الزعامة في الشرق
كان الشرق مهد الحضارات، ومُعَلِّمَ الدنيا فيما غَبَر من الأجيال، بينما كان الغرب يعيش على البداوة، وتسوده الهمجية، وتغمره الجهالة، وتتعاقب عليه القرون المظلمة، وقد ظل أمر الشرق في سمو وصَعْدَة حتى أوفى على الغاية، ثم مضى يكر راجعًا، ويهبط منحدرًا؛ على حين بدأ الغرب يستيقظ، وراح يفيق من هجعته ويستوي على سياقه، ويتحرك ويمشي، ثم يثب ويطفر، فدارت بذلك دائرة السَّوء على الشرق وأهله، وتقدم الغرب يَرْقَى ويسمو صُعُدًا، وتزدحم بشعوبه أرضه وأقطاره، وذهب يلتمس آفاقًا جديدة، ويرتاد لمنازله ومعايشه، وينتجع لمُتَنَفَّس زحمته، والتخفيف من ضغط سكانه، فبدأ تاريخ الاستعمار من ذلك الحين، وهو تاريخ حَفَل بكثير من مشاهد الوحشية والمجازر الدامية والفواجع المتناهية؛ وما نعرف في ذلك التاريخ فتوحًا ولا غارات ولا منزل دولة غربية ببلد من البلاد، خَلت من هذه الحوادث البشعة، ومخاض الدماء الجارية، والاستعانة بكل وسائل الهمجية والعدوان.
ولعل القرن التاسع عشر كان بين القرون الأخيرة أحفلها بنشاط الاستعمار، فإن الدول العظمى راحت تتقاسم خلاله خريطة الدنيا جملة، على نسب متفقة مع شأن كل منها وقوته وسلطانه؛ فسقطت بذلك أمم كثيرة في أيدي المستعمرين ووقعت فريسات للمطامع، ونهبًا مقسمًا بين الدول المستعمرة، وكانت الدولة المغيرة تجد في ذلك متعة الظفر بأمم كبار، ومتعة المجد بالغلبة على حضارات قديمة، والسيادة فوق شعوب ذات عظمة ماضية وتاريخ مجيد.
ولكن الوطنية المدافعة — وطنية الشعب المغلوب على أمره — لم تمت تحت وطأة الوحشية الاستعمارية، وإنما وَنَت يومئذٍ وانزوت لكي تجد مسارب لها خافية، ومنافس لها متوارية، ومكامن لها في أعماق النفوس وأغوار الجوانح والقلوب.
ومهما يفعل الظلم وتُحدِث وطأة المستعمر، فإن الوطنية في الحق لا تموت، وإن لاحت يومًا متراخية، أو ظُنَّ أنها قد أسلمت أنفاسها وسكنت نأمتها؛ لأنها إنما تسكن حينًا على الألم، وتكمن حينًا على المضض، وتختفي دهرًا ما لتحتقن وتنحبس، ثم تنفجر في الساعة المعلومة وتنبجس، وتقذف من جوفها الحِمَمَ المدمرة فِعْلَ البراكين.
•••
كذلك ظلت الهند إلى نهاية القرن الماضي تحت نير الاستعمار البريطاني صبورة محتملة، ساكنة على الأذى، مقيمة على الضر؛ بينما كانت الأقدار تهيئ لها الظروف الصالحة لظهور الزعيم المناسب لها، والقائد الوطني الذي يلائم حياتها ويتفق وبيئتها ومحيطها، بل لقد احتاج الأمر إلى فترة من الدهر يقضيها ذلك الفرد الذي ارتضته الطبيعة لزعامتها خارج حدودها، للمرانة على القيادة، والتدرب على الجهاد، والاستعداد للموعد المعلوم والأمر المنتظر؛ فهيأت له موضعًا خارج الهند يتدرب فيه ويتجهز، وينغمس — بادي الرأي — في الحضارة الغربية ليعرفها معرفة المجرب، ويمتزج بالمدنية الإنكليزية ليعاينها معاينة الخبير المحنك، حتى إذا استكمل علمه بها، واستتم تدربه للدور الخطير الذي أعد له، ويُبْتَلى بالظلم ذاته الذي أرسلته العناية الإلهية لمحاربته حتى يمتحنه في نفسه، ويشهده بخبرته وحِسِّه، أطلعته فجأة في ساحة الجهاد ليؤدي رسالته إلى وطنه، ويستحوذ على إعجاب الدنيا كافة بأمره العجب وخليقته المستغربة، ودينه الجديد …!
هكذا ظهر غاندي المتواضع الحَيِيُّ غير المتكلف، حتى ليكاد يبدو أحيانًا المتهيب المتردد، وإن أحسست أنت منه النفس الأبية التي لا تقهر ولا تذل، الشجاع الصريح لا يعرف تراخيًا ولا مساومة ولا مكابرة في الباطل، أو مداجاة في الخطأ، ولا يعرف النزعات «الدبلوماسية»، بل ينكرها ويمقتها، ولا يعمد إلى التأثير الخطابي بفخم الكَلِم وحماسة العبارة، وإنما يعافها ولا يتقبلها ولا يفكر لحظة فيها، وينزوي بشعور باطني من مظاهر الحفاوات والترحاب به في المجامع والندوات العامة، ولا يدع دويَّ الهتاف باسمه، ولا صاخب الصياح من حوله، في حشدة الجماهير، وتزاحم الناس عليه، يحجب صوت ضميره، ويبدد نجوى نفسه التي بين جنبيه.
هذا هو الرجل الذي وصفه «دوك» صديقه بقوله: «إنه ليس بالخطيب المتقد المتحمس، وإنما هو الهادئ الساكن المعتمد في خطابه على مجرد ذكاء سامعيه، ولكن سكينته هذه تضع الموضوع الذي يناقشه أو يتحدث عنه تحت أسطع الأنوار ومتوهج الضياء وفي أصرح البيان، وإن تموجات صوته لا تكاد تختلف أو تتغير، ولكنها مع ذلك الصادقة البالغة الصدق، المخلصة الجهيرة الإخلاص، وهو لا يكاد يحدث حركات ولا إشارات بيديه وذراعيه إذا هو خطب الناس، بل لا يكاد يحرك خالجة فيه، ولا أنملة واحدة من أنامله، وإن كانت كلماته الواضحة، وعباراته القوية الجزلة، وجمله الموجزة القاطعة، تحمل في طياتها قوة الإقناع، وتنطوي في تضاعيفها على روعة الحجة الصادقة وجلال القول الفصل المبين.»
هذا هو الرجل الذي حرَّك نفوس ثلاثمائة مليون من خلق الله وبعثهم على الثورة، وحفزهم إلى النهوض؛ بل هذا هو الرجل الذي هز الإمبراطورية البريطانية من القواعد، وأدخل على السياسة الإنسانية أقوى دافع ديني شهدته الدنيا من ألفي سنة!
هذا هو المسيح في الوطنية، جعلها دينًا من الأديان، وأحاطها بأعمق الإيمان، وحرسها بأروع اليقين.
وقد سافر إلى إنجلترا لاستكمال دراسته وهو في التاسعة عشرة من العمر، وكان قد تزوج وهو صبي صغير في الثانية عشرة على عادة قومه، وإن كان المتأفف الكاره لهذا البكور في القران، فالتحق أولًا بجامعة لندن، ثم درس فيما بعد الحقوق، وعاد إلى الهند في سنة ١٨٩١ بعد قرابة أربع سنوات قضاها في سبيل العلم مغتربًا، وهو يومئذٍ معجب بالحياة الإنكليزية، متعشق لحضارتها الزاهرة، وإن ظل الحريص على موثقه لأمه وعهده في الحرص على دينه.
ولم يلبث أن نزح إلى جنوبي أفريقيا، حيث كان ألوف من أهل الهند قد استوطنوا التماس الرزق، وبحثًا عن القوت والمعاش؛ فوجد الحكومة تضطهدهم وتطغى عليهم بما تصطنع في تكريههم المُقام بأرضها من شواذ القوانين.
عند ذلك بعثه غضبه لكرامة بني قومه على الدفاع عن أولئك المظلومين المعصوف بهم، فلم يحفل بما كان يكسبه من صناعة المحاماة يومئذٍ، وكان مورده منها نحو خمسة آلاف أو ستة آلاف من الجنيهات في السنة، وآثر الفاقة وارتضى الحرمان، مودعًا النعماء، مغادرًا حياة الرغد؛ ليقاسم بني وطنه الألم والجوع والظلم والتشريد.
