الثورة المصرية في أدوارها الأولى
من بداية القرن التاسع عشر، قرن الاستعمار، وتكاثر المطامع في التوسع والزحام على ترامي السلطان باسم توازن القُوى بين الدول العظمى، كانت مصر مطمح بصر إنجلترا، وقبالة عينها الاستعمارية، ومشروعًا في برنامج سياستها الثابتة.
ولكن مصر كانت يومئذٍ قوية شاعرة بقوتها، طموحًا هي كذلك إلى التوسع صوب الشرق واكتساب السلطان في أهله، والتطلع إلى المجد برياسته، فبقيت إنجلترا مصطبرة لها، تترقب نواهز الظروف، وسانحات الفرص، وغِيَرَ الحوادث، وتقلبات الأيام.
ونمت هذه الطماحة في صدر إنجلترا عقب مد قناة السويس، إذ تبين أنها الطريق السلطانيُّ إلى مستعمراتها في الشرق وأملاكها التي راحت تزداد اتساعًا وتترامى حدودًا على ممر السنين.
ولو قد ظلت مصر طيلة القرن الماضي محتفظة بقواها، عاملة على مكانتها، واجدة من فوقها السلطان الحازم، واليد القوية المدبرة؛ لجعلت مفتاح قناة السويس في كفها، ويومئذٍ لما كان في إمكان أحد أن يمسها بأذى أو يبغي بها السوء، أو يريدها بعدوان.
ولكن مصر في داخليتها عقب النصف الأول من القرن الماضي راحت تضعف، وأحوالها مضت ترتبك، وماليتها جعلت تزداد سوءًا على توالي الأعوام، إذ حُمِلت على مجاراة أوروبا واحتذاء حضارتها في نزوة من نزوات الفتون بزخارفها وزينتها؛ حتى لقد اشترت المدنية الأوروبية بالدَّين، وجلبت مظاهرها نَسِيئَةً، وطفرت في ذلك كله طفرة خطرة، وتناهى بها الإسراف في الزينة والتطرية حتى غرقت في الديون إلى قمتها بسرف مُترَفِيها، واستهدفت لغائلة الاستعمار الذي كان بالمرصاد لها، يترقب الظروف المواتية لينقضَّ عليها انقضاضًا.
وكان في أوروبا دولتان تتنافسان في الاستعمار وتتزاحمان، وكلتا الدولتين تود لو تصيب مصر في حوزتها، ولكن إحداهما في محاولة سابقة قبل سنة ١٨٠٧ استطاعت أن تسحق أساطيل الأخرى في مياهنا، وتضطر جيوشها التي احتلت أرضنا إلى المآب في خيبة اليائسين، وظنت المنتصرة على عدوتها أنها قد أمست قادرة على غزونا، فأرسلت إلينا حملة بحرية لاحتلال بلادنا، ولكن جيوش محمد علي الكبير هزمتها وردتها عن الإسكندرية ورشيد خائبة فاشلة.
هاتان الدولتان هما فرنسا وإنجلترا، اللتان حاولتا في بداية القرن التاسع عشر امتلاك مصر وسيادتها، فانقلبتا خاسرتين في زحمتهما وغيرتهما، ولكن بقيت كل منهما تنظر إلى مصر طمعًا وأملًا.
وحين جلب إسماعيل على البلاد أفانين الحضارة بركوب الدَّين وضخم القروض، تحفَّزت المتنافستان فرنسا وإنجلترا، وهما دائنتان ملحتان في طلب السداد إلى التدخل والرقابة على المالية المصرية، فكان تدخلًا ثنائيًّا، ولم يلبث أن طغى نفوذ المراقبَيْن الفرنسي والإنكليزي، فراحا يصرفان الأمور جميعًا، ويشتركان في الوزارات، ويقيمان سلطانهما في كل ناحية.
