هذه الوحدة الثقافية لم يقطعها ظهور الآموريين في
المنطقة، وهم قبائل رعوية كانت تتجوَّل في البادية
السورية، ثم استغلت حالة الفوضى السياسية
والاضطرابات الاجتماعية التي ترافقت مع الفترة
الانتقالية من الألف الثالث إلى الألف الثاني قبل
الميلاد، وقامت بتأسيس أسر حاكمة في مدن الشمال
والوسط السوري مثل ماري وكركميش وحلب وقادش وقطنة.
ذلك أن الآموريين لم يأتوا معهم بتقاليد ثقافية
جديدة، وإنما امتصوا بسرعة الثقافة الكنعانية؛
ولذلك لا نعرف عن لغتهم السامية إلا من أسماء العلم
الواردة في النصوص التي وصلتنا من تلك الممالك. وقد
رحلت موجة من هؤلاء الآموريين إلى وادي الرافدَين،
وأسست أسرًا حاكمة في عددٍ من المدن السومرية، ثم
قام المَدعو سومو أبوم بتأسيس أسرة حاكمة في بابل،
قامت فيما بعد بتوحيد وادي الرافدَين تحت سلطتها،
وكان من أشهر ملوكها حمورابي. وهنالك موجة آمورية
أخرى توجَّهت نحو وادي النيل، وهم المعروفون
تاريخيًّا بالهكسوس الذين حكموا مصر مدة قرنَين من
الزمان، وذلك من عام ١٧٣٠ق.م. إلى عام
١٥٧٠ق.م.
لقد كانت فترات الاضطراب والفوضى المصحوبة
بأزماتٍ اقتصادية شاملة وتحركات سكانية، تقدِّم
للقبائل البدوية فرصة ذهبية للانقضاض على السلطة
السياسية في ممالك ودويلات الشرق القديم.
فالآموريون، كما أسلفنا، دخلوا المسرح السياسي تحت
قيادات كارزمية في أعقاب كارثة مناخية ضربت المنطقة
من وادي النيل إلى وادي الرافدَين مرورًا ببلاد
الشام، خلال الفترة الانتقالية من الألف الثالث إلى
الألف الثاني قبل الميلاد، وعندما انجلت الغُمة مع
بدايات الألف الثاني، وعاد المناخ المطري سيرته
الأولى، كان في كل مدينة كبرى حاكم آموري. وبعد نحو
ألف عام شهدت المنطقة كارثة مناخية أخرى طويلة
الأمد أيضًا، أنهت بشكلٍ كاملٍ ثقافة عصر البرونز،
ومهَّدت لعصر الحديد، وجاءت بشعوب البحر من الخارج
وبالآراميين من الداخل، وعندما انجلت الغُمة وجدنا
في كل مدينة سورية، عدا فلسطين والساحل الفينيقي،
أسرةً حاكمة آرامية.
ولدينا من تاريخ سورية الحديث مثال مصغر عن كيفية
استيلاء البدو، في ظروفٍ مشابِهة، على السلطة.
فخلال فترة الاضطراب السياسي التي تلت انسحاب
العثمانيين أمام قوات الثورة العربية الكبرى عام
١٩٢٠م، ثم دخول القوات الفرنسية بعد ذلك بقليل، قام
الشيخ حاجم بن مهيد زعيم عشيرة الفدعان بالاستيلاء
على السلطة في مدينة الرقة، وتأسيس حكومة مستقلة
بالتعاون مع موظفين سابقين في الإدارة العثمانية.
وقد دامت دويلة ابن مهيد من عام ١٩٢٠م إلى عام
١٩٢٢م، ووصلت سلطتها إلى مدينة دير الزور، ولكن
السلطة الفرنسية أنهت هذه الدويلة، وعاد ابن مهيد
إلى مضارب عشيرته. ولو أن فترة غياب السلطة
المركزية طالت أكثر من ذلك لكانت هذه الشخصية
القوية قد أفلحت في خلق دولة تسمَّت باسم «بيت
مهيد» على غرار الممالك الآرامية التي تسمَّت
بأسماء مؤسِّسيها، مثل بيت عديني وبيت بحياني وبيت
أجوشي. وقد رفع الخيال الشعبي ابن مهيد إلى مصاف
شخصية ملحمية، تناقل الناس أخبارها الحقيقية
والمتخيَّلة، على حدٍّ سواء، فترةً طويلةً من
الزمن، وتلقَّف أفراد جيلي في مراهقتهم بعضها، ولعب
ابن مهيد في مخيِّلتنا الدور الذي لعبه روبن هود في
المخيلة الإنجليزية.
أسَّس الآراميون دويلاتٍ لهم في الجزيرة الفراتية
بادئ الأمر، ثم توسَّعوا في غرب الفرات والوسط
السوري. وفي سياق عصر الحديد حلَّت اللغة الآرامية
محلَّ اللغة الكنعانية في جميع أنحاء بلاد الشام،
عدا منطقة الساحل السوري الممتدة من أرواد إلى عكا،
حيث ازدهرت ثقافة كنعانية جديدة في هذه المنطقة
التي عرفها الإغريق باسم فينيقيا، وعدا منطقة
فلسطين وموآب وعمون في شرقي الأردن. وقد بقي هذا
الجيب الكنعاني محافِظًا على هُويته القديمة، ولم
تأخذ اللغة الآرامية بالانتشار فيه إلا بعد عصر
الإسكندر الكبير.