ومن ذلك العهد بدأ غاندي جهاده النفسي الذي صحبه وعكف عليه عكوف المؤمن العميق الإيمان من سنة ١٩٠٧ إلى سنة ١٩١٤، غير جازع ولا آبه بما لقيه من سجن وإيلام وتشريد وتعذيب، ويومئذٍ عاد إلى الهند تستبقه الشهرة بأنه الزعيم الهندي الجديد.
وإذا كان القرن التاسع عشر قَرْنَ الوطنية المهاجمة، والنزوع الاستعماري الموحش الرهيب، فقد جاء القرن العشرون ليكون بداية ظهور الوطنية الدفاعية في الشرق، وانبثق نور الزعامة في أكثر نواحيه.
وكان أروع مظهر لتلك البداية ظهور غاندي في الهند قبيل الحرب العظمى، وكان قد سبقه جوكهيل مؤسس الحركة الوطنية الهندية، بل ذلك الأستاذ الشيخ الجليل الذي نسيته «الهند الفتاة»، ولم تعرف حقه الأجيال المحدثة، وإن كان غاندي قد عرف له سابقته في الجهاد، وأخذ عنه في صباه وحداثته، وعتب على بني قومه نسيانهم لذكراه، وجحودهم لفضله الذي يستحق التقدير.
ولم يكن غاندي يومئذٍ يكره الإنكليز، بل لقد شخص في مبتدأ الحرب العظمى إلى عاصمة بلادهم لتنظيم فرقة من بني وطنه لأعمال الإسعاف، وكان يعتقد عن صدق نية أنه فرد من أفراد الإمبراطورية البريطانية، وأن من واجبه الاشتراك في الدفاع عن مصيرها، وقد وصف فيما بعد شعوره ومبلغ خدمته للإنكليز، فقال في رسالة له سنة ١٩٢٠ مخاطبًا معاشر البريطانيين إنه لم يخدم «إنكليزيٌّ» الدولة بأصدق مما خدمها هو، مخلصًا لها الخدمة، مُمَحِّضًا إياها الولاء، حتى لقد جازف بحياته أربع مرات في سبيلها، وقد ظل يعتقد وجوب التعاون معها حتى تكشفت هي على حقيقتها؛ فلم يلبث أن زال من نفسه ذلك الاعتقاد، وتلاشى ذلك الإيمان.
ولم يكن غاندي هو وحده المخدوع يومئذٍ من هذه الناحية، بل لقد كانت الهند كلها قد انخدعت في سنة ١٩١٤ بتلك الكلمات السامية التي كان الحلفاء ينادون بها في جوانب العالم وأنحائه، وهي أنهم يحاربون من أجل الحق والعدل، ويريدون إنقاذ السلام في العالم وتنجية الحضارة والمبادئ الإنسانية العالية.
وكانت الحكومة الإنكليزية — وهي تسأل الهند معونتها — قد راحت تمنيها أجمل الأماني، وتعدها أكبر الوعود، وترسم لها الغد المنتظر بعد النصر في أزهى الألوان، وأجمل الزهر والورود والرياحين.
فما كان من الهند إلا أن بادرت إلى النداء، وأجابت السؤل غير مترددة ولا وانية، فساهمت بنحو مليون مقاتل، وبذلت أسخى بذل، ورضيت بأكبر التضحيات، وانتظرت صبورًا مترقبة متلهفة على تحقيق تلك الوعود.
ولكن اليقظة كانت خطيرة، والحقيقة التي مثلت للهندسة ١٩١٨ مخيفة صاعقة قاسية؛ فقد تنكرت بريطانيا لها بعد النصر، وراحت تنظر إليها النظر الشَّزْر، وتناست وعودها الماضية، وحنثت في عهودها الكثيرة، وتأهبت لملاقاة الموقف بأشد العنف وأقسى العدوان.
هنالك انفجرت الثورة في الهند، وقام غاندي ليتولى قيادتها إلى ساحة الجهاد وميدان الكفاح والنضال، ولكنه في سنة ١٩١٩ لم يشترك في الثورة القومية اشتراكًا فعليًّا ظاهرًا، وإنما الذي أسهم فيها كل الإسهام، وتقدم إليها بكل عزم وجرأة وإقدام، رجل آخر من طراز آخر، وهو لوكا مانيا بال جانجدبار «تيلاك»، رجل نادر خارق للمألوف نشاطًا وقوة واعتزامًا، رجل اجتمعت فيه المزايا الثلاث؛ العقل الكبير، والإرادة القوية، والخُلُق الرفيع؛ بل لعله كان أذكى من غاندي أو على الأقل أكثر «شرقية» منه وأعْرَفَ بالثقافة الآسيوية، إذ كان أديبًا ورياضيًّا من كبار علماء الرياضيات، وقد ضحى بكل أطماعه الشخصية لكي يتوفر على خدمة بلاده.
وكان مثل غاندي أزهد الناس في الإعلان عن ذاته والتماس المجد لشخصه؛ لأن كل مطمحه هو نجاح مثله الأعلى وانتصار فكرته حتى يستطيع اعتزال الميدان السياسي، ويعاود عمله العلمي ودراسته وبحوثه القديمة.
لقد كان تيلاك يومئذٍ زعيم الهند جميعًا، وليس يدري أحد ماذا كان سيحدث لو أن الأجل أنسأه وامتد به فلم يخترمه الموت في سنة ١٩٢٠؟!
ولكن الظاهر أنه لو كان تيلاك عاش واستطال الأجل به لَظَلَّ غاندي — الذي كان يعترف له بعبقريته، وإن اختلف عنه اختلافًا جوهريًّا من ناحية أساليبه ومبادئه وسياسته واتجاهه — الزعيمَ الدينيَّ للحركة الهندية، بل يومئذٍ ما كان أروع مشهد الهند وهي تسير خلف هذه الزعامة المزدوجة، ولو قد كان ذلك لراحت الهندُ القويةَ المرهوبةَ لا تُغَالَب؛ لأن تيلاك كان زعيمًا عمليًّا بالقدر ذاته الذي كان به غاندي زعيمًا دينيًّا أو زعيمًا روحيًّا، عظيم السلطان على الأرواح والأذهان.
غير أن القدر حال دون ذلك، وهو ما يؤسف له، لا من أجل تيلاك نفسه، بل من أجل الهند جمعاء، بل من أجل غاندي بالذات؛ لأن غاندي أصلح ما يكون زعيمًا للصفوة المختارة، أو زعيمًا للطبقة المتعلمة، وكان هذا هو جل ما يبتغيه غاندي نفسه ويتمناه، بل كان هذا أوثق شيء بالنسبة له وأنسب موضع لطبيعته، وكان — بلا ريب — سيروح السعيد المغتبط يترك صاحبه «تيلاك» يقود الأكثرية ويسود الدَّهماء، وكان غاندي بالأكثريات دائمًا قليل الإيمان، بينما كان ذلك شأن «تيلاك» وديدنه؛ فقد كان يؤمن بالجماعات، وكان «ديمقراطيًّا» بالغريزة، وسياسيًّا لا يبالي الاعتبارات الدينية، مناديًا بأن السياسة لم تُخلَق للقديسين ولا لرجال الدين، ولو عاش هذا الرجل لضحى بكل شيء في سبيل انتصار وطنيته؛ لأنه وإن كان في حياته الخاصة مثال الرجل النقيِّ الأمين المستقيم، لم يكن ليتردد في القول بأن في السياسة كل شيء جائز، وكل أمر مقبول.
ولكن غاندي لا يرى هذا الرأي ويأبى إلا أن يسمو بمبادئه الخيالية إلى أبعد الآفاق، فلم يتفقا ولم يتلاقيا عند رأي واحد، وإن ظل كل لصاحبه محترمًا قادرًا حق التقدير؛ فقد كان غاندي يشعر بأنه إذا ما تعارض الحق والصدق مع الحرية والاستقلال في ناحية الأسلوب ووسائل الجهاد، فإنه بلا أقل ريب يفضل التزام الصدق والحق على الحرية بل على الوطن ذاته، على حين كان تيلاك يرى العكس، ويعتقد أن وطنه مقدم فوق كل شيء في هذه الحياة، وأن مصلحته تستبق كل اعتبار في الوجود.
