شاءول، الملك الذي قاوم الرب
في كتاب العهد القديم المليء بالملاحم وسلاسل القصص، هنالك شخصيتان مرسومتان بأسلوب روائي على درجة عالية من الحِرَفية، لا تقِل عن حِرفية الروائيين الأوروبيين العِظام في القرن التاسع عشر، هما شخصية موسى وشخصية الملك شاءول؛ ولنبدأ بموسى.
لم يكن لدى موسى مشكلة في منفاه الصحراوي بمديان، بعد أن فرَّ من مصر، سوى العقوبة التي تنتظره إذا عاد إليها، وقد حُلَّت هذه المشكلة عندما تُوفي الفرعون الذي كان يطلب حياته. ولكن بينما كان يستعد للسفر مع عائلته وقعت له مشكلة لا حلَّ لها، قلبت حياته رأسًا على عقِب، عندما تجلَّى له الإله يهوه في نار شجيرة صحراوية تتوهج بالنار دون أن تحترق، وأمره بالتوجُّه إلى مصر لتحرير بني إسرائيل من ذل العبودية هناك، وقيادتهم إلى أرضٍ تفيض لبنًا وعسلًا في كنعان. وبما أن موسى لم يكن يعرف هذا الإله، ولا بني إسرائيل؛ فقد سأله عن اسمه فقال له: «هكذا تقول لبني إسرائيل: يهوه إله آبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب أرسلني إليكم، هذا اسمي إلى الأبد» (الخروج، ٣: ١٣–١٥). ولكن موسى اعتذر عن قبول المهمة بحُجة أنه ثقيل الفم والكلام، ولا يستطيع مخاطبة بني إسرائيل. وعندما أصر عليه الرب أعلن له صراحة أنه لن يذهب، وأن عليه أن يختار شخصًا آخر قائلًا بنزقٍ: «استمع أيها السيد، أرسل بيد من ترسل» (الخروج، ٤: ١٣).
صدع موسى بما أُمرَ وهو غير راغب في هذه المهمة، على الرغم مما أظهره فيما بعد من قوة شخصية وقدرة على القيادة وبراعة في التكتيك العسكري. كما أن بني إسرائيل الذين أراد يهوه تحريرهم ليكون إلههم وحدهم، لم يكونوا راغبين في دفع الثمن الباهظ لهذا التحرير من جوعٍ وعطشٍ وتجوالٍ في الصحاري، ولم يكونوا ميَّالين إلى هذا الإله الذي فرض نفسه عليهم؛ ولذلك كانوا عبر الأسفار الأربعة التي خصَّصها المحرر التوراتي لملحمة الخروج يتذمرون على موسى ومساعده هارون لأنهما أخرجاهما من مصر، وبعد كل تذمُّر على موسى وإلهه كان يهوه يُوقِع بهم مجزرة تُودي بحياة الآلاف منهم. وقد أحصيتُ عدد من قتل يهوه من شعبه بين سفر الخروج وسفر صموئيل الثاني أيام الملك داود، وفق الأرقام الواردة في الكتاب فبلغ أكثر من مائتَي ألف من الشعب الذي أبى أن يكون مختارًا حتى أواخر الرواية التوراتية، وها هو يهوه يشكو للنبي إرميا بعد نحو سبعمائة سنة من عصر موسى عقوقَ شعبه: «أما ترى ماذا يعملون في مدن يهوذا وفي شوارع أورشليم؟ الأبناء يلتقطون حطبًا والآباء يُوقِدون النار، والنساء يعجنَّ العجين ليصنعن كعكًا (قربانًا) لملكة السموات (الإلهة الكنعانية الكبرى)، ولسكب سكائب لآلهة أخرى لكي يغيظوني» (إرميا، ٧: ١٧-١٨). وبعد دمار أورشليم وسَبي أهلها إلى بابل عام ٥٨٧ق.م. راح النبي إرميا يحضُّهم على العودة للرب؛ فقالوا له: «إننا لا نسمع لك الكلمة التي كلَّمتنا بها باسم الرب، بل سنعمل كلَّ أمر خرج من فمنا، فنبحر لملكة السموات ونسكب لها سكائب كما فعلنا نحن وآباؤنا وملوكنا ورؤساؤنا في أرض يهوذا وفي شوارع أورشليم فشبعنا خبزًا وكنا بخير» (إرميا، ٤٤: ١٦-١٧).
بدأ تذمُّر بني إسرائيل منذ مطلع سِفر الخروج، عندما لحق بهم الفرعون، بجنوده وعرباته، بعد أن ندم على إطلاقهم؛ فأدركهم عند شاطئ البحر (الذي قد يكون خليج السويس أو إحدى البحيرات الحرة الواقعة إلى شماله)، فلما رأى بنو إسرائيل الجيش المصري صرخوا قائلين لموسى: «هل لأنه ليست قبور في مصر أخذتنا لنموت في البرية؟ ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر؟ أليس هذا هو الكلام الذي كلَّمناك به في مصر قائلين كُفَّ عنا فنخدم المصريين؛ لأنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية» (الخروج، ١٤: ١١-١٢). وقد بلغ التذمُّر في إحدى المرات حدًّا دعاهم أحيانًا إلى التنادي لتعيين رئيس عليهم بدل موسى يعيدهم إلى مصر (العدد، ١٤: ٤). وفي هذا كله كان موسى واقعًا بين مطرقة الرب وسندان الشعب، بين إله غضوب متطلِّب وشعب متمرد، ولطالما شكا موسى إلى ربه بَليته هذه قائلًا: «لماذا أسأتَ إلى عبدك؟ ولماذا لم أنل نعمة في عينيك حتى إنك وضعت ثِقل هذا الشعب عليَّ … فإذا كنتَ تفعل بي هكذا فاقتلني قتلًا إن وجدتُ نعمة في عينيك فلا أرى بَليتي» (العدد، ١١: ١١–١٤).
على أن واحدة من حوادث التذمُّر كانت مفصلية في حياة موسى؛ لأن ردة فعله عليها جلبت عليه غضب الرب، ورسمت له قدرًا محتومًا لا مردَّ له. فعندما وصلوا إلى موضع في الصحراء يُدعى برية صين، ولم يكن فيه ماء لشرب الجماعة؛ خاصم الشعب موسى، وقالوا له: «لماذا أتيتما بنا إلى هذا المكان الرديء؟ ليس هو مكان زرع وتين وكرم ورمان، ولا فيه ماء للشرب. فقال الرب لموسى: خذ العصا، واجمع الجماعة، أنت وهارون أخوك، وكَلَّما الصخرة أمام أعينهم أن تعطي ماءها فتُخرج لهم ماءً.» ولكن موسى الذي كان في حالة يأس وإحباط وتعب لم يكلم الصخرة، وإنما ضربها بعصاه قائلًا لهم: «أمِن هذه الصخرة نُخرج لكم ماءً؟ ولكن الماء انبثق منها وشرب الجميع وسقوا ماشيتهم» (العدد، ٢٠: ١–١١).