وكانت الكتابة الأبجدية الكنعانية التي طوَّرها
الفينيقيون، ونشروها في العالم القديم التعبير
الأمثل عن الحيوية الخلَّاقة للثقافة الكنعانية؛
فقد وُجدت أولى أشكال هذه الكتابة على شكل مقاطع
قصيرة في مواقع مناجم الأحجار الكريمة التي يديرها
المصريون بصحراء سيناء، ويعمل فيها عُمَّال
وفنيُّون كنعانيون، ويرجع تاريخها إلى القرن الثامن
عشر أو السابع عشر قبل الميلاد. وبعد ذلك ظهرت
أشكال مطورة لهذا الخط السينائي في كلٍّ من فلسطين
وفينيقيا، ومن جبيل وصور انتقلت إلى بلاد اليونان.
وقد اعترف اليونانيون بهذا الفضل من خلال أسطورة
قدموس الكنعاني الذي ارتحل إلى بلادهم، وعلَّمهم
الكتابة الأبجدية. هذه الكتابة الكنعانية المبكرة
اعتمدت على الحروف المرسومة بشكلٍ حر، والتي تحتوي
على منحنيات وزوايا وخطوط متقاطعة، ولكنَّ شكلًا
آخر من الحروف ظهر في أوغاريت أواسط القرن الرابع
عشر مشتقًّا من الكتابة المسمارية الرافدَينية.
ويعتمد المثلث الذي يرسمه الإسفين على الطين الطري،
وكل حرف يحتوي على تكوين خاص به مؤلَّف من عدد من
المثلثات. وعلى الرغم من انتشار هذا الخط خارج
أوغاريت لفترة قصيرة من الزمن، فإنه آل إلى
الانقراض بعد استخدام ورق البردي ثم الورق في
الكتابة، وصمد الخط الفينيقي الذي تبنَّاه
الآراميون ونشروه.
(١) ديانة كنعان
لم نكن على قدرٍ كافٍ من المعرفة بديانة
كنعان قبل اكتشاف مدينة أوغاريت على الساحل
السوري الشمالي عام ١٩٢٩م، بسبب نُدرة النصوص
الأدبية المكتشَفة في المواقع الأثرية السورية،
ولكن التنقيبات التي استمرت في تربة أوغاريت
بزخمٍ قوي حتى ثمانينيات القرن العشرين،
أمدَّتنا بعددٍ لا يُستهان به من النصوص
المنقوشة على رقم طينية بلغة سامية غربية
وأبجدية مسمارية، وبعددٍ أقل من النصوص
المنقوشة بلغاتٍ حورية وأكادية وحثية، الأمر
الذي يدل على كوزموبوليتانية الثقافة
الأوغاريتية. بعض هذه الرُّقم عبارة عن أرشيفات
إدارية ورسائل متبادَلة بين ملوك أوغاريت
وجيرانهم، وبعضها الآخر عبارة عن نصوص طَقسية
ونصوص أدبية ميثولوجية، وهي تنتمي بمجملها إلى
القرن الرابع عشر قبل الميلاد، عندما كانت
حضارة أوغاريت في أوج ازدهارها، وثرائها الذي
حقَّقته من الزراعة ومن التجارة
البحرية.
تجمع لغة أوغاريت إلى بقية اللغات السامية
الغربية (مثل الفينيقية والعمونية والموآبية،
والفلسطينية المَدعوة بالعبرية) أواصر قُربى
تجعل من هذه اللغات أقرب إلى اللهجات منها إلى
اللغات المستقلة، ولكن غزارة النصوص
الأوغاريتية مقارنة بغيرها، جعلت الباحثين في
كتاب العهد القديم يلجئون إليها من أجل فهم
العديد من المفردات الغامضة في النص، لا سيما
تلك التي لم ترِد سوى مرة واحدة، وذلك عن طريق
مقارنتها بمفردات أوغاريتية مماثِلة إذا كانت
الكلمة اسمًا أو صفة، أو البحث عن جذرها
الأوغاريتي إذا كانت فعلًا، وهذا ما ساعد على
تفسير العديد من مواضع الغموض التي بقيت لمدة
طويلة شأنًا خلافيًّا بين الباحثين.
وقد لفت نظر الباحثين بشكلٍ خاص التشابه بين
أسلوب النَّظم الشعري الذي كُتبت به الملاحم
الأوغاريتية، والأسلوب المتَّبع في نَظم
المقاطع الشعرية في العهد القديم، فالشعر
الأوغاريتي الذي يخلو من القافية والتفعيلة،
يعتمد في خلق الإيقاع على التوازي والتكرار؛
فيقسم نَصه إلى وحدات تحتوي كلٌّ منها على عددٍ
من الأسطر أقلها اثنان وأكثرها أربعة، في السطر
الأول هنالك فكرة رئيسية يجري تطويرها في
السطور التالية عن طريق إعادة الصياغة؛ فيكرر
ما ورد في السطر الأول باستخدام المترادفات.
٨ نقرأ في ملحمة البعل مثلًا:
جلس الآلهة أيضًا للطعام،
جلس أبناء القدوس للغداء.