وكانت حالة مصر في نهاية حكم إسماعيل قد بلغت أشد السوء وتناهت إلى أعظم البلاء، فكان الفلاحون — كما وصف ويلفرد بلنت حالهم قبل سنة ١٨٨٢ — في أشد الضنك يومئذٍ وأقسى الفاقة والهُوْن، وكان المفتش إسماعيل صديق المشهور لا يزال في أَوْجِ عزِّه وذروة سلطانه، وحملة القراطيس الأجانب يجأرون مطالبين بدفع الأقساط، والمجاعة على الأبواب.
وكان من الأمور النادرة يومئذٍ أن يرى الإنسان شخصًا في الحقول مُعْتَمًّا أو على جسده أكثر من القميص، وقد غصت الأسواق في الريف بالنساء توافين من القرى لبيع ثيابهن وحليهن الفضية للمرابين «الأروام»، إذ كان جامعو الضرائب في القرى يسيطون الناس، ويعملون في ظهورهم «الكرباج» لانتزاع الضرائب، والأيدي منها صفر خالية.
كذلك كانت الحال في نهاية حكم إسماعيل، فلما خُلِعَ وتولى الأمر توفيق وكان حاكمًا ضعيفًا خائر العزيمة؛ تفاقم الخَطْبُ، واشتدت الضوائق، وتغلغلت الرقابة الأجنبية في التدخل وإقامة السلطان على البلاد.
وكان المصريون مرهقين يتألمون ولكن في صمت، ويعانون البلاء ولا يرفعون الصوت، ولكن الأقدار بعثت إليهم بمن يبث فيهم أول أحاسيس الثورة، ويوحي إليهم أن البلاد ليست ملكًا خاصًّا لحاكمها، ولا هي بضيعة لواليها، ولا هم بعِبْدَان له ولا رقيق.
كان ذلك المعلم الأول هو السيد جمال الدين الأفغاني، فقد راح ذلك الفيلسوف الحكيم الأبي يبذر بذور النهضة الفكرية في البلاد، ويتحدث إليها عن الحكم النيابي ومزاياه، ويجمع إليه التلامذة والمريدين، ويوحي إلى توفيق بالرأي الصالح والنصيحة المسددة، ولكن القنصل البريطاني المتحكم يومئذٍ في إرادة الوالي الجديد ما لبث أن دسَّ على ذلك المعلم الأول، وتلميذه الكبير الشيخ محمد عبده؛ فنفى المعلم من مصر جملة، وأبعد الأستاذ الإمام — أو تلميذه المصري — إلى بلده في البحيرة وهي محلة نصر، وكان ذلك أول عقاب للكشافين الأولين الذين أقامتهم الأقدار طلائع في الثورة المصرية للحرية والاستقلال.
وفي ناحية أخرى من الحياة ظهر رجل آخر يلائمها، وقائد كبير يناسبها، ظهر أحمد عرابي في الناحية العسكرية جنديًّا شهمًا ينكر الظلم، وينفر من الجَوْر، ويغار على قومه، ويتوجع لما أصاب بلاده من العسف والإرهاق والطغيان.
وكان الجيش المصري يومئذٍ في أيدي رؤساء وقواد من الجركس والأتراك والأروام، يظفرون هم بأكبر المراتب فيه، ولا ينال المصريون من ذلك غير يسير، وكان أحمد عرابي الذي وجد عنتًا واضطهادًا من أول عهده بالحياة العسكرية؛ بسبب نقمة هؤلاء عليه وكراهيتهم له لِمَا ظهر من أنفته وبغضائه للظلم، قد أصاب في زملائه والجنود المصريين من أبناء قومه محبةً ومكانًا بارزًا، فراح يمثل الجماعة في المطالبة بالمساواة والمناداة بالمعدلة والإهابة بالوالي إلى الإنصاف.
فما لبث أن نشأ في البلاد روحٌ ثائرٌ مضطرب خليط بين حركة سياسية تريد أن يكون الأمر لحكم الجماعة، وحركة عسكرية في الجيش ترمي إلى المساواة وإقرار العدالة.