لقد ارتكب موسى في هذه القصة خطيئة طَقسية عندما ضرب الصخرة بعصاه ولم يكلِّمها كما أُمر، كما أنه ارتكب خطيئة أمَرَّ وأدهى عندما شكَّ أن بإمكان هذه الصخرة أن تُخرج من جوفها ماءً. وهنا نطق الرب بقضائه عليهما وهو الموت قبل دخول الأرض الموعودة، ولم يشفع لموسى كلُّ ما قدَّمه للرب من طاعة وخدمة: «فقال الرب لموسى وهارون: من أجل أنكما لم تؤمنا بي حتى تقدِّساني أمام أعين بني إسرائيل؛ لذلك لا تُدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إياها» (العدد، ٢٠: ١٢). وقد حُم القضاء على هارون أولًا عندما وصلت الجماعة بلاد آدوم: «فكلم الرب موسى وهارون قائلًا: يُضم هارون إلى قومه (يموت) لأنه لا يدخل الأرض التي أعطيتُ لبني إسرائيل، لأنكم عصيتم قولي عند ماء مَريبة. خذ هارون وأليعازر ابنه واصعد بهما إلى جبل هور، واخلع عن هارون ثيابه (الكهنوتية) وألبِس أليعازر ابنه إيَّاها؛ فيُضَم هارون ويموت هناك» (العدد، ٢٠: ٢٤–٢٦). أما موسى الذي كان يتوقع عقوبة الموت في كل لحظة؛ فقد تابع قيادة الشعب نحو كنعان، ودخل في سلسلة حروب مظفرة في الجنوب السوري، كان خلالها ينفِّذ تعاليم إلهه المولِع بسفك الدماء، حتى إنه في إحدى الغزوات، التي أوكل بها قادته العسكريين، قتل كل ذكرٍ من الأسرى الأطفال (راجع سفر العدد، الإصحاح ٣١)، حتى وصل أخيرًا إلى جبل نَبو على الضفة الشرقية لنهر الأردن مقابل أريحا الواقعة على الضفة الغربية، وهناك أصعده الرب إلى قمة الجبل، وأراه الأرض الموعودة، وقال له: «قد أريتك إياها بعينَيك، ولكن إلى هناك لا تعبر. فمات هناك عبد الرب حسب قول الرب، ودفنه في الجِواء، ولم يعرف إنسانًا قبره» (التثنية، ٣٤: ١–٦).
لقد تميزت سيرة موسى بالطاعة المطلَقة لربه، ومن خلال الطاعة صارع قدَره. أما سيرة الملك شاءول فقد تميزت بالتفرد بالقرار، ومساءلة الرب في أحكامه، والعمل بما يراه حسنًا في عينَيه، لا في عين الرب، بل وفي معارضة مشيئته أحيانًا. لقد صارع قدَره من خلال التمرد، وصارع مرض الاكتئاب الذي أصابه به الرب، وهو يقود حملات التحرير الظافرة ضد الفيليستيين الذين استعبدوا شعبه. وإليكم القصة ملخَّصة عن سِفر صموئيل الأول مع تعليقاتي عليها، أرويها بشغفٍ لأنني طالما رأيت في شاءول النموذج المبكر للفارس النبيل الذي نجده في عصر الفروسية الأوروبي، وفي عصر الساموراي الياباني، وعصر الفروسية العربي أيام الحروب الصليبية. على أنني لا أنظر إلى هذه القصة باعتبارها تاريخًا، وإنما باعتبارها أدبًا، وأتعامل معها على هذا الأساس.
كان النبي صموئيل آخر من وُلي القضاء لإسرائيل في عصر القضاة، الذي استمر مدة قرنَين من الزمان، عندما لم يكن للقبائل الاثنتي عشرة في منطقة المرتفعات الفلسطينية التي استوطنوها نظامٌ سياسي مركزي، وإنما قُضاة يختارهم الرب لتسوية الخلافات بين القبائل وتجهيز المتطوعين للحروب إذا لزم الأمر. وكان الفيليستيون (وهم بقايا شعوب البحر التي غزت المنطقة، وعاثت فيها فسادًا قبل أن يهزمهم فراعنة مصر، ويسمحون لفريقٍ منهم بالاستقرار على الجيب الساحلي الجنوبي من فلسطين) يزيدون ضغطهم على مناطق العبرانيين أعدائهم التقليديين، ويكسبون المعارك ضدهم واحدة إثر أخرى. وكان لما شاخ صموئيل أنه جعل ابنَيه قضاة لإسرائيل، ولكنهما لم يسلكا في طريقه بل مالا إلى المكسب وأخذ الرشوة؛ فاجتمع كل شيوخ إسرائيل، وجاءوا إلى صموئيل وقالوا له: هو ذا أنت قد شخت، وابناك لم يسلكا في طريقك؛ فالآن اجعل لنا ملِكًا يقضي لنا كسائر الشعوب. فساء الأمر في عينَي صموئيل، وصلَّى إلى الرب؛ فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون؛ لأنهم لم يرفضوك، بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم.
بعد أن تلقَّى صموئيل أمر الرب بتعيين ملك على الشعب، كان عليه أن ينتظر الوحي بخصوص الرجل المختار الذي سيمسحه بالزيت المقدس ليغدو مسيحًا للرب وملكًا على إسرائيل. وطقس المسح بالزيت المقدس استنه يهوه لموسى في سيناء، وعلَّمه كيفية تحضيره والمواد الداخلة في تركيبه، وأمره أن يمسح به الأثاث الطقسي لخيمة الاجتماع مسكن الرب، ويمسح هارون وبنيه ليقدسهم كهنة له، ومنع على أحدٍ أن يصنع مثله، أو يضع منه على نفسه تحت طائلة الموت. ثم إن الرب كشف أذن صموئيل قائلًا: غدًا في مثل الآن أُرسل لك رجلًا من أرض قبيلة بنيامين فامسحه رئيسًا لشعبي، ويخلصهم من يد الفيليستيين.
وكان رجل من قبيلة بنيامين جبار بأس، اسمه قيس بن أبيئيل، وكان له ابن اسمه شاءول، شاب حسن الصورة، لا يوجد في بني إسرائيل أحسن منه وكان أطول قامة من كل الشعب. فضلَّت له أُتُنٌ فقال لابنه شاءول أن يأخذ معه واحدًا من الغلمان، ويذهب للتفتيش عنها. فعبر شاءول أرض بنيامين فلم يجدها، حتى وصل إلى الرامة مقر النبي صموئيل؛ فقال له الغلام: إن رجل الله في هذه المدينة فلنذهب إليه ليخبرنا عن الطريق الذي نسلكه. وفيما هما آتيان في وسط المدينة إذا بصموئيل خارج للقائهما، فلما رأى شاءول قال له الرب: هو ذا الرجل الذي كلمتك عنه. فتقدم شاءول إلى صموئيل قائلًا: أطلب إليك أخبرني أين بيت الرائي؟ فأجابه صموئيل: أنا الرائي، تعاليا لتأكلا معي اليوم، وغدًا أطلقك. وفي صباح اليوم التالي دعا صموئيل شاءول، وقال له: قل لغلامك أن يَعبر قدَّامنا، وأما أنت فقف الآن فأُسمِعك كلام الرب، ولما عبر الغلام أخذ صموئيل قنينة الزيت، وصبَّ منها على رأس شاءول وقبَّله، وقال: لأن الرب قد مسحك على شعبه رئيسًا.
