الفصل السابع

ملحق: الفينيقيون

(هذه الدراسة كُتبَت بشكلٍ مستقل، وقبل دراسة الكنعانيين والثقافة الكنعانية بزمنٍ، وقد وجدت من المناسب دمجهما معًا؛ ولهذا قد يجد القارئ بعض التداخل بينهما).

بلغت الحضارة الكنعانية أوج ازدهارها وعطائها خلال عصر البرونز الوسيط (٢٠٠٠–١٦٠٠ق.م.) وتكشف التنقيبات الأثرية في المواقع الرئيسية لهذه الحضارة عن وحدة عضوية جمعت حواضر كنعان في حيِّز ثقافي متصل، وذلك من الفرات شرقًا إلى البحر المتوسط غربًا، ومن جبال طوروس شمالًا إلى النقب وحدود الصحراء العربية جنوبًا. وقد بقيت ثقافة كنعان مستمرة دون فجوات أو انقطاع خلال كامل عصر البرونز وصولًا إلى مطلع عصر الحديد، أي من نحو عام ٣٣٠٠ق.م. إلى نحو عام ١٢٠٠ق.م. غير أن علماء الآثار أخذوا يلاحظون حدوث تدهور تدريجي في الحضارة الكنعانية عقب وصولها إلى نقطة الذروة نحو عام ١٦٠٠ق.م. وقد استمر هذا التدهور بخُطًى متسارعة خلال عصر البرونز الأخير (١٢٠٠–١٦٠٠ق.م.) وصولًا إلى نقطة الحضيض نحو عام ١٢٠٠ق.م. الذي اختتم عصر البرونز، وافتتح عصر الحديد (٣٠٠–١٢٠٠ق.م.) ويتبدَّى لنا هذا التدهور بشكلٍ واضحٍ عندما نقارن الفخاريات والمنقوشات، وما إليها من الفنون والحِرف الكنعانية العائدة إلى القرنَين السادس عشر والخامس عشر، بمثيلاتها العائدة إلى القرنَين الرابع عشر والثالث عشر. ويمكن توسيع هذه المقارنة لتشمل الأسوار والتحصينات وحجم المدن وعدد سكانها.١

يقدم لنا القرن الثالث عشر دلائل واضحة على هذا الانحدار؛ فقد تميَّز هذا القرن بالاضطرابات الاجتماعية والتفكك السياسي والحروب المحلية، وبأزماتٍ عميقة الأثر قادت إلى انهيار ثقافة عصر البرونز واستهلال ثقافة عصر الحديد. فالتنقيبات الأثرية تمدُّنا بشواهد مادية ونَصية على انهيار المراكز الحضرية الرئيسية في كنعان، ابتداءً من كركميش وأوغاريت في الشمال، وانتهاءً بالمدن الفلسطينية في الجنوب، خلال الفترة الممتدة من أواسط القرن الثالث عشر إلى أواسط القرن الثاني عشر. بعض هذه المدن وقع ضحية دمار مفاجئ وحرائق لاهبة، وبعضها الآخر ذوَى بشكلٍ تدريجي حتى هُجر وتهدَّم من تلقاء ذاته، كما هُجرت المناطق الزراعية وتحوَّل أهلها إلى حياة الرعي المتنقل. وقد ترافقت هذه الأحداث مع ظهور جماعات ترتحل مع أسرها ومَتاعها المنزلي الخفيف قادمة من الغرب عن طريقٍ بري عبر آسيا الصغرى، حيث تسببت في انهيار المملكة الحثية، وعن طريقٍ بحري حيث حطَّت على الشواطئ الليبية، وراحت تهاجم الحدود المصرية في محاولة للتوطُّن في منطقة الدلتا. وقد دُعيَت هذه الجماعات بشعوب البحر لأنها انطلقت، على ما يبدو، من كريت وجزر بحر إيجة، ومصدرنا الرئيس عنها هو النصوص الأوغاريتية والنصوص المصرية. وقد قام المصريون بصد الحملة البحرية عن حدودهم الغربية، ثم قاموا بصد الحملة البرية التي اجتازت سورية وحطَّت في فلسطين استعدادًا للهجوم على مصر من الجهة الشرقية؛ وبذلك فقد تم تشتيت هذه الجماعات، وذابت بعد ذلك في الكيانات المحلية للمنطقة.