فالسطر الثاني من هذه الوحدة يعيد صياغة ما
ورد في السطر الأول مع استبدال بعض الكلمات
بمترادفاتها: الآلهة = أبناء القدوس، الطعام =
الغداء.
وأيضًا:
ها هم أعداؤك يا بعل،
ها هم أعداؤك سوف تذبحهم،
ها هم أعداؤك سوف تفنيهم.
وأيضًا:
عندما يردِّد البعل كلماته،
عندما يُسمِع صوته القدوس،
ترتج الأرض والجبال تُروَّع،
يرتجف الأعداء أعداء البعل.
وهذا الأسلوب كثير الاستخدام في المقاطع
الشعرية التوراتية، وهذه بعضها:
وحي بلعام بن بعور.
وحي الرجل المفتوح العينين،
وحي الذي يسمع أقوال الله،
الذي يرى رؤيا القدير.
وأيضًا:
أنصتي أيتها السموات فأتكلم،
ولتسمع الأرض أقوال فمي،
ليهطل كالمطر تعليمي،
ويقطر كالطل كلامي.
وأيضًا:
الرب من صهيون يزمجر،
ومن أورشليم يعطي صوته،
فترجف الأرض والسماء.
وأيضًا:
يقوم الله، يتبدَّد أعداؤه،
يهرب مبغضوه من أمام وجهه.
لقد زوَّدتنا ثقافة أوغاريت بمعرفة أوسع
بالوسط الفكري الذي شكَّل البيئة الحاضنة لأدب
العهد القديم، لا سيما ما تعلَّق منه بالآلهة
المعبودة في كنعان وفي إسرائيل، ومعلوماتنا عن
هذه الآلهة مستمَدة بشكلٍ رئيسي من ثلاث ملاحم،
هي: ملحمة البعل وعناة، وملحمة كِرت، وملحمة
أقهات، وهنالك أيضًا ثلاثة نصوص أسطورية غامضة
بعض الشيء بسبب تشوُّه رُقَمها وهي: مولد
الآلهة الجميلة، وزواج إله القمر من نيكال،
ومائدة الإله إيل. ونعرف من هذه النصوص أن عدد
آلهة المجمع الأوغاريتي سبعون، ولكنها لا
تطلعنا إلا على أسماء عشرة منها، أما البقية
فنجدها في النصوص الطَّقسية التي وُجدت منقوشة
على ١٥٠ رقيمًا تتصدَّرها قائمة بأسماء الآلهة
والقرابين التي تقدَّم لكلٍّ منها.
٩
لدينا أولًا ثنائي إلهي يتألَّف من إيل إله
السماء ورئيس مجمع الآلهة، وزوجته عشيرة.
والاسم إيل يعني القوي والمترئس، باعتبار ما
للقوة من أثرٍ على تحقيق الرئاسة،
١٠ ولذلك فقد حمل لقب الثور، أقوى
الحيوانات البرية ورمز الألوهة منذ العصر
الحجري الحديث. تصوِّره الأعمال الفنية
الأيقونية على هيئة رجل وقور مُسن جالس على
العرش، يرتدي غطاء رأس ينبعث منه قرنان، وأمامه
يقف الملك (الشكل
٦-١).
وإلى جانب لقب الثور فقد حمل إيل ألقابًا
أخرى، منها: الحكيم، والسرمدي، وأبو البشر،
وخالق الكائنات، وخالق الأرض، وأبو السنين.
واللقب الأخير هو كناية عن تقدُّمه في السن،
ولذلك يُوصَف في ملحمة البعل بأن شعر رأسه
ولحيته أبيض. وهذا ما وصف به محرر سفر دانيال
الإله يهوه عندما قال: «كنت أرى أنه وُضعت
عروش، وجلس القديم الأيام. لباسه أبيض كالثلج،
وشعر رأسه كالصوف النقي» (دانيال، ٧: ٩). ولكن
إيل في زمن تدوين الملاحم كان قد تحوَّل إلى
ملك يملك ولا يحكم، وارتفع بعل إلى مقام الإله
الأعلى في البانثيون الأوغاريتي؛ ولذلك فقد قرن
الإغريق إيل بإلههم كرونوس الذي عزله ابنه زيوس
عن مقام سيد الآلهة. وكلمة إيل في الأوغاريتية
تُستخدَم في الإشارة إلى الإله الأعلى،
وتُستخدَم أيضًا بمعنى إله، وتُجمَع على
إيليم.
أما عشيرة التي تُدعى بأم الآلهة ومرضعة
الآلهة؛ فقد أنجبت لإيل سبعين إلهًا، وبما أنها
قُرنت في مصر منذ عصر البرونز الوسيط بالإلهة
هاتور البقرة السماوية وحامية النساء وإلهة
الحب والمتعة؛ فقد استعارت منها تسريحة شعرها
المميزة المعروفة بتسريحة هاتور، حيث تنسدل
خصلات الشعر على الكتفَين، ثم تلتف نحو الأعلى،
وبهذه الهيئة نجدها على منحوتة عاجية في وضعية
الوقوف وإلهان يرضعان من ثديَيها (الشكل
٦-٢).