بعد ذلك كان لا بد من إعلان الخبر لجميع القبائل؛ فدعاهم صموئيل إلى بلدة المصفاة، وقال لهم: هكذا يقول الرب: إني أصعدتكم من مصر، وأنقذتكم من أيدي المصريين، وأنتم قد رفضتم اليوم إلهكم، وقلتم له بل تجعل علينا ملكًا، فالآن امثلوا أمام الرب حسب أسباطكم وألوفكم؛ فقدم صموئيل جميع أسباط إسرائيل إلى الرب فاختار منهم سَبط بنيامين، ثم قدم سَبط بنيامين حسب عشائره فاختار عشيرة مطري، ثم قدم عشيرة مطري فاختار منهم شاءول بن قيس؛ فوقف شاءول بين الشعب فكان أطول قامة من كل الشعب؛ فهتف الجميع وقالوا: ليحيا الملك.
وقد عمد شاءول من فوره لتشكيل جيش دائم محترف؛ فاختار بضعة آلاف قسمهم إلى ثلاث فِرق؛ فرقة مع ابنه يوناثان وفرقتَين معه؛ فمضى يوناثان وضرب أنصابًا للفيليستيين كانوا قد نصبوها في جبع، فلما سمع الفيليستيون تجمَّعوا لمحاربة إسرائيل فارتعد الشعب كله. وكان شاءول في الجلجال يعِد العُدة لصد هجوم الفيليستيين، وينتظر وصول صموئيل لكي يقدم ذبائح السلامة ويُصعد محرقات للرب على ما تنص عليه الشريعة قبل التوجُّه إلى القتال، وهي مهمة يقوم بها الكاهن أو النبي. ولكن صموئيل تأخر وأتباع شاءول بدءوا بالتفرُّق عنه، فما كان منه إلا أن ذبح بنفسه، وأوقد وأصعد محرقات للرب، ولما انتهى إذ بصموئيل مُقبِل فخرج شاءول للقائه وتلقِّي بركته؛ فقال له صموئيل: ماذا فعلت؟ فقال شاءول: لأنني رأيتُ الشعب تفرَّق عني، وأنت لم تأتِ في الميعاد، والفيليستيون متجمعون في مخماس، فقلتُ الآن يأتون قبل أن أتضرع لوجه الرب فأصعدت محرقة. فقال صموئيل: قد انحمقت لأنك لم تحفظ وصية الرب إلهك. كان الرب سيثبِّت مملكتك على إسرائيل إلى الأبد، أما الآن فمملكتك لا تصمد، وسينتخِب الرب لنفسه رجلًا حسب قلبه، ويأمره أن يترأس على شعبه.
وهكذا حكم يهوه على مُلك شاءول بالزوال مع بدايته. وأما شاءول الذي لم يعلق على تعنيف صموئيل فقد تابع واجباته وكأن شيئًا لم يكن، لقد عمل ما حَسُنَ في عينَيه، وما عمله كان صوابًا. ولكن ما يحسن في عيون الناس ليس بالضرورة حسنًا في عين الرب الذي يطلب الطاعة المطلقة دون مساءلة، وبصرف النظر عن الظروف والملابسات التي تدعو أحيانًا إلى التهاون في الامتثال للشريعة؛ ولذلك فإن التعامل معه لا يصلح إلا بالرياء والمداهنة. وهذا ما أدركه أيوب بعد أن أمضى ردحًا من الزمن يطلب من ربه العدالة بعد أن أنزل به الكوارث واحدة بعد أخرى، ليعرف ما إذا كان هذا الرجل البار يتقيه مجانًا أم لأنه مدَّ له في ماله وماشيته ونسله؛ فقد سرق اللصوص أبقاره وحميره، وضربوا الغلمان الذين يحرسونها بحد السيف، ثم سقطت نار من السماء فأحرقت الغنم ورُعاتها، وهجم فريق آخر من اللصوص على جِماله وأخذوها وضربوا الغلمان بحد السيف، وأخيرًا هبَّت ريح شديدة وهدَمت بيت ابنه الأكبر حين كان يقيم وليمة لإخوته وأخواته؛ فمات أولاد أيوب جميعًا؛ فقام أيوب ومزَّق جُبَّته، وجزَّ شعر رأسه، وخرَّ على الأرض وسجد، وقال: عريانًا خرجت من بطن أمي وعريانًا أعود إلى هناك، الرب أعطى والرب أخذ. وفي كل هذا لم ينسب أيوب للرب جَهالة ولم يخطئ (سفر أيوب، ١: ١٣–٢٢). وكأن هذا كله لم يكن كافيًا؛ فبعد هذه الكوارث التي أصابه بها الرب في ماله ونسله فقد أصابه أيضًا في جسده عندما ضربه بقروحٍ رديئة من رأسه إلى باطن قدمه؛ فجلس أيوب في وسط الرماد يحك جلده بكسرة فخار (أيوب، ٢: ٧). لم ينسِب أيوب للرب جَهالة، ولكنه كان يطالبه بالعدالة: «لماذا تستذنبني؟ أفهِمني لماذا تخاصمني؟ أحسنٌ عندك أن تظلِم، أن ترذل عمل يديك» (أيوب، ١٠: ١-٢). «أيكون الإنسان أبرَّ من الإله، أم الرجل أطهر من خالقه؟» (أيوب، ٤: ١٧). «إن كان من جهة قوة القوي يقول ها أنا ذا، وإن كان من جهة القضاء يقول من يحاكمني؟ إن تبررتُ يحكم على فمي، وإن كنتُ كاملًا يستذنبني … لذلك قلت الكامل والشرير هو يفنيهما» (أيوب، ٩: ١٩–٢٢).
ولكن بدلًا من أن يجيب يهوه عبدَه عن تساؤلاته، ويحتكم إلى عدالته المفقودة، راح يتباهى أمامه بأعمالٍ لا يقدِر عليها إنسان، وبتسلُّطه على عمليات الطبيعة: «أين كنتَ حين أسستُ الأرض؟ أخبر إن كان عندك فهم، من وضع قياسها، أو من مدَّ عليها مطمارًا؟ على أي شيء قرَّت قواعدها، أو من وضع حجر زاويتها؟ عندما ترنَّمت كواكب الصبح معًا وهتف جميع بني الله» (أيوب، ٣٨: ٤–٧). ويغطي هذا الخطاب الطويل الاستعراضي أربعة إصحاحات من ٣٨ إلى ٤١. وهنا أدرك أيوب أن رضا هذا الإله لا يُنال بالبر والإحسان وإنما بالخوف والخضوع؛ لذلك فقد نطق أيوب أخيرًا بالقول الذي أنهى محنته: «قد نطقتُ بعجائب فوقي لم أعرفها … بسمع الأذن سمعت عنك والآن رأتك عيني؛ لذلك فإنني أنكر مقالتي وأندم في التراب وفي الرماد» (أيوب، ٤٢: ١–٥). لقد تخلَّى أيوب عن كبريائه الإنساني، وأظهر ليهوه ما يجب أن يراه في الإنسان، أي: عبد يهوه. وبذلك انتهت العلاقة المتوترة بين الطرفَين، وأعاد يهوه لأيوب صحته، ومنَّ عليه بأملاكٍ جديدة ونسلٍ جديد.