إن الولع التقليدي للمؤرخين بتفسير انهيار الثقافات المتقدمة بغزوات الشعوب البربرية، كان وراء ترشيح شعوب البحر كعاملٍ حاسمٍ في القضاء على ثقافة عصر البرونز. غير أن عِلم مناخ العصور القديمة الذي تطورت تقنياته بشكلٍ كبيرٍ خلال النصف الثاني من القرن العشرين، يُخبِرنا الآن بأن منطقة جنوب أوروبا وشرقي المتوسط قد تعرضت لموجة جفاف بدأت آثارها بالظهور مع مطلع القرن الرابع عشر قبل الميلاد، واستمرت بالتصاعد حتى عام ١٢٠٠ق.م. عندما بدأت تلك الآثار في الانحسار مع عودة المناخ البارد والرطب إلى المنطقة. وهذا ما يجعلنا ننظر الآن إلى تحركات شعوب البحر التي هاجرت من مواطنها بسبب الجفاف، باعتبارها نتيجة من نتائج الأحداث المأساوية لذلك العصر لا سببًا لها. وإذا كانت هذه الجماعات مسئولة عن تدمير بعض مدن بلاد الشام؛ فلأن هذه المدن المُقفرة كانت تلفظ أنفاسها بالفعل قبل تعرُّضها للهجوم، والبعض الآخر كان خاليًا بالفعل.٢

ترافق انهيار البِنى السياسية للممالك الكنعانية مع ظهور الآراميين الذين طبعوا بلاد الشام بطابعهم خلال عصر الحديد. وقد أسس هؤلاء الآراميون ممالكَ لهم في الجزيرة الفُراتية أولًا ثم في مناطق غربي الفرات، ورحل فريق منهم إلى وادي الرافدَين الجنوبي حيث أسَّسوا المملكة الكلدانية أو المملكة البابلية الحديثة. أما في مناطق الساحل اللبناني، وشرقي الأردن، وفلسطين، وهي المناطق التي بقيت في مَعزلٍ عن التأثيرات الآرامية؛ فقد عادت الثقافة الكنعانية إلى الازدهار، وبقيت اللهجات الكنعانية سائدة فيها حتى فتوح الإسكندر الكبير واستهلال العصر الهيلينستي.

أخذت مدن الساحل اللبناني بالانتعاش مع مطلع عصر الحديد بعد أن ذوَى معظمها، أو تم تدميره خلال عصر الاضطرابات السابق. وقد دُعي هذا الجيب الكنعاني الساحلي تاريخيًّا باسم فينيقيا، وهو يمتد فيما بين جزيرة أرواد في الشمال وجبل الكرمل في الجنوب، ويضم مدنًا رئيسية أخرى، إضافة إلى أرواد، هي: عمريت التي بناها الأرواديون على البر المقابل، وساريبتا، وجبيل وصيدا أو صيدون، وصور. وقد كان الحد الجنوبي لفينيقيا هذه أكثر مرونة من حدها الشمالي؛ لأن صيدون التي بلغت أَوج قوتها خلال الفترة ما بين عام ٩٥٠ق.م. و٨٥٠ق.م. استطاعت مد سلطتها جنوبًا، وضمَّت إليها منطقتَي عكا ويافا اللتين اصطبغتا بالصبغة الفينيقية. كما ضمَّت صيدون إليها جارتها صور التي صارت المقر الرسمي للملوك الصيدونيين الذين بسطوا سلطتهم على القسم الأعظم من فينيقيا، حتى إن الفينيقيين دُعوا أحيانًا بالصيدونيين، على ما نجده عند هوميروس، وفي كتاب التوراة. وفي النصوص الآشورية العائدة إلى القرن الثامن قبل الميلاد، والتي تصف حملات ملوك آشور على الساحل السوري، لدينا أكثر من إشارة إلى أن صيدون وصور كانتا تحت حكم ملك واحد. وفي الحقيقة فإن سكان هذا الجيب الكنعاني المحصور بين البحر والجبال لم يدعوا أنفسهم بالفينيقيين، بل كان ينسبون أنفسهم كلٌّ إلى مدينته. والأرجح أن تسمية فينيقيا وفينيقيين قد نشأت لدى الإغريق الذين احتكوا بهؤلاء منذ أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ولكنَّ أول ظهور موثَّق للتسمية نجده عند هوميروس صاحب الأوديسة والإلياذة، والذي يرُجَّح أنه عاش في زمنٍ ما من القرن الثامن قبل الميلاد. وهناك اتفاق بين الباحثين الآن على أن الكلمة اشتُقت من كلمة فوينكس Phoenix الدالة على صِباغ الأرجوان، أو اللون الملكي الذي اشتهر الفينيقيون باستخراجه من نوعٍ خاص من المحار البحري والإتجار به، ومنه جاء الاسم Phoenicia والنسبة إليه Phoenicians.٣