ومن الألقاب الأخرى لعشيرة لقب الربة، وإيلة
مؤنث إيل (= إيلات). وفي إحدى رسائل تل
العمارنة لُقِّبت بسيدة الأسود،
١١ ولذلك نراها في بعض الأعمال
الأيقونية في أوغاريت بهيئة عارية، واقفة على
أسد (الشكل
٦-٣). وفي مصر
حملت لقب قدشو أي القدوسة، وصُوِّرت في هيئة
عارية واقفة على أسد أيضًا، وهو رمز يدل على
السلطة والسيادة.
وفي عصر ازدهار أوغاريت علا شأن ثنائي إلهي
آخر هو بعل وعناة. وكلمة بعل في اللغة
الكنعانية تعني السيد أو الرب، وكانت لقبًا
لإله العاصفة والطقس والمطر الكنعاني هَدد،
الذي عُبد في كنعان منذ عصر إيبلا أواسط الألف
الثالث قبل الميلاد تحت اسم أدو. ولكن الكلمة
تحوَّلت إلى ما يُشبِه اسم العلم لكثرة
استعمالها بدلًا عن هَدد في كنعان الداخلية،
وفي بلاد الرافدَين أيضًا، ولكن بصيغة أدد أو
آداد، وكانت له هناك الوظائف ذاتها. وعلى عكس
الإله الطيب والحكيم والمسالِم إيل؛ فقد كان
بعل إلهًا غضوبًا محاربًا، الرعد صوته والبروق
والصواعق سلاحه الذي يخيف به أعداءه، نراه على
نحتٍ أوغاريتي بارز في وضعية الخطو الجانبية،
وهو يرفع بإحدى يدَيه هراوة أو دبوسًا، ويقبض
بالأخرى على قضيب الصاعقة (الشكل
٦-٤)، وهي الوضعية التي نراه
عليها في كل الأعمال الأيقونية التي صوَّرته في
ثقافات الشرق القديم.
وقد حمل بعل عددًا من الألقاب منها عليان أي
المنتصِر، وعلي
(
Aliyy)
١٢ أي الجبار، وراكب السحاب لأنه يسوق
الغيم الماطر، وسيد الأرض، وبعل صافون لأن
مسكنه في جبل صافون أي جبل الشمال، وهو جبل
الأقرع اليوم، ويقع على مسافة ٧٥كم إلى الشمال
من أوغاريت. ومن ألقابه ابن داجون، وداجون هو
إله كنعاني قديم نجده في نصوص مدينة إيبلا نحو
٢٤٠٠ق.م. رئيسًا لمجمع الآلهة، وكان إلهًا
للقمح بشكل خاص تحت اسم داجان. وقد بقيت كلمة
«دجن» مستعمَلة حتى وقت قريب في اللغة العامية
لمدينة اللاذقية السورية الملاصِقة لموقع
أوغاريت في الدلالة على القمح أو الخبز. وكانت
مدينة توتول عند مصب رافد الخابور على الفرات،
والمعاصرة لإيبلا، من أهم مراكز عبادة الإله
داجان، ونعرف من حوليات الملك صارغون الأول
مؤسس الإمبراطورية الأكادية، أنه توقف عند
توتول في حملته على بلاد الشام، وقدَّم
القرابين للإله داجان فأعطاه السلطة على مناطق
غربي الفرات.
١٣
وكان إله العاصفة السوري هو المعبود الرئيسي
في مملكة ميتاني الحورية تحت اسم تيشوب الذي
حمل جميع خصائص الإله الكنعاني بعل؛ فقد كان
إلهًا للعاصفة والطقس، ومحاربًا سلاحه البروق
والرعود والصاعقة، وله سلطة على المطر.
١٤ يصوِّره ختم أسطواني واقفًا على
ثور في الوضعية التقليدية للإله بعل، وهو يحمل
بيده اليمنى دبوسًا، وبالأخرى شوكة الصاعقة،
وأمامه الملك إيتي تيشوب (الشكل
٦-٥). وقد كانت مدينة حلب من
المراكز المهمة لعبادة الإله هَدد في سورية منذ
عصر إيبلا، ولكن الاسم تيشوب حل محل الاسم هَدد
خلال فترة السيطرة الحورية على المنطقة، وتم
تزويجه من إلهة سورية الشمالية في تلك الفترة
والمَدعوة خيبات.
١٥ ثم استعاد الإله اسمه السابق خلال
عصر الإمبراطورية الآشورية عندما كان بعض ملوك
آشور يتوقفون عند حلب في غزواتهم الموجَّهة نحو
بلاد الشام، ويقدمون القرابين إلى هدد حلب في
معبده الشهير هناك.
١٦
وقد حملت طلائع الآموريين الذين رحلوا من
سورية إلى بلاد الرافدَين معهم الإله هَدد تحت
اسم أداد أو أدد، حيث عُبد هناك بخصائصه
السورية نفسها؛ فنراه على أحد الأختام واقفًا
على ثور حاملًا بيده إناءً يفيض ماءً. كما كان
له حضور في النصوص الميثولوجية؛ ففي أسطورة
الطوفان الكبير كان المطر الغزير الذي أنزله
أحد الأسباب الرئيسية في اندياح الطوفان، وفي
ملحمة أتراحاسيس عندما حاول الآلهة إنقاص عدد
البشر، منع مطره فسادت المجاعة، وهلك عدد كبير
من الناس.