على أن العلاقة بين شاءول ويهوه كانت أكثر حساسية وتعقيدًا؛ فشاءول كان ملِكًا، وبالتالي فإن سلوكه المنفلت عن رقابة الرب الذي يعتبر نفسه الحاكم الوحيد للشعب، لا ينعكس عليه كفردٍ، بل على الشعب وعلى علاقة الشعب بالرب، وسوف يدخل الطرفان في علاقة متوترة دامت عشرين سنة، وسوف يعود شاءول للعمل بما حسُن فيه عينَيه، لا ما حسُن في عينَي الرب، ووَفق المعايير الإنسانية في الخطأ والصواب. وعلى الرغم من أن صموئيل كان ينقل إليه في كل مرة غضب وعربدات يهوه فإنه أحبه بعمق، وكان يراقب مسيرة حياته بإعجابٍ خفيٍّ عبَّر عنه محرر السِّفر بصيغٍ شتَّى؛ فلقد أمضى شاءول حياته في حروب تحريرية متواصلة، وضرب جميع أعدائه حواليه: موآب وعمون وآدوم وملوك صوبة، وحيثما توجَّه غلب، وكانت حربه شديدة على الفيليستيين كل أيامه (صموئيل الأول، ١٤: ٤٧–٥٢).
ثم إن صموئيل جاءه بأمر الرب بمحاربة شعب العماليق، وتطبيق قاعدة التحريم عليهم، والتي استنَّها يهوه لموسى في صحراء سيناء ثم طبَّقها يشوع على أوسع نطاقٍ في فلسطين، وهي تقضي بإفناء كل نفس حية للعدو حتى مواشيه: «هكذا قال رب الجنود: إني افتقدت ما عمل عماليق إسرائيل حين وقف له في الطريق عند صعوده من مصر، فالآن اذهب واضرب عماليق وحرِّموا كل ما له ولا تعفُ عنهم، بل اقتل رجلًا وامرأة، طفلًا ورضيعًا، بقرًا وغنمًا، جملًا وحمارًا … وضرب شاءول عماليق من شور إلى حويلة التي قبالة مصر، وأمسك أجاج ملك عماليق حيًّا، وحرم جميع الشعب بحد السيف، وعفا شاءول والشعب عن أجاج وعن خيار الغنم والبقر والخراف، وعن كل الجيد، ولم يرضوا أن يحرموها، وحرموا كل الأملاك المحتقرة والمهزولة. فكان كلام الرب إلى صموئيل قائلًا: ندمت على أني قد جعلت شاءول ملِكًا لأنه مال عن اتِّباعي، ولم يُقم كلامي. فحزن صموئيل، وصرخ إلى الرب الليل كله» (صموئيل الأول، ١٥: ١–١١).
وفي الصباح كان لا بد مما ليس منه بُدٌّ؛ فبكَّر صموئيل للقاء شاءول العائد من الحرب، وعندما وصل كتم صموئيل عواطفه، وراح يتكلم بلسان الرب؛ فجرى بين الاثنين الحوار التالي (صموئيل الأول: ١٥):
وذهب صموئيل إلى الرامة، أما شاءول فصعد إلى بيته في جبعة شاءول. ولم يعُد صموئيل لرؤية شاءول إلى يوم موته (أي موت صموئيل).
إن الندم والتوبة اللذين أظهرهما شاءول هنا لا يعبِّران عن تغيُّر في موقفه من قراراته لأن بقية سيرته التي سنتابعها تكشف عن ثباته على ذلك الموقف، ولكنه أدرك، مثل أيوب، أن التعامل مع هذا الإله لا يكون إلا بالنفاق. أما لماذا فشل شاءول فيما نجح فيه أيوب؛ فلأن أيوب كان موضع اختبار، وولاؤه موضع شك إلى أن أثبت العكس، أما شاءول فقد كان واضحًا منذ البداية عندما أظهر استقلالية في القرار، ثم أتبع ذلك بانتهاكه لقاعدة التحريم، وما من توبة زائفة يمكن أن تنقذه من مصيره الذي تقرر. لقد اختار الدخول في صراعٍ مع قوة عليا، وخسر في النهاية. وهو في ذلك يشبه بروميثيوس الإغريقي الذي سرق النار الإلهية من السماء ووهبها للبشر، من أجل نقلهم من طور الهمجية إلى طور الحضارة، ولكن كبير الآلهة زيوس الذي كان راغبًا في إبقاء البشرية على جهلها وتخلُّفها، عاقبه بأن قيَّده إلى صخرة في أعلى الجبل، وسلَّط عليه نسرًا ينهش كبده ليل نهار إلى ما لا نهاية. لقد كان مقيَّدًا، أما روحه فكانت طليقة، ولا شيء يرغمه على الخضوع لقوة ظالمة غاشمة.
لقد حل الوقت الآن لكي يختار يهوه ملكًا جديدًا على شعبه بدلًا عن شاءول الذي حلَّت به نقمة سريعة من الرب، الذي أرسل عليه روحًا رديئًا فكانت تنتابه نوبات اكتئاب تتحوَّل أحيانًا إلى جنون مؤقت يدفعه إلى محاولة قتل من يجده أمامه (٢٦: ١١ و١٨: ٢٠). فبعد أن أمضى صموئيل أيامًا طويلة ينُوح على شاءول قال له الرب: «حتى متى تنُوح على شاءول وأنا قد رفضته. املأ قرنك زيتًا، وتعالَ أرسلك إلى يَسَّى في بيت لحم لأني رأيت في بَنيه لي ملِكًا. فقال صموئيل: كيف أذهب؟ إن سمع شاءول يقتلني. فقال الرب: خذ بيدك عجلة من البقر، وقل قد جئت لأذبح للرب، وادعُ يسَّى إلى الذبيحة، وأنا أُعلمك ماذا تصنع، وامسح الذي أقول لك عنه» (صموئيل الثاني، ١٦: ١–٣).
ففعل صموئيل كما تكلم الرب، وجاء إلى بيت لحم؛ فارتعد شيوخ المدينة عند استقباله (لأن ظهور نبي يهوه في أحد الأمكنة قد يكون مقدِّمة لشرٍّ يحِل بهم). وقالوا: أسلام مجيئك؟ فقال: سلام، قد جئت لأذبح للرب؛ فقدسوا أنفسكم وتعالوا معي إلى الذبيحة، ثم قدس يسَّى وبَنيه ودعاهم إلى الذبيحة، وعَبَر يسَّى أبناءه السبعة أمام صموئيل، ولكن الرب لم يختر أيًّا منهم، فقال له صموئيل: أهؤلاء كل الغلمان؟ فقال: بقي الصغير، وهو ذا يرعى الغنم. فقال صموئيل: أرسل وائتِ به. فأرسل وأتى به. وكان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر. فقال الرب لصموئيل: قم امسحه لأنه هذا هو؛ فأخذ صموئيل قرن الزيت ومسحه في وسط إخوته. وحل روح الرب على داود منذ ذلك اليوم (صموئيل الأول، ١٦: ٤–١٣).
