسها، يبدو أنه كان
موضوعًا على قاعدته عندما كان هذا
المقام في الاستخدام (الشكل
١-٦)، وقد رأت
كينيون في هذا العمود الحجري
النموذج المبكر للأحجار المقدسة في
المقامات الكنعانية للعصور
التاريخية.
كما كشفت التنقيبات التي جرت في
أواخر القرن العشرين في منطقة
أورفة الواقعة على الأطراف العليا
للهلال الخصيب. (ضمن الحدود
التركية مع سورية) عن ثقافة
نيوليتية رائدة معاصرة لثقافة
أريحا في النيوليت ما قبل الفخاري
(PPNB)
B. تميزت بعمارة
راقية، ومقامات دينية اعتُبرَت
بمثابة الأصول المبكرة للمعابد
اللاحقة في وادي الرافدَين. وكان
الأثاث الطقسي لهذه المقامات
المكشوفة والمبنية بالحجر، يتألف
من عددٍ من الأنصاب الحجرية التي
يصل ارتفاعها أحيانًا إلى المترَين.
٩
والأصل في الحجر المقدس أن يكون
جلمودًا خامًا لم يخضع لأي عملية
تشذيب أو تشكيل، ويتم اختياره بحيث
يكون له سطح جبهي أملس يواجه
الناظر، وآخر خلفي أكثر خشونة
وتحدبًا. أما عن طوله فإن الأحجار
الصحراوية لا يزيد ارتفاعها عادةً
عن النصف متر، بينما قد يزيد
ارتفاع أحجار المناطق الزراعية عن
ذلك. أما عن تسمياته في اللغات
السامية الغربية، فبعضها مشتقٌّ من
جذر سامي مشترك يفيد فعل النَّصب
أي الإيقاف بشكلٍ عمودي. ففي
العبرية التوراتية يُدعَى مَصِّيبة
massebah
وجمعها مَصِّيبوت
masseboth.
وفي الفينيقية يُدعى مصْبَت
masbat.
وفي العربية النَّصْب أو النُّصْب
وجمعها أنصاب. ولدينا تسمية سامية
أخرى مشتقة من الجذر السامي
سَكَنَ، الذي يفيد معنى السُّكنى
والإقامة. ففي أوغاريت وماري
وإيمار يُدعى الحجر المقدس سيكانو،
وجمعها سيكانوم، بمعنى أنه مسكن أو
بيت الإله. وبهذا المعنى أيضًا دعا
المحرر التوراتي في سفر التكوين
الحجرَ المقدس بيت إيل، أي بيت
الله. فعندما كان يعقوب على سفرٍ
صادف مكانًا وبات هناك، وأخذ من
حجارة المكان واحدًا ووضعه تحت
رأسه، فتجلى له الرب في الحلم
واقفًا على رأس سلم منصوب بين
الأرض والسماء، فأفاق يعقوب من
نومه، وأخذ الحجر الذي وضعه تحت
رأسه، وأقامه عمودًا وصبَّ عليه
زيتًا ودعاه، بيت إيل، (التكوين،
٢٨: ١٠–٢٢، انظر بشكلٍ خاص الآية
الأخيرة رقم ٢٢). ويبدو أن تسمية
بيت إيل بقيت من التسميات الشائعة
للحجر المقدس حتى الفترات المتأخرة
من تاريخ الشرق القديم؛ لأن
المؤلفين الإغريق الذين احتكوا عبر
رحلاتهم بالثقافة المشرقية دعوه
betyl
بيتيل أو
baitylos
بيتيلوس، وكلتا التسميتَين، كما هو
واضح، هما صيغة يونانية من الاسم
بيت إيل.
١٠
وقد دُعيَت هذه الأحجار المقدسة
بيوتًا للآلهة في نقش السفيرة
الآرامي، وهو نص معاهدة تم توثيقها
بين مَلكَين آراميين، دُونت على
ثلاثة أنصاب حجرية، أشار إليها
النص على أنها ب ي ت. أ ل ه ي، أي
بيوت الآلهة.
١١ وفي نص للملك الآشوري
توكولتي نينورتا (مطلع القرن
التاسع ق.م.) يصِف حَملته على مدن
الساحل السوري، كاتب النص أن
الملك: «قد نصب خيامه قرب الأحجار
التي تسكنها الآلهة.»
١٢ ولدينا من الدلائل
النَّصية ما يشير إلى وجود تسمية
عربية قديمة للنَّصب الحجري هي،
مسجدا (مسجد). ففي موقع الحِجْر
بمدائن صالح في شمال شبه الجزيرة
العربية، عُثر على لوحة حجرية من
عصر مملكة الأنباط، الذين امتد
نفوذهم إلى هذه المنطقة، حُفر
عليها نحتٌ بارزٌ يمثِّل نَصبًا،
وبأسفلها نَقش يقول صاحبه: «هذا
المسجدا صنعه شاكوهو بن تورا
الأعرى إله بصرى الكبير».