وفي مصر خلال عصر المملكة الحديثة عندما بلغ
التبادُل الحضاري بين مصر وسورية أَوجَه، كان
للبعل حضور قوي في مصر؛ حيث جرت مطابقته مع
الإله سيت، وَوَرد اسمه في النصوص على أنه إله
السموات والرعد وذرى الجبال. وفي التعازيم
السحرية كان اسمه يُستخدَم لطرد العفاريت
الشريرة، يقول المعزم في أحدها: «ليصرعك بعل
بشجرة الأرز التي يرفعها بيده.» كما وُصفت صرخة
الحرب التي يُطلِقها الفرعون بأنها تشبه صرخة
بعل في السماء. وقد تم العثور في موقع الشيخ
سعد قُرب بحيرة طبريا على نَصب تذكاري لرمسيس
الثاني عليه رسمٌ يصوِّره وهو يقدم قربانًا
لإله جبل صافون. ومنذ عصر الأسرة الثامنة عشرة
نجد العديد من أسماء العلم المصرية تحمل في أحد
شطرَيها اسم البعل.
١٧
وفي العصر الهيلينستي مع تأسيس الدولة
السلوقية في سورية، قام الملوك السلوقيون
بمطابقة إلههم الأعلى زيوس مع الإله هَدد،
ودعوا جبل صافون حيث يسكن بجبل كاسيوس،
وقدَّسوا ذلك الجبل مثلما قدَّسه السوريون عبر
تاريخهم. وفي العصر الروماني طابق الرومان
أيضًا إلههم جوبيتر مع الإله هَدد، وبنوا له
المعابد الضخمة التي كان من أشهرها معبد بعلبك،
ومعبد جوبيتر الدمشقي الذي ما زالت بقاياه تحيط
بالمسجد الأموي.
تقدِّم لنا ملحمة البعل وعناة ثلاث قصصٍ عن
صعود بعل إلى سُدة السلطان، تروي القصة الأولى
عن صراع بعل مع الإله الذي يُدعى «يمًّا» تارة،
و«نهرًا» تارة أخرى، وهذان الاسمان يعنيان كما
في العربية البحر والنهر، ولكننا هنا لسنا أمام
بحر ونهر مما نراه في العالم الطبيعي، وإنما
أمام صورة ميثولوجية عن غمرٍ مائي بدئي يحتوي
على الماء المالح والماء العذب في حالة تمازُج،
كما هو الحال في أسطورة التكوين البابلية. وهذا
الغمر البدئي يمثِّل حالة الفوضى والشواش التي
كانت سائدة قبل تنظيم العالم، وليس تغلُّب بعل
على يم في هذه القصة سوى تعبير عن القضاء على
حالة الفوضى والشواش هذه وإحلال النظام في
العالم، وهو النظام الذي سمح بظهور الحياة
الزراعية مبتدأ الحضارة. وخارج قصة الصراع هذه
لدينا في الملحمة مَشاهد تعيد التذكير به، تمثل
يمًّا على هيئة تنين مائي هائل ذي سبعة رءوس،
يقوم بعل بالقضاء عليه. ولربما ساعدنا هذا
المقطع من سِفر أيوب التوراتي، حيث يتباهى يهوه
أمام أيوب بأعماله في الزمن البدئي الهادفة إلى
تنظيم العالم، على فهم مقاصد قصة بعل ويم:
«ومن حجزَ البحرَ بمصاريع حين اندفق
كأنما خرج من الرحم؛ إذ جعلتُ الغيم
لباسًا له والظلمة الداكنة قماطًا،
وفرضتُ عليه أحكامي، وصنعت له بواباتٍ
ومغاليق، وقلت له: إلى هنا تنتهي
كبرياء لُججك ولا تتعدى» (أيوب، ٢٨: ٨–١١).
١٨
القصة الثانية تتحدث عن بناء بيت للبعل،
يعبِّر عن سلطته على عالم الآلهة وعالم البشر،
وقد قام الإله الصانع كوثر-حاسيس إله الحِرف
اليدوية والفنون والتعدين ببناء البيت على قمة
جبل صافون، وجلس فيه البعل ملِكًا. وقد جاء
كوثر-حاسيس من كفتور، وهي جزيرة كريت التي كانت
تشكِّل مع كنعان متحدًا ثقافيًّا واحدًا،
١٩ أما اسمه المركَّب فيعني الماهر
الذكي.
القصة الثالثة تُعبِّر عن الصراع القائم في
هذا الوجود بين قوة الحياة وقوة الموت،
وبالمجاز الأسطوري بين بعل الذي يمثِّل قوة
الحياة الفاعلة في الطبيعة، والإله موت
Mot أي
المَنية، الذي يمثِّل قُوى الجفاف والبوار، وكل
ما من شأنه عرقلة قوة الحياة عن أداء دورها.
فبعد انتصار بعل، وجلوسه على عرش العالم المنظم
عقب اندحار القوى المائية وترويضها، صعد الإله
موت من مملكته في العالم الأسفل متحديًا البعل؛
فأعلن أن لا سلطة لأحدٍ غيره على عالم البشر
والآلهة، فأرسل إليه البعل رسولَين من عنده من
أجل تسوية النزاع بينهما، ولكن التسوية فشلت
على ما يبدو لأن الرقيم مكسور عند هذه النقطة.