مشينا الطريق ذاته الذي سلكه العبرانيون منذ ثلاثة آلاف سنة عند هروبهم من أرض مصر الغنية. هذه البرية المُوحشة التي كنا نجتازها هي البرية التي جاع فيها بنو إسرائيل وعطشوا وتشكُّوا. رحت أتطلَّع إلى الصخور الشاهقة واحدة بعد أخرى، وأدخل الوادي المتعرج بين ذَرى الجبال اللاهبة، وتخيلت أن يهوه القاسي هو الذي حفر هذه السلسلة من الجبال ليصنع ممرًّا له.
قبل أن يعبر يهوه هذه المتاهة لم يكن قد حدَّد هُويته؛ لأن شعبه لم يكن قد تحدَّد بعدُ، وإيلوهيم المتعدد لم يكن بعدُ واحدًا. كان أرواحًا كثيرة لا مرئية بل أسماء تهيم في الجو، وهم الذين نفخوا روح الحياة في العالم وأنجبوا، وبرقوا وأرعدوا، وجاءوا إلى الأرض في هيئة صواعق. لم يكن لديهم موطنٌ، ولم ينتموا لمكانٍ أو قبيلة، لكنهم بالتدريج اكتسَوا لحمًا وعظمًا، وصاروا مرئيين، ولكنهم فضَّلوا سُكنى الصخور الشاهقة، وفرضوا أماكن معينة يُقدَّسون فيها، وقام البشر بتقديم الأضحيات لهم حتى غطُّوا الصخور بالدماء، وذبحوا حتى بكور بَنيهم وبناتهم.
وخلال قرون من الرفاه تحضَّر الجنس البشري، وتحضر إيلوهيم الذي انبثق عن تلك الأرواح القديمة، وصارت القرابين الحيوانية تُقدَّم إليه بدلًا من البشر. وفي الأرض المصرية تعرَّف إيلوهيم الذي تكنَّى بالاسم يهوه على شعبه، وتحنَّن عليهم، وأخرجهم من دار العبودية. لم يعُد مجموعة من الأرواح اللامرئية التي لا تنتمي لمكانٍ أو جماعة، بل صار ربًّا لمجموعة بشرية بعينها هم العبرانيون، الذين قادهم عبر صحراء سيناء إلى الأرض الموعودة. كان أحيانًا يُنزل عليهم المنَّ والسلوى ليأكلوا، وفي أحيانٍ أخرى كان يرسل عليهم سيفًا يفنيهم. ويومًا بعد يوم، وكلما توغَّلوا في الصحراء ازدادت ملامحه قسوةً، ومعاملته لهم ضراوةً. في الليل كان يتقدمهم على هيئة عمودٍ من نار، وفي النهار على هيئة عمودٍ من دخان، وكان يحشر نفسه في تابوت العهد الذي كان اللاويون يحملونه مذعورين؛ لأن اليد التي تلمسه تستحيل إلى رماد.
بينما أنا أقرأ في العهد القديم وصلت إلى العليقة التي كانت تشتعل ولا تحترق، وتخيلت أني أعود إلى دخول الوادي الرهيب الذي شقَّه يهوه بين الجبال لكي يعبره. بدا لي الكتاب المقدس كسلسلة من الجبال متعددة الذُّرى، حيث نزل الأنبياء متمنطقين بالحِبال، ومتلفعين بخِرقٍ بالية. وبينما أن منحنٍ على الكتاب، أقلب الصفحات قافزًا من قمة إلى قمة، تذكرت الفتاة التي حدَّثتني، بشكلٍ مؤثرٍ، عن داود المراهق المتورد ذي الملامح الجميلة، الذي اختاره الله ملِكًا رغم معارضة البشر. وملأ النبي الوقور صموئيل، الذي اعترض بين يدي الله، قلبي بالأسى، ولكي أخفِّف من أساي أخذتُ ورقة، وبدأتُ أكتب:
صموئيل. ناداه الرب.
كان النبي بحزامه الجلدي وأسماله المرقعة يحدق إلى المدينة من علٍ فلم يسمع نداء الله، ووقفت الشمس على علو ذراع فوق الأفق. وكانت بلدة الجلجال الخاطئة تغمغم من تحت وهي محشورة بين صخرتَين حمراوَين في جبل الكرمل بنخيله الممشوق وتينه البري.
– صموئيل. رنَّ صوت الله مرة أخرى. لقد شختَ يا صموئيل يا خادمي الأمين، ألا تستطيع سماعي؟
وارتعش صموئيل، وتقاطع حاجباه الكثيفان غضبًا، وارتجفت لحيته الطويلة المشعَّثة بعنفٍ، وردَّدت أذناه الصدى كمحارتَين، وصهلت اللعنة في جوفه كمُهرة برية: لعنتي. جأر صموئيل وهو يمد ذراعه النحيلة فوق البلدة التي كانت تضحك وتغني وتصخب كعُش من الدبابير. لعنتي على كل من يضحك، لعنتي على القرابين العاصية التي تلطِّخ وجه السماء (إشارة إلى قربان شاءول في الجلجال).
إلهي، يا إلهي. هل انطفأت الصواعق في راحتك البرونزية؟ لقد نفختَ عِللك على الجسد النقي لمليكنا شاءول؛ فسقط على الأرض يرغي كالبزاق، ويفح كسلحفاة. لماذا؟ ما الذي فعله لك؟ إنني أسألك فأجِبني. إذن سلِّط الطاعون على البشر إن كنت عادلًا، واستخرج بذور الرجال من أصلابهم وارشقه على الصخور.
وأرعد الرب للمرة الثالثة: صموئيل، اهدأ وأصغِ لصوتي.
بدأ جسد النبي يرتجف، وحين مال ليستند على الصخرة الملطَّخة بالدم حيث تُذبَح قرابين الله، سمع صرخات الله الثلاث دفعة واحدة. رفع ذراعَيه عاليًا، ونادى: ها أنا ذا يا رب.
– صموئيل، املأ قرنك بالزيت المقدس، واذهب إلى بيت لحم. ودون أن تفتح فمك أو تسمح لأحدٍ بمراقبتك اقرع باب يسَّى.
– لم يسبق لي أن ذهبت إلى بيت لحم؛ فكيف أعرف باب يسَّى؟
– لقد علَّمته ببصمة من دم. اقرع باب يسَّى، ومن أبنائه السبعة اختر واحدًا.
– أيُّهم يا ربي؟ لقد حسر بصري، ولا أستطيع أن أرى جيدًا.
– حين تقابله سيخور قلبك مثل عجل، وهو الذي ستختاره. افرق شعره عن قمة رأسه وادهنه فتوِّجه ملكًا على إسرائيل، لقد تكلمتُ.
– لكن شاءول سيعرف، وخلال عودتي سينصب لي كمينًا ويقتلني.
– وماذا يهمني؟ إني لا أقيم وزنًا لحياة خدَمي، اذهب.