وجاء اليوم الرهيب الذي يبدو فيه ذلك الروح ماثلًا متجليًا، جاء اليوم الذي شهدت فيه ساحة عابدين كتائب الجيش وحشود الشعب من خلفه وقد ملَئُوا رحابها، وعلى رأسهم الزعيم عرابي على صهوة جواده؛ ليعرضوا مطالب الأمة على واليها، ويستحثوه قضاءها باسم العدل والحق والقانون.
كان ذلك هو اليوم التاسع من شهر سبتمبر سنة ١٨٨١، بل كان ذلك اليوم الخالد هو الذي أولد الدستور وأقام الحكم النيابي، وبرز فيه انتصار الجماعة، وارتفع فيه صوت الشعب يملأ الفضاء ويقتضي الاحترام، ويوجب الاستماع إليه والإذعان.
وقد تألف عقب ذلك فعلًا مجلس نيابيٌّ، ووُضِعَ دستور نظَّم الحدود بين الحاكم والمحكوم، ولو أن الأمر يومئذٍ ظل متروكًا للنظام النيابي، لتغير تاريخ مصر في العصر الحديث.
ولكن الدسيسة بدأت تعمل نقمة من الدستور، كما نقمت منه بعد ذلك أكثر من مرة؛ لأنه سياج الاستقلال وسور الحرية، والحصن المنيع لوقاية كيان الجماعة. واختارت الدسيسة الاستعمارية لقضاء غاياتها فكرة خطيرة وأداة رهيبة وحيلة ماكرة، وهي أن العرش في خطر وأن الحاكم يوُشِكُ أن يحاط به، وأن حياة الأجانب في البلاد يُخشَى عليها السوء والغوائل والعُدْوَان.
وهكذا رأت إنجلترا التي كانت راصدة لمصر منذ فجر القرن التاسع عشر أن الفرصة قد سنحت لها بعد سنين طوال وأدوار متعاقبة، حاولت في غير مرة أن تتملكها فلم تَنَلْ منها حين كان لها جيش قوي يحمي الذمار، ويصون الكيان، وأن الظروف قد واتتها لتحقيق ذلك الحُلم الطويل والأمنية الصبور المتئدة المترقبة، فلم تتردد في الاستعانة بالدسيسة على معاودة الكَرَّة والرجوع إلى المحاولة، وهي أكبر أملًا وأيقن بالنجاح.
وبدأت دسيستها بتأليب الدول على مصر وإثارة سخط الرأي العام في أوروبا عليها بتصويرها في صورة الثائرة على الأجانب، الهامَّة بهم، الموشكة الانقضاض عليهم، ولم تكتفِ بذلك التأليب المُحرِّش المخيف، بل راحت تدبر في الإسكندرية مذبحة رهيبة، فكانت حوادث ١١ يونيو سنة ١٨٨٢ التي سفكت فيها دماء عدة مئات من الأجانب والوطنيين.
وانثنت إنجلترا عقب تلك المذبحة تنادي الدول إلى وجوب التدخل لكبح جماح الثورة، والدفاع عن العرش، وحماية أرواح الأجانب، وكان غرضها الخفي من هذه الدعوة أن تعود فتحتال حيلتها لكي تستأثر هي بالتدخل وحدها إذا حان الحين وتواتت اللحظة المناسبة.
وتوافت الدول يومئذٍ إلى مؤتمر الأستانة لتقرير خطتها إزاء مسألة مصر؛ ولكن إنجلترا الداعية إلى عقده كانت تخدع به لتخفي نيتها، وتحجب مقاصدها خلف هذا الستار الذي أقامته.
ووضع المؤتمر قرارًا، وكان القرار ألا تنفرد دولة باحتلال مصر أو جزء منها، ولا تحاول الظفر بامتياز خاص لا يخول لرعايا الآخرين.
لكن إنجلترا راحت خلال ذلك تعد العدة، وتتخذ الخطط، وتضع التدابير، وتعزز أسطولها المرابط في المياه المصرية، ومضت تقذف الرعب في صدور الأجانب المقيمين بالبلاد، موحيةً بأن حياتهم في خطر إذا هم لم يبادروا بالرحيل.
