الفصل الخامس

في أصل الإله اليهودي

ومشكلة القبائل العبرانية

تفتقر الأدبيات الدينية اليهودية (التوراة، والأسفار غير القانونية والتلمود) إلى التأمُّلات اللاهوتية في أصل الآلهة التي نجدها في أساطير الشرق القديم لا سيما الرافدَينية والمصرية؛ لذلك فإن حديثنا هنا عن ميلاد يهوه، ليس بحثًا عن ميلاده في البدايات الأولى للزمن، وإنما هو بحث عن الظهور الأول له في تلك الأدبيات وخارجها، ومتى، وأين، وعن الخصائص التي تميز بها عند ذلك.

يُدعي هذا الإله في كتاب التوراة بالاسم يهوه الذي يُكتَب بالأحرف الساكنة YHWH، وقد ورد في التوراة نحو ٦٦٠٠ مرة، ولكننا لا نعرف الكيفية التي كان ينطقه بها أتباعه؛ لأن اليهود لم يكونوا ينطقون بالاسم إجلالًا لصاحبه، وإنما يستبدلونه لفظيًّا بكلمة أدوناي الكنعانية، التي تعني السيد أو الرب. كما استخدم المحررون التوراتيُّون اسمَين تبادليَّين له، وهما لفظ الجلالة الكنعاني «إيل» الدال على الإله الأكبر، وصيغة الجمع منه وهي إيلوهيم (اللهم عند المسلمين) بمعنى أن إلههم يحوز على قُوى الآلهة طرًّا. ولكن الترجمات الأوروبية والعربية عتَّمت على هذَين الاسمَين؛ فقالت الترجمات العربية «الله» والأوروبية God بالإنجليزية، ومعادِله ببقية اللغات. وقد يرِد الاسم مركبًا بصيغة «يهوه إيلوهيم» التي تُترجَم إلى العربية بصيغة «الرب الإله» وإلى الإنجليزية بصيغة Lord God. وقد يرِد الاسم بصيغة مختصرة وهي «ياه» عندما يُضاف إلى كلمة أخرى، كقولهم «هليلوياه» وهي صيغة للتسبيح تعني المجد ليهوه (وقد بقيت هذه الصيغة مستخدَمة في الليتورجيات المسيحية). أو عندما يرِد في أسماء العلم المركبة التي تحتوي في أحد شطرَيها على الاسم الإلهي، مثل: أودنياه، وأمصياه وعزرياه. وقد تُحذف الهاء ليغدو الاسم أدونيا، أمصيا، عزريا. وهنالك صيغة مختصَرة أخرى هي «يهو» ترِد في أسماء العلم المركبة مثل: يهورام، ويهوياداع، ويهوآش.

أما عن معنى الاسم وجذره اللغوي فإن الباحثين ما زالوا في حيرة من أمرهم؛ فبعد أن تبيَّن لهم عدم وجود جذرٍ مقنِع في اللغة العبرية (كنعانية فلسطين وشرقي الأردن) راحوا يبحثون عن جذرٍ له في اللغات السامية الأخرى، من أوغاريتية وفينيقية وعمونية وموآبية وآرامية، ولكن دون جدوى. وحتى العربية لم تكن بمنأًى عن هذه المحاولات؛ فقال البعض إن الاسم ربما كان من الفعل هوى يهوي، فهو الإله الذي يهوي بصواعقه على الأرض باعتباره شكلًا من أشكال الإله الكنعاني هَدَد إله المطر والصواعق والبروق. ويبدو أننا لن نستطيع التوصُّل إلى رأي قاطع بهذا الخصوص؛ لأن أسماء الآلهة غالبًا ما تكون أقدم من الديانات التي استعملتها، والتصورات الخاصة بإله ما قد تتغيَّر مع الإبقاء على الاسم نفسه.

لم يكن يهوه إلهًا كنعانيًّا ولا آراميًّا، وفيما عدا ورود اسمه مرة واحدة في نقش ميشع ملك موآب بشرقي الأردن على أنه إله السامرة الفلسطينية في القرن التاسع قبل الميلاد؛ فإن ذلك الاسم لم يرِد في أية وثيقة نَصية من ثقافة الشرق القديم، بما في ذلك فلسطين قبل ذلك التاريخ، ثم بدأ يظهر في نصوصٍ قصيرة فلسطينية هي في الغالب رسائل تبدأ بطلب المرسِل بركات يهوه إلى المرسَل إليه مثل قول أحدهم: «إلى سيدي إيلياشيب. عسى يهوه أن يهَبك السعادة والطمأنينة» ثم يدخل بعد ذلك في موضوع الرسالة. أو «إلى سيدي يوآش عسى يهوه أن يهَبك الصحة والعافية في هذا الفصل …»١ وهناك نصوص تبريك قصيرة جدًّا يظهر فيها اسم يهوه إلى جانب اسم الإلهة الكنعانية عشيرة مثل: «لتحل عليك بركة يهوه إله تيمن وعشيرته (his Ashirah).» وقد وُجدت هذه النصوص منقوشة على الصخر أو على كسرات فخارية في موقع خربة الكوم قرب الخليل، وفي موقع عجرود بسيناء الشمالية.٢ أما التراتيل والصلوات الطويلة التي تعطينا فكرة عن طبيعة هذا الإله وخصائصه مما وصلنا من ثقافة وادي الرافدَين ووادي النيل فمفقودة تمامًا خارج كتاب التوراة، وكذلك النصوص الطقسية، مما وصلنا من أوغاريت وإيمار في كنعان، الأمر الذي يجعل من التوراة وثيقتنا الوحيدة عن هذا الإله.
ولكن إذا لم يكن يهوه إلهًا فلسطينيًّا قديمًا فمن أين جاء؟ وما هو موطنه الأصلي؟ هنالك إشارات مبعثَرة في التوراة يمكن أن تدلنا على ذلك الموطن ومنها:
  • «يا رب بخروجك أمام شعبك، عند صعودك في القفر، الأرض ارتعدت» (المزمور ٦٨: ٧). إذن، هناك أرض قفر جاء منها يهوه؛ فما هي؟ تتتابع بعد ذلك تسميات مناطق قفر بعينها:

  • «يا رب، بخروجك من سعير، بصعودك من صحراء آدوم، الأرض ارتعدت … تزلزلت الجبال من وجه الرب» (القضاة، ٥: ٤-٥).

  • «الله (= إيلوهيم) جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران … وكان له لمعان كالنور، له من يده شعاع … وقف وقاس الأرض، نظر فرجفَ الأمم ودُكَّت الجبال الدهرية، وخُسفت آكام القِدم … رجفت شُقق مديان» (حبقوق، ٣: ٣–٧).

  • «جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران» (التثنية، ٣٣: ٢).

هذه الأماكن المرتبطة بيهوه يبدو أنها كانت مقرَّات لعبادته، وكان فيها مقامات دينية لطقوسه، وهي تقع جميعًا في مناطق آدوم إلى الجنوب من البحر الميت، وفي صحراء النقب وصحراء سيناء ومديان في شمال غرب شبه الجزيرة العربية (شرقي خليج العقبة). ولكن موطنه الأصلي كان على الأرجح في مديان؛ حيث أقام موسى ردحًا من الزمن بعد هروبه من مصر عند شخصية غامضة يدعوها النص كاهن مديان، نتبيَّن فيما بعد أنه كان كاهنًا للإله يهوه، ويبدو أنه هو الذي قدَّم موسى إلى عبادة هذا الإله.

أما عن طبيعة إله القفار والصحارى هذا؛ فإن المَقاطِع التي اقتبستُها أعلاه، والتي دلَّتنا على موطنه، تقدِّم لنا أيضًا معلومات عن طبيعته. فعند ظهوره ترتعد الأرض، وتتزلزل الجبال، وتُخسف الآكام، وتتصدع صخور مديان. وهو يتلألأ ويصدر عنه لمعان كالنور، ومن يده تخرج أشعة. أي أننا هنا أمام ظاهرة بركانية لا لَبس في طبيعتها، وهذا ما يتأكد لنا بوضوحٍ من وصف محرر سِفر الخروج لجبل سيناء، أو جبل حوريب في تسمية أخرى، عندما تجلَّى عليه الرب، وكاد يجعله دكًّا. «وكان جبل سيناء كله يُدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار، وصعد دخانه كدخان الأتون، وارتجف كل الجبل جدًّا، وصوت البوق يزداد اشتدادًا» (الخروج، ١٩: ١٨-١٩). ونحن هنا أمام وصف مُعبِّر لبركان ثائر يَرُجُّ الأرض، ويقذف الحُمم، وتصدر عنه أصوات تصم الآذان، شُبِّهت بصوت البوق الذي يزداد اشتدادًا، ودخان يتصاعد منه مثل دخان الأتون. ويبدو أن هذا الجبل كان في منطقة مديان في شمال غرب جزيرة العرب لا في سيناء، وكان اسمه حوريب، وهو واحد من البراكين التي كانت نشِطة في تلك الأيام، والتي تبدو اليوم براكين هامدة. وقد اعتُبر هذا الجبل إلهًا يجب استرضاؤه من قِبَل سكان المنطقة، وتقديم القرابين له لكي يكف أذاه عنهم، وقد بقيت آثارٌ من تلك الصلوات البدائية التي تُرفع للإله البركاني في الصلوات والأدعية التوراتية، ومنها هذه الصلاة المنسوبة إلى داود: «في ضيقي دعوتُ الرب، وإلى إلهي صرخت؛ فسمع من هيكله صوتي، وصراخي دخل في أذنَيه؛ فارتجَّت الأرض وارتعشت، أُسس السموات ارتعدت وارتجَّت لأنه غضب. صعد دخان من أنفه، ونار من فمه أكلت، جمرٌ اشتعلت منه … من الشعاع قدامه اشتعلت جمرُ نارٍ» (صموئيل الثاني، ٢٢: ٧–١٣).

وعلى الرغم من أن شخصية يهوه قد انتقلت من البساطة إلى التركيب، عبر رحلته الطويلة من الصحارى الجنوبية إلى كنعان المتحضرة، واشتملت في داخلها على عدة مستوياتٍ، لم تندمج في شخصية واحدة متكاملة، بل بقيت محتواة في حضور إلهي لا يمكن التنبؤ بالوجه الذي سوف يكشف عنه؛ فإن المستوى البركاني بقي فاعلًا في سلوكه حتى النهاية، ومنه اكتسب عنفه وطبعه الغضوب وهيجانه وردود أفعاله التلقائية التي لا تنجم عن تَفَكُّرٍ وتدبُّر مسبق، وطالما عمل موسى على تهدئته، وجعله يفكر في نتائج تصرفاته.

ويبدو أن جبل حوريب بقي المكان المفضَّل لإقامة يهوه حتى بعد أن التحق بمجمع الآلهة الكنعانية في فلسطين؛ فالنبي إيليا عندما أراد أن يشكو أمره إلى ربه لمَّا ضاق به الأمر في صراعه مع بلاط السامرة الذي كان يشجع عبادة الآلهة الكنعانية على حساب عبادة يهوه، لم يقصده في معبده بأورشليم، وإنما شد الرحال إلى جبل حوريب أربعين يومًا وأربعين ليلة. فلما وصل جبل الرب: «دخل مغارةً ليبيت فيها؛ فكان كلام الرب إليه يقول: اخرج وقِف على الجبل أمام الرب. وإذا بالرب عابر وريح عظيمة وشديدة قد شقَّت الجبال، وكسرت الصخور أمام الرب، ولم يكن الرب في الريح، وبعد الريح زلزلة، ولم يكن الرب في الزلزلة، وبعد الزلزلة نار، ولم يكن الرب في النار، وبعد النار صوت منخفض خفيف يقول: ما لك هنا يا إيليا؟» (الملوك الأول، ١٩).

على الرغم من أن محرر سِفر التكوين، الذي يسرد قصة الخلق وأجيال البشر الأولى، وسلاسل قصص الآباء الأولين من إبراهيم إلى يوسف، قد استخدم الأسماء الثلاثة للإله التوراتي، وهي إيل وإيلوهيم ويهوه؛ فإن ذلك لا يعني أن هذا الإله كان معروفًا في عصر الآباء، بل إن المحرر قد استخدم الاسم أو الأسماء التي يعرفها له دون عناية بالبحث عن الأصول؛ لأن محرر سِفر الخروج الأكثر مصداقية فيما يتعلق بأصل يهوه يُخبِرنا أن الإله الذي تجلَّى لموسى وأمره أن يتوجه إلى مصر ويحرر العبرانيين من تسلُّط الفرعون عليهم، لم يكن معروفًا، لا لموسى ولا للعبرانيين في مصر.

فبينما كان موسى يرعى غنم حميه يثرون كاهن مديان ساق الغنم وجاء إلى جبل الله حوريب (وهذا يدل بوضوحٍ على أن جبل الرب كان في مديان، لا في جنوب الوسط من سيناء، حيث الجبل المعروف بجبل موسى اليوم)؛ فظهر له ملاك الرب «شبح الرب» في لهيب نار من وسط عُليقة، وهي لا تحترق. فمال ليرى هذا المنظر فناداه الرب من وسط العليقة: موسى، موسى. فقال: ها أنا ذا. فقال: اخلع نعليك لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة. ثم قال: أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر، وسمعت صراخهم من أجل مسخريهم فنزلت لأنقذهم من أيدي مسخريهم، وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة تفيض لبنًا وعسلًا. فالآن هلُمَّ فأرسلك إلى فرعون لتُخرج شعبي بني إسرائيل من مصر. فقال موسى: ها أنا آتي إلى بني إسرائيل، وأقول لهم إله آبائكم أرسلني إليكم؛ فإذا قالوا لي ما اسمه، ماذا أقول لهم؟ فقال: هكذا تقول لبني إسرائيل: يهوه إله آبائكم، إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أرسلني إليكم، هذا اسمي إلى الأبد (الخروج، ٣: ١–١٤). وفي الإصحاح السادس بعد أن رجع موسى إلى مصر لتنفيذ المهمة، عاد يهوه للتعريف بنفسه مرة أخرى مع إضافة على خطابه الأول: «ثم كلَّم الرب موسى، وقال له: أنا الرب، وأنا ظهرت لإبراهيم وإسحاق بأني الإله القادر على كل شيء [بالعبرية: إيل شداي]، وأما باسمي يهوه فلم أُعرف عندهم» (الخروج، ٦: ٢-٣). وكما يبدو واضحًا من هذا المقتبس فإن إله الآباء الأولين الذين عاشوا في بيئة سورية كنعانية كان يُدعى إيل، وكلمة إيل في الكنعانية تعني المترئس أو القوي أو صاحب السلطان،٣ ولذلك أضاف إليها المحرر في المقتبس أعلاه صفة القادر على كل شيء (= شداي في النص العبري). كما أن العبرانيين (أو العابيرو كما سأشرح بعد قليل) ذوي الأصول السورية الكنعانية كانوا يعبدون الإله إيل أيضًا في مغتربهم، ولم يكونوا قد سمعوا بيهوه شأنهم في ذلك شأن موسى. وليست المطابقة التي قام بها محرر سِفر الخروج بين الإلهَين سوى تسويغ لتحوُّل العبرانيين في الصحراء من عبادة إيل إلى عبادة إله الصحارى البركاني يهوه، على يد موسى الذي اعتنقها خلال إقامته الطويلة في مديان وتطبُّعه بالطبع الصحراوي.

غير أن هذا الإله مولود سِفر الخروج لا يشبه في شيء إله عصر الآباء الذي كان يدخل في علاقة حميمة معهم، ويساعدهم على حل مشاكلهم حتى العائلية منها. فعندما هربت هاجر جارية سارة زوجة إبراهيم من إذلال سيدتها لها، وجدها الرب عند عين ماءٍ في البرية، وقال لها: يا هاجر جارية ساراي، من أين أتيتِ؟ وإلى أين تذهبين؟ فقالت له: أنا هاربة من وجه مولاتي ساراي. فقال لها: ارجعي إلى مولاتك، واخضعي تحت يدَيها (التكوين، ١٦). وعندما أرسل إبراهيم عبده أليعازر الدمشقي إلى أخيه ناحور في آرام النهرَين ليخطب لابنه إسحاق فتاة من أسرته، وصل أليعازر إلى موطن إقامة ناحور، وأناخ جماله عند عين ماءٍ وقت المساء عند خروج المستقيات؛ فقال للرب: أيها الرب إله سيدي إبراهيم، يسِّر لي اليوم، واصنع لطفًا إلى سيدي إبراهيم. ها أنا واقف على عين الماء وبنات أهل المدينة خارجات ليستقين ماءً؛ فليكن أنَّ الفتاة التي أقول لها أميلي جَرتك لأشرب؛ فتقول اشرب وأنا أسقي جمالك هي التي عيَّنتها لعبدك إسحاق. وهكذا كان، وأدَّى له الرب هذه الخدمة الصغيرة (التكوين، ٢٤).

أما هذا الإله الجديد الذي ابتدأ تاريخه عندما أعلن عن اسمه لموسى؛ فإنه على قُربه المكاني من الشعب كان أبعد عنهم من قبة السماء؛ فعندما تجلَّى لموسى على الجبل لإعطائه الوصية والشريعة قال له: … وتقيم للشعب حدودًا من كل ناحية، وتقول لهم: احترزوا من أن تصعدوا إلى الجبل، أو تمسُّوا طرفه، كلُّ مَن يمس الجبل يُقتَل قتلًا، لا تمسه يدٌ بل يُرجَم رجمًا، أو يُرمى رميًا، بهيمة كان أم إنسانًا لا يعيش (الخروج، ١٩: ١٢-١٣). وعندما رأى الشعب الرعود والبروق وصوت البوق والجبل يدخن، ارتعدوا ووقفوا من بعيد، وقالوا لموسى: تكلم معنا فنسمع، ولا يتكلم معنا الرب فنموت (الخروج، ٢٠: ١٨-١٩). وعندما صنع له موسى خيمة لمسكنه دُعيَت بخيمة المسكن أو خيمة الاجتماع لأنه كان يجتمع بموسى فيها، لم تكن هذه الخيمة مقامًا دينيًّا يقصده الشعب من أجل التعبُّد لإلههم، بل كان محرَّمًا على أحدٍ الاقتراب منها، ولا يدخلها إلا موسى والكهنة من أولاد هارون الذين أُفرِزوا للخدمة الدينية فيها، وحتى هؤلاء فقد كان عليهم التعامل معه بحذرٍ شديدٍ، وأداء الطقوس بدقة؛ لأن الخطأ في أدائها كان يعرِّض صاحبه للموت الآني. وهذا ما حدث لابنَي هارون، ناداب وأبيهو، عندما أخذ كلٌّ منهما مجمرته، وجعلا فيها نارًا، ووضعا عليها بخورًا وقرَّبا أمام الرب نارًا غريبة لم يأمرهما بها؛ فخرجت نار من عند الرب وأكلتهما؛ فماتا أمام الرب (اللاويين، ١٠: ١-٢). وكانت غمامة تغطي المسكن في النهار، وفي الليل كانت النار تتوهج داخل هذه الغمامة (الخروج، ٤٠: ٣٨). وهنا لدينا إشارة واضحة إلى الجبل البركاني الذي تنبعث من فُوهته الأبخرة الكثيفة في النهار، وفي الليل تتوهج النار داخل هذه الأبخرة.

إن قُرب مسكن الرب من بني إسرائيل وسَيره أمامهم في النهار على هيئة عمود من سحاب ليهديهم الطريق، وليلًا على هيئة عمود من النار ليضيء لهم (الخروج، ١٣: ٢١)، لم يخلق لديهم إحساسًا بالحميمية معه حال الآباء الأوَّلين مع إلههم، وإنما ولَّد لديهم إحساسًا طاغيًا بحضورٍ قُدسي ينطوي على تهديدٍ دائم، حضور لا تستطيع الاطمئنان إليه، أو محبَّته بل الخوف منه، وهذا الخوف هو الذي سيكون الناظم الأساسي للعلاقة بين الطرفَين. إن الخوف من هذه الألوهة لا يقتصر على كونه رهبةً طبيعيةً من هُوية ما ورائية غامضة، وإنما يتعدَّى ذلك إلى توقُّع انبثاقها في عالم الواقع، وإحداث أكثر أشكال الرعب هولًا. وقد بدأ إله إسرائيل هذا بالفتك بشعبه، وأفنى منهم الآلاف قبل أن يلتفت إلى إفناء الشعوب الأخرى. وملحمة الخروج، وما تبعها من ملحمة يشوع بن نون، لا يمكننا أن نُطلِق عليها اسمًا أفضل من ملحمة القتل الكبرى.

إن الحديث عن ميلاد يهوه يجرُّنا إلى معالجة مشكلتَين بقيتا حتى الآن موضع جدلٍ بين الباحثين في كتاب العهد القديم، وهما مشكلة العبرانيين ومشكلة موسى.

(١) عبرانيون أم عابيرو؟

وُصِف إبراهيم بالعبراني في إحدى قصص الآباء بسِفر التكوين (١٤: ١٣)، كما استخدم المحرر صفة العبرانيين في الإشارة إلى أولئك الآباء وأسرهم (٣٩: ١٧ و٤٠: ١٥ و٤٣: ٣٢). وفي سِفر الخروج دعا المحرر بني إسرائيل المتواجدين في مصر بالعبرانيين مثلما دعاهم ببني إسرائيل أي ذرية يعقوب الذي دعاه الرب بالاسم الآخر إسرائيل. فمن أين جاءت هذه التسمية؟ لا سيما فيما يتعلق بتلك الجماعة التي وفدت إلى مصر وراء يوسف الابن الحادي عشر ليعقوب، وفق الرواية التوراتية، وأقامت في منطقة الدلتا، وتكاثرت هناك، ثم جرى استعبادهم من قِبَل فرعون لم يكن يعرف يوسف مدة أربعمائة سنة إلى أن حرَّرهم موسى، وأخرجهم من مصر، وكان تعدادهم عندما وفدوا إلى مصر سبعين شخصًا، وتعدادهم عندما خرجوا ستمائة ألف عدا الأطفال. هل هنالك من صلة بين هؤلاء العبرانيين، وبين جماعة معروفة لنا تاريخيًّا؟

لقد كنت فيما مضى ميَّالًا لنفي قصة وجود العبرانيين في مصر وخروجهم منها، واعتبارها جملةً وتفصيلًا أخيولة أدبية بلا أساسٍ تاريخي، ولكنني صرت الآن أكثر اعتدالًا بعد أن عكفت على الربط بين عددٍ من المعلومات تمكِّننا من الاستنتاج بوجود بذرة تاريخية لهذه القصة. إن ملحمة الخروج، بتفاصيلها ومبالغاتها، التي وردت في الكتاب لم تحصل قَط، ولكن شيئًا ما حدث بقي في الذاكرة الشعبية المشوَّشة كان وراء الخيال الجامح لمحرر سِفر الخروج وبقية الأسفار المتصلة به، وهي اللاويين والعدد والتثنية، وإليكم التفاصيل.

لقد لاحظ بعض الباحثين منذ وقتٍ مبكر وجود صِلة لغوية بين تسمية عبران أو عبرانيين (بالعبرية عبريم) وتسمية عابيرو التي نجدها في الوثائق الكنعانية والوثائق المصرية في عصر البرونز الوسيط (١٦٠٠–١٢٠٠ق.م.) والعابيرو كما نفهم من هذه الوثائق كانوا مجموعات تعيش خارج النظام الاجتماعي والسياسي لدويلات المنطقة، وفي مناطق لا تخضع لسلطة واحدة منها، وهم يسكنون في معسكرات خاصة بهم، تحت قيادات عَرَضية وغير ثابتة، تتخذ شكل قرًى مؤقتة. وكانت هذه القرى تُرفد على الدوام بأفرادٍ جُدد يلجئون إليها فُرادى أو مع عائلاتهم لأسباب شتَّى؛ فمنهم فارٌّ من العدالة، أو هارب من الدائنين، أو من فقد بيته لقاء رهن، أو عاطل عن العمل، أو مُسرَّح من الخدمة العسكرية. ومما يدل على أن معسكرات هؤلاء كانت خارج مناطق سيطرة الدول، أن الملك إدريمي ملك حلب وآلالاخ (مطلع القرن الخامس عشر) عندما هرب من وجه أخيه الذي نازعه العرش قد التجأ إلى مناطق العابيرو، حيث أقام متخفيًا في أمان مدة سبع سنوات.٤ ونفهم من وثائق مدينة أوغاريت أن مناطق إقامة العابيرو كانت في المناطق الفاصلة بين مملكة أوغاريت ومملكة الحثيين (حاتي)، حيث لا سُلطة لإحدى المملكتَين عليها؛ ولذلك كان العبيد الفارُّون من أسيادهم يجدون عندها ملاذًا آمنًا لهم.٥ لم يكن لأفراد هذه الجماعات دورٌ محدد في الحياة الاقتصادية؛ فهم في أوقات السلم يقدمون خدمات مؤقتة لأهل المناطق الزراعية، فيعملون في الحصاد أو القطاف أو النقل والحمل أو سياسة الدواب، وقد يعملون في خدمة القوافل التجارية. أما في أوقات الاضطرابات الاجتماعية والفوضى السياسية؛ فكانت تتشكَّل من صفوفهم عصاباتٌ تمارس السلب والنهب، أو فِرق مرتزقة محاربة تؤجِّر خدماتها لمن يدفع. ويبدو أن تسمية عابيرو، التي تُنطَق في بعض لهجات السامية الغربية بصيغة ع ب ر و، جاءت من الكلمة السامية ع ف ر، أو ع ب ر، وهو التراب أو الغبار في العبرية والسريانية والعربية؛ فنقول في العربية عَفِرَ أي صار لونه كالعفر، ونقول عَفَّره أي مرَّغه بالتراب. ولكلمة عفَّر في العربية معنًى آخر وهو المنطقة الخالية وجمعها أعفار. وربما كانت المهن التي يمارسها هؤلاء السبب في إطلاق هذه التسمية عليهم، أو كان لمناطق سكنهم في المناطق الخالية دورٌ في ذلك، وربما هدفت التسمية إلى الإقلال من شأنهم باعتبارهم الفئة الدنيا في التركيب الطبقي الاجتماعي.
وفي وثائق مدينة ماري المدوَّنة باللغة الأكادية، يرِد ذكر العابيرو بصيغة خابيرو نظرًا لعدم وجود حرف العين في الخط المسماري الأكادي، ونعرف عن مجموعتَين من هؤلاء هما بنو يامينا أي أهل الجنوب (قارن مع سبط بن يامين في التوراة، الابن الثاني عشر ليعقوب)، وبنو سمأل أي أهل الشمال. ولدينا من الشواهد النَّصية ما يدل على أن كلمة خابيرو الأكادية هي المعادل لكلمة Sa. Gas السومرية، والتي تدل أحيانًا على أيدٍ عاملة مأجورة تعمل في الحصاد ومهام زراعية أخرى، وقد تدل على جماعات خارجة على القانون تمارس اللصوصية. وفي نص للملك السومري شولجي، يوصف هؤلاء بأنهم جماعة لا يُركن إليها، ولا يمكن الوثوق بها، رجالها يذهبون أينما شاءوا، ونساؤها تمضي الوقت في الغزل. وفي شريعة الملك السومري لبثت عشتار هنالك فترة تتعامل مع أعمال القرصنة الملاحية التي يقوم بها الخابيرو. ونستدل من بعض الوثائق الحثية على وجود جماعات منهم في الجيش تعمل في الحمل والنقل، وما إليها من مهام لوجستية.٦
يظهر العابيرو السوريون في الوثائق المصرية منذ القرن الخامس عشر ق.م. ففي نَص للفرعون أمنحوتب الثاني (١٤٣٦–١٤١٠ق.م.) يصف عودته من حملته المظفرة على سورية، يرِد ذكر العابيرو بين جماعات الأسرى الذين جاء بهم الفرعون، وعددهم ١٧٩ فردًا.٧ ومن الواضح هنا أن هؤلاء كانوا يعملون كمرتزقة لدى حكام الممالك السورية الذين كانوا يقاومون النفوذ المصري في المنطقة.
على أن أغزر الوثائق عن العابيرو تقدِّمها لنا رسائل تل العمارنة، التي وُجدت في أرشيف الملك إخناتون في عاصمته الجديدة التي بناها بموقع تل العمارنة اليوم. ففي أواسط القرن الرابع عشر ق.م. وخلال فترة حكم هذا الفرعون الذي انشغل بإصلاحه الديني عن الاهتمام بشئون الإمبراطورية التي كانت تضم سورية الوسطى والجنوبية، شهدت هذه المنطقة فترة من الاضطرابات بسبب تراخي قبضة مصر عن مناطق نفوذها؛ فانقطع حبل الأمن، وتعطَّلت طريق التجارة، ودخل ملوك الدويلات السورية في حروب ومنازعات. وكان الحثيون الذين يسيطرون على الشمال السوري يذكون نار هذه المنازعات من أجل توسيع مناطق نفوذهم على حساب المصريين. وتعطينا رسائل تل العمارنة المتبادَلة بين الحكام السوريين الموالين لمصر والبلاط المصري صورةً حية عما كان يجري خلال هذه الفترة. وتَظهر في هذه الرسائل شخصية محرِّكة للأحداث، هي شخصية الملك عازيرو ابن عبدي عشيرته (أو عبدو عشيرته) ملك آمورو التي قامت على شاطئ المتوسط بمنطقة طرطوس اليوم مع امتداداتٍ داخلية باتجاه حمص؛ فقد ارتبط هذا الملك بمعاهدة تبعية مع الملك الحثي، ووضع نفسه في خدمة مخططاته التوسُّعية، وراح يحرض ويساعد بقية أمراء بلاد الشام على نزع طاعة مصر. وسأقدم فيما يلي نماذج من هذه الرسائل.٨
يقول الأمير شوارداتا حاكم مدينة حبرون (الخليل) في رسالته ما يلي:

«إلى مولاي الملك الشمس. هكذا يقول شوارداتا خادمك والتراب الذي تحت قدمَيك: ليعلم مولاي أن زعيم العابيرو قد هاجم الأراضي التي وهبني إياها مولاي الملك، ولكنني تمكَّنت من صدِّه. وليعلم مولاي أن كل زملائي (من حكام المدن) قد تخلَّوا عني، ولم يقف إلى جانبي في مواجهة العابيرو إلا عبدي هيبة. لقد هبَّ لمساعدتي في البداية كلٌّ مِن زرواتا أمير عكا وإندراوتا أمير أكشف بخمسين عربة بعد أن تعرضت لغزوات العابيرو، ولكنهما انقلبا ضدي بعد ذلك. أتمنى على مولاي الملك أن يوعز إلى القائد نيهامو بالوقوف إلى جانبي لكي نسترجع أراضي الملك إلى حدودها السابقة.»

ولقد لفت نظري منذ اطلاعي على رسائل تل العمارنة وجود أسماء حكام تنتمي إلى الذخيرة اللغوية الهندو-أوروبية مثل شوارداتا وزرواتا وإندراوتا الواردة في هذه الرسالة، وأسماء وردت في نصوص أخرى مثل بيريديا وزاتانا وزيميريدا، وذلك إلى جانب أسماء تنتمي إلى الذخيرة السامية مثل رب عدي وأليميلك وميلكيلو وبعلو، وقد بقيت هذه الظاهرة مستمرة حتى القرن التاسع قبل الميلاد، ولم أجد حتى الآن باحثًا اهتم بهذه المسألة، وتتبَّع أصول هؤلاء الحكام الآريين.

ولدينا ست رسائل من حاكم أورشليم المَدعو عبدي هيبة (وهو اسم سامي) يقول في إحداها بعد المقدمات: «انظر يا مولاي إلى ما فعله ميلكيلو وشوارداتا بأراضي الملك؛ لقد دفعا بقواتٍ من جازر ومن جَت ومن كيلة (مدن فلسطينية)، واستولوا على أراضي روبوتو، وصارت أملاك مولاي بيد العابيرو … فليصنع مليكي إلى خادمه، ويرسل قواتٍ تعيد الأراضي المسلوبة إلى مولاي الملك، وإذا لم تنجدني قواتكم فإن أملاك مولاي الملك هنا ستئول إلى العابيرو.»

ويبدو أن السلطات المصرية كانت تُرحِّل بعض جماعات العابيرو إلى مصر لسببَين؛ الأول هو التخلص من شغبهم في المناطق التي تديرها في سورية، والثاني الاستفادة منهم كيدٍ عاملة زراعية في بعض المناطق التي تحتاج إلى استصلاح. يدلُّنا على ذلك العثور على رسالتَين بين عددٍ من الرُّقم المسمارية في موقع كامد اللوز بالبقاع اللبناني الجنوبي لم يتم التأكد من تاريخهما، ولكن المرجح أنهما تعودان إلى ما قبل عصر العمارنة بقليلٍ أو بعده بقليلٍ، والمُرسِل هو فرعون لا نعرف اسمه بسبب تشوُّه الرقيم. الرسالة الأولى موجَّهة إلى زلايا أمير دمشق، تحتوي في الجزء الواضح منها للقراءة على الأمر المَلكي التالي: «أرسِل لي العابيرو الذين كتبت لك بشأنهم لكي أسكنهم في كوشار (= بلاد النوبة) ليحلوا محل الذين قمنا بتهجيرهم منها.» والرسالة الثانية موجَّهة إلى أمير اسمه عبدي ملكي تتضمن أيضًا الأمر بإرسال مجموعة من العابيرو إلى مصر، ولكن حالة الرقيم لا تسمح لنا أن نفهم من الرسالة غير ذلك.٩ إن ما نفهمه من مضمون هاتَين الرسالتَين هو أن الفرعون كان يحاول إعادة ترتيب أوضاع إحدى مناطق النوبة، بعد أن حدثت فيها أعمال شغب وتمرُّد، كان من نتيجتها نفي وتهجير عدد من السكان المتورطين في هذه الأحداث، أدَّى إلى إفراغ العديد من القرى من سكانها. وهذا الإجراء كان ذا هدفٍ مزدوج؛ فهو يساعد الفرعون على حل مشكلة الفراغ السكاني في منطقة ذات أهمية اقتصادية لمصر، كما يساعده على حل المشاكل الأمنية في سورية عن طريق إعطاء العابيرو مناطق يستقرون فيها، وتجري الإفادة من مهاراتهم المتنوعة المهدورة في الارتزاق العسكري.
بعد وفاة إخناتون عام ١٣٥٣ق.م. وصعود الأسرة الثامنة عشرة بعد ذلك بقليل، والحملة التي قام بها الفرعون سيتي الأول على سورية عام ١٣٠٠ق.م. والتي أدَّت إلى استقرار الأوضاع فيها لصالح السلطة المصرية، أضحت ميليشيات العابيرو عاطلة عن العمل، ولكن مصادر الرزق انفتحت أمامها مع ارتقاء الفرعون رمسيس الثاني بن سيتي الأول سدة الحكم عام ١٢٩٠ق.م. الذي باشر عددًا من المشاريع العمرانية في الدلتا، كان أهمها بناء عاصمة جديدة له دعاها بي رمسيس. ولدينا الآن عددٌ من الوثائق التي تبيِّن لنا أن جماعات من العابيرو كانوا يعملون في تلك المشاريع.١٠ ولقد ساعدت فترة الجفاف التي مرَّت بها منطقة شرقي المتوسط خلال القرن الثالث عشر على نزوح العابيرو باتجاه مصر؛ فقد أدى هذا الجفاف الطويل إلى إفراغ المناطق الزراعية الحسَّاسة للجفاف من سكانها مثل المرتفعات الفلسطينية والمناطق الواقعة على حواف البوادي، الذين تحوَّلوا إلى الرعي المتنقِّل، أما مصر فقد بقيت في منجاة من هذه الكارثة المناخية بسبب استمرار فيضان نهر النيل. وعلى حد وصف محرر سِفر التكوين الذي يصف المجاعة التي حلَّت بكنعان: «وكان جوع في جميع البلاد، وأما جميع أرض مصر فكان فيها خبز» (التكوين، ٤١: ٥٤).

لقد رحل هؤلاء العابيرو إلى مصر مع عائلاتهم، وجرى إسكانهم في قرًى مؤقتة أُعدَّت لهم. ولعل بإمكاننا أن نقدِّر فترة إقامتهم هناك بأربعين سنة خلال فترة حكم رمسيس الثاني الطويلة التي دامت ٦٥ سنة، وذلك من عام ١٢٩٠ق.م. إلى عام ١٢٢٤ق.م. وعندما انتهت مشاريع البناء، ولم يعُد لوجودهم ضرورة بل على العكس؛ لأن وجود أيدٍ عاملة عاطلة عن العمل يمكن أن يتسبَّب في مشاكل اجتماعية شتَّى، لم تكتفِ السلطات المصرية بتسريحهم من العمل، وإنما عمدت إلى الترحيل الإجباري لهم، وكان بين المرحلتَين جماعات من غير العابيرو أيضًا كانوا مستأجَرين للغاية نفسها.

وبذلك نكون قد عثرنا على جماعة معروفة لنا تاريخيًّا يمكن أن تكون وراء قصة رحيل العبرانيين من أولاد يعقوب إلى مصر وخروجهم منها؛ فقد رحل هؤلاء وَفق الرواية التوراتية بسبب مجاعة حلَّت بأرض كنعان وراء أخيهم يوسف، واستقروا في أرض جاسان، وهي الدلتا المصرية وتكاثروا، ثم إن الفرعون استعبدهم وسخَّرهم في أعمال البناء؛ فبنَوا له مدينتَين، هما مدينة رعمسيس (قارن مع عاصمة رمسيس الجديدة التي دعاها باسمه في النصوص المصرية) ومدينة مخازن فيثوم، وكانت فترة إقامتهم بمصر ٤٠٠ سنة (قارن مع الأربعين سنة التي اقترحناها لوجود العابيرو في مصر) إلى أن خرجوا تحت قيادة موسى، وهو رجل مطلوب للعدالة بسبب جريمة قتل ارتكبها؛ فقادهم نحو سيناء حيث بقوا فيها مدة أربعين سنة قبل أن يتوجَّهوا إلى كنعان. أما عدد الخارجين مع موسى وَفق محرر سِفر الخروج فيبلغ نحو ستمائة ألف ماشٍ من الرجال عدا الأولاد، وصعد معهم لفيف كثير أيضًا من غير العبرانيين (الخروج، ١٢: ٣٧)، وهذا ما يرفع العدد إلى أكثر من مليون شخص. أما وَفق تقديراتنا لعدد الخارجين من العابيرو، ومن جرى تهجيره معهم من الجماعات الأخرى العاملة في مصر؛ فلا يتجاوز الثلاثة آلاف لهجرة لم يلحظها التاريخ ولا سجلات مصر الفرعونية، ويمكن أن نرفع الرقم إلى ستة آلاف إذا أخذنا بعين الاعتبار رقم الستمائة ألف الذي أورده المحرر التوراتي. وقد اعتمد هؤلاء في تحصيل معاشهم على الرعي المتنقِّل، وأقاموا في عدة مناطق في سيناء الشاسعة لا سيما في مديان حول جبل حوريب قبل أن يقرروا التوجه شمالًا نحو كنعان. وكانت فلسطين تشهد عودة الاستيطان إليها بعد انحسار موجة الجفاف؛ فاختاروا الاستقرار في مناطق المرتفعات المحاذية لوادي الأردن، وهناك انضموا إلى جماعات أخرى عائدة، ربما كان جُلهم من السكان الأصليين الذين هجروا مواطنهم خلال الأزمة المناخية.

(٢) لغز موسى

يقول محرر سفر الخروج في روايته لقصة ميلاد موسى، إن الفرعون لما رأى تكاثر العبرانيين خشي إذا صارت حربٌ من انضمامهم إلى أعداء مصر؛ فأصدر أمرًا يقضي بقتل كل مولود ذَكر لهم. وكان رجل من سبط لاوي قد تزوج من امرأة من سبط لاوي أيضًا فولدت ولدًا، ولما رأت أنه حسنٌ أخفته ثلاثة شهور، وبعد ذلك وجدت أنها لن تستطيع إخفاءه أكثر فصنعت له سَفطًا من البردي، ووضعت الطفل فيه ثم وضعته بين الخيزران على حافة النهر، ووقفت أخته من بعيدٍ لتنظر ماذا يقع له. فنزلت ابنة الفرعون إلى النهر لتغتسل وجواريها سائرات معها؛ فرأت السَّفط وأرسلت أَمَتَها لتأتي به، ولما فتحته رأت الولد فإذا هو صبي يبكي فرقَّت له، وقالت: هذا من أولاد العبرانيين، وعزمت على الاحتفاظ به. فجاءت أخته وقالت لها: هل أذهب وأدعو لكِ مرضعًا من العبرانيات تُرضِع الولد؟ فقالت ابنة الفرعون لها: اذهبي. فانطلقت ودعت أم الصبي؛ فقالت لها ابنة الفرعون: خذي هذا الصبي فأرضعيه لي وأنا أعطيك أجرتك. فأخذت المرأة الصبي وأرضعته، ولما كبر جاءت به إلى ابنة الفرعون فاتخذته ابنًا ودَعته موسى لأنها قالت: إني انتشلته من الماء (الخروج، ٢: ١–١٠)، وهكذا شبَّ موسى، وكبر في البلاط الملكي، وتربَّى كأميرٍ فرعوني.

تقوم هذه القصة الافتتاحية من سلسلة قصص موسى (في أسفار الخروج واللاويين والعدد والتثنية) على عدد من العناصر الشائعة في الأدب الشعبي، شرقًا وغربًا، والمتعلقة بميلاد السلَف الذي تنتمي إليه الجماعة أو أحد الأبطال البارزين فيها. فالطفل إما يُوضَع في سلة تطفو على الماء، أو يُترك في غابة أو برية فتقوم ذئبة أو غزالة بإرضاعه، أو يجده حطَّاب فقير فيضمه إلى بيته. وهذا الطفل إما أن يكون من أصل عامي ثم تتعهده أسرة نبيلة بالتنشئة، ويغدو واحدًا من أفرادها، أو يكون من أصلٍ مَلكي ثم تتعهده أسرة فقيرة حتى يكبر، ويتعرَّف على أصله، ويعود للمطالبة بحقوقه. ويتعدد الدافع إلى التخلص من الرضيع؛ فهو إما مؤامرة داخل القصر المَلكي، أو غيرة الزوجة الأولى من ولادة الزوجة الثانية، أو نبوءة عن قيام المولود الجديد بقتل الأب والاستيلاء على العرش.

القصة الثانية من سلسلة قصص موسى تنقلنا بشكلٍ مفاجئ من موسى الطفل إلى موسى الشاب الذي شبَّ في البلاط وهو عارف بأصله العبراني: «وكان في تلك الأيام لما كبر موسى أنه خرج إلى إخوته (العبرانيين المسخَّرين)، ونظر في أثقالهم؛ فإذا برجلٍ مصري (أحد رؤساء السُّخرة) يضرب رجلًا عبرانيًّا من إخوته؛ فالتفتَ يمينًا وشمالًا فلم يرَ أحدًا فقتل المصري، وطمره في الرمل. ثم خرج في اليوم التالي فإذا برجُلَين عبرانيَّين يتضاربان؛ فقال للمعتدي لماذا تضرب صاحبك؟ فقال: من أقامك علينا رئيسًا وحاكمًا؟ أتريد أن تقتلني كما قتلت المصري؟ فخاف موسى، وقال: إذن الخبرُ قد ذاع» (الخروج، ٢: ١٠–١٤). وهكذا في أول ظهور لموسى الشاب على مسرح الحدث، نراه يرتكب جريمة لم يكن مضطرًّا إليها. لقد قال له المعتدي: من أقامك علينا رئيسًا؟ ولكنه أقام نفسه قاضيًا، وقضى بالموت من أجل جنحة لا يستحق مرتكبها مثل هذه العقوبة في شرائع الإنسان قديمها وحديثها.

القصة الثالثة تتحدث عن هرب موسى إلى صحراء مديان خوفًا من أن يناله العقاب على جريمته: «وسمع فرعون بهذا الخبر فطلب أن يُقتَل موسى؛ فهرب موسى من وجه فرعون، وصار إلى أرض مديان، وقعد عند البئر. وكان لكاهن مديان سبع بنات؛ فجئن وملأن المساقي ليسقين غنم أبيهن؛ فجاء الرعاة وطردوهن؛ فقام موسى وأنجدهن وسقى غنمهن. فلما جئن رعوئيل أباهن قال لهن: ما بالكن أسرعتن في المجيء اليوم؟ فقلن: رجل مصري خلَّصنا من أيدي الرعاة، وأيضًا استقى لنا وسقى الغنم. فقال لبناته: وأين هو؟ لِمَ تركتن الرجل؟ ادعونه ليأكل طعامًا. فارتضى موسى أن يسكن مع الرجل فزوَّجه صفورة ابنته فولدت له ابنًا فدعا اسمه جرشوم لأنه قال كنت نزيلًا في أرض غريبة. «ثم ولدت غلامًا ثانيًا فسمَّاه أليعازر، وقال لأن إله أبي ناصرني، أنقذني من يد فرعون.»١١ وكان بعد أيام كثيرة أن ملك مصر مات، وتنهد بنو إسرائيل من العبودية، وصرخوا إلى الله من أجل العبودية؛ فسمع الله أنينهم، وتذكَّر عهده مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب» (الخروج، ٢: ١٥–٢٥).

هذه القصص الثلاث التي تجري في ثلاثة أمكنة هي: (١) مساكن العبرانيين. (٢) القصر المَلكي. (٣) صحراء مديان، تفتتح لغز موسى بالإشارة إلى ثلاثة أصول مختلفة لهذه الشخصية الغامضة، وهي: (١) الأصل العبراني. (٢) الأصل المصري. (٣) الأصل المدياني. إن القوة التي رُسمَت بها شخصية موسى في الأسفار الأربعة، ومركزيَّتها في التاريخ التوراتي والعقيدة التوراتية، تدفعنا إلى الاعتقاد بوجود أساسٍ تاريخي لها تراكم فوقه غبار التاريخ. ولربما كانت شخصية موسى التوراتي مزيجًا من ثلاث شخصيات وصلت إلى المحرر من موروثاتٍ مختلفة المنشأ.

  • موسى العبراني: تبتدئ قصة موسى العبراني بقول المحرر: «ومضى رجل من بيت لاوي وتزوج بابنة لاوي فحملت المرأة وولدت له ابنًا، ولما رأت أنه حسن خبَّأته ثلاثة أشهر …». يقدمنا هذا المقطع إلى المستوى الأول والأصلي لقصة موسى؛ فهو مجهول الأب والأم (ابن لاوي وابنة لاوي)، ومجهول الاسم العبراني لأن أمه هنا لم تُطلِق عليه اسمًا. ولعل نسبته إلى اللاويين ليس إلا من قبيل إضفاء الطابع اللاهوتي عليه. وعلى الرغم من أن المحرر في هذه القصة ذكر وجود أخت لموسى فإنه لم يذكر لنا اسمها، مثلما لم يذكر وجود أخ له تفترض الأحداث اللاحقة أنه أكبر منه سنًّا وهو هارون. هذا الغموض الذي يحيط بموسى في هذا المستوى الأصلي الذي وصل إلى المحرر التوراتي، يجعلنا منذ البداية نشك في أصله العبراني.

    في المستوى الثاني للقصة يبدأ المحرر بابتكار أصول لموسى، وذلك في الإصحاح السادس، وبعد أن كبر موسى في بلاط الفرعون ثم هرب وأقام في مديان. وهذا يعني أن القصة قد خضعت لإعادة تحرير من قِبَل شخص أحس بضرورة ابتكار أصول لموسى فقال في سياقٍ شرحه لأنساب رؤساء العشائر: «وهذه أسماء بني لاوي بحسب مواليدهم … إلخ، وأخذ عمرام يوكابد فولدت له هارون وموسى» (الخروج، ٦: ٢٠)، وهنا يغفل المحرر ذِكر أخت لموسى أكبر منه سنًّا، كان من المفترض أن يذكرها قبل هارون وموسى. ولكن بعد عبور البحر، وغرق فرعون وجنوده، تظهر شخصية يدعوها النص بمريم النَّبية أخت هارون: «فأخذت مريم النَّبية أخت هارون الدفَّ بيدها، وخرجت وراءها جميع النساء بدفوفٍ ورقص، وأجابتهم مريم: رنِّموا للرب فإنه قد تعظم، الفرس وراكبه طرحهما في البحر … إلخ» (الخروج، ١٥: ٢٠). ونحن هنا أمام موروث يجعل من مريم النَّبية هذه أختًا لهارون لا أختًا لموسى، وينجم عن ذلك أن صلة الأُخوة بين موسى وكلٍّ من هارون ومريم قد ابتُكرت لاحقًا من أجل خلق روابط عائلية لهذه الشخصية. ولا أدل على ذلك من أن مريم وهارون قد اتحدا معًا في عملية تمرد على موسى خلال ترحالهم: «وتكلمت مريم وهارون على موسى بسبب المرأة الكوشية التي تزوجها؛ لأنه كان قد اتخذ امرأة كوشية. فقالا: هل كلَّم الرب موسى وحده؟ ألم يكلمنا نحن أيضًا؟» فعاقب الرب مريم بأن ضربها بالبرص فصارت بيضاء كالثلج، ولكن موسى توسَّط من أجلها فقصر زمن إصابتها إلى سبعة أيام فقط (العدد، ١٢). هذه المرأة الكوشية (النوبية) التي لم تظهر إلا في حادثة التمرد هذه تختفي بعد ذلك تمامًا، ولا نعرف شيئًا عن نسلها من موسى.

    على أن القصة لن تكتسب طابعها الملحمي إذا اقتصرت على موسى العبراني ولا بد للبطل أن يُزوَّد بنسبٍ مَلكي؛ وهنا نأتي إلى موسى المصري.

  • موسى المصري: إن من أطلق الاسم على موسى هو ابنة فرعون على ما أسلفنا سابقًا، وهذا أول ما يلفت نظرنا إلى الأصل المصري لموسى، والاسم يُلفَظ بصيغة «موس» ويعني طفلًا، ونجده في الأسماء المركبة لبعض أسماء الفراعنة مثل: «رع-موس وتحوت موس، وأح موس»؛ أي طفل أو ابن رع أو تحوت أو أح، وجميعها أسماء آلهة مصرية.١٢ ومع تداول الاسم قد يجري إسقاط الشطر الأول منه، والإبقاء على الشطر الثاني موس أو موسى؛ فالاسم غير عبراني، ولا نجد له جذرًا في اللغة العبرية.١٣

    إن قصة موسى إذا كان عبرانيًّا ما كان لها أن تنسجم مع النمط العام لميلاد البطل الملحمي، وبالتالي تمارس تأثيرها المطلوب، إذا لم يُبتكر لبطلها أصل نبيل أو مَلكي، وربما هذا ما حدث. ولكن ماذا إذا كان موسى مصريًّا فعلًا؟

    في سلسلة قصص موسى لدينا عدد من العناصر التي تقف إلى جانب نظرية الأصل المصري. ولعل أول ما يلفت نظرنا بهذا الخصوص هو اعتذار موسى عن تنفيذ المهمة التي أوكلها الرب إليه بحجة أنه «ثقيل الفم واللسان»، ولن يكون قادرًا على مخاطبة بني إسرائيل: «فقال موسى للرب: استمع أيها السيد. لستُ أنا صاحب كلام منذ أمس، ولا أول من أمس، ولا من حين كلمت عبدك، بل أنا ثقيل الفم واللسان.» فقال له الرب: «اذهب وأنا أكون مع فمك وأعلِّمك ما تتكلم به.» وهنا ضاق الأمر بموسى، وأعلن بصراحة رفضه الذهاب إلى مصر: «استمع أيها السيد، أرسل بيد من تُرسل.» فحمي غضب الرب على موسى، وقال: «أليس هارون اللاوي أخاك؟ أنا أعلم أنه هو يتكلم، وأيضًا ها هو خارجٌ لاستقبالك، فحينما يراك يفرح قلبه، فتكلِّمه وتضع الكلمات في فمه، وأنا أكون مع فمك ومع فمه وأُعلِمكما ماذا تصنعان، وهو يكلم الشعب عنك، وهو يكون لك فمًا» (الخروج، ٤: ١٠–١٧). هذه العلَّة التي يشكو منها موسى قد تكون عيبًا خلقيًّا في النطق، مثل التأتأة أو ما شابهها، ولكنها يمكن أن تُعزى أيضًا إلى غرابة لغة موسى المصرية عن لغة العبرانيين، وبالتالي تؤدي إلى صعوبة التواصل بين الطرفَين.

    وفي الإصحاحات الأولى من سِفر الخروج يبدو لنا موسى في شخصية الساحر أكثر منه في شخصية النبي؛ فهو يحمل بيده عصًا ربما كان مقبضها على هيئة رأس حية، كانت تنتقل من يد موسى إلى يد هارون بشكلٍ متناوب لتفعل المعجزات، وبها شَقَّ موسى البحر لعبور بني إسرائيل، وبها ضرب الصخرة؛ فتفجَّر منها الماء في الصحراء، وشرب الشعب الذي تذمَّر عليه بسبب العطش. وقد كان السحر عنصرًا هامًّا في ديانة مصر القديمة التي احتوت على أكثر المفاهيم الروحانية سموًّا، وفي الوقت نفسه على أكثر أشكال السحر تطرفًا، حتى إنه كان باستطاعة الكاهن الساحر أن يجبر الآلهة نفسها على تقديم العون للإنسان من خلال نُطقه «بكلمات القوة». ويبدو أن شق الماء بالقوة السحرية لم يكن وقفًا على موسى؛ فلدينا قصة مدوَّنة على بردية تعود بتاريخها إلى نحو عام ١٥٥٠ق.م. تحكي عن قيام كاتب الفرعون سنفرو بشق مياه النيل على مرأًى من الفرعون الذي كان يتنزَّه على قاربه، ثم أعاده كما كان.١٤
    ومن أعمال موسى السحرية أنه صنع حية من نحاسٍ، ورفعها على عصًا من أجل شفاء العبرانيين عندما أرسل الرب عليهم حيَّات سامَّة فأمات منهم خلقًا كثيرًا؛ فكان كلُّ مَن نظر إلى حية النحاس يُشفَى (العدد: ٢١). هذه الحية النحاسية كانت من الصور المقدسة عند المصريين، وارتبطت بعبادة الإلهة إيزيس سيدة السحر وحامية السحرة. وفي بعض المَشاهِد الطَّقسية المصوَّرة، نجد الكاهن يحمل بيده عصًا، صُنع مقبضها على هيئة رأس حية، ويُدني ذلك المقبض من رأس تمثال إله لكي يحوِّله من كتلة صماء إلى مسكن للإله الذي يمثِّله.١٥ وهذا الإجراء هو حلقة في سلسلة طقوس تُدعى بفتح فم الإله، وفي بابل بغسل فم الإله. ونظرًا لقداسة الحية النحاسية التي صنعها موسى؛ فقد ظلَّت (أو شبيهتها) تُعبَد في هيكل أورشليم، وتُقدَّم لها القرابين (الملوك الثاني، ١٨: ٤).
    وهنالك جملة عابرة وردت على لسان بنات كاهن مديان عندما قلن لأبيهن لمَّا تعجَّب من عودتهن باكرًا من عين الماء: «رجل مصري خلَّصنا من أيدي الرعاة» (الخروج، ٢: ١٩). وخارج كتاب التوراة لدينا إشارة مفيدة وردت عند المؤرخ اليهودي يوسيفوس في كتابه Jewish Antiquity، أو عاديات اليهود (أواخر القرن الأول الميلادي)، حيث قال إن موسى كان قائدًا عسكريًّا، حقق انتصارات باهرة للجيش المصري.١٦
  • موسى المدياني: في القصة الثالثة من سلسلة قصص موسى يتحوَّل الأمير المصري إلى راعٍ لغنمِ كاهن مديان الذي زوَّجه إحدى بناته، وفي سياق هذه القصة يُسدل الستار على أنه كان أميرًا مصريًّا، لا سيما عند عودته إلى مصر ودخوله على الفرعون. ولا أدل على غموض شخصية موسى المدياني من غموض شخصية كاهن مديان الذي كان كاهنًا للإله يهوه، على ما نفهم من الحوار الذي جرى بينه وبين موسى عندما خرج للقائه خلال مسيرة الخروج؛ فقصَّ عليه موسى ما جرى له مع فرعون، وكيف حرَّر بني إسرائيل، فقال له يثرون: «مبارك الرب الذي أنقذكم من أيدي المصريين … الآن علمت أن الرب «يهوه» أعظم من جميع الآلهة … فأخذ يثرون حمو موسى محرقة وذبائح لله، وجاء هارون وجميع شيوخ إسرائيل ليأكلوا طعامًا مع حمي موسى» (الخروج، ١٨: ٨–١٢). ويتجلَّى غموض شخصية كاهن مديان في تعدد الأسماء التي دُعي بها في النص. ففي أول ظهور له يُدعى رعوئيل: «فلما جئن أباهن رعوئيل قال لهن …» (الخروج، ٢: ١٨). وفي الإصحاح التالي مباشرة يُدعى يثرون: «وكان موسى يرعى غنم حميه يثرون …» (الخروج، ٣: ١). وفي سِفر العدد يظهر لرعوئيل ابنٌ اسمه حوباب: «وقال موسى لحوباب بن رعوئيل المدياني حمي موسى … إلخ» (العدد، ١٠: ١٩). وفي سِفر القضاة يُطلِق المحرر اسم حوباب على كاهن مديان نفسه، ويصفه بالقيني لا بالمدياني: «كان حابر القيني من بني حوباب حمي موسى …» (القضاة، ٤: ١١). وأيضًا: «وصعد بنو القيني حمي موسى من مدينة النخل …» (القضاة، ١: ١٦).
    وهنالك تعتيم على حياة موسى المدياني الأسرية؛ ففي سِفر الخروج هنالك إشارة عابرة إلى زواج موسى من صفورة ابنة كاهن مديان، وإنجابه منها ولدَين هما جرشوم وأليعازر. وفي سِفر العدد هنالك إشارة عابرة أخرى إلى زواجه من امرأة كوشية في سيناء دون مزيدٍ من التفاصيل. وفيما عدا ذلك تتوقف السردية التوراتية عن ذكر كل ما له علاقة بأسرة موسى.١٧ فما الذي حلَّ بسلالة موسى؟ ولماذا أحجم المحررون التوراتيُّون المُولِعون بمتابعة الأنساب عن متابعة أخبار نسل الشخصية المركزية في سرديتهم؟

(٣) السيناريو المحتمل

إن أي سيناريو عن كيفية اجتماع هذه الشخصيات الثلاثة في واحد، لن يكون إلا ضربًا من التخمين. وسوف أغامر بطرح السيناريو المحتمَل التالي. إن شخصية موسى المصري هي الشخصية الرئيسية التي تراكبت فوقها الشخصيتان الأخرَيان. فهو من أسرة نبيلة مقرَّبة من البلاط المَلَكي، إن لم يكن فعلًا على صِلة قرابة حميمة مع الأسرة المَلَكية. انتسب إلى الجيش منذ حداثته، وارتقى إلى مرتبة عُليا، وحقَّق انتصارات جعلته مقربًا من الفرعون، ولكن هذا الوضع المميز جعله عُرضة لمؤامرة داخل البلاط أوغرت عليه قلب الفرعون. وعندما شعر بالخطر على حياته هرب، والتجأ إلى مساكن العبرانيين الذين كانوا يستعدون لمغادرة مصر مع رهطٍ من العُمال الآخرين الذين انتهت أعمالهم في مشاريع رمسيس الثاني، ونظرًا لثقافته وخلفيته العسكرية فقد أوكلت إليه الجماعة أمر قيادتهم؛ فخرج معهم متخفيًا كواحدٍ منهم.

وكان لهذه المجموعة العاملة في مصر مشرفون منهم، اختارتهم إدارة المشاريع ليكونوا صِلة وصل بينها وبين العمال الغرباء، يُدعون في النص بالمدبرين (راجع: الخروج، ٥: ١٤ و١٩)، ومنهم مدبر متميز أحبَّته الجماعة، صار بمثابة الساعد الأيمن لموسى، وجعله المحرر التوراتي أخًا له تحت اسم هارون، وعن طريقه تشكَّلت شخصية موسى العبراني، فربما كان هارون هو ابن اللاويَين عمرام ويوكابد (الخروج، ٦: ٢٠) لا موسى؛ لذلك فقد تواشجت هاتان الشخصيتان حتى صرنا لا نستطيع تمييز أحدهما عن الآخر؛ فهما يكلمان بني إسرائيل معًا، ويدخلان على الفرعون معًا، ويكلمانه معًا: «بعد ذلك دخل موسى وهارون وقالا لفرعون … إلخ»، وهنا لا ندري هل يتكلمان بلسانٍ واحدٍ، أم أن أحدهما ينطق والآخر يسكت، ثم يأتي دور الآخر. والفرعون يكلمهما معًا «فدعا فرعون موسى وهارون، وقال لهما …». وعلى الرغم من أن موسى هو النبي؛ فإن خطاب الرب كان في معظم الأحيان موجهًا لهما معًا: «كلَّم الرب موسى وهارون في أرض مصر قائلًا …»، والاثنان يأتيان بالمعجزات، لا موسى وحده: «إذا كلمكما فرعون قائلًا هاتيا عجيبة تقول لهارون …». والرب يعطي موسى العصا السحرية التي تصنع المعجزات: «وتأخذ في يدك هذه العصا التي تصنع بها الآيات»، ولكننا نرى أن هذه العصا تنتقل من يد موسى إلى يد هارون وبالعكس، وهي تُدعى أحيانًا بعصا هارون لا عصا موسى: «طرح هارون عصاه أمام فرعون وأمام عبيده فصارت ثعبانًا.» «ثم قال الرب لموسى قل لهارون خذ عصاك ومُدَّ يدك على مياه المصريين …» ثم تعود العصا ليد موسى: «فمد موسى عصاه نحو السماء فأعطت رعودًا وبَرَدًا وجمر نار.» «وقال الرب لموسى ارفع أنت عصاك، ومد يدك على البحر وشُقَّه». والأهم من ذلك كله أن الرب عندما غضب على موسى لأنه لم يكلم الصخرة لتعطي الشعب ماءً ليشرب، وإنما ضربها بعصاه قائلًا بشكٍّ: أمِن هذه الصخرة نُخرج لكم ماءً؟ (العدد، ٢٠: ١–١١)، لم يعاقبه وحده، وإنما شمل الاثنين بعقوبته، وحكم عليهما بالموت قبل الوصول إلى الأرض الموعودة.

وفي أكثر من موضعٍ نلاحظ ذلك التأكيد من قِبَل المحرر التوراتي على الوحدة التي لا تنفصم عُراها بين موسى المصري وموسى العبراني الذي هو هارون، ومنها هذا المقطع اللافت للنظر: «هذان هما موسى وهارون اللذان كلَّما فرعون ملك مصر في إخراج بني إسرائيل من مصر، هذان هما موسى وهارون» (الخروج، ٦: ٢٦-٢٧).

(٤) الخروج في مرآة التاريخ

إن وجود أساس تاريخي لقصة الخروج لا يعني أنه حصل بالطريقة الموصوفة في التوراة. وفي هذا يقول الباحث اليهودي ناحوم. م. سارنا، ما يلي:
«إن خُلاصة البحث الأكاديمي بخصوص تاريخية الخروج، تشير إلى أن الرواية التوراتية تقف وحيدة ودون سند من المصادر الخارجية، وهي مليئة بالتعقيدات التي لا تساعدنا على وضع أحداثها ضمن إطارٍ تاريخي مقبول. يُضاف إلى ذلك أن النص التوراتي يشكو من محددات داخلية ناجمة عن مقاصد المحررين التوراتيين؛ فهؤلاء لم يكونوا يكتبون تاريخًا بالمعنى الذي نفهمه اليوم، وإنما يصوغون تفسيراتٍ لاهوتية لأحداثٍ مُنتقاة، وقد صاغوا قصصهم بشكل يتلاءم مع هذه المقاصد؛ لذلك علينا أن نقرأ تلك القصص ونستخدمها وفقًا لذلك. إننا نفتقد إلى مصادر من خارج الكتاب تحكي عن تجربة الإسرائيليين في مصر أو حتى تلمِّح إليها، والشواهد الموضوعية على تاريخية قصة الخروج مفقودة تمامًا بما في ذلك نتائج التنقيب الأثري.»١٨

إن البداية المنطقية لأي استقصاء تاريخي لمشكلة الخروج هي تحديد زمنه التقريبي، الأمر الذي يساعدنا على اختبار أحداث القصة التوراتية على الخلفية العامة لتلك الحقبة. وسنقوم فيما يلي بعرض ثلاث من أهم النظريات التي تصدَّت لوضع هذه القصة ضمن إطار تاريخي.

لدينا أولًا نظرية المؤرخ المصري مانيتو من القرن الثالث قبل الميلاد، والتي تربط بين خروج العبرانيين من مصر وطرد الهكسوس منها، وتطابق بين هاتَين المجموعتَين الإثنيَّتَين. فبعد طرد الهكسوس/العبرانيين جاءوا إلى موقع أورشليم وبنوا لأنفسهم مدينة ومعبدًا.١٩ ولكننا صرنا اليوم نعرف عن فترة حكم الهكسوس أكثر من مانيتو بفضل قراءتنا للنصوص الهيروغليفية التي أتاحتها لنا الاكتشافات الأثرية؛ فقد استولوا على السلطة في منطقة الدلتا نحو عام ١٧٣٠ق.م. ثم وسَّعوا نفوذهم جنوبًا باتجاه مصر العليا. وقد دام حكمهم قرابة قرنَين من الزمان إلى أن قام القائد العسكري أحمس نحو عام ١٥٧٠ق.م. بثورة عليهم، ودمَّر عاصمتهم أفاريس، وطاردهم إلى حدود كنعان الجنوبية عند غزة، ولدينا نص مصري يصف بالتفصيل مجريات هذه الأحداث.٢٠ وقد ارتقى أحمس بعد ذلك إلى منصب الفرعون، وأسس للأسرة الثامنة عشرة الشهيرة في التاريخ المصري. فإذا كان طرد الهكسوس قد تم عام ١٥٧٠ق.م. فإن القول بنظرية مانيتو يقود إلى وضع الخروج في تاريخٍ مبكر جدًّا لا يقبل به أحدٌ من الباحثين اليوم.

النظرية الثانية تستند إلى ما ورد في سِفر الملوك الأول (٦: ١)، من أن الملك سليمان بنى بيت الرب في أورشليم في السنة الأربعمائة والثمانين لخروج بني إسرائيل من مصر، الموافقة للسنة الرابعة من حكمه. وبما أن الملك سليمان (عند من يؤمن بتاريخيَّته) قد اعتلى العرش عام ٩٦٢ق.م. فلا بد أن الخروج قد حصل عام ١٤٣٨ق.م. (٩٦٢ - ٤ = ٩٥٨ + ٤٨٠ = ١٤٣٨)، أي بعد مائة وثلاثين سنة من طرد الهكسوس. وهذا التاريخ يطرح على الباحثين مشاكل جمة؛ فخلال هذه الفترة بلغ التوسُّع الإمبراطوري المصري ذروته، وذلك إبان حكم تحوتمس الثاني وتحوتمس الثالث الذي شنَّ عدة حملات على سورية، وحطَّت جيوشه عند نهر الفرات متحديًا بذلك مملكة ميتاني التي كانت قوة عظمى في ذلك الوقت. لذلك فإن الخروج الموصوف في الكتاب لا يمكن أن يكون قد حدث في تلك الفترة، والبحث الحديث لا يأخذ هذه النظرية بالمعنى الحَرفي، وإنما بالمعنى المجازي الكامن وراءها. فالمحرر التوراتي قد قصد إلى جعل بناء الهيكل يقع في نقطة الوسط بين نهاية السَّبي الأول في مصر ونهاية السبي الثاني في بابل. يُضاف إلى ذلك أن الرقم ٤٨٠ هو حاصل ضرب رقمين يتمتعان برمزية دينية وسحرية هما ١٢ و٤٠، وهو يمثِّل حياة ١٢ جيلًا مضروبًا بالرقم ٤٠ وهو متوسط حياة الجيل الواحد.

النظرية الثالثة تستند إلى ما ورد في سِفر الخروج من أن العبرانيين قد بنَوا للفرعون مدينتَين في الدلتا، إحداهما تُدعى مدينة رعمسيس (رمسيس)، والأخرى مخازن فيثوم. وهذه المعلومة هي الوحيدة التي تحتفظ بذكرى تاريخية لا لَبْس فيها، ذلك أن رمسيس الثاني قد بنى بالفعل عاصمة جديدة له في الدلتا، دعاها بي-رمسيس أي بيت رمسيس، وعلى ذلك فإن الخروج لا بد أن يكون قد حصل في عهد هذا الفرعون. والرأي السائد بين الباحثين الذين يعتقدون بتاريخية الخروج أنه حصل في تاريخٍ لا يتعدى عام ١٢٥٠ق.م. فإذا أخذنا بعين الاعتبار مصداقية الخبر التوراتي عن البقاء في سيناء مدة أربعين سنة؛ فإن دخول العبرانيين إلى أرض كنعان سيكون نحو عام ١٢١٠ق.م.

على أن أخذ الرواية التوراتية على علَّاتها يضعنا أمام مشاكل لا حلَّ لها؛ فرقم الخارجين، كما أوضحنا سابقًا، يزيد عن المليون، أي أننا أمام هجرة أكبر من هجرة الأقوام الهندو-آرية إلى الهند، فكيف حصلت هذه الهجرة رغم أنف المصريين؟ ولماذا لم تلحظها السجلات المصرية التي كانت ترصد كل التحركات من وإلى مصر؟ سوف أترك التعامل مع هذه الأسئلة إلى عالِم الآثار الإسرائيلي إسرائيل فينكلشتاين، وهو من أبرز أفراد الجيل الجديد من الآثاريين الإسرائيليين الذين تخلَّصوا من سطوة النص التوراتي. يقول فينكلشتاين في كتابٍ له مشترك مع المؤرخ الإسرائيلي نيل سيلبرمان صادر عام ٢٠٠١م، ما يلي:

«لقد كانت الحدود بين مصر وكنعان في ذلك الوقت تحت مراقبة شديدة من قِبَل السلطات المصرية التي بنَت سلسلة من الحصون المتوضِّعة على حدود الدلتا الشرقية، وعلى طول الطريق المؤدي إلى كنعان عبر سيناء الشمالية، يفصل بين الواحد والآخر مسيرة يوم واحد. كما كانت مصر تُحكِم سيطرتها على مناطق سورية الوسطى والجنوبية، لا سيما فلسطين التي بنى فيها المصريون حصونًا في المواقع الاستراتيجية، وكانت قطعاتهم العسكرية تجتاز المنطقة إلى ضِفاف الفرات. وهذا يعني أن خروج جماعة بهذا التعداد دون علم السلطات المصرية أو إذن منها أمرٌ مستبعَد تمامًا، ولو أنه حصل لوجب أن يرِد ذِكر له في الأرشيف المصري، ولكن السجلات المصرية الغزيرة من عصر المملكة الحديثة ومن القرن الثالث عشر تحديدًا، لم تأتِ على ذِكر العبرانيين باعتبارهم شعبًا مستعبَدًا في مصر أو خروجهم منها. وفيما يتعلق بصحراء سيناء فإن البعثات الأثرية قامت بمسحٍ شاملٍ لها، ولم تعثر على أثرٍ واحدٍ للعبرانيين الذين تجوَّلوا فيها، لا سيما في المناطق التي أقاموا فيها فترة طويلة مثل منطقة جبل موسى الحالي الذي يسود الاعتقاد بأنه جبل الرب، وموقع قادش برنيع في شمال شرق سيناء، علمًا بأن التنقيبات الحديثة لعلم الآثار اليوم قادرة على اقتفاء أثر البقايا المادية لأصغر الجماعات التي تعيش على الصيد أو الرعي المتنقِّل.»

«ثم ماذا عن الشعوب والممالك التي حاربها موسى بعد صعوده من قادش برنيع نحو شرقي الأردن؟ إن محرر سِفر العدد (الإصحاح ١: ١–٣)، يقول إن ملك عراد الساكن في الجنوب قد حارب القوم وسَبى منهم سبيًّا كثيرًا. ولكن التنقيب في تل عراد قرب بئر السبع دلَّ على أن هذا الموقع كان خاليًا من السكان خلال القرن الثالث عشر وما قبله من عصر البرونز الأخير. والشيء نفسه ينطبق على منطقة بئر السبع. كما يقول لنا في الإصحاح ٢١: ٢١–٢٥، إن ملك حشبون الآموري حارب العبرانيين ليمنعهم من المرور في أراضيه، ولكن التنقيب في تل حسبان، وهو الموقع الحالي لحشبون القديمة، أثبت عدم وجود مدينة ولا حتى قرية صغيرة من القرن الثالث عشر، وما قبله من عصر البرونز الأخير. أما عن ممالك أدوم وموآب وعمون التي يروي المحرر نفسه أنها قاومت موسى؛ فإن التنقيبات الأثرية في شرقي الأردن أثبتت أن هضبة شرقي الأردن كانت متخلخلة بالسكان إبان كامل عصر البرونز الأخير، وأن الممالك المذكورة لم تقُم إلا بعد ثلاثة قرون من عصر الخروج، وأن مناطقها كانت خالية من السكن المستقر.»٢١

إن جُلَّ النقد الذي وجَّهه إليها نقاد هذه النظرية، يتركز على العدد الهائل للخارجين، وعلى أماكن إقامتهم، والحروب التي خاضوها في أثناء توجههم إلى كنعان. ولكننا إذا ضربنا صفحًا عن المبالغة في عدد الخارجين، وقلنا إنه لا يتجاوز الثلاثة آلاف وَفق أدنى التقديرات، والستة وَفق أعلاها، وأنهم خرجوا سلمًا وبرغبة السلطات المصرية، وأن أماكن إقامتهم مجهولة لدينا فيما عدا مديان حيث أقاموا فترة طويلة عند جبل حوريب، وأنهم لم يدخلوا في حروبٍ مع أيٍّ كان إلى أن اجتازوا الأردن، وانضموا إلى بقية الجماعات التي كانت تعيد استيطان مناطق المرتفعات؛ فإن هذه النظرية تبدو مقبولة، وتتفق مع نظريتنا التي طابقت بين العبرانيين والعابيرو.

(٥) ماذا عن يشوع

يُعتبَر سِفر يشوع في السردية التوراتية بمثابة امتداد للأسفار الأربعة التي تقص عن ملحمة الخروج. فبعد وفاة موسى الذي عسكر عند ضِفاف نهر الأردن بعد معاركه المظفرة، أمر الرب يشوع بن نون الساعد الأيمن لموسى بأن يتولى فتح كنعان؛ فعبر الأردن، وحاصر أريحا التي سقطت أسوارها بمعجزة من الرب، فاقتحمها يشوع، وأباد جميع سكانها مع مواشيهم تطبيقًا لقاعدة التحريم التي استنَّها الرب لموسى في شريعته. بعد ذلك تقدم إلى مدينة عاي فاقتحمها، وفعل بأهلها ما فعل بأهل أريحا «وجعلها تلًّا خرابًا إلى اليوم.» عند ذلك هبَّ ملوك الجنوب الخمسة بقيادة ملك أورشليم لصد تقدُّم العبرانيين، والتقى الجمعان عند جبعون، وكانت الغلبة ليشوع الذي قتل الملوك الخمسة، ثم تابع مسيرته فاستولى على كامل الجنوب وصولًا إلى غزة، ورجع إلى معسكره في الجلجال. ومن الجلجال صعد شمالًا نحو الجليل فحارب حِلفًا لملوك الشمال بقيادة ملك حاصور دُرَّة مدن الجليل، فهزمهم وأحرق حاصور بالنار. وعندما استراح من الحرب قام بتوزيع الأراضي المكتسَبة على القبائل العبرانية (ملخص عن سِفر يشوع). فهل حصل مثل هذا الغزو الصاعق لكنعان أواخر القرن الثالث عشر في حملة عسكرية دمَّرت وأحرقت مدنها خلال بضعة أشهر؟ الجواب على هذا السؤال يقدمه لنا علم الآثار. وهنا أعود للاقتباس عن فينكلشتاين باختصار:

لقد كانت المدن الفلسطينية خلال عصر البرونز الأخير (١٦٠٠–١٢٠٠ق.م.) تشهد تدهورًا تدريجيًّا بلغ أَوجَه خلال القرن الثالث عشر، بسبب تبدُّل المناخ وميله ببطء إلى الجفاف الذي طال منطقة شرقي المتوسط وجنوب أوروبا، حتى غدت ظلًّا باهتًا لمدن عصر البرونز الوسيط المزدهِر. فالمدينة النموذجية لم تحتوِ إلا على مقر إداري للملك أو الأمير، ومعبد متواضع، وأبنية قليلة يسكنها الإداريون، وبعض الخانات، وحول المدينة يعيش الفلاحون في قرًى صغيرة مبعثَرة. أما الأسوار الدفاعية الضخمة التي يتحدث عنها سِفر يشوع فلم يكن لها وجود؛ لأن مسئولية الأمن والدفاع كانت تقع على عاتق السلطات المصرية، ولأن حكام تلك المدن لم يكن لديهم فائض من الثروة ينفقونه على المشاريع العمرانية ذات الكلفة الباهظة. وفي سياق القرن الثالث عشر كان عدد كبير من المدن قد هجر من قبل سكانه، وما تبقَّى منها تقلص في الحجم، وراح يقاوم الفناء.٢٢
وفيما يتعلق بالمدن التي دمرها وأحرقها يشوع؛ فإن التنقيبات الأثرية فشلت حتى الآن في تقديم الدلائل على صحة الرواية التوراتية. ففيما يتعلَّق بمدينة أريحا وجد المنقبون أن المدينة قد دُمرت في نهاية عصر البرونز الوسيط نحو عام ١٥٦٠ق.م. وحلَّت محلها قرية صغيرة، ثم هجرت هذه القرية في نهاية القرن الرابع عشر، وتوقف الاستيطان البشري في الموقع حتى زمن متقدم من القرن الثاني عشر. وهذا يعني أن أسوار أريحا التي تهاوت بمعجزة من الرب لم تكن قائمة، ولم يكن هنالك مدينة ليقهرها يشوع. أما مدينة عاي التي جعلها يشوع «تلًّا خرابًا إلى هذا اليوم» وَفق تعبير النص التوراتي، فقد كانت تلًّا خرابًا قبل زمن طويل من حملة يشوع، ولم تكن مسكونة طيلة القرن الثالث عشر، ومدينة جبعون التي جرت عندها المعركة الفاصلة مع حلف المدن الجنوبية لم تكن مسكونة أيضًا مع البلدات التابعة لها والمذكورة في يشوع (٩: ١٧). وفيما يتعلق بحاصور لدينا آثار دمار وحرائق، ولكن مِن مطلع القرن الثالث عشر لا من أواخره. أما بقية المدن التي يفترض أن يشوع قد دمرها، فإن دمارها لم يحصل في أوقات متقاربة، وإنما على مدى قرن من الزمان؛ وبالتالي فإن المسئول عن ذلك ليس يشوع بالتأكيد. ربما كانت الحملات المصرية مسئولة عن بعضها، وربما كان شعوب البحر مسئولين عن بعضها الآخر، عندما وصلوا إلى المنطقة مهاجرين من كريت وجزر بحر إيجة يبحثون عن مواطن جديدة للاستقرار عقب الكارثة المناخية التي طالت مناطقهم.٢٣

يضاف إلى ذلك أن أحداث سِفر يشوع لا تقدِّم لنا معلومة واحدة يمكن أن تساعدنا على وضعها في إطار تاريخي. فمن المفترض أن العبرانيين قد التقوا بشعوب البحر الذين وصلوا إلى فلسطين بعد أن أنهوا المملكة الحثية في آسيا الصغرى التي كانت تحتضر بسبب المجاعة والفوضى السياسية والاجتماعية، وتجمعوا في الجنوب السوري من أجل الانقضاض على مصر؛ فتصدَّى لهم الفرعون مرنفتاح، وقضى عليهم كقوة عسكرية، ولكنه لم يمانع في استقرار بعضهم سلميًّا على الشريط الساحلي الجنوبي، وهم الفيليستيون الذين يظهرون بعد ذلك في سِفر القضاة كشعبٍ مستقر في فلسطين دون الإشارة إلى أصلهم، ويُدْعون بالفلسطينيين. ولكن سِفر يشوع خلا من الإشارة إلى هؤلاء مثلما خلا من الإشارة إلى الوجود المصري في المنطقة؛ فقد كانت مصر خلال تلك الفترة تُحكِم قبضتها على فلسطين، ولها قطعات عسكرية تقيم في حصون خاصة بها في المواقع الاستراتيجية لا سيما وادي يزرعيل «مرج ابن عامر» الذي يصل الساحل بسورية الداخلية. وبالمقابل فإن السجلات المصرية خالية تمامًا من أية إشارة إلى قوة عسكرية، غير شعوب البحر، كانت تعمل في المنطقة.

كل هذا يقودنا إلى نتيجة واضحة، وهي أن أحداث سِفر يشوع ليست إلا ملحمة دبَّجها خيال المحرر التوراتي الذي كان يبتكر قصة عن أصول إسرائيل من منظورٍ ديني لاهوتي، ولكن إذا كان الناتج الأخير لهذا القص الملحمي هو أخيولة أدبية؛ فإن مادة هذه الأخيولة كانت مستمَدة من أحداث تاريخية مبعثَرة في ذاكرة شعبية مشوَّشة، نسجت روايات عن مصائر مدن عصر البرونز الأخير التي غابت وراء الحرائق والدخان إبان ذلك العصر الغامض.

١  راجع مجموعة من هذه النصوص في موسوعة نصوص الشرق القديم:
James Pritchard. Ancient Near Eastern Texts, edt., Princeton University, 1969, pp. 321-322 and 569.
٢  Hershel Shanks, ed., Ancient Israel, Prentice Hall, N.J., pp. 80–83.
٣  بخصوص معنى الاسم إيل انظر:
William Foxwell Albright. Yahweh and the Gods of Canaan, Anchor Books, New York 1965, p. 120.
٤  من أجل نقش إدريمي الذي وُجد على تمثاله راجع:
James Pritchard. op. cit., p. 575.
٥  William Foxwell Albright, op. cit., p. 86.
٦  المرجع نفسه، ص٧٤–٨٥.
٧  James Pritchard, op. cit., p. 247.
٨  James Pritchard, ibid., p. 84 ff..
٩  Wayne T. Pitard. Ancient Damascus, Eisenbrauns, 1987, p. 71.
١٠  من أجل الوثائق النَّصية عن العمال العابيرو في مصر، لا سيما خلال عصر رمسيس الثاني، راجع:
– William Foxwell Albright. op. cit., p. 89.
– Jean Bottero, Le problem des Haibru, Paris, 1944, p. 166 ff.
١١  الجزء الموضوع بين قوسَين هو من الترجمة الكاثوليكية، وغير موجود في الترجمة البروتستانتية التي أجَّلت ذِكر أليعازر إلى موضع آخر في الإصحاح ١٨: ٣-٤.
١٢  جيمس هنري بريستد، فجر الضمير، ترجمة سمير سرحان، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، ص٣٧٦.
١٣  عن سيجموند فرويد استنادًا إلى المعجم اليهودي. راجع:
سيجموند فرويد، موسى والتوحيد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت ١٩٧٣م، ص٨.
١٤  Wallis Budge. Egyptian Magic, Routledge, London 1979, pp. 7–14.
١٥  المرجع نفسه، ص٥٩-٦٠.
١٦  سيجموند فرويد، المرجع السابق، ص٣٨.
١٧  هنالك ذكرٌ عابر لأسماء أولاد جرشوم وأليعازر في سِفر أخبار الأيام الأول، وهذا السِّفر متأخر جدًّا من حيث تاريخ التدوين، ولا يعوِّل عليه الباحثون في العهد القديم.
١٨  N. M. Sarna, Israel in Egypt. In: Hershel Shanks, ed., Ancient Israel, Prentice Hall, New Jersey, 1988, p. 51.
١٩  كتاب مانيتو عن تاريخ مصر مفقود، ولكن مقتبَسات مطوَّلة منه حفظها له مؤلفون كلاسيكيون، لا سيما يوسيفوس اليهودي وأوزيبيوس السوري وجوليوس الأفريقي، وقد تم جمع هذه الأجزاء في كتاب صدر عام ١٩٤١م:
Manetho, Translated by W. G. Waddell, Classical Library, Cambridge.
٢٠  James Pritchard, op. cit., pp. 233-234.
٢١  Israel Finkelstein and Neil Silberman. The Bible Unearthed, Free Press, New York, 2001, pp. 61–64.
٢٢  إسرائيل فينكلشتاين، المرجع السابق، ص٧٧-٧٨.
٢٣  من أجل المعلومات الأركيولوجية عن دمار المدن الفلسطينية راجع:
– Israel Finkelstein. Ibid., ch. 3.
– Kathleen Kenyon. Archaeology in the Holy Land, 1985, pp. 200–220.
– Kathleen Kenyon, the Bible and Recent Archaeology, pp. 33–41.
– J. Callaway. The Settlement in Canaan, in: H. Shanks, Ancient Israel, 1988, pp. 62–67.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