١٣ فأصل المسجد والحالة
هذه هو الشارة المادية التي تسكنها
الروح الإلهية، وتُعتبر وسيط
تواصلٍ معها. وبما أن الشارة توضع
في مقدس ما فإن المقدس صار يُدعى
مسجدًا أيضًا.
في البحث الآثاري والأكاديمي
الحديث، تُستخدم عدة تسميات للحجر
المقدس، وذلك تبعًا لشكله ومدى
تدخل الإنسان في هيئته، أو تبعًا
للثقافة التي ينتمي إليها؛ فقد
يقولون Standing
stone عن الأحجار
الصحراوية،
وmasseboth،
الأحجار الفلسطينية،
وCippus
عن الأحجار الفينيقية والبونية،
وStele
عن الأحجار المنقوشة،
وBetyl
عن أحجار الفترة الكلاسيكية، ولكن
سوف ألتزم حتى نهاية البحث بمصطلح
النَّصب الحجري مع الإشارة إلى
طبيعته وشكله.
(ﺟ) المعابد
يتميز المعبد عن بقية أنواع
الأقداس التي عرضناها سابقًا بسعته
وعمارته الحجرية الضخمة، وبالعدد
الكبير من الكُهان القائمين على
خدمته، والمتوزعين على طبقات. وإذا
كانت المرتفعات هي الأقداس الشائعة
في المناطق الزراعية؛ فإن المعابد
هي الأقداس الخاصة بالمدن الكبيرة
القادرة على تمويل المشاريع
العمرانية وحشد الطاقات البشرية
لها. ويختلف النمط الهندسي لمعابد
الساميين الغربيين باختلاف الزمان
والمكان، ولكن النمط المعروف لدى
علماء الآثار بالمعبد السوري
التناظري
Syrian
Symmetrical Temple
Type. بدأ يفرض
نفسه منذ أواسط الألف الثاني قبل
الميلاد، ثم صار النمط الأكثر
شيوعًا في عصر الحديد. وهو يتكون
من ثلاث قاعات تنتظم على محورٍ
واحد، وهي:
- (١)
القاعة الأولى عبارة عن ردهة
ينفتح بابها على الفناء الخارجي
للمعبد، وغالبًا ما يحف بهذا الباب
الخارجي عمودان عن يمينه ويساره،
وهذان العمودان إما ينتصبان بشكلٍ
حر، أو يحملان الساكف البارز للباب
الذي يتخذ شكل ظُلَّة.
- (٢)
قاعة وسطى.
- (٣)
قاعة داخلية تُدعى بقدس
الأقداس، تتصل بالقاعة الوسطى إما
بباب أو بستارة، وهي المحراب الذي
يُوضَع في صدره شعار الألوهة
المعبودة.
ويقدِّم لنا موقع تل مرديخ
(إيبلا القديمة) في الشمال السوري،
أبكر نموذج عن هذا النمط المعماري،
وهو يعود فترة مرديخ ٣
(٢٠٠٠–١٦٠٠ق.م.) وهو يختلف عن
المعبد التناظري التقليدي اللاحق
بوجود محرابٍ صغيرٍ في صدر القاعة
الداخلية.
بعد ذلك يبدأ النمط التقليدي
بالظهور في عصر البرونز الأخير
(١٥٥٠–١٢٠٠ق.م.) في مواقع مثل
حاصور في الجليل الأعلى، وآلالاخ
في سهل العمق، وأوغاريت على الساحل
الشمالي، وهذا النمط ستحتذيه معابد
عصر الحديد، مثل معبد تل الطعينات
عند المنحنى الشمالي لنهر العاصي،
ومعبد عين دارا في منطقة عفرين على
مسافة ٥٠كم إلى الشمال الغربي من
مدينة حلب (الشكل
١-٧). وهيكل أورشليم
الذي نرجِّح بناءه في مطلع القرن
السابع قبل الميلاد، لا في عصر
الملك الأسطوري سليمان (الشكل
١-٨).
ومعلوماتنا عن هيكل أورشليم
مستمَدة من وصفه التفصيلي الوارد
في سفر الملوك الأول من كتاب
التوراة، لا من أوابده المعمارية
المفقودة بشكلٍ كامل. ويُظهر هيكل
أورشليم،
بشكلٍ خاص، شبهًا واضحًا بمعبد عين
دارا؛ فمن بين ٦٥ عنصرًا معماريًّا
وتزيينيًّا عزاها محرر سفر الملوك
الأول إلى هيكل أورشليم، هنالك ٣٣
عنصرًا يشترك فيها مع معبد عين
دارا، لا سيما صف الغرف الجانبية
التي تحيط بالمعبد، والمبنية على طابقَين.
١٤
فيما تبقَّى من هذه الدراسة سوف
نتابع تجليات عبادة الأنصاب
الحجرية لدى الساميين الغربيين في
رحلة طويلة نبدؤها من كنعان،
وتنتهي بنا عند عرب
الجاهلية.