استغل الفينيقيون أرضهم بكثافة وكفاءة عالية في الشريط الساحلي الضيق، ولكنهم أيضًا استغلوا المناطق الجبلية وبنوا فيها القرى، وأنتجوا محاصيل الاكتفاء الذاتي مثل الحبوب، كما أنتجوا بضائع التبادل النقدي مثل الزيوت والخمور وصباغ الأرجوان، أما شجر الأرز الذي كان ينمو بكثرة في جبالهم فكان سلعة مطلوبة في جميع أرجاء الشرق القديم. وعندما زادت محاصيلهم عن حاجتهم حملوا بضائعهم وراحوا يتاجرون بها في حوض المتوسط وما وراءه، وبعد ذلك انتقلوا إلى إعادة تصدير البضائع التي تأتيهم عبر الطرق التجارية البرية من آرام وجزيرة العرب ومصر وبلاد الرافدَين. وقد قادهم نشاطهم التجاري الواسع إلى عبور مضيق جبل طارق، والتوجُّه إلى سواحل أفريقيا الغربية والجزر البريطانية.

على طول هذه الطرق التجارية كان الفينيقيون يؤسسون محطاتٍ تجارية لهم، تحوَّلت تدريجيًّا إلى مستوطنات دائمة في جزر المتوسط، مثل كريت وقبرص ومالطا وسردينيا، وعلى سواحل أفريقيا الشمالية وسواحل إسبانيا الجنوبية. ومع زيادة عدد سكان هذه المحطات واستمرار الهجرة إليها من الوطن الأم الذي ضاق بسكانه، تحوَّلت إلى كياناتٍ سياسية مستقلة تحكمها نُخبٌ تجارية. وكانت مدينة قرطاجة التي بناها الصوريون في أواخر القرن التاسع قبل الميلاد على الساحل التونسي دُرة تلك المستوطنات وأقواها. وقد دعوها «قرت حدش» أي المدينة الحديثة؛ لأنها بمثابة صور الثانية الأفريقية. وقد دُعي أهل قرطاجة وبقية المستوطنات الفينيقية من قِبَل الإغريق بالبونيين Poenic، وفي البحث الحديث Punic، وهذه الصيغة مشتقة من اسم الوطن الأم Phoenicia. عاشت الثقافة الفينيقية في موطنها الأصلي حتى فتوح الإسكندر عام ٣٣٢ق.م. أما في مواطنها المتوسطية فقد عاشت حتى دمار قرطاجة على يد الرومان عام ١٤٦ق.م. بعد حروب طويلة بين الطرفَين على السيادة على عالم المتوسط.٤