وبعد ذلك نجد أن البعل قد قرر الاستسلام دون أن
نعرف خلفية هذا القرار، وكان عليه أن يأخذ معه
غيومه وأمطاره ورياحه؛ فجفَّت أشجار الزيتون
وكل منتجات الأرض، وهنا قام إيل عن كرسيِّه،
وخرَّ واقعًا على الأرض صارخًا: وا حسرتاه، لقد
هلك بعل، لقد مات ابن داجون. ولما كان لا بد من
أحد يحل محل البعل فقد اقترح إيل على عشيرة أن
ترشِّح أحد أولادها لخلافته؛ فقامت بترشيح عثتر
الذي صعد إلى أعالي جبل صافون، وجلس على كرسي
البعل، ولكن رأسه لم يصل إلى أعلى ظهر الكرسي،
وقدماه لم تصِلا إلى مسند القدمَين؛ فاعترف
بعدم كفاءته، وعاد أدراجه تاركًا العرش شاغرًا.
وعلى الرغم من أن نصوص أوغاريت لا تعطينا
معلوماتٍ وافية عن شخصية عثتر ووظائفه؛ فإن بعض
الباحثين يعتقدون بأنه يمثِّل الزهرة نجمة
الصبح، ربما لأن إلهًا مماثلًا له في الاسم
وُجد بعد ذلك في الثقافة اليمنية القديمة
ويمثِّل كوكب الزهرة. ويرى العلَّامة وليم
فوكسويل أولبرايت أن مقطعًا من سِفر إشعيا
التوراتي هو اقتباس عن ترتيلة كنعانية قديمة
تصِف صعود عثتر الزهرة إلى جبل صافون «أو جبل
الشمال»، ثم سقوطه الذريع بعد أن فشل في ملء
الفراغ الذي تركه بعل:
كيف سقطتِ من السماء أيتها الزهرة
بنت الصبح؟
كيف قُطعتَ إلى الأرض يا قاهر
الأمم؟
لقد قلتَ في قلبك أصعدُ إلى
السماء،
أرفع كرسي فوق كواكب الله (= كوكبي إيل).
٢٠
وأجلس على جبل الاجتماع
على صهوة جبل صافون (جبل
الشمال).
أرتفعُ على ظهر السحاب فأصير مثل
العلي (= عليون)،
ولكنك انحدرت إلى الهاوية.
٢١
بعد أن تضاعف حزن عناة على بعل راحت تطالب
موت بأن يعيده من عالم الأموات، ولكن عبثًا؛
فقررت مواجهته، ودعته إلى القتال، وعلى حد ما
ورد في النص:
أمسكت بموت ابن إيل،
بالسيف قطعته إربًا،
وبالمذراة راحت تذريه،
وبالطاحون طحنته،
وفي الحقل دفنته،
حتى لا تأكل الطيور لحمه،
عند ذلك رأى إيل في حلمه أن السماء تقطر
زيتًا، والوديان تجري بالعسل؛ فهبَّ من نومه
صائحًا: عليان بعل حي، سيد الأرض حي. وهكذا عاد
البعل إلى الحياة، وعاد إلى بيته، وإلى حبيبته
يمارس معها الحب آلاف المرات، على حد ما وَرَد
في شذرة رقيم يمكن أن نضع مضمونها في هذا
السياق، «فارتفع الزرع عاليًا، وازدهر كل
بستان»، على حد ما ورد في نص سومري يصف اللقاء
الجسدي بين دوموزي وإنانا، وتأثير هذا اللقاء
على حياة الطبيعة، وذلك على مبدأ أن ما يحدث في
الأرض هو نسخة لاحقة عما يحدث في السماء، وهو
المبدأ الذي يحكم القص الميثولوجي.
ولكن أن نجعل الموت يموت مثل أن نجعل الماء
رطبًا؛ ولذلك فقد تعافى موت، وعاد بعد سبع
سنوات للصراع مع بعل، والرقيم عند هذه النقطة
مكسور، ولا يمكِّننا من معرفة النتيجة. ومن
المرجح أن إيل توسَّط بين الطرفَين، وفك
الاشتباك بينهما مؤقتًا، وبقي العالم مسرحًا
للصراع بين قُوى الحياة وقُوى الفناء، وبين كل
الأضداد التي يشكِّل تناقضها وتعاونها جوهرَ
هذا الوجود.
في قصص البعل هذه تلعب عناة دورًا لا يقل
أهمية عن دور قرينها، وتبدو هاتان الشخصيتان
كأنهما توءمان في الخصائص والسلوك؛ فعناة إلهة
صيَّادة ومحارِبة ذات بأس، يصورها نقش معدني من
موقع عسقلان على الساحل الكنعاني الجنوبي في
هيئة ذكرية نحيلة ترتدي حُلة الحرب الكاملة
ومتمنطقة بالأسلحة. وفي أحد مشاهد الملحمة
نراها تقوم بمذبحة لجموع البشر من مشرق الأرض
إلى مغربها، ومن حولها تتطاير الرءوس والأذرع
مثل الجراد، تخوض في دماء الأبطال وكبدها يتفجر
سرورًا، إلى أن يطلب منها بعل بواسطة رسولَيه
أن تعلن السلام، وتأتي إليه:
اسكبي في الأرض قربان السلام،
والتقدمات في وسط الحقول،
وإليَّ فلتسرع قدماك،
فعندي كلمات أود قولها لك.