وقد قال غاندي في ذلك: «إنني مقترن بالهند؛ لأنني معتقد تمام الاعتقاد أن عليها رسالة تؤديها إلى هذا العالم … وليس لديانتي أو عقيدتي حدود جغرافية ولا تخوم، وإنما إيماني بها يعلو على كل شيء حتى على الهند نفسها.»
وإن غاندي في ديانته وإيمانه لينزع بقلبه الإنجيلي منزع المسيحية المتسامحة إلى أبعد الحدود، بل هو تولستوي جديد، تولستوي آخر، ولكن أرق حاشية، وأروع وداعة، أو إن شئت فقل أكثر مسيحية؛ إذ لا ينبغي أن ننسى أن تولستوي لم يكن مسيحيًّا بالطبيعة والفطرة، وإنما كان كذلك بالمجاهدة والرياضة وقوة الإرادة.
وأقرب وجوه الشبه بينهما وأبرزها اشتراكهما في النعي والتنديد والنقمة من الحضارة الحديثة بسبب ما حوت من مفاسد ومَضَالَّ ومساوي وأكاذيب.
ومنذ بدأ روسو سخريته من الحضارة، وهي في أوروبا مرمى سهام أكبر العقول في الغرب وأعظم الأذهان، فإن هؤلاء هاجموها طلقاء الفكر، وحاربوها غير هيابين ولا مشفقين، وحين بدأ الشرق يستيقظ ويحس شيئًا من القوة يعاوده، ويشعر بالتمرد على الظلم والطغيان والعذاب الذي سامه الغرب، وألحَّ به عليه، باتساع نطاق الاستعمار، واحتداد جشعه ومطامعه، لم يكن بحاجة إلى أكثر من أن يتصفح سجلات تاريخ أوروبا نفسها؛ لكي يتبين آثار مدنيتها الكاذبة، وما أحدثته في الدنيا من أذى وشر وضر وبلاء مستطيل.
وقد فعل غاندي ذلك، بدليل أنه في كتاب «هندسواراج» — أي «استقلال الهند» — قد راح يعدد كتبًا وتواليف مما كتب الغربيون، ومن بينهم لفيف من الإنكليز أنفسهم، في تجريح المدنية الغربية واستنكارها والتنديد بها، وإظهار ما فيها من شرور ونقائص ومعايب وسيئات.
ولكن ليس ثَمَّ أبلغ من هذه الناحية ولا أنطق دليلًا ولا أقوى حجةً وسجلًّا وتدوينًا مما كتبته أوروبا نفسها بمداد من دماء الشعوب التي اعتدت عليها وظلمتها وأفسدتها كل إفساد باسم أكذب الدعاوَى وأعجب المبادئ على الحق اجتراءً، وبخاصة في الفترة التي استغرقتها الحرب الماضية، فانكشفت أوروبا خلالها عن أكاذيب ووحشية وضراوة وجشع شديد، تلك الحرب التي زعم الغرب أنها حرب الحق والعدل، حرب الحضارة واستنقاذها، بل الحرب لتخليص المدنية من أعدائها الألدَّاء؛ فقد هوت أوروبا يومئذٍ من السوء والرذيلة والشر إلى أبعد الأغوار وأسحق قرار، حتى لقد بلغ بها الجنون أن دعت شعوب الشرق إلى الفرجة عليها وهي متجردة عارية مهتوكة الحجب مهلهلة الثياب، فرأوها على حقيقتها بادية للعيان، وأصدروا عليها حكمهم الصحيح.
وفي ذلك قال غاندي سنة ١٩٢٠: «لقد أبدت لنا الحرب الأخيرة بأبلغ برهان قيمةَ الحضارة التي تسود أوروبا اليوم، فقد حطم المنتصرون فيها كل فضيلة من فضائل الأخلاق باسم الفضيلة نفسها … فما من أكذوبة تَوَرَّعت عنها، وما من جريمة اقترفت إلا كان الباعث من ورائها جشعًا ماديًّا يدفعها، إن أوروبا اليوم مسيحية اسمًا فقط، وهي في الحقيقة والواقع وثنية اتخذت المادة لها ربًّا معبودًا وإلهًا من دون الله!»
المدنية في نظر غاندي هي مدنية بالاسم فقط، أما في الواقع فهي أشبه شيء بما تسميه الهندوكية القديمة «القرون المظلمة»؛ لأنها أقامت «المادة» أو الحياة المادية غرضها الأوحد في الحياة، ولأنها أصبحت تسخر من الروحانيات، فهي جحيم للضعفاء والطبقات الفقيرة والكادحين للأرزاق والأقوات، وهي تعتصر حيوية الإنسان وتمتص دماءه امتصاصًا، وسوف تحطم نفسها بنفسها على الأيام.
الحضارة الغربية هي عدو الهند اللدود، وخصمها الحقيقيُّ الأوحد، وهي في ذلك أكثر من الإنكليز، فإن هؤلاء — أفرادًا — لا بأس بهم، وهم — مجموعًا — ضحايا هذه الحضارة والمرضى بها، والعُنَاة من شرها وأدوائها. وإن غاندي ليسخر من بني وطنه الذين يريدون أن يطردوا الإنكليز من بلادهم ليتولوا هم ترقيتها وتحضيرها وفق أقيسة الغرب وحضارته؛ فإن ذلك في نظره كمثل اكتساب طبيعة النمر وضراوته، وإن غاب النمر نفسه وتوارى في حد ذاته، ومن ثم كان واجب الهند وغرضها الأوحد أن تصد تيَّار هذه الحضارة بل تمحو كل أثر لها من الوجود.
وأشد ما يكره غاندي من هذه المدنية قلبها وجوهرها أو «ميكانيكيتها» الحديثة، فإنها اليوم تعيش في عصر الحديد، بل عصر الآلات، حتى لقد استحال قلبها فولاذًا أصم جامدًا، وأصبحت الآلات هي المعبود الضخم العظيم، ومن ثم كان جل ما يتمناه غاندي هو أن يرى الآلات قد مُحِيت آثارها جميعًا ومُسِحت من الهند مسحًا.
وقد يعترض عليه المؤمنون بناموس التقدم والارتقاء مسائلين: وماذا ترى يكون مصير الهند إذا استغنت هي عن الآلات؟! فيجيب غاندي على هذا السؤال بسؤال آخر، وهو: ألم تكن الهند موجودة قبل وجودها؟! لقد ظلت الهند ألوف السنين تقاوم وحدها طوفان الدول، وتقلب السلطان، وصروف الدهر، وغِيَر السنين، حتى تعاقبت تلك جميعًا وبقيت هي ماثلة حاضرة، ولقد مثلت الهند على الدهر فضيلة القناعة وضبط النفس، وتوَاتى لها من ذلك الرضى والهناء، فهي ليست بحاجة إلى أن تتعلم شيئًا آخر من الأمم، أو تتلقى درسًا آخر من الشعوب، وهي في غِنًى عن الآلات، فإن سعادتها الغابرة كانت قائمة على المحراث والمغزل والفلسفة فحسب، فما عليها إلا أن تعود إلى مصادر سعادتها الماضية، ولا يمكن أن يتم ذلك عاجلًا، ولكن لا بأس من أن يحدث تدريجًا وعلى مهل.
فليس للقرون في اعتبار الهند حساب، كما أن غاندي يؤمن بأن استقلال الهند حتى تعيش هذا العيش وتكتفي بهذا النحو من أسلوب الحياة، لا يمكن أن يأتي عنفًا، ولكنه إنما يتواتى بقوة الروح، فإن هذا هو سلاح الهند الوحيد، سلاح الحب والحق، أو ما يسميه هو بلغته «السايتا جراها»؛ أي قوة الحب وسلطان الإيمان، وما اصطلحنا نحن عيه بقولنا «المقاومة السلبية» وإن كان غاندي شديد الكراهية والنفور من هذا الاصطلاح؛ لأنه يستنكر «السلبيات»، إذ هو الرجل المحارب المكافح الذي لا يحس الكلال، ولا يكف عن المقاومة، وهي المقاومة التي تعمل وتكد وتجاهد، المقاومة العقلية النشيطة التي لا تجد مُتَنَفسها في العنف ووسائله، بل في الحب والإيمان والتضحية والفداء.
وهو في ذلك يقول: لا تأتي القوة من القدرة البدنية، ولكنها تأتي من الإرادة القوية الغلابة التي لا تُقْهَر. وليست الرغبة عن العنف معناها الاستضعاف والذل والخضوع لإرادة المسيء، وإنما معناها الاعتصام بكل قوة النفس وإرادتها حيال المتجبر والطاغية، وضد الظالم العاتية، وفي استطاعة الفرد وحده إذا هو عمل بهذا واتبع سبيله لأنه قانون الحياة وشرعة الوجود، أن يتحدى قوة أكبر دولة، فيسقطها إذا هي كانت ظالمة، ويعيد بناءها إذا هي اتبعت طريق العدل والإحسان.
وغاندي في ذلك إنما يبني هذه العقيدة على مزايا «الألم» وقوته وفضله، فيقول إن الألم هو الناموس العظيم، بل هو سر الحياة البشرية وقانونها الأبدي وشرعها الثابت؛ فإن المرأة تتألم وتتلوى وتتعذب في المخاض لكي يحيا وليدها، كما تأتي الحياة من الموت، وكما تنمو السنابل بتلاشي البذرة. وما من بلد نهض يومًا وارتقى إلا وقد تطهر ونَقِيَ بمخاضه نيران الألم وانصهاره في أتون العذاب، فمن المستحيل الاستغناء عن قانون «الألم»؛ لأنه الشرط الذي لا غنى عنه في هذه الحياة، وليس معنى «الرغبة عن العنف» كمُحرك بالغ الأثر إلا أنها الرضوان بالألم … ولقد وضعت أمام الهند ناموس «التضحية» بل ناموس الصبر على الألم، وإن الأولياء والقديسين الذين كشفوا هذا القانون وسط أشد أنواع العنف وأقسى ضروب الأذى والطغيان، كانوا والله أعظم عقولًا وأكبر عبقرية من «إسحق نيوطن»، بل كانوا أكبر محاربين وأروع مكافحين من ويلنجتون ذاته. ولم يقصد هذا الناموس بالأولياء والصالحين وحدهم، ولكنه مراد بالناس جميعًا، والخاصة والعامة بالسواء.
«فإذا اتخذت الهند العنف عقيدة لها فلن أرضى لنفسي المُقَام بها، ولا أحب العيش فيها، ويومئذٍ لن تثير في نفسي فخارًا بها، ولن يبقى لها في نفسي أي موضع؛ لأن وطنيتي خاضعة لديانتي، مقيدة بعقيدتي، وأنا في نسبتي وتعلقي بالهند كمثل الطفل المتشبث بثدي أمه، وما ذلك إلا لأنني أشعر بأنها ترضعني أفاويق الغذاء الروحي الذي أحتاج إليه، فإذا هي خذلتني كنت كاليتيم البائس الذي لا يجد وليًّا ولا نصيرًا، ويومئذٍ فلتكن قمم «الحملايا» المغطاة بالجليد موئلي وملاذي، أجد لديها ما هي مُكْسِبَتي وماسحة عن روحي الدامية …!»
وكذلك راح غاندي يمزج الوطنية بهذا العنصر الديني العجيب، ويقود الهند به إلى الجهاد، وقد طالما لقي في سبيله الألم، وزج به في غيابات المحابس، وقد حار خصومه في أمره، ولم يعرفوا ماذا يصنعون به؛ فكانوا كلما سجنوه عادوا بعد حين فأطلقوا سراحه، وهو في السجن والسراح هو لا يُغَالب ولا يقهر ولا ينثني عما هو ماضٍ فيه يأسًا أو قنوطًا.
وقد جرت هذه المبادئ الدينية التي اختلطت بوطنية الهند إلى الاستعانة بوسائل مناسبة لها، وهي المقاومة السلبية «وعدم التعاون»، وفي حماسة الثورة راحت هذه التعاليم تغمر النفوس في الهند جلدًا على الألم، واستماتة بالتعذيب، وتدفع الشباب إلى الشهادة، وتحبب إلى نفوسهم الموت في سبيل الوطن ولقاء المدافع رُحُبَ الصدور، ولكن لا تلبث بعد الثورة أن تحمل الناس على التساؤل في قيمتها ومبلغ نفعها، وتثير في النفوس الشك في صلاحيتها والمداومة على التدرع بها، كما أن اختلاف النِّحَل في الهند وكثرة الملل، وتعدد الطوائف والديانات، ظل أكبر حائل دون الوحدة الروحية التي نادى غاندي بها وأهاب، والتي جعلها صيحته المترددة الصدى في كل مكان.
وقد تولى غاندي الدفاع عن الطبقات الصغيرة، تلك الطبقات العامة المَهِينة التي وطئها الظلم بأقدامه، وديست بالصَّغَار، وسُمي أهلها «بالأنجاس» و«المنبوذين»، ولم يكن هذا الإحساس جديدًا عليه في الكبر، ولكنه نشأ معه من الحداثة، حتى لقد اعتزم وهو في الثانية عشرة أن يمحو هذه الوصمة عند الهند، ويزيل هذا العار من حياتها الاجتماعية، بل لقد بلغ من سخطه على هذا التفريق الشنيع بين الأخ وأخيه في شركة الوطن الواحد أنه كان يقول إن بلاده تستحق كل ما أصابها من ظلم الغير وطغيان الأمم جزاءً لها وانتقامًا منها على هذا النظام الفاسد المُنكَر الشنيع، وهو في ذلك ينادي مصارحًا؛ إذا كان الهنود قد أصبحوا عبيدًا أذلاء للأمم الأخرى، فقد حق ذلك عليهم جزاءً وفاقًا، وحل بهم انتقامًا من رب عادل منتقم للضعيف، أفلا ينبغي لنا نحن «الهندوس» أن نغسل أيدينا الملوثة بالدم قبل أن نطلب من الإنكليز أن يغسلوا هم أيديهم؟ … إن «المنبوذية» قد حقرتنا في أعين الأمم، وحقرت شأننا في العالم، وما دام الهندوس قائمين عنادًا وتشبثًا على الاعتقاد بأنها جزء من دينهم، فسوف يظل بلوغ الاستقلال مستحيلًا علينا مهما صنعنا ومهما جاهدنا، إن الهند لأثيمة مذنبة، ولم يفعل الإنكليز بها أسوأ مما فعلت هي بنفسها، إن أول واجب علينا أن نحمي الضعفاء ونذود عمن لا نصير لهم ولا معين، ولا نؤذي إحساس أحد من الناس، ولن نرقى عن مستوى الحيوان حتى نتطهر من الخطايا التي اقترفناها في حق إخواننا المساكين.
ومن ثم راح غاندي يجاهد في سبيل جعل الهند وحدة كاملة، سامية فوق اختلاف الملل والنحل والأديان؛ لأنه أقام جهاده الديني أو رسالته الروحية فوق وطنيته، وهو في ذلك يقول: «الوطنية عندي هي حب الإنسانية؛ فأنا وطني لأنني إنساني محب لخير الناس، وإذا كنت قد اشتركت في السياسة، فما ذلك إلا لأن السياسة قد أصبحت اليوم تلتف علينا كالتفاف الحية لا سبيل إلى الخلاص منها مهما حاولنا، وليتني أستطيع أن أتغلب على هذه الحية التي أحاطت بي … إنني أحاول أن أمزج السياسة بالدين.»
وأكبر الظن أن هذا الذي أصر غاندي عليه واستنفد كل قواه فيه، هو الذي أدى في النهاية إلى فتور حركته، وانقطاع ما كان موصولًا من رسالته، ومكن لخصومه من إحباط مساعيه وإفساد مهمته؛ لأن غاندي قد قام يطلب أمرًا عسيرًا للغاية، ويجعل هذا الأمر نقطة ارتكاز في سياسته وما كان منتظر لغاندي أن ينجح وشيكًا؛ لأن الحاسة الدينية شديدة متأصلة في الهند، والاختلاف الطائفي فيها غائر الجذور، بعيد العمق، متشعب، كثير النواحي، متعدد الوجوه، بسبب كثرة النِّحَل والملل، حتى لتبلغ العشرات، مما لا يتسنى التغلب عليه، ولا يمكن معه إيجاد الوحدة الوطنية الكفيلة في قضايا الاستقلال بالنجاح.
وقد انقطعت اليوم أخبار غاندي، وعقب فشل مؤتمر المائدة المستديرة أخلد إلى رسالته الروحية؛ ولكن أكبر ظننا أن فتور حركته هذا إلى حين، وأنه سينبعث مرة أخرى فيملأ سمع الدنيا بحديث نهضته وجديد ظهوره.
على أن «غاندي» لم يعد اليوم اسمًا لشخص من الأشخاص، ولكنه مَثَلٌ وقدوة، وعقيدة ومبدأ، ودين جديد ورسالة، ولكنها رسالة لا تنحصر في الهند، ولا تحتبس داخل حدودها وإنما تسري رويدًا في العالم، وتتمشى على مهل لتغمر الدنيا كافة؛ لأنها رسالة الحق غير المسلح، الحق الوديع الراغب عن العنف، حيال القوة المدججة، القوة الغاشمة التي تدَّعي أن الحق لها ما دام السيف في كفها، والقذيفة فوق كتفها، والمدافع من حولها، وفي البحر لها الجارية المسلحة والسفين.
هي رسالة عامة للإنسانية، وإن كانت الهند هي مهدها ومحل ظهورها، بل ضحيتها وتفديتها، وقد تكون رمز صليبها، كأنما قدر على كل صاحب رسالة أن يكون ضحيتها، قبل أن تنتشر وتهب الدنيا قوة وحياة جديدة.
ولكن اعتقادنا أنه لن يطول الزمن على الهند حتى تصل إلى الغاية التي توسلت برسالة غاندي إلى بلوغها، وهي «الاستقلال»، فإن أوروبا التي سوف تدميها الحروب والثورات، وتنهك قواها الفاقة والإعياء، وتتلاشى هيبتها القديمة في عين الشرق الذي طالما بغت عليه واستبدت به، لن تستطيع في أرض الشرق وأقطاره وآفاقه مقاومة أمانِيِّ شعوبه المستيقظة، وأممه الناهضة.
بَيْدَ أن هذا إذا هو وقع فلن يكون كبير الخطر ولا عظيم القيمة ولا خطير النتائج — مهما كان من فضله في اشتراك بضعة شعوب جديدة في مجمع الإنسانية وجوقة العالم والمسرح الدولي — إذا لم تصبح رسالة الشرق أو رسالة غاندي أو هذا الروح الآسيوي، هي الأداة لمثل أعلى جديد في الحياة والموت، بل في العمل والتصرف والسياسة وسائر نواحي الحياة بالنسبة للإنسانية جمعاء والعالم بأسره.
نعم، لن يكون لمجرد نجاح الشرق في استغلال ضعف الغرب قيمة ولا خطر إذا لم تتحقق هذه الرسالة؛ إذ كل ما سيكون في الأمر يومئذٍ أنَّ قويًّا ضعف، وضعيفًا قد استحال قويًّا، وأن الدائرة إنما دارت على الجهاز القديم ذاته، والمبادئ العتيقة نفسها؛ وإنما الخطر الكبير والشأن العظيم هو أن تتغير نظرات الإنسانية إلى الحياة، وتتحول إلى مُثلٍ جديدة على ضياء الرسالة الغاندية التي أراد بها غاندي إنقاذ العالم لا الهند وحدها، ونادى بها كمبدأ عام قد حان للإنسانية كافة اعتناقه.
لقد أصبحت القوة المادية طاغية سائدة متفوقة، وقد هبت ريحها العاتية تريد أن تذرو حصاد الحضارة وتبدده تبديدًا، ولم تثر هذه الزوابع والعواصف فجأة أو لوقتها وساعتها، ولكنها نتيجة اجتماع أجيال عديدة من زهو الأمم بذاتها، وفخار الشعوب بأنفسها، ذلك الزهو الذي غذَّاه روح الثورة الفرنسية الكبرى ووثنيتها الجديدة للمبادئ الخيالية، بل نتيجة قرون متوالية من الحروب الوحشية والديمقراطيات المزيفة، انتهت إلى هذا القرن «العشرين»، قرن الرأسمالية الموحشة في ميادين الصناعة، قرن الطبقات الممولة الجشعة النهمة القاسية، بل قرن الماديات والاقتصاديات، حيث السلطان العقلي للمادة دون سواها، وكان طبيعيًّا أن ينتهي ذلك كله إلى هذا النزاع الرهيب والصراع المخيف الذي يوشك أن يحطم أوروبا كل مُحَطَّم، ويفني قواها كل إفناء.
لقد أصبح كل شعب في أوروبا يريد أن يقتل الآخر باسم المبادئ ذاتها والدوافع نفسها التي تخفي في ثناياها غرائز قابيل قاتل أخيه، وأضحى الكل سواء منهم النازيون والفاشيون والبلاشفة، بل سواء منهم الطبقات المظلومة والطبقات الظالمة، يدَّعون أن لهم الحق في استخدام «القوة»، بينما هم يأبون على غيرهم هذا الحق المزعوم.
منذ نصف قرن مضى كانت القوة هي التي تسود الحق، فأصبح الأمر اليوم أسوأ وأضل سبيلًا، وأصبحت القوة هي الحق! بل لقد انقضت القوة على الحق فأكلته!
وليس في أوروبا ملاذ من هذه الحال ولا أمل في إصلاحها ولا رجاء ولا بريق ضياء، حتى الدين نفسه لم يعد له على النفوس من سلطان، فإن أهله قد راحوا يضعون نصحهم وموعظتهم في لفائف وأغشية، أو في جرعات مخففة؛ لكيلا يغضبوا «القوة» ولا يستهدفوا لعداوة السلطان، بل إن أهل الدين أنفسهم والقوامين عليه لا يضعون المُثُلَ ولا هم القدوة الحسنة، بينما يتحدث أنصار السلام أوْهَى الحديث عنه، حديث قوم عن شيء لم يعودوا مؤمنين به، إذ لا يدلل على الإيمان غير العمل والجهاد والغيرة الصادقة.
هذه هي رسالة الهند، كما قال غاندي، وجوهر رسالتها هو «التضحية بالذات»؛ إذ هو في ذلك يقول: «أرجو أن ينمو هذا الروح، روح التضحية، كما أرجو أن تزداد أيضًا الرغبة في الألم والرضى به، فإن هذا هو الحرية الصميمة، وليس ثَمَّ شيء أسمى من ذلك ولا أعلى، حتى الاستقلال السياسي نفسه … لقد آمن الغرب بالقوة والثروة المادية، ومهما يَصِحْ مناديًا إلى السلام ونزع السلاح، فإن وحشيته ستروح أعلى صوتًا وأشد صياحًا، وإنما نحن الضعفاء المساكين في الشرق هم الذين ينبغي أن ينقذوا العالم من هذا الجنوح المتأصل الرهيب.»
هذه هي رسالة غاندي، وقد تكون بطيئة المَسْرَى، ولكنها مع ذلك قد تحركت في الشرق، ولا بد من أن تصل إلى غايتها في يوم من الأيام.
•••
في سنة ١٩٢١ عاد إلى الهند رجل كان يطوف أوروبا وقد لبث أعوامًا طوالًا لها طائفًا، وفي آفاقها متنقلًا، يجمع الحكمة، ويجد في التجوال الخبرة بالدنيا، والتجربة للحقائق، ورؤية الحياة في مختلف نواحيها، رجل فيلسوف لم يلبث أن ملأ اسمه سمع الإنسانية، واشتهر ذكره في العالم كله، وهو طاغور أو «رابندرانات طاغور» بكامل اسمه، فإن هذا الشاعر الفيلسوف قد دهش عند مآبه إلى بلاده من التطور العقليِّ الذي بدا أثره في قومه، وكان قبيل رجعاه قد أبدى قلقه من هذه الناحية في رسالات بعث بها من أوروبا إلى أصحاب له في الهند وأصدقاء.
لقد كان طاغور ينظر دائمًا إلى غاندي كقديس أو وليٍّ، ويعده أسمى من تولستوي، وأبهر منه ضياء، ذاهبًا إلى أن غاندي صادق الطبيعة، نقي من الشوائب، بسيط للغاية، بعيد من التكلف؛ بينما الأمر عند تولستوي غير ذلك، فإن كل شيء عنده هو الثورة المزهوة المتكبرة ضد الزهو والكبرياء، والكراهية حيال الكراهية، والشدة ضد الشدة؛ أي أن كل شيء عند تولستوي عنيف قوي صارخ، أما غاندي فكل شيء عنده وديع هادئ ساكن رهيب السكينة والجلال.
وقد كانت نية طاغور حين غادر فرنسا عائدًا إلى الهند أن يؤيد غاندي صادق التأييد، ويظاهره على أمره بإخلاص، ولكنه بعد ثلاثة أشهر لم يلبث أن أذاع رسالة عنوانها «نداء الحق» كانت هي الإيذان بالفراق بين الزعيمين، وإن كان قد استهلها بأبدع مديح في غاندي وإبراز فضله.
وبقي غاندي أيضًا محبًّا لطاغور لم يتغير عليه، ولم يتنكر له، وإن اختلفا مذهبًا وتباينَا تفكيرًا، وإنك لتشعر من كلمات غاندي أنه لا يحب أن يدخل في جدل أو مهاترة مع طاغور، وكان غاندي إذا رأى بعض الأصدقاء يريد أن يغير قلبه على صاحبه، بترديد أقوال فيه أو ألفاظ صدرت منه، يأمره بالكف عن ذلك ويشرح ما لطاغور من فضل عليه.
ولكن كان الخلاف محتمًا أن تتسع شقته ويترامى مداه، فمن سنة ١٩٢٠ وطاغور ينعَى على غاندي انصراف فيض حبه وإيمانه العظيم نحو السياسة ولتحقيق أغراضها منذ وفاة «تيلاك»؛ ولا يخفى أن غاندي في الواقع، ومما أسلفنا عليك من أمره، لم يدخل ميدان السياسة متهللًا مُتَفَتِّحَ القلب لدخوله، راضيًا مغتبطًا بالاشتراك فيه؛ وإنما وجد الهند بعد رحيل «تيلاك» قد خلت من زعيم سياسيٍّ، وكان لا بد من أحد يتقدم ليشغل مكانه، ففعل ذلك بالضرورة، وهو يعلم أن السياسة كالحية الكبرى، من تلتف بجسمها عليه فلا فكاك له.
ولكن طاغور كان ينتقد غاندي حتى على قبوله العمل السياسي مكرهًا مضطرًّا، وقد كتب في سبتمبر سنة ١٩٢٠ يقول: «إننا بحاجة إلى كل القوة المعنوية التي يمثلها مهاتما غاندي، والتي لا يستطيع أحد في العالم سواه تمثيلها»، وإنه لمن تَعس الهند أو سوء حالها أن كنزًا غاليًا كهذا يُلقَى فوق ظهر سفينة ضعيفة واهية كالسياسة لتتعرض أبدًا للطمات الأمواج ومتقاذف العواصف ومتدافع التيارات والشهوات؛ بل إن ذلك لنكبة خطيرة في الواقع وحادث جدُّ مؤلم للهند التي يعتقد طاغور أن رسالتها هي «إيقاظ الموتى وبعثهم إلى الحياة من جديد بجذوات النفس وحماسة الروح»، فهو لذلك يأسف أشد الأسف على تبديد هذه الموارد الروحية الزاخرة في مشاكل ومسائل وقضايا ليست لها قيمة إذا هي نُظِرَ إليها على ضوء الحقيقة المجردة المطلقة، وهو يرى من الجريمة تحويل القوة الروحية إلى قوة مادية.
وهذا هو ما أحسه طاغور حين بدأ غاندي ينادي إلى «عدم التعاون»، وحين ثارت القلاقل أو أثيرت باسم «الخلافة» وحين وقعت مذابح «البنجاب»؛ لأنه كان يخشى من نتائج هذه الحملة وفعل هذه الدعوة في نفوس الجماهير السريعة البادرة القابلة للالتهاب كهشيم الحصاد والحطب اليابس، وكان يريد ويود لو أن العقول انصرفت عن طلب الانتقام وحب التشفي والعيش على الأحلام والأمانيِّ والآمال في خلاص من الظلم هيهات أن يتم، وإنصاف هو بعض المستحيل، إلى نسيان الماضي، والإغضاء عن مظالمه ومساويه، لبذل الجهود كلها في تربية روح جديدة للهند، وإذا كان طاغور قد أُعْجِبَ بتعاليم غاندي وحَمِيَّة روحه واستجابته لمبدأ التضحية بالذات، فقد كان يكره العنصر «السلبي» الذي تنطوي عليه فكرة عدم التعاون، بل كان يتراجع وينزوي مستنكرًا متأففًا مشمئزًّا من أي شيء يحمل معنى «السلب»، وينطوي على النفي من أية جهة فيه أو ظِلٍّ له.
وقد بعثه هذا إلى المقابلة بين المبادئ الإيجابية التي تنماز بها ديانة البراهمة التي تقول بقبول مسرات الحياة ومناعمها ولكن بعد تنقيتها وتطهيرها، وبين الروح السلبية التي تحويها «البوذية» التي تقول بإنكارها وقمعها وزجرها والانقطاع الكلي عنها إلى عيش التبتل والتنسك.
وكان جواب غاندي أن الرفض في هذا ضروريٌّ كالقبول، والسلب فيه حيويٌّ كالإيجاب، وأن التقدم الإنساني إنما يتم ويقع باجتماعهما واشتراكهما معًا، وأن الهند قد فقدت قوة المناداة «بلا» فجاء هو ليرد إليها ما فقدته، وإن استئصال العشب والكلأ هو في وجوبه وضروريته كالحرث والزرع.
ولكن طاغور لا يؤمن بهذا ولا يقتنع به؛ لأنه في تأملاته ونظراته الشعرية إلى الحياة إنما ترضيه الأشياء كما هي، ويجد المسرة والغبطة في الإعجاب بانسجامها، ويروح يشرح وجهة نظره في سطور بالغة الجمال ولكنها منفصلة بعيدة من الحياة الحقيقية وواقعية الأشياء، حتى لتشبه كلماته رقص «ناتاراجا» أو ألفاظ رواية من صنع الخيال، وإن طاغور يقول ويجاهر بأنه إنما يحاول أن يؤلف بين روحه وبين نزعة المرح التي تغمر العالم، ولكنه لا يستطيع ذلك؛ لأن في فؤاده على الرغم منه روح المقاومة، فهو يقول: «في ظلام يأسي أرى ومضة ابتسام، وأسمع صوتًا يهتف بي: إن مكانك مع الأولاد لتلعب على شواطئ هذا العالم، وأنا ثمَّ معك.»
وهكذا يلعب طاغور ويلهو بالحياة كالأطفال يتراقصون في الشمس ويضحكون وهم يختفون، إذ كل الخليقة عند طاغور سعيدة هنية رغيدة، حتى الأزاهر وأوراق الشجر ليست عنده سوى ألحان وأنغام لا تنقطع، بل إن الله ذاته في نظره «الحاوي» الأكبر الذي يلعب بالزمن، يرمي بالنجوم والكواكب من أفلاكها، على مجرى الظواهر، ويسقط زوارق من الورق مفعمة ملأى بالأحلام في نهر القرون والأحقاب، حتى ليقول: «وحين أتضرع إليه أن يدعني أتبعه وأضع بعض اللُّعَب التي اخترعتها في أحد قواربه المرحة، يبتسم فأسير خلفه متشبثًا بذيل ردائه.»
كذلك يعتقد طاغور أن هذا هو موضعه، ولا يرضى أن يختلط بالناس ويمتزج بالجماهير، وإنه ليقول في ذلك: «ولكن أين أنا وسط الزحام الحاشد محصورًا من جميع جوانبي؟! ومن ذا في وسعه أن يفهم الضوضاء التي أسمع؟! إذا أنا سمعت أغنية استطاع معزفي أن يلقط النغم واستطعت أنا أن أشترك في اللحن وأساهم في النشيد؛ لأنني مُغَنٍّ، ولكن وَسطَ جلبة الزحام يضيع صوتي ويتبدد جَرْسي وأحس دُوارًا برأسي.»
وقد حاول طاغور في بهرة الصياح والجلبة المنادية بعدم التعاون أن يجد نغمًا صالحًا يشترك فيه فلم يفز بطائل وراح يقول: «إذا أنت لم تستطع أن تساير معاصريك في أشد أزمات تاريخهم فاحذر أن تقول إنهم على خطأ وإنك أنت على حق، ولكن اترك مكانك من الصفوف، وعد إلى زاويتك أيها الشاعر فانتبذ من الناس مكانًا قصيًّا واستعدَّ لتلقَى سخرية الناس منك واشمئزازهم.»
هذا صوت شاعر كجوته، ولكنه جوته الهندي، بل من ذلك الحين ونفس طاغور هي كذلك، فكأنما راح الشاعر يودع العمل ليفرغَ بكُلِّيَّته إلى الشعر والتأمل؛ لأن العمل أصبح «سلبيًّا» في كل ما حوله، وهو لذلك يتراجع إلى نسيج السحر الذي ينسجه بنفسه، ولكنه لا ينسحب فقط ولا يتراجعُ فحسب، وإنما قد أرادت الأقدار به — كما يقول — أن يسير بقاربه ضد التيار ذاته، وكأنما قد راح يومئذٍ بجانب قيامه كشاعر السفير الروحي للشرق عند الغرب، فقد عاد من أوروبا يومئذٍ حيث كان ينادي الناس إلى التعاون على تأسيس جامعة دنيوية، فإذا القدر الساخر يضحك منه إذ يأبى إلا أن يدعه ينادي بالتعاون في ناحية من العالم، بينما يدفع بغاندي مناديًا بعدم التعاون في الناحية الأخرى منه!
لقد أفسدت هذه الفكرة «الغاندية» عليه عمله في الحياة كما أفسدت عليه نظرته إليها، فشعر بأنه قد جُرِحَ منها مرتين، أو جرحًا مزدوجًا؛ لأنه كان يعتقد وجوب الاتحاد الحقيقي بين الشرق والغرب، ويؤمن به كل الإيمان.
وكان يومئذٍ يقول: لقد ساد الغربُ العالمَ في عصرنا الحالي؛ لأن له رسالة ينبغي أن يؤديها، وعلينا نحن أهل الشرق أن نتعلم منه ونأخذ عنه، ومما يؤسف له بلا ريب أننا قد فقدنا ملكة تقدير ثقافتنا؛ ولهذا لم نعرف كيف نضع الثقافة الغربية في المحل الواجب لها، ولكن القول بأن من الخطأ التعاون مع الغرب هو تشجيع شر أنواع النزعات الإقليمية — أي الشعور القومي — ولا يمكن أن ينتج هذا غير الفقر العقلي للإقليم نفسه، إن هذه المشكلة هي إحدى المشاكل العالمية، إذ ليس في ميسور أمة من الأمم أن تهتدي إلى سبيل خلاصها بانتزاع نفسها من الأمم الأخرى وقطع روابطها بها؛ إنما ينبغي أن ننجُوَ جميعًا، أو نفنى كلنا معًا …»
وكما رفض جوته شاعر ألمانيا الأكبر تحريم الثقافة الفرنسية والمدنية الفرنسية في سنة ١٨١٣، رفض طاغور في القرن العشرين نفي الحضارة الغربية وتحريمها. ولئن كانت فكرة غاندي في الواقع لا تقيم حائلًا ولا تبني سدًّا منيعًا بين الشرق والغرب — كما ظن طاغور — فإن هذا الشاعر جعل مع ذلك يقول إنه يخشى أن تُفَسَّرَ هذا التفسير إذا ما ثارت ثائرة الوطنية الهندية وجاشت قِدْرُها فوق نار الحماسة ووقودها، ويشفق من نمو روح العزلة في الهند والانفصال عن بقية العالم، ويصارح بمخاوفه هذه حين جاء الناس يلتمسون نصيحته ويطلبون رأيه، وهو في ذلك يقول: «إذا لم يكن ما أقول صحيحًا، فما المراد من مقاطعة المدارس والمعاهد والكليات؟! ألكي يقدم الطلاب تضحية، ولكن علامَ هذه التضحية التي يراد أن تتقدم منهم؟! هل هي في سبيل تلقي تعليم أرقى من تعليمها وأكمل وأوفى؟! أم هي — كما هو الواقع — انقطاع عن التعليم كلية؟!»
وقد جاءه جمع من الطلاب في سنة ١٩٢١ قائلين له إنهم على استعداد لترك مدارسهم إذا هو أمرهم بذلك؛ ولكنه رفض وأبى، فغادروه غِضَابًا هائجين، واتهموه في وطنيته.
وغضب طاغور من هذا التعصب للرأي، واتهم الحركة غير التعاونية بأنها المسئولة عن بثه في النفوس؛ فكان جواب غاندي على هذا الاتهام: «لست أريد أن يكون بيتي مُسَوَّرًا من جميع جهاته، ولا نوافذي محشوة مغلقة، أريد أن تهب ثقافة جميع البلاد وتخفق أرواحها من حول بيتي طليقة المهاب فسيحة مدى الأنفاس … ولكني لا أريد أن تكتسحني هذه الثقافات الأجنبية وتطير بي في الفضاء … إن عقيدتي ليست تعاليم السجن ولا هي عقيدة المَحْبِس والاحتجاز، ولكنَّ لها مدى فسيحًا لكل شيء حتى لأحقر مخلوقات الله، وإنما هي مع ذلك في مَنَعَة من زهو الجنسية وكبرياء الدين والمذهب واللون.»
وراح غاندي في جوابه ذاك يتشكك في مزايا الثقافة الإنكليزية، ويستريب بفضل التربية الإنكليزية قائلًا إنها قد أحالت شباب الهند «خصيانًا» ضعفاء؛ ولكنه أسف لما اتهمه به طاغور من أن وجه نظره ضيق لا يتسع لحرية الرأي.
على أن طاغور لم يكن يخشى غاندي نفسه، وإنما كان يخشى الغانديين وإيمانهم الأعمى به، ويظن الخطر العظيم في استيلاء غاندي على النفوس، واستبداده المطلق بالعقول؛ فكتب بيانه الخطير «نداء الحق»، وقد ثار فيه على هذا النزوع الرهيب، ذاهبًا خلاله إلى أن الحركة الاستقلالية الهندية الأولى في سنتي ١٩٠٧ و١٩٠٨ كان يتولاها زعماء قد تأثروا بمبدأ كان نتاج قراءة الكتب، وثمرة مؤلفات بيرك وغلادستون ومازيني وغاريبالدي، فكان يفهمها الخاصة ولا يدركها العوام، ولكن جاء غاندي فحنا على الدَّهْمَاء ولبس من لباسهم، وتزيا بزيهم، واندمج في غمارهم، وخاطبهم بلغتهم وعلى قدر عقولهم، فلم تلبث كل القوى الكامنة في النفوس أن هبَّت على ندائه، وبرزت على دعوته، وقد فرح طاغور لهذه الحياة الجديدة التي بدأت تظهر في بلاده، فعاد إليها من الغرب ليشهدها بعينيه، ولكنه ما لبث أن أحزنه مشهدها من قرب، فتلاشى فرحه وتبددت مسرته؛ لأنه رأى جوًّا خانقًا حوله، وجمهورًا يعيش تحت طاعة عمياء لسلطان زعامة تنادي بتعطيل الحياة وشل حركة الوجود.
وهكذا كان نقد طاغور موجهًا ضد تعصب الجماهير أولًا وقبل كل شيء، ولكنه كان يمس غاندي أيضًا باعتباره زعيمها، وصاحب السلطان على نفوسها، والمستبد بعقولها ومشاعرها؛ ليصرفها عن الاشتراك في الحضارة مع الإنسانية كلها، طالبًا إليهم أن «يغزلوا فقط وينسجوا» مضربين عن شراء ما تخرجه الآلات وما تصطنعه ضخم الماكينات.
ولذلك يتساءل طاغور قائلًا: أهذا رسول عصر إنشائي جديد؟! وإذا كانت الماكينات الضخمة تنطوي على خطر بالنسبة للغرب، أفلا تنطوي الآلات الصغيرة بالنسبة لنا نحن على خطر أكبر؟! إن يقظة الهند ينبغي أن ترتبط بيقظة العالم، وكل أمة تحاول أن تحتجز نفسها عن العالم، وتعيش بمفردها إنما تعتدي على روح العصر الجديد. بل لقد مضى طاغور يتحدث عن العظماء الذين لقيهم في حياته، أولئك الذين حرروا قلوبهم من أغلال القومية وقيود النزوع الوطني لكي يخدموا الإنسانية عامة، ثم ينثني يقول: «أَفَقُدِّر على الهند وحدها أن تتغنى بهذه الأنشودة «السلبية» وتُعنَى فقط بخطايا الغير وظلمهم، وتجاهد في سبيل الحرية والاستقلال «السواراج» على أساس الكراهية والمقت والعداوة والحقد والبغضاء، إن الطائر إذ يستيقظ في عُشِّه على مطلع الفجر لا يفكر فقط في الطعام والغذاء، وإنما تستجيب أجنحته إلى دعوة السماء، ونداء الفضاء، وشجيِّ التغريد، وحلو الغناء؛ فلا تني حنجرته الدقيقة أن تمتلئ بالشدو الفرِح والأغاريد العِذَابِ، تحيةً لليوم المستهل والنهار المشرق وسطع الضياء، وها هي إنسانية جديدة ترسل نداءها، فليكن جواب الهند عليه متفقًا مع طبيعتها، وليكن ردها هكذا: «إن واجبنا الأول في فجر هذا العهد ومطالعه أن نذكر الله الواحد الأحد الذي تتساوى عنده الطبقات والأجناس والألوان، والذي بخافي حكمته ومختلف قواه يكفل لكل طبقة حَاجَها، ويمد الجميع بعونه، فلندعه وهو الحكيم الواهب الحكمة أن يوحد قلوبنا ويؤلف بيننا، ويشد ما بيننا بفضل المودة والوئام …»
وهكذا نرى كلمات طاغور، وهي أجمل ما تَوَجَّهَ من الكلم إلى أمة من الأمم، أشبهَ شيء بقصيدة من خيوط الشمس، وأشعة الضياء، ومسكوب النور، محلقة فوق كافة الخلافات الإنسانية ومصارع البشر، ولكن النقد الوحيد الذي يمكن أن يوجه إليها هو أنها أعلى مما ينبغي، وأرفع مُحلَّقًا مما يلزم، وأنها أسبق على الفكرة الأولى، فكرة التحرر أولًا من الظلم والقيود والأغلال، ثم التوجه بعد ذلك إلى مطلب السلام والوحدة البشرية والإخاء العام؛ أي أن «غاندي» ينبغي أن يسبق طاغور، ويجب أن يأتي أولًا ليؤدي رسالته، فإذا ما فرغ منها وانتصر بها وفازت الهند بحرِّيتها وسراحها، جاء دور طاغور أو دور «الزعيم الإنساني» الذي يتغنى بأنشودة «البشرية» وترنيمة الإخاء والحب والوئام التام الذي يسود العالم من جميع نواحيه.
إن عيب طاغور الوحيد هو أنه الطائر الشاعر، أو «القُبَّرَة» الصدَّاحة الشادية، كما يقول «هايني» في وصف موسيقار بارع، بل الشاعر الجالس فوق أطلال الزمن يغني ويشدو ويعيش في الأبدية، ولا ينظر إلى حاجة الساعة التي هو فيها والعصر الذي يحتويه، وإنما كل تطلعه إلى الغد يرسمه في أغانيه جميلًا ساحرًا فاتنًا يأخذ بالأبصار والألباب.
أما غاندي فهو الرجل الذي يفكر في حاجة الوقت الحاضر ومطالب الساعة ولوازم اليوم الذي هو فيه، فهو من هذه الناحية ينقصه التحليق الشعري الذي أوتيه طاغور، ويعد هذا من صاحبه «لعب أطفال» لا يستحق عليه جوابًا، وإن كان متفقًا معه في أن حرية الروح هي أوجب ما تكون، وأحق شيء بالحرص عليه قائلًا في ذلك: «لا ينبغي لنا أن نسلم عقولنا لقيادة أحد من الناس، فإن الاستسلام الأعمى للحب قد يروح أحيانًا أضر وأبلغ أذًى من التسليم الإجباري للطمة الطاغية، إذ ثَمَّ أملٌ في نفس المستعْبَد بحكم الجبروت والطغيان، ولكن هيهات أن يكون ثَمَّ أمل لعبيد الحب والطاعة العمياء …!»
إن طاغور هو «الديدبان» الأعظم، والحارس الذي ينبه إلى مقترب الأعداء، وهي التعصب المذهبي، والجمود الاجتماعي، والجهل والانحطاط. ولكن غاندي لا يشعر بمثل مخاوف طاغور، وإنما ينادي العقل، ويطالب قومه بالتفكير، ومن الخطأ عنده أن يقال إن الهند إنما تحركت بحكم الطاعة العمياء، وإذا كانت قد اعتزمت القناعة بالمِغزَل، فإن هذا الاعتزام منها جاء وليد تدبر طويل وأناة وتفكير. وإن طاغور ليتحدث عن الصبر، ويقنع بالشَّدْوِ الجميل وعَذْب التغريد، ولكن هناك كفاح وصراع، وجلاد وجهاد، فليس على الشاعر المغني إلا أن يضع معزفه جانبًا ويطرح قيثارته، وليعد إلى شدوه وغنائه إذا ما انتهى الصراع وكف الكفاح، وساعة يشب في الدار حريق، يجب على جميع سكانها أن يخرجوا فيحملوا الدلاء ملأى ليطفئوا النيران.
«إن الهند في حريق، وأهلها في مجاعة، وبنيها في مسغبة، والجوع والفاقة والمتربة هي الحجج التي تجتذب الهند إلى عجلة المغزل، أما شاعرنا هذا — أي طاغور — فيعيش في الغد، ويحيا في المستقبل، ويريد منا أن نحذو حذوه ونتمثل به، ويروح يصور لنا الطير في بكرة النهار تغني راضية قانعة وهي في السماء صافات، ولكن هذه الأطيار قد أصابت طعام يومها في الليلة الماضية قبل أن تأوي إلى الوكنات فوق الأفنان. ولطالما شَهِدْتُ — هكذا يقول غاندي — أطيارًا من فرط الألم والإعياء وضعف القُوَى لا تستطيع أن ترف بجناحيها أو تعلو قليلًا بخوافيها والقوادم. إن الطائر الإنساني في سماء الهند ليستيقظ في عشه أضعف مما كان لحظة مأواه إليه ورجعاه، حتى لكأنَّ الحياة في نظر هذه الملايين قد استحالت يقظة أبدية أو غيبوبة دائمة. ولقد طالما عجزت عن مواساة المعذبين؛ لأن آلامهم لا تجدي فيها أية مواساة، ولا يصلح لها أي عزاء.»
«أعطوهم عملًا ليجدوا قوتهم ويأكلوا … وقد يسأل سائل: لماذا أغزل وأنا لست بحاجة إلى العمل التماسَ القوت؟! والجواب عليه هو لأنك تأكل سحتًا وتطعم مما ليس لك؛ ولأنك عائش على استغلال بني وطنك، ألا ابحث في مصدر كل درهم يصل إلى جيبك تجد الحق فيما أقول … يجب على كل فرد في الهند أن يغزل … بل فليغزل طاغور كما يغزل الآخرون … وليحرق ثيابه المشتراة من الخارج، هذا هو الواجب اليوم، وأما الغد فالله يكفله والسماء تتولاه.»
تلك هي كلمات غاندي، وما أرهبها من كلمات موحشة محزنة تستفيض فجيعة وأسًى وبلاءً! بل ها نحن منها إزاء شقاء الإنسانية مرتفعًا متقلبًا فوق أحلام الشعر وأماني الخيال … فمن ذا الذي لا يشعر شعور غاندي، ومن ذا الذي لا يتأثر بشجوه وندائه ونجواه؟!
وهو في ذلك يقول: «إن «عدم التعاون» عندنا هو عبارة عن انزواء في أنفسنا وعزلة موقوتة لكي تتمكن الهند فيها من جمع شتات قواها قبل أن تضعها في خدمة البشر؛ إذ يجب أن تتعلم الهند كيف تحيا قبل أن تتطلع إلى أن تموت في سبيل الإنسانية.»
ومن هذا يبدو لك أن غاندي إنسانيٌّ في تفكيره كطاغور، ولكن إلى حد ما، ومن ناحية مختلفة عن صاحبه؛ فهو إنسانيٌّ أو «عامٌّ» من جهة شعوره الدينيِّ، بينما ترى طاغور إنسانيًّا من جهة عقله ووحي خاطره وجوهر تفكيره، ومن ثم كان غاندي إنسانيًّا على طراز القرون الوسطى، على حين نرى طاغور إنسانيًّا على غرار العصر الحديث.
وهذا بلا شك ينتهي بنا إلى أن عيب غاندي هو أن رسالته إلى الهند جاءت دينية أكثر منها وطنية أو عامة، وهذا هو الذي جعلها تخفق مرات متعددة، وتتعثر على الطريق أحيانًا كثيرة، وتظل تخمد وتخبو، ثم تشتعل وتستعر، ثم تعود خابية هامدة.
ولا يزال أمامها إلى اليوم شوط طويل إذا قطعته أحدثت في العالم تطورًا رهيبًا، وانقلابًا خطيرًا، لا يتيسر لأحد اليوم معرفة مداه.