(١) الديانة الفينيقية

(١-١) في الوطن الأم

لسوء الحظ فإن ما نعرفه عن ديانة الفينيقيين هو أقل بكثيرٍ مما نعرفه عن بقية ديانات الثقافات المشرقية الأخرى، والسبب في ذلك راجع إلى افتقادنا إلى النصوص الميثولوجية، سواء من فينيقيا الوطن الأم أم من قرطاجة والعالم البوني في حوض المتوسط، ومصادرنا المباشرة تقتصر على نصوص نَذرية وتكريسية منقوشة على الأحجار معظمها قصير ومختزَل، نعرف منها العديد من أسماء الآلهة، والقليل عن وظائفها. أما عن المصادر غير المباشرة فجميعها متأخرة زمنيًّا، وبالتالي لا يمكن الركون إليها كثيرًا واستخدامها إلا لغاية المقارنة مع ما تقدمه لنا المصادر المباشرة؛ فقد أورد لنا فيلو الجبيلي في أحد مؤلَّفاته، التي كتبها باليونانية في القرن الأول الميلادي، نصًّا عن نظرية التكوين الفينيقية نسبَهُ إلى كاهن فينيقي غامض عاش في القرن الحادي عشر، ولكن هذا الكتاب ضاع، ولم يبقَ منه سوى شذراتٍ أوردها الكاتب السوري الآخر أوزيبيوس الذي عاش في القرن الرابع الميلادي، وبينها تلك الشذرة التي نسبَها فيلو إلى سانخونياتن. ولدينا معلوماتٌ موجَزة أخرى عن نظرية التكوين الفينيقية نقلها لنا مؤلِّف سوري آخر عاش في القرن الخامس الميلادي يُدعى داماسكيوس (الدمشقي) نقلًا عن كاتب فينيقي يُدعى ماخوس، وضع كتابًا في تاريخ الفينيقيين ضاع ولم يبقَ منه سوى شذرات وردت في مؤلَّفات أخرى. ولدينا معلومات أكثر تفصيلًا أوردها مؤلِّف سوري ثالث يُدعَى لوقيان السميساطي (نسبة إلى مدينة سميساط في الشمال السوري) من القرن الثاني الميلاد، في كتابه الذائع الصيت المعروف بعنوان «الإلهة السورية»، وسوف أقدم فيما يلي باختصارٍ ما أمكننا معرفته عن آلهة الفينيقيين.٥
  • إيل: هو الألوهة العليا، ورئيس مجمع الآلهة في الديانة الساميَّة، ولكن، كما هو الحال في أوغاريت؛ فإن سلطته هنا كانت اسمية أكثر منها فعلية، يدلُّنا على ذلك أن المؤلِّفين الكلاسيكيين قد طابقوا بينه وبين الإله اليوناني كرونوس الذي انسحب من جبل الأوليمب بعد أن أقصاه ابنه زيوس عن الحكم وحلَّ محله. ويبدو أن السُّلطة الفعلية قد آلت، كما في أوغاريت أيضًا، إلى ثنائي إلهي مؤلَّف من بعل وزوجته أستارت التي حملت لقب بعلة، أي الربة.
  • بعل: يمثِّل الألوهة المذكَّرة الفاعلة في العالم، وهو يظهر في النقوش تحت لقب بعل شميم، أي بعل السماوي أو سيد السموات، كما يظهر تحت لقب بعل آدر، أي بعل القادر. وقد طابق اليونان ومن بعدهم الرومان بين بعل وزيوس (أو جوبيتر) رئيس مجمع الآلهة اليوناني/الروماني؛ وبذلك فقد عمدوا إلى المطابَقة بين الإلهَين الأكثر فعالية في الديانتَين الفينيقية والرومانو-يونانية. وفي شمال أفريقيا البونية ترجم الرومان لقب بعل آدر إلى جوبيتر القادر أو القوي.
  • أستارت: وهي الألوهة المؤنثة الفاعلة في العالم، والإلهة الفينيقية الكبرى. والاسم أستارت هو الصيغة اليونانية من اسمها الكنعاني الذي ورد في النصوص الأوغاريتية بصيغة أث ت ر ة. وفي الفينيقية بصيغة أ س ت ر ة. وفي بعض نقوش مدينة جبيل تُدعى بعلة، وهي صيغة المؤنث من بعل بما هي زوجته، وتبدو هنا باعتبارها حامية الأسرة المالكة. كما يظهر اسمها إلى جانب اسم بعل في نقوشٍ أخرى، ومنها نقش يهيملك حيث نقرأ: «عسى بعل شميم وبعلة جبيل ومجمع آلهة جبيل المقدَّسين، يطيلون أيام وسنوات حكم يهيملك على جبيل». وفي نقوش صيدون تظهر أستارت باعتبارها الإلهة الحامية للأسرة الحاكمة التي كان ملوكها يلقِّبون أنفسهم بكهنة أستارت، الأمر الذي يدل على أن أولئك الملوك كانوا يمسكون بزمام السُّلطتَين الزمنية والدينية في آنٍ معًا. وقد ورد ذِكر أستارت كإلهة للصيدونيين في كتاب التوراة تحت اسم عشتورت، وتبدو هذه التسمية متطابِقة من حيث اللفظ مع الاسم أ ث ت ر ت بعد حذف الأحرف الصوتية.

    وقد حمل الفينيقيون معهم إلى قبرص عبادة أستارت، ومنها انتقلت إلى بلاد اليونان تحت اسم أفروديت، التي يقول لنا في سيرتها مدوِّن الأساطير اليونانية هزيود أنها وُلدت على شاطئ جزيرة قبرص. ولدينا تنويعاتٌ أخرى على سيرة هذه الإلهة في الميثولوجيا اليونانية، تحكي عن علاقتها بالإله بعل تحت لقبه أدون أو أدونيس باللفظ اليوناني، وكيف ساعدته على العودة من العالم الأسفل بعد أن قتله خنزير بري. وهذه التنويعات تنتمي إلى دراما خصب مشرقية معروفة، يموت فيها الإله الذي يمثِّل روح النبات في الصيف ثم يُستعاد إلى الحياة في الربيع.

  • إشمون: على عكس معظم الآلهة الفينيقية التي تتمتع بتاريخٍ طويلٍ يضرب في عمق الثقافة الكنعانية القديمة؛ فإن اسم الإله إشمون لا يرِد خارج نطاق الثقافة الفينيقية/البونية. كما أن أول ذِكر له يرِد في نص المعاهدة التي أبرمها الملك الآشوري أسرحادون في مطلع القرن السابع قبل الميلاد مع ملك صور المَدعو بعل. وبعد ذلك يتكرر ذِكر هذا الإله، لا سيما خلال الفترة الفارسية، حيث نقرأ في النقوش التكريسية عن بناء ملوك صيدون معابد له. قرنه اليونانيون بإلههم أسكليبيوس إله الطب والشفاء، الأمر الذي يدل على أن الشفاء من الأمراض كان من وظائفه الأكثر بروزًا، ويبدو أنه اتخذ في صيدون مكانة الإله الحامي للأسرة المَلَكية خلال العصر الفارسي.
  • ملقارت: هو بعل صور الذي بنى له الملك حيرام معبدًا في صور على ما يُورِده لنا المؤرخ يوسيفوس من أواخر القرن الأول الميلادي. أما الاسم ملقارت «ملك قرت» فليس إلا لقبًا يعني ملك المدينة، حيث الشطر الثاني من اللقب يعني مدينة. ومما يؤكد لنا ذلك أن أسماء العلم المركبة في النقوش الصورية تحمل في أحد شطرَيها اسم الإله بعل لا اسم الإله ملقارت. قرنه اليونانيون بهرقل، وتحدثوا عن موته على يد الوحش طيفون ثم بَعثِه، الأمر الذي يدل على أننا هنا أمام تنويع على أسطورة أدونيس وأفروديت، التي تُدعى في أساطير يونانية أخرى أستيريا/أفروديت، وتُلقَّب بأم ملقارت.

    إضافة إلى هذه الآلهة الرئيسية لدينا إلهان يظهران بشكلٍ أقل في النقوش ينتميان إلى الديانة الكنعانية القديمة، هما رشف وداجان، وقد تحدَّثنا عن وظائفهما في معرض تقديمنا للديانة الكنعانية سابقًا.

    ولدينا من آشور نصُّ معاهدة تبعية فرضها الملك الآشوري أسرحادون (٦٦٩ –٦٨٠ق.م.) على بعل ملك صور، يُشهِد في نهايتها عددًا من آلهة آشور وآلهة فينيقيا على التزام ملك صور ببنودها، ويستنزل عليه لعناتها في حال الإخلال بها:
    «عسى بيت إيل وعناة بيت إيل يدفعانك إلى الأسود المفترسة … عسى بعل شميم، وبعل مالاجي، وبعل سابون «صافون» يرسلون رياحًا شريرة على سُفنك فتفُكُّ وتمزِّق حبال مراسيها، وعسى أن تضربها الأمواج العاتية وتغرقها في أعماق البحر. عسى ملقارت وإشمون يسلمان بلادك إلى الخراب وشعبك إلى السبي، وعساهما يحرمانك من الطعام لفمك ومن اللباس لجسدك ومن الزيت لمسحك. عسى أستارت أن تكسر قوسك في معمعان القتال، وتجعلك تسجد تحت أقدام أعدائك الذين سيقتسمون ممتلكاتك.»٦

    نلاحظ في هذا النص أن بعل سابون، أو صافون، وهو اللقب الرئيسي لبعل أوغاريت قد استمر كأحد ألقاب بعل فينيقيا، كما تعود إلى الظهور الإلهة الأوغاريتية عناة تحت لقب عناة بيت إيل، وذلك في إشارة إلى الحجر المقدس الذي تسكنه روح تلك الألوهة. ويرِد في النص ذكر بيت إيل بشكلٍ مستقل في الإشارة إلى تلك الأنصاب الحجرية التي تسكنها آلهة الفينيقيين.

(٢) في قرطاجة والعالم البوني

تعتمد معلوماتنا عن الديانة الفينيقية في الغرب على ثلاثة مصادر رئيسية هي:

(١) النقوش الكتابية الغزيرة التي تم العثور عليها. (٢) التفسيرات اليونانية الرومانية، والمطابَقة التي أجرتها هذه التفسيرات مع الآلهة الكلاسيكية. (٣) الأنصاب التذكارية والنَّذرية التي تحمل صور الآلهة أو شاراتها القدسية. ولكن هذه المصادر على غزارتها تبقى محدودة القيمة الفعلية؛ فالنقوش الكتابية تذكر مرارًا وتكرارًا أسماء الآلهة المعبودة، ولكنها قلَّما تعطينا فكرة واضحة عن العلاقة بين هذه الآلهة وعن وظائفها. وفي ظل الغياب الكامل للنصوص الميثولوجية فإن معلوماتنا عن الديانة لا تتعدى تلك الأسماء وأفكارًا غائمة عن العلاقة بينها. وفيما يتعلق بالمطابَقة التي أجرتها المصادر الكلاسيكية بين الآلهة اليونانية-الرومانية والآلهة البونية؛ فإنها تبقى في حدود العموميات، ولا تفيدنا كثيرًا في النفاذ إلى الطبيعة الأصلية الحقة للآلهة البونية. وأما الأنصاب التذكارية والنَّذرية وما إليها فإنها لا أيقونية في أغلبها، وصور الآلهة المشخَّصة لم تظهر عليها إلا في الفترات المتأخرة تحت تأثير الاحتكاك بالثقافة الكلاسيكية، وبالتالي فإنها لا تفيدنا إلا في معرفة اسم الإله الذي كُرست له أحيانًا، وفي أحيانٍ أخرى قد يكون اسم الإله غائبًا أيضًا. إن كل ما نستطيع فعله في ظل هذه الظروف، هو إجراء جردٍ بأهم الآلهة والتعريف بوظائفها وعلائقها بالقدر الذي تسمح به وثائقنا.

  • بعل هامون: إن كثرة النقوش الكتابية المكرَّسة لهذا الإله لا سيما خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، ووجود معبد كبير له على جبل بوقرنين الذي يشرف على قرطاجة عبر الخليج، تدلُّنا على أنه كان يمثل الألوهة المذكرة الرئيسية في مجمع آلهة قرطاجة. وأغلب الظن أن هذا الإله البوني قد وُلد في الغرب من الجمع بين الإله بعل القادم من فينيقيا والإله آمون إله واحة سيوة الواقعة في أقصى مناطق نفوذ الثقافة المصرية على مسافة ٦٠٠كم من ممفيس غربًا، والذي دعاه اليونانيون زيوس آمون، وهو الذي قصده الإسكندر الكبير بعد دخوله مصر مجتازًا الصحراء الغربية من أجل الحصول على نبوءته فيما يتعلق بمستقبله. ويشترك هذان الإلهان بسِمتَين رئيسيتَين هما اللحية، ورأس الكبش الذي يظهر به بعل هامون في بعض تمثيلاته المتأخرة. ويظهر اسم هذا الإله في العديد من أسماء العلم التي تحتوي في أحد شطرَيها على اسم إلهي، مثل شفاط بعل، أي بعل يقضي؛ وبت بعل، أي ابنة البعل؛ وأريشت بعل أي أثيرة البعل؛ وأمت بعل، أي أمةُ البعل، وفي بعض المستوطنات البونية، مثل ساردينيا، يظهر هذا الإله في النقوش تحت لقبه الفينيقي بعل آدر، ولقبه الآخر بعل شميم، وقد قرن اليونانيون هذا الإله البوني بإلههم كرونوس.
  • تانيت: وهي أستارت الفينيقية، وقد اتخذت اسمًا محليًّا سابقًا على قدوم الصوريون إلى ليبيا (وليبيا الاسم القديم لمناطق شمال أفريقيا عامة). وقد بدأ اسمها بالظهور منفردة، أو إلى جانب بعل هامون، منذ أواسط الألف الأول، الأمر الذي يدل على عُلو مكانتهما كثنائي إلهي يتربَّع على قمة البانثيون القرطاجي. ومع ذلك فإن الاسم أستارت لم يختفِ تمامًا من النقوش البونية، ويبدو أنه استُخدم تبادليًّا مع الاسم تانيت، كما أنه يظهر في أسماء العلم. ونعرف من روايات بعض المؤلفين الكلاسيكيين أنه كان لأستارت مقامات دينية في بعض المستوطنات البونية مثل ساردينيا وصقلية. ويظهر اسم تانيت غالبًا مترافقًا مع لقبها «تانيت باني بعل» ويعني تانيت وجه البعل، الذي ربما كان معناه تانيت مجد وجه البعل. ومن الجدير بالذكر أن أستارت المشرقية كانت تحمل لقب أستارت اسم البعل، أو سمية البعل. إن كل ما يمكننا قوله بخصوص هذه الإلهة، هو أنها كانت تمثل الألوهة المؤنثة الرئيسية في مجمع الآلهة، ولربما كانت تتمتع بوظائف ذات علاقة بخصب الطبيعة على ما تدل عليه الرموز المتصلة بها مثل الحمامة وشجرة النخيل وشجرة الرمان، وهي من رموز إلهات الخصب المشرقية. وقد دُعيَت تانيت في بعض النقوش المتأخرة بلقب الأم، وربما لهذا السبب قرنها اليونانيون بإلهتهم هيرا زوجة كبير الآلهة زيوس، وقرنها الرومان بإلهتهم جونو زوجة كبير الآلهة جوبيتر. لم تُصوَّر تانيت في تمثال منحوت، وإنما رُمِز إليها بشارة مقدسة على شكل مثلث تعلوه دائرة وخط يفصل بينهما، وغالبًا ما يعلو رأس المثلث هلال، الأمر الذي يدل على أنها كانت إلهة قمرية.
  • ملقارت وإشمون: إلى جانب الثنائي الإلهي الرئيسي المؤلَّف من بعل هامون وتانيت، فقد عبد البونيون في قرطاجة وبقية المستوطنات المتوسطية ملقارت إله صور، ويبدو أن معبدًا خاصًّا به، قد بُني في قرطاجة على ما نستدل من بعض النقوش. وفي كل سنة كانت بعثة من الكهنة تبحر إلى المدينة الأم صور من أجل تقديم الهِبات إلى معبد ملقارت هناك، الأمر الذي يدل على عمق ودوام الروابط بين فينيقيي الغرب ومواطنهم الأصلية. وخلال فترة الاحتكاك الثقافي مع اليونان في النصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد، نجد العديد من التمثيلات الأيقونية لهذا الإله، والتي تحمل اسمه اليوناني هرقل. كما عبد البونيون أيضًا الإله الصيدوني إشمون الذي زادت شعبيته كإله للشفاء خلال فترة التواصل مع اليونان، ودُعي باسمه اليوناني أسكليبيوس.
  • آلهة ثانوية.

    ولدينا دلائل محدودة على عبادة الإله الكنعاني القديم رشف الذي قرنه اليونان بإلههم أبوللو. كما نستدل من أسماء العلم على وجود آلهة لم يرِد ذِكرها في النقوش، بينها صافون (وهو الشطر الثاني من اسم بعل صافون في المشرق) وشدَّد الذي ربما كان لقبًا بمعنى الرب الشديد أو القدير. وقد عبد البونيون في الفترات المتأخرة آلهة يونانية أيضًا بينها ديونيسيوس وأفروديت المعادِلة لأستارت وديمتر. وفي التعاويذ التي تُحمَل على شكل قلائد وما إليها، نعثر على أسماء آلهة مصرية مثل بتاح وحوروس وتحوت وآمون رع، الأمر الذي يدل على شيوع تقنيات السحر المصري لدى الشرائح الشعبية في المجتمع البوني. ولكن هذه الآلهة الأجنبية بقيت على هامش البانثيون البوني، ولم يكن لها مراكز دينية أو عبادة منظمة.

  • الطقوس: لقد كان للفينيقيين في الشرق وفي الغرب احتفالات دينية دورية في معابدهم وسنة طَقسية تُمارَس فيها الشعائر في مواعيد محددة، أو كلما دعت الحاجة إليها، ولكن الوثائق لا تمُدُّنا بالكثير من المعلومات بخصوصها. ويبدو أن القرابين كانت المَعلَم الرئيسي في هذه الشعائر، وذلك لكثرة الإشارة إليها فيما وصلنا من نقوش. فإلى جانب القرابين الحيوانية فإن طقس القرابين البشرية كان سائدًا لدى البونيين على ما تدل عليه الشواهد الأركيولوجية والنَّصية؛ فقد تم اكتشاف فناء خاص لتقديم الأضاحي البشرية في قرطاجة والمدن التابعة لها في شمال أفريقيا، ومعظمهم من الأطفال في السنوات الأولى من العمر على ما دلَّت عليه عظامهم المدفونة في الأرض ضمن جِرار فخارية. ولدينا شواهد على وجود مثل هذه الأفنية المقدسة في المستوطنات الفينيقية المتوسطية مثل صقلية وسردينيا. ويدعو علماء الآثار منطقة القرابين هذه توفة topheth، وذلك جريًا على التسمية التوراتية للمنطقة التي كانت تجري فيها طقوس قرابين الأطفال في وادي هنوم الواقع إلى الجنوب من مدينة أورشليم (راجع سِفر الملوك الثاني، ٢٣: ١٠).

    وفي نَص شهير له يصف المؤرخ ديودورس الصقلي توفة قرطاجة بقوله إن الأطفال كانوا يُوضَعون على ذراعَين ممدودتَين لتمثالٍ كبيرٍ من البرونز، ثم يُدفَعون إلى جوفه الذي أُوقدَت فيه نيران متوهجة. أما أهالي أولئك الأطفال فقد كان محرَّمًا عليهم ذرف الدموع؛ لأن التعبير عن الحزن من شأنه التشويش على القدسية التي يكتسبها القربان من خلال هذه الشعيرة التي ترتقي به من عالم البشر إلى العالم الإلهي. ويذكر ديودوروس أن القرطاجيين في عام ٣١٠ق.م. وبعد هزيمة عسكرية حلَّت بهم ضحوا دفعة واحدة بنحو ٢٠٠ طفل تم اختيارهم من أفضل العائلات النبيلة، وذلك لاعتقادهم بأن الآلهة غاضبة عليهم بسبب لجوء الأسر النبيلة إلى استبدال أولادهم الذين وقع عليهم الاختيار للقربان بأولاد يُشترَون لهذه الغاية. ووفقًا لهذا المؤرخ فإن القرطاجيين كانوا يضحون بالبالغين أيضًا لا سيما من الأسرى، ويروي عن مناسباتٍ تم فيها ذبح ألوف الأسرى بعد تحقيق النصر في المعركة.

١  W. F. Albright, The Role of Canaanites in the History of Civilization. in: G. Ernest Wright, ed., The Bible and the Ancient Near East, p. 338.
٢  من أجل معلوماتٍ وافية عن هذه الأزمة المناخية وصِلتها بالاضطرابات الاجتماعية في ذلك الوقت راجع:
W. H. Stiebing, Climate and Collapse, in Bible Review, August, 1994.
٣  Donald Harden, The Phoenicians. Pelican, 1971, chs. L and 3.
W. F. Albright, op. cit., pp. 340–343.
٤  من أجل مصدر شامل باللغة العربية عن التوسُّع الفينيقي راجع: محمد الصغير غانم، التوسُّع الفينيقي في غربي البحر المتوسط، المؤسسة الجامعية، بيروت، ١٩٨٢م.
٥  استندتُ في العرض التالي إلى المادة المعلوماتية لدى كلٍّ من D. Harden وS. Moscati، مع اختلافي معهما أحيانًا في التحليل والتفسير. انظر:
– S. Moscati, The World of the Phoenicians, Cardinal, London, 1977.
– D. Harden, The Phoenicians, Pelican, England, 1971.
٦  James Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, Princeton, 1969, pp. 533-534.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