– لا، أنا أرفض.
– امسح العرق عن وجهك يا صموئيل، وتحكم بفكَّيك اللذين يصطكان ثم كلِّمني أنا ربك، إنك تُتَأْتِئ يا صموئيل، تكلَّم بوضوح.
– إنني لا أُتَأْتِئ، لقد قلت إني أرفض أن أذهب.
– إنك تزعق وكأنك خائف، تكلم بنعومة وهدوء، لماذا ترفض أن تذهب؟
– لا لستُ خائفًا، الحب يمنعني من الذهاب؛ فأنا الذي دهنت شاءول ملِكًا على إسرائيل، لقد أحببته أكثر من أولادي. لقد نفختُ روح النُّبوة بين شفتَيه إنه روحي وجسدي، ولن أخونه.
– لماذا تصمت؟ هل فرغ قلب صموئيل بهذه السرعة؟
– أيها الرب القادر لا تلعب بي. اقتلني، لا خيار لك اقتلني.
امتلأت عينا صموئيل بالدم، تمسَّك بالصخرة وراح ينتظر، ثم زأر مرة أخرى: اقتلني، اقتلني.
– يا صموئيل، صار الآن صوت الرب أكثر حنانًا، وبدا وكأنه يستعطفه.
– اقتلني، اقتلني، لا خيار لك.
لا جواب. عبرَت الظهيرة وتحدرت الشمس. ظهر ولد داكن حافي القدمَين. صعد الطريق، واقترب من النبي مرعوبًا وكأنه يقترب من حافة هاوية. وضع وجبة النبي المؤلَّفة من التمر والعسل وجرة من الماء في ظل صخرة، ثم ولَّى الأدبار لاهث الأنفاس. نزل إلى المدينة وتوارى في كوخ أهله المتواضع. انحنت عليه أمه وعانقته، وسألته بصوتٍ مرتجِف: أما يزال … أما يزال … ؟ فأجاب الولد: ما يزال، ما يزال يتصارع مع الرب.
غابت الشمس وراء الجبل، وظهرت نجمة السماء معلَّقة فوق المدينة الخاطئة كجمرة من نار. رأتها امرأة من وراء حصيرة النافذة فصرخت: ستسقط الآن وتُحرق العالم.
وراحت نجوم متلاعبة متوهجة تحُوم فوق جدائل النبي الطويلة كأنها تدور على عجلات غير مرئية، اندفعت وغاصت في شعره، وصدمت صدغه مثل حبات صخر من البرد.
– يا رب، يا رب. ولم يستطع أن ينطق بأكثر من ذلك.
أخذ القرن وملأه بالزيت المقدس، وأمسك بعكازه ذي العُقد، وبدأ نزوله وقطرات الندى تتلامع على لحيته البيضاء كالنجوم. رآه طفلان يلعبان عند أول بيت، وما إن نظرا إلى أسمال النبي المرقَّعة وعمامته الخضراء حتى انطلقا هاربَين: إنه قادم، إنه قادم. وقبعت الكلاب في الزوايا وأذنابها بين سيقانها. وخارت عجلة وهي تمد رقبتها إلى الأرض. هبَّت دفعة من ريح قوية عبَرت المدينة من أقصاها إلى أقصاها. دعت الأمهات أطفالهن من الأزقة، وأُوصدَت الأبواب، وراح صموئيل يتقدم بخطواتٍ واسعة وهو يتمتم: أُحسُّ كأن حربًا معلَّقة فوق رءوس البشر، كأنه الطاعون، أو الله.
كانت الشمس حامية، والغبار يثور من تحت قدمَيه، ويلتف حوله مثل سحابة. وعندما غابت الشمس ارتاح تحت جذع نخلة، واضطجع واضعًا كفَّه اليمنى تحت رأسه، وراح في نومٍ عميق. تجمَّعت حوله الثعالب، ولكنها حين شمَّت رائحته ولَّت مذعورة. وتعلَّقت النجوم فوقه مثل السيوف. استيقظ في الفجر وانطلق من جديد. مرَّت ثلاثة أيام ثم لمعت بيوت بين لحم البيضاء من وراء أشجار النخيل. مرَّ رف حمام فوق رأس النبي تردَّد هنيهة ثم اندفع مذعورًا نحو المدينة.
عند البوابة الكبيرة الشمالية الملفعة بروائح القطعان النتنة، وبِقُربها العميان والمجذومون يتسوَّلون الخبز، كان الشيوخ واقفين بانتظار النبي. ولدى اقترابه همهموا مرتعدين: سيحل الجذام في قريتنا؛ فالله لا ينزل إلى الأرض إلا ليدمر مخلوقاته. تماسك أكبرهم سنًّا، وخطا إلى الأمام خطوة، وقال: أنا سأتحدث إليه.
وصل النبي مع سحابة الغبار التي ترافقه، وأسماله ترفرف مثل راية حربٍ ممزَّقة.
– ما الذي جلبته لنا؟ أسلام أم مذبحة؟
– السلام، اذهبوا إلى بيوتكم وأخلوا الطرقات، أريد أن أعبرها وحدي.
أُخليت الشوارع، وأُوصدت الأبواب. تحرَّى صموئيل الأبواب كلها بدقة وهو يمرر أصابعه عليها. إلى أن اكتشف بصمة الدم على باب آخر بيتٍ في طرف القرية. قرع الباب؛ فنهض يسَّى العجوز مرعوبًا ليفتح للطارق.
– السلام على بيتك يا يسَّى، والصحة لأبنائك السبعة، الله معك.
أجاب يسَّى، وفكه الأسفل يرتجف: فلتتحقق مشيئته.
وظهر رجل ملأ الباب، التفتَ صموئيل إليه، وقد انفرجت أساريره. كان الرجل عملاقًا ذا شعر أسود مجعد وصدر واسع مشعر وفخذَين قويتَين كعمودَين من البرونز. قال يسَّى بفخر: هذا ابني إلياب.
لم يقل صموئيل شيئًا، كان ينتظر من قلبه أن يجأر. لا بد أن هذا هو. قال لنفسه. لا بد أن هذا هو. لماذا لا تتكلم يا رب. وانتظر طويلًا. ثم تفجر الصوت الرهيب في داخله: لمَ هذه الثرثرة؟ روحك قد مالت إليه أليس كذلك؟ ولكني لا أريده. أنا أفحص القلب وأغوص في العمق حتى نقي العظام. لا أريده.
فأمر صموئيل يسَّى أن يأتيه بابنه الثاني، وقد شحبت شفتاه. جاء الابن الثاني، لكن قلب النبي ظل صامتًا وأعماقه ساكنة: ليس هو، ليس هو. راح يخور وهو يرفض الأبناء الستة واحدًا بعد آخر، مثبتًا عينَيه على جباههم وحواجبهم وأفواههم، متفحصًا ظهورهم وركبهم وجذوعهم وأسنانهم كأنهم خرفان، ثم تكوَّم منهكًا على العتبة وصرخ متألمًا: لقد خدعتني يا رب، إنك ماكر دائمًا، ودائمًا لا ترحم. إنك لا تشفق على البشر. اظهر. أنا صموئيل أناديك. لم لا تتكلم؟
اضطرب يسَّى، وجاء إليه قائلًا: ما يزال هناك داود أصغرهم، إنه يرعى الغنم.