فهاجر هؤلاء آحادًا وجموعًا، خيفة من مزعوم الخطر على حياتهم من جانب مصر نفسها التي آوتهم، فعاشوا فيها في ظل ظليل. وأمرت إنجلترا رعاياها كذلك بمغادرة البلاد ليخلوا لها وجه مكرها، تصنع به في مصر ما تشاء.
وما لبثت أن ذهبت تتلمس الأسباب، وتنتحل العلل، وتختلق الذرائع للعدوان على البلد الأمين؛ فزعم أمير البحر «سيمور» الراسي بأسطوله في المياه المصرية أن جنودنا قد أخذت تحصن القلاع، وأن في هذا التحصين تهديدًا لبوارجه ونذيرًا بِشَرٍّ وسوء، وطلب في بلاغ بعث به إلى قائد موقع الإسكندرية الكفَ عن ذلك التحصين، وإلا أطلق النيران على الحصون فجعلها دكًّا وحطمها شر تحطيم.
فلما أجيب بأن الأمر لم يكن ما زَعَمَ، عاد إلى الوعيد، فقال في بلاغ آخر له بأنه سوف يضرب القلاع في صباح الحادي عشر من شهر يوليو إذا لم يسلم إليه رأس التين لتجريده من السلاح.
لم تفعل مصر شيئًا يبرر إرسال الأساطيل إلى مياهها، ولم تُقْدِم حكومتها على أمر يستوجب ما طلبه الأميرال سيمور؛ فإن الحصون باقية على حالها، ولم يحدث فيها غير ترميمات تقيها التداعي وتحميها من الانهيار، فضلًا عن أننا في بلادنا، ولنا الحق في أن نستعد لكي نرد عادية كل من يحاول تكدير علاقات السلام، ولا يسع مصر ما دامت متمتعة بحقوقها، حريصة على شرفها، أن تسلم حصنًا واحدًا من حصونها، ولا مدفعًا من مدافعها؛ إلا إذا أُرغِمت على التسليم، وهي تحتج على التصريحات التي أعلنتها اليوم، وتلقي مسئولية جميع النتائج التي تحدث من إطلاق القنابل أو هجوم الأساطيل على الأمة التي تطلق أول قذيفة في السلم على مدينة الإسكندرية الهادئة، منتهكةً بذلك حرمة القوانين الدولية وقواعد الحروب.
لقد كان ذلك هو صوت الحق والعدل والقانون والسلام، ولكن القوة الغاشمة لا تحفل شيئًا من ذلك ولا تأبه به، فلم تعبأ إنجلترا هذا التحذير الحكيم، وأصرت أساطيلها على ضرب المدينة الوادعة.
ففي بكور اليوم الحادي عشر من شهر يوليو سنة ١٨٨٢ بدأت أساطيل سيمور ترمي حصون الإسكندرية بشواظ من نار، فأجابتها الحصون بمثلها، ولكن قذائف الأسطول كانت أفتك وأشد حصيدًا.
كان ذلك اليوم بداية الاحتلال، ولكنه كان أيضًا بداية التمرد عليه، والغضب منه، والدفاع حياله؛ بل بداية الوطنية المصرية في صدق مَنْزعها، وصفاء جوهرها، وجلال معانيها، وكان يوم الشهادة والتضحية والثبات؛ فإن التاريخ ولا ريب سيفرد صفحات نواصع لأولئك القليل من الجند المغاوير، ومساعير الحرب الشُّمِّ الصلاب الذين استشهدوا في سبيل الدفاع عن الحصون، وأَبَوا التسليم في المعاقل، وأصروا على أن يصمدوا فيها لقنابل الأسطول البريطاني وقذائفه، حتى تتهدم من فوقهم، وتسقط دكًّا فوق أشلائهم الممزقة.