كلمات الشجر، وهمس الحجر،
وشوشة السماء للأرض،
وغمغمة الأغوار للنجوم،
فأنا عليم بالبرق الذي لا تدرك
السماء كنهه،
وعندي من الأسرار ما لا يعرفه
بشر.
وفي جوابها للرسولَين نراها تنسب إلى نفسها
أعمالًا بطولية قام بها بعل من قبل:
ما الذي أتي بكما؟
وأي عدو قام في وجه بعل؟
ألستُ التي قضت على يم حبيب
إيل؟
ألستُ التي صرعت التنين،
وسحقت الحية المتلوِّية ذات الرءوس
السبعة؟
وقد حملت عناة عدة ألقاب منها: البتول/ب ت ل
ت، وسيدة السلطان، وسيدة السموات. وهذا اللقب
الأخير لقب نجمي، وكان وقفًا على إلهات كوكب
الزهرة مثل عشتار وفينوس وأضرابهن، وقد انتقلت
عبادتها إلى مصر حيث نجدها بشكلٍ خاص في النصوص
الطَّقسية. وهنالك نص أسطوري يتحدث عن قيام بعل
(= سيت) باغتصاب عناة عندما كانت تستحم على
شاطئ البحر؛ فراحت تشكوه إلى أبيها رع، ويصف
النص هنا عناة بأنها امرأة شبيهة بالرجال.
٢٣ كما دخل اسم عناة في بعض الأسماء
المصرية التي تحتوي في أحد شطرَيها على اسم
إلهي، وكان لها كهنوت منظم منذ بدايات عصر
المملكة الحديثة، وفي نص لرمسيس الثالث تُوصَف
عناة مع الإلهة الأوغاريتية الأخرى عثرة بأنهما
ترس الفرعون.
٢٤
ولدينا ألوهة مؤنثة ثانية في النصوص الملحمية
هي عثترة/ع ث ت رت، التي دعاها الإغريق
أستارتي
Astarte، وهي التي تحوَّلت
إلى أفروديت، كوكب الحُسن وإلهة الحب في
الميثولوجيا اليونانية. وعلى الرغم من أن عثترة
لا تلعب دورًا بارزًا في الملاحم الأوغاريتية؛
فإنها تظهر بقوة في فينيقيا؛ حيث نجدها بين
الآلهة الرئيسية الستة لمملكة صور،
٢٥ كما يمكن اعتبارها بمثابة الإلهة
العظمى للثقافة الفينيقية،
٢٦ ومن صور رحلت مع المهاجرين الذين
أسَّسوا مستعمَرة قرطاجة، وصارت الإلهة
الرئيسية لأفريقيا البونية تحت اسم تانيت. وعلى
الرغم من أن الاسم تانيت لم يرِد في النصوص
المشرقية؛ فإن نقشًا على نَصبٍ حجري وُجِد
بموقع قرطاجة يذكر الاسم تانيت لبنان.
٢٧ كما تظهر عثترة بقوة في فلسطين تحت
اسم عشتورت أو عشتاروت، ويحدِّثنا كتاب التوراة
عن انتشار عبادتها في إسرائيل ويهوذا خلال عصر
الحديد الثاني، وليس لقب ملكة السموات، الذي
استخدمه أهل يهوذا الهاربين إلى مصر بعد دمار
أورشليم في الإشارة إليها، إلا دليلًا على
صلتها بكوكب الحسن (سِفر إرميا، ٤٤: ٧). ومما
يؤكد هذه الصلة بعض الأعمال الأيقونية التي
وُجدَت في فلسطين، ومنها ختم أسطواني من موقع
شكيم تظهر فيه الإلهة داخل هالة نورانية،
وفوقها يشع الكوكب، وأمامها الملك يقدم قربان
البخور (الشكل
٦-٦). وعلى
لويحة فخارية من موقع تل قرنايم نجدها واقفة
على حصان، وتحمل بيدَيها الاثنتَين رمزًا
نباتيًّا (الشكل
٦-٧)،
الأمر الذي يدل على صِلتها بحياة النبات، وعلى
خصيصتها القتالية؛ لأن الحصان في أواخر عصر
البرونز الأخير كان قد دخل إلى جانب العربة
القتالية في التكتيك الحربي لجيوش المنطقة.
٢٨
وقد انتقلت عبادة عثترة إلى مصر أيضًا حيث
دُعيَت عستارتا، وركزت الأعمال الفنية
الأيقونية على خصائصها القتالية؛ فنراها واقفة
على حصان بهيئة عارية ومتسلحة بقوسٍ وسهامٍ أو
برمحٍ وترس، كما قرنتها النصوص بكوكب الحُسن.
٢٩ ويُوصَف الفرعون في أحد هذه النصوص
بأنه جليل في عربته مثل عستارتا، وفي نَص آخر
نقرأ أن عربة الفرعون الحربية توجهها عستارتا وعناة.
٣٠
هذه الخصائص التي تُبديها عثترة سواء في
سورية أو في مصر تجعل منها نسخة من الإلهة
عناة، وقد أدرك المصريون هذه الوحدة بين
الإلهتَين، وأضافوا إليهما أيضًا الإلهة عشيرة
تحت لقب قدشو التي عُرفَت به في أوغاريت، والتي
يصِفها نقش على نَصب حجري محفوظ بمتحف تورين
بأنها ملكة السموات وسيدة الآلهة وعين الإله
رع. وقد ظهرت هذه الإلهة المثلثة في أكثر من
رسم أو نحت بارز مصري، ومنها النحت الموضَّح في
(الشكل
٦-٨) حيث نرى هذه
الإلهة الكنعانية في هيئة عارية واقفةً على أسد
وهي ترفع بكلتا يدَيها رمزَين نباتيَّين، وإلى
جانبها نقش يذكر أسماءها الثلاثة: قدشو، عناة، عستارتا.
٣١
وفي فلسطين عُرفَت بالاسم عشيرة، وَوَرد
ذكرها مرارًا، لا سيما في سِفر الملوك الثاني
عندما مال الشعب والحكام إلى عبادتها، كما ورَد
ذِكرها في بعض النقوش، إما بالاسم عشيرة أو
بالاسم إيلة/إيلات.
وقد عَبَرت هذه الإلهة العصر الآرامي
والفارسي والهيلينستي وصولًا إلى العصر
الروماني، ووضع فيها الكاتب السوري الشهير
لوقيان السميساطي كتابه المعروف «الإلهة
السورية» عندما كان مقر عبادتها الرئيسي في
مدينة هيليوبوليس السورية، الواقعة إلى الشمال
الشرقي من حلب، وهي اليوم مدينة منبج، حيث
دُعيَت بالاسم أتارغاتِس، وعُبد إلى جانبها
زوجها القديم هَدد. والأصل الآرامي لهذا الاسم
هو أترعتا
Ataratheh، ويتألَّف من
مقطعَين؛ الأول
Atar
المستمَد من الاسم عثترة، والثاني عتا المستمَد
من الاسم عناة.
٣٢
إن عشيرة كإلهة مثلثة في أصلها ليست حدثًا
منفردًا في تاريخ الدين؛ فهذا النوع من التثليث
معروفٌ في الميثولوجيا العالمية، ويتبدَّى في
ثلاثة أشكال؛ في الشكل الأول هنالك ثلاث إلهات
لهن وظيفة واحدة، ولا يتواجدن إلا معًا، مثل
الإيرينيات ربات الانتقام وتحقيق العدالة في
الميثولوجيا اليونانية، وثواليث أخرى مثل
الكيريتيس والموريا. وفي الشكل الثاني هنالك
ثلاث إلهات متحدة في الجوهر على استقلالهن، مثل
هيستيا وأرتميس وأثينا، اللواتي يمثِّلن
العذرية الأبدية، ومثل أرتميس وسيلين وهيقات
اللواتي يمثِّلن أطوار القمر الثلاثة. وقد تبدو
إحداهن في الأعمال الفنية الأيقونية في هيئة
مثلثة، مثل هيقات التي تمثِّل القوى المؤذية
لطور القمر المتناقص (الشكل
٦-٩)، وفي الميثولوجيا
الهندوسية لدينا الثالوث دورجا وبارافاتي
وكالي، اللواتي يُعبِّرن عن الخصائص التدميرية
للأم الكبرى. وفي الشكل الثالث للتثليث هناك
ألوهة واحدة تتوزع خصائصها ووظائفها بين ثلاثة
أسماء، كما هو الحال في إلهة العرب التي نجدها
تحت ثلاثة مسميات هي اللات والعزَّى ومناة.
فاللات تمثِّل الرخاء والازدهار، والعزَّى
الجبروت والعزة، وهي أيضًا كوكب الحُسن، ومناة
المَنيَّة والقضاء والقدر.
من الآلهة الرئيسية التي لم تعطِنا النصوص
معلوماتٍ وافية عنها: يارح إله القمر، وشبش
إلهة الشمس، وحورون الوارد ذِكره فقط في ملحمة
كرت، والذي يرجِّح الباحثون أنه بعل تحت
مُسمَّى آخر، ورشف الذي سنتوقف عنده قليلًا قبل
أن ننهي هذا البحث؛ فقد كان رشف إلهًا
كنعانيًّا قديمًا، نجده بين الآلهة الرئيسية في
بانثيون مدينة إيبلا أواسط الألف الثالث قبل الميلاد.
٣٣ كما نجد اسمه بين آلهة مدينة ماري
بصيغة رسب، وقد دام الجدل طويلًا بخصوص وظائفه
بين الباحثين في الأوغاريتيات، إلى أن تم
اكتشاف رقيم مكتوب بالأوغاريتية والأكادية
يعادل بين رشف الأوغاريتي ونرجال البابلي زوج
إلهة العالم الأسفل المسئول عن نشر الأوبئة
الفتاكة بين البشر. وقد رحل هذا الإله إلى مصر،
وصوَّرته الأعمال الأيقونية كإلهٍ محارب بقرنَي غزال.
٣٤ وفي كتاب التوراة يظهر رشف كواحدٍ
من بطانة يهوه مسئول عن نشر الأوبئة، يمشي
أمامه منذِرًا بقدومه، ومعه ملاك آخر مسئول عن
الحُمى: «قدَّامه ذهب الوبأ (= رشف في النص
العبري)، وعند رجليه خرجت الحُمى (= دبير في
النص العبري)، وقف وقاس الأرض، نظر فرجف الأمم
ودُكت الجبال الدهرية» (سِفر حبقوق، ٣:
٥).