– استدعه.
قال الأب: إلياب، اذهب وادع أخاك.
قطب إلياب حاجبَيه ولم يرد؛ فخاطب الأب ابنه الثاني: أبيناداب، اذهب وادع أخاك.
لكن هذا رفض أيضًا، ورفضوا كلهم؛ فنهض صموئيل عن العتبة:
– افتح الباب، أنا سأذهب بنفسي.
– هل أصف لك شكله لتتعرَّف عليه؟
– لا، سأتعرف عليه أكثر من أبيه وأمه.
وفيما هو يصعد الهضبة ويتعثر على الحجارة، بدأ يصب لعناته صارخًا: لا أريد. لا أريد.
ثم لمح شابًّا واقفًا بين غنمه، ذا شعر أحمر متوهجٍ يشع كالشمس المشرقة. توقف وخار مثل عجل. ناداه بلهجة آمرة: تعالَ إليَّ يا داود.
– بل تعالَ أنت إليَّ؛ أنا لا أترك غنمي.
وزأر صموئيل وهو يتقدم ممتلئًا بالنقمة: إنه هو. إنه هو. اقترب منه وأمسك بكتفه، وغاص بأصابعه في ظهره، وفحص ساقه ثم عاد إلى الرأس. فأبعد الصبي رأسه غاضبًا: من أنت؟ ماذا تقصد بفحصك لي؟
– أنا صموئيل خادم الرب. لقد أمرني أن أذهب فذهبت. أنا قدمه وفمه وظِله على الأرض، انحنِ.
ثم تلمَّس قمة رأس الصبي، وسكب الزيت المقدس.
– إني أكرهك، لا أريدك. أنا أحب آخر، لكن رياح الرب تمر من فوقي وضد إرادتي. ها أنا ذا أرفع يدي وأسكب الزيت المقدس على رأسك. داود ملك إسرائيل الممسوح بالزيت. داود ملك إسرائيل الممسوح بالزيت. داود ملك إسرائيل الممسوح بالزيت. وضرب القارورة المقدسة على الحجارة فحطمها. لقد حطمت قلبي بالطريقة ذاتها يا رب، لم أعد راغبًا في العيش.
تترافق قصة صعود داود فيما تبقَّى من سردية سفر صموئيل الأول مع قصة سقوط شاءول، وتتشابك القصَّتان في حبكة درامية مؤثِّرة. لقد كان على شاءول إلى جانب صراعه مع أعداء شعبه أن يتصارع مع العطب الداخلي الذي أصابه به الرب، والذي جعله أحيانًا يتصرف كمجنون، وأن يتصارع مع داود الذي مسحه الرب ملكًا على الرغم من محبَّته له، والإحساس بالأبوة تجاهه، حتى إنه حاول مرارًا قتله. وعندما دافع ابنه يوناثان عن داود أمامه بسبب الصداقة العميقة التي نشأت بين الطرفَين، قال له بصريح العبارة: «ما دام ابن يسَّى حيًّا على الأرض لا تثبت أنت ولا مملكتك» (صموئيل الأول، ٢٠: ٣١). أي أنه كان يأمل في استمرار ملكه وتوريثه ليوناثان من بعده، وإحباط خطة يهوه في إحلال داود محله، وخلال هذه الأحداث مات صموئيل.
وقد التقى شاءول بداود بعد أن مسحه صموئيل ملِكًا عقب نوبة اكتئابٍ شديدة ألمَّت به، فنصحه عبيدُه أن يفتشوا له عن رجلٍ يُحسن الضرب بالعود، ويكون إذا حلَّ عليه الروح الرديء من قِبل الرب أنه يعزف له فتطيب نفسه. فقال واحد من الغلمان: لقد رأيت ابنًا ليسَّى البيتلحمي يُحسِن الضرب، وهو فصيح وجميل والرب معه. فأرسل شاءول رسلًا إلى يسَّى يقول له: أرسل إليَّ ابنك داود الذي مع الغنم. فجاء داود إلى شاءول، ووقف أمامه فأحبه جدًّا، وجعله حامل سلاح له، وكان إذا جاءه الروح الرديء أن داود كان يعزف له فتطيب نفسه (صموئيل الأول، ١٦: ١٤–٢٣).
كان من الممكن لداود أن يبقى شخصية منسية في حاشية شاءول لولا حادثة غيَّرت مجرى حياته؛ فقد جمع الفيليستيون جيوشهم، واصطَّفوا للحرب، ووقف قبالتهم جيش شاءول؛ فخرج رجل مبارز من الفيليستيين اسمه جوليات، طوله ست أذرع مغطًّى بالدروع ومدجَّجًا بالسلاح؛ فوقف وعرض الدخول في مبارزة فردية مع واحدٍ من جيش شاءول تقرر مصير المعركة، ولكن أحدًا لم يجرؤ على منازلته؛ فبقي يتقدَّم ويقف صباحًا ومساءً ويقول الشيء نفسه. وأخيرًا تقدَّم داود، وقال لشاءول: عبدك يذهب ويحارب هذا الفيليسيتي. فقال له شاءول: لا تقدر على محاربته لأنك غلام وهو رجل حرب منذ صباه. ولكن داود أصرَّ وتباهى أمام شاءول بأنه قَتل من قبل أسدًا ودبًّا بعصا الراعي. فنزل شاءول عند رغبته وألبسه دروعه وقلَّده سيفه؛ فعزم داود أن يمشي ولكنه تعثَّر لأنه لم يكن قد تعوَّد لبس عُدة الحرب؛ فنزعها عنه وأخذ عصاه والتقط خمسة حجارة جعلها في جِراب الرُّعاة وحمل مقلاعه بيده وتقدم نحو جوليات؛ فلما رآه استحقره لأنه كان غلامًا وأشقر، جميلَ المنظر، وقال له: ألعلي كلب حتى تأتي إليَّ بعصًا؟ ولعن داود بآلهته ثم تقدَّم للقائه، وأسرع داود نحوه ثم مد يده إلى الجراب وأخرج منه حجرًا ورماه بالمقلاع وضرب جوليات في جبهته فسقط على الأرض؛ فركض داود واستلَّ سيف جوليات وقطع به رأسه. عند ذلك هتف عسكر شاءول ولحقوا بالفيليسيتين الهاربين ونهبوا محلتهم، وجاء داود إلى شاءول ورأس جوليات بيده. وتعلقت نفس يوناثان بن شاءول بداود فخلع العباءة التي عليه، وأعطاها له مع سيفه وقوسه ومنطقته، ونشأت بين الطرفَين صداقة قوية منذ ذلك اليوم. ثم إن شاءول ضمَّه إلى جيشه وجعله رئيس ألف؛ فكان مفلحًا في جميع طرقه، يدخل ويخرج والرب معه، وراحت النساء تهتف له وتحييه بالأغاني، ثم إن شاءول زوَّجه ابنته ميكال.