كان ذلك يومًا مشئومًا، ولكنه كان أيضًا يومًا جليلًا عظيمًا؛ فقد استطاعت «القوة» وفي جانبها الظلم والباطل والطمع والعُدْوان، أن تفتك «بالحق» وفي جانبه العدل والشجاعة والشهامة والمروءة والإقدام، وبقدر ما كسبت «القوة» في الظاهر، ربح الحق كذلك في الباطن وإن بدا خاسرًا صريعًا؛ إذ سجل لكرامته، وأثبت لعزته، وكتب ليومه ووقفته، بدم الشهادة الزكيِّ، ومداد الأرواح الذاهبة، وصَمْدَة الوطنية للموت في أشرف مصارعه، وأسمى أنواعه، وأرفع معانيه.
واليوم بعد أن ذهب أكثر من نصف قرن على مصرع أولئك الشهداء الأوائل، وذهاب أولئك الضحايا الباكرين، وقد تم لبلادهم ما بدءوه هم وانتهوا منه في يومهم بدمائهم؛ بل اليوم وقد ظفر وطنهم بحقه الذي استشهدوا غضابًا له، وقدموا نفوسهم رخيصة في أعينهم بالنسبة لقيمته — ينبغي أن نسجل في هذا الكتاب لجلال تلك البداية المشرفة للوطنية المصرية في أروع المواطن وأرهب الأيام، ويجب أن تستشعر نفوسنا الاحترام والإكبار لذكراهم، وأرفع التقدير لميتتهم، وهم في أحَرِّ مَسْرَى الدماء لم يموتوا فاترين ولا لفظوا أنفاسهم الأخيرة باردة، ولكن سقطوا في ميدان الشرف مُسبِغِي السروج، ملتمعي اللُّجُم، مشتعلي النفوس، متَّقدِي الأنفاس، مُغَسَّلين في دمائهم، مكفنين في لفائف من المجد، ملففين في أكفان من نسيج الملائكة.
وقد تلا ضرب الإسكندرية دخولُ الإنكليز القاهرة في الرابع عشر من سبتمبر سنة ١٨٨٢، وبين هذين اليومين التاريخين كانت حرب وجرى قتال، وبرزت فيه الوطنية المصرية صادقة، ولكنها تجاهد في غير أمل، مخلصة ولكن في موقف يأس، ومن حولها عناصر جبانة ومكر وختل ودسٌّ، فكان دفاعها في الواقع استماتة؛ لأن عدوها قد أصبح في أرضها، ولأن قوته وموارده وسلطانه من وراء البحر أكبر وأزخر من قوتها، وكان موقفها في الحق موقف الاستبسال المؤمن بالهزيمة، ولكنه القانع بشرفها، المؤثر لمواجهتها على التسليم بغير مقاومة، والإذعان بغير عناد، والامتثال المتطوع الراضخ المَهِين.
كذلك كان موقف «عرابي» من تلك النكبة التي رأى وطنه قد أصيب بها، ولم يكن هو سببًا من أسبابهَا، ولا كان يدور في خاطره أنها سوف تَطُمُّ على بلاده وتفجأ قومه وتنزل بدياره؛ فقد أراد من بداية الأمر خيرًا، وابتغى عدلًا وحقًّا، ووقف موقف صدق، ولكن بريطانيا الطامعة كانت على مرصد، فرأت في هذه الثورة الداخلية فرصة لتحقيق مطامعها التي طالت عليها السنون ودورة الأعوام.
ولكن عرابي الذي غلبت فيه الروح العسكرية على السياسة وأفانينها، رأى المُغِير على وطنه قد نزل بأرضه؛ فدافع عنه مستبسلًا في استماتة اليائسين، ويكفي للشهادة على بسالته واستيئاسه ما أقامه من الاستحكامات في «كفر الدوار» لصد القوات الإنكليزية الزاحفة عقب ضربة الإسكندرية بقيادة الجنرال ولسلي في شهر أغسطس من ذلك العام المشئوم.
لقد أوجد عرابي خطوطًا حصينة في ذلك الموقع، وأكثر فيه من أساليب الاستحكام، مبالغة في الدفاع، وحرصًا على بلاده، ولئن كان من الميسور للإنكليز القضاء على خطوط دفاعه، والتغلب على وسائل تحصنه واستحكامه، فلا شك في أن ذلك كان مقتضيًا منهم عدة الضحايا، مستنفدًا منهم بالغ القوة، مؤخرًا لهم طويلًا عن الزحف والاقتحام؛ إذ كان عليهم إذا هم راموا التقدم من هذه الناحية أن يخترقوا الدلتا، ويعبروا عدَّة ما فيها من الترع والأقنية والجداول ومجاري الماء، وهي كما لا يخفى عائق كبير في طريق الجيوش المغيرة والقوات الزاحفة المتغلغلة في البلاد.
وقد فطن الإنكليز لمناعة هذا الموقع عليهم، فلم يطيلوا المكث حياله، وإنما بادروا إلى التحول عنه والتماس مدخل إلى القاهرة سواه، فراحوا يحاولون الزحف من طريق الشرقية، ومن ورائهم الأسطول يقي ظهورهم من جانب قناة السويس؛ إذ كانت الخطة المرسومة من قبل لاحتلال مصر هي الدخول إليها من ذلك الطريق، وجاء الابتداء «بكفر الدوار» تجربة أو خدعة لكي يصرف «عرابي» كل قواه في التجمع عند موضع واحد، وتركيز جهده في ذلك المكان بالذات، على حين يغيرون هم من طريق القناة ليَخْلُوَ لهم وجه الزحف بغير مقاومة ولا اعتراض.
ولو كان عرابي بعيدَ مطارحِ البصر لكان أول شيء عمد إليه يومئذٍ هو البدار إلى القناة لردمها، ولكنه استمع إلى القائلين له إن القناة ينبغي أن تظل سليمة؛ لأنها طريق العالم، وسكة الدنيا، ومنفذ الإنسانية جمعاء؛ فارتبك ولم يدرِ ماذا هو صانع، وقد وجد نفسه وحيدًا وسط غمرة مظلمة، بين عدو أجنبي مغير على الوطن، وبين دولة مصرية للأسف تناصره عليه وتحتمي به منه، وتحسب نجاتها من خطره على يديه، بل ألفى نفسه مترددًا بين شعوره الوطني، وبين خيفته من غضب الإنسانية واستهدافه لنقمة الحضارة إذا هو سَوَّى التراب على ذلك الطريق الجديد.
لا تحاول سد قناتي فإني هنا، ولا تخشَ شيئًا من هذه الناحية، فإنهم لن يستطيعوا إنزال جندي إنكليزي حتى يكون إلى جانبه جندي فرنسي، وأنا مسئول عن كل شيء.
ويقال إن دلسبس بعد أن احتل الإنكليز القناة راح يعلن أن نزوعه إلى جانب «عرابي» كان ناشئًا من مجرد خشيته على القناة أن ينالها عرابي بسوء، وأنه لما رأى الإنكليز كافِين للدفاع عنها وحمايتها كفَّ عن ذلك النزوع.
لقد كان عرابي كما قلنا وسط غمرة محيطة به، فلم يلبث أن جاهد بآخر قواه لينهزم شريفًا، أو يدافع غير منتصر، إذ لم يعمد إلى تهيئة خطوطه الدفاعية في التل الكبير إلا بعد أن كانت القوات الإنكليزية قد احتلت قناة السويس، وعرَّت الحدود الشرقية من كل دفاع.
لقد أنقذت إنسانيةُ «عرابي» — وقد تغلبت في ذلك الموقف الدقيق على «وطنيته» — العالمَ الحديث من خسارة هذا الطريق السلطاني العظيم الذي ساعد الحضارة على الانتشار، ومد لها في السلطان، وكان لها المخرج المأمون من أخطار الطواف بالرجاء الصالح، حتى لقد قال الجنرال ولسلي يومئذٍ: «لو أن عرابي سد القناة كما كان ينوي لكنا الآن لا نزال في البحر محاصرين مصر، ولكن عرابي تردد أربعًا وعشرين ساعة، فكان تردده هذا سببًا في نجاتنا.»
كان عرابي وطنيًّا مخلصًا، يحارب وهو ضعيف قليل الأنصار، قوات رهيبة تتسلح للتغلب عليه بعدة أساليب ومختلف وسائل، ولا تكتفي في ذلك بالمدفع والسيف، فإن إنجلترا ذهبت تستعين عليه بما هو أشد من هذين السلاحين فتكًا وأفعل أثرًا، فراحت تطلب إلى سلطان تركيا أن يعلن المصريين أن عرابي قد شق على خلافة المؤمنين عصا الطاعة وجنح إلى العصيان، كما جعلت تُسَخِّر سلطة الخديو توفيق في حضِّ الضباط والجنود والأعيان على خذلان عرابي والانضمام إلى الإنكليز، بل عمدت إلى سلاح آخر — وهو الرشوة — للتغلب عليه، فجعلت ترشو الأعراب في الصحراء، وتشتريهم بالمال حياله، وتستعينهم على ما أرادته به، حتى استطاعت رِشَا البدو والأعراب من غزة إلى السويس، وقد قال أحد أعوانها في هذه الناحية إنه أنفق عشرين ألفًا من الجنيهات على القبائل الضاربة في تلك الأنحاء.
وكذلك ظل قائد القوات الإنكليزية — وهو الجنرال ولسلي — متريثًا متمهلًا حتى يصيب ثمرات مكائده وأساليبه الخفية، ثم يقدم على المعركة الحاسمة، وقد استبطأته حكومته وقلقت لهذا التمهل منه؛ فجعل يؤكد لها في رسالاته وتقاريره أنه سوف لا يضرب الضربة الأخيرة قبل الثالث عشر من شهر سبتمبر، وهو تاريخ معركة «التل الكبير»، تلك المعركة التي بوغت فيها عرابي في فحمة الليل وسكون الظلام ونومة الجند، فهب مُجفِلًا هو وقواته على دويِّ المدافع وقصف الرصاص ومحاصد الحياة بمناجل الموت.
وقد رأيت قومًا يعيبون على عرابي ما يسمونه «فرارًا» من الموقعة وجبانة من الموت، ولكني لا أعتقد ذلك، ولا أقول قولهم، فإن تراجع عرابي إلى القاهرة لا معاب فيه، إذ لم يكن فرار جبن، ولا هرب خيانة، ولا أُبُوق رعديد، ولكنه أوى إلى القاهرة للدفاع عنها، وإن كان دفاع اليأس كما كان الروح العام في القتال من بدايته، ولو أنه أراد نجاة من الموت بالفرار لالتمس سبيلًا أخرى إلى غير القاهرة، ولما عاد إليها راح يستجمع القُوَى، ويحاول الذِّيادَ إلى اللحظة الأخيرة، ولكن الروح المعنويَّ في البلاد كان قد تحطم بعد أن أضحى العدو المغير على الأبواب، ففزع عرابي إلى سلطان الدولة، ولكنه لم يجد ثَمَّ نصيرًا.
ودخلت قوات الإنكليز القاهرة في الرابع عشر من شهر سبتمبر سنة ١٨٨٢، فتمت «المأساة» وحق مصرع الوطنية اليائسة، وابتدأت فواجع الوطنية الحزينة، وطنية المنهزم المتألم، وطنية الحق الذي غلبه الباطل ليتمكن منه إلى حين.
وكذلك فشلت الحركة القومية الأولى؛ لأن بريطانيا تدخلت فأفسدتها في ذاتها، وحرشت بعضها ببعضها الآخر، فأحبطتها بحملتها، ولولا أنها تمكنت من تلك الحركة الوطنية الباكرة واستغلتها لمصلحتها، لكانت مصر اليوم في صف أكبر الدول وأرقى الشعوب.
•••
وابتدأ المغير المنتصر يقتص من الصامدين له، ويتعقب الذين ناهضوه وقاوموه؛ فجرت محاكمات، ووقعت عقوبات، واختنق الجو بأنفاس التُّهم والدسائس، وساد الأفقَ ظلامٌ مَخَيِّمٌ رهيب، توارت فيه الوطنية