ولكن شاءول بدأ يخشى من داود لأنه عرف، بطريق الحدس، أن الرب الذي تحوَّل عنه صار إلى جانب داود. وعندما تكررت انتصاراته الحربية، وذاع صيته، تأكد لشاءول صدق حدسه، وراح يفكر بالتخلص منه. وفي أحد الأيام اقتحم عليه الروح الرديء، وجُن في وسط البيت وكان داود حاضرًا؛ فشرَّع شاءول رمحه وضربه به، ولكن داود تحوَّل من أمامه وهرب. ثم إن شاءول راح يخطط لقتل داود فعلم يوناثان بذلك وحذَّر داود فهرب، وراح يتنقل متخفيًا من مكان إلى آخر وشاءول يلاحقه، وفي كل مرة يأتيه خبر عن تواجده في أحد الأمكنة كان يرسل إليه فِرقة من العسكر لقتله، أو يخرج بنفسه لهذه الغاية. وفي هذه الأثناء تجمَّع حول داود عدد من الشباب البطالين المغامرين بلغ عددهم أربعمائة فكان عليهم رئيسًا، وتحوَّل إلى زعيم مرتزقة تؤجِّر خدماتها لمن يطلب، لا سيما الفيليستيين.
ثم إن شاءول علم أن أخيطوب رئيس كهنة يهوه في مدينة الكهنة نوب ومن معه من الكهنة يقدمون المعونة لداود من زادٍ وسلاح؛ فاستدعاهم إليه وقال لرئيس الكهنة: لماذا يا أخيطوب فتنتم عليَّ أنت وابن يسَّى بإعطائك إياه خبزًا وسيفًا، وسألت من الله أن ينصره عليَّ؟ فأجابه أخيطوب: إن عبدك لا يعلم شيئًا من هذا صغيرًا أم كبيرًا. فقال شاءول للسُّعاة الواقفين لديه: دوروا واقتلوا كهنة الرب لأن يدهم أيضًا مع داود. فلم يرضَ عبيد الملك أن يمدوا أيديهم لقتل كهنة الرب. فقال شاءول لدواغ الآدومي رئيس رُعاته الذي نقل إليه خير الكهنة: دُر أنت واقتل الكهنة. فدار عليهم دواغ، وقتل في ذلك اليوم خمسة وثمانين كاهنًا. ثم أرسل شاءول فرقة من الجند دمرت مدينة الكهنة (صموئيل الأول، ٢٢).
عند هذه المرحلة بلغ صراع شاءول مع قدَره أَوجَه، وليس بعد قتله كهنة يهوه سوى مواجهة المصير المحتوم. ولكن قبل أن نأتي إلى ذلك لا بد من إيراد هذه القصة من قصص ملاحقة شاءول لداود؛ لأنها تكشف عن العواطف المتناقضة لدى شاءول تجاه داود؛ فلقد أحبه وفي الوقت نفسه كان مضطرًّا لقتله.
ففي إحدى المرات قيل لشاءول إن داود مختبئ في برية عين جدي؛ فخرج عليه بثُلة من الجنود، فلما وصل إلى المكان شعر بالتعب فرأى مغارة، ودخل ليستريح فيها ولكنه نام. وكانت المغارة عميقة وواسعة وداود وبعض رجاله مختبئون فيها؛ فقال له رجاله إن الرب قد دفع إليه عدوه اليوم، وحرَّضوه على قتل شاءول وهو نائم. فقام داود وقطع قطعة من ثوب شاءول، وقال لرجاله: حاشا لي أن أفعل هذا الأمر بمسيح الرب. ثم أفاق شاءول وخرج من المغارة، فخرج داود وراءه وناداه: يا سيدي الملك. ولما التفت شاءول إلى ورائه سجد داود إلى الأرض، وقال: لقد دفعك الرب ليدي في هذا اليوم وقيل لي أن أقتلك، ولكنني أشفقت عليك، وقلت لا أمد يدي إلى سيدي لأنه مسيح الرب. انظر طرف ثوبك في يدي لتعلم أنني لم أخطئ إليك، ولا أحمل لك شرًّا وأنت تطلب قتلي. يحكم الرب بيني وبينك. فقال شاءول: أهذا صوتك يا ابني داود؟ ثم رفع صوته بالبكاء، وقال لداود: أنت أبرُّ مني لأنك جازيتني خيرًا، وأنا جازيتك شرًّا (صموئيل الأول، ٢٤).
هذا الحوار المؤثر يرسم لنا صورة عن العلاقة الإشكالية بين الطرفَين؛ فداود يخاطبه ﺑ «يا أبي ومسيح الرب»، وشاءول يناديه ﺑ «يا بني»، وكلاهما يُعلن عن رغبته الصادقة في عدم إيذاء الآخر، ولكن الطرفَين مسوقان بقدَرهما من قِبَل الرب القابع في خلفية الأحداث، والتعبير عن العواطف الكامنة في الصدور لن يغيِّر مسار العلاقة بين الطرفَين؛ ولذلك فقد تقسَّى قلب شاءول بعد عودته إلى بيته، وعاد سيرته الأولى في ملاحقة داود.
قبل أن يتوجه شاءول إلى معركته الأخيرة مع الفيليسيتيين ارتكب خاتمة خطاياه وهي استشارة أصحاب الجن والتوابع بدل استشارة الرب؛ فقد قصد امرأة صاحبة جان ليعرف حظوظه في الحرب المقبلة، وطلب منها استخارة روح النبي صموئيل، فقال له صموئيل: لقد شقَّ الرب المملكة من يدك، وأعطاها لقريبك داود. غدًا أنت وبَنوك تكونون معي هنا، ويدفع الرب جيش إسرائيل ليد الفيليسيتيين (صموئيل الأول، ٢٨).
مزودًا بهذه النبوءة المرعبة توجَّه شاءول إلى المعركة عند جبل جلبوع، ودارت رَحى الحرب؛ فهرب رجال إسرائيل من أمام الفيليستيين، وسقط منهم الكثيرون قتلى في جبل جلبوع، فشدَّ الفيليستيون وراء شاءول وبَنيه فقتلوا أبناءه الثلاثة: يوناثان وأبيناداب وملكيشوع. واشتدت الحرب على شاءول فأصابه الرماة وانجرح جدًّا؛ فقال لحامل سلاحه: استلَّ سيفك وَاطْعَنِّي به لئلَّا يأتي هؤلاء الغُلف فيطعنوني ويقبحوني. فلم يشأ حامل سلاحه أن يطعنه؛ فأخذ شاءول سيفه وسقط عليه، ولما رأى حامل سلاحه أنه مات سقط هو على سلاحه أيضًا ومات معه. وفي الغد لما جاء الفيليستيون لتعرية القتلى وجدوا شاءول وبَنيه الثلاثة ساقطين في جبل جلبوع؛ فقطعوا رأسه ونزعوا سلاحه وسمَّروه على سور بيت شان، وأرسلوا إلى أرض الفيليستيين في كل جهة لأجل التبشير في بيت أصنامهم (صموئيل الأول، ٣١).
ولما سمع داود بما حدث رثى شاءول وصديقه يوناثان بالقصيدة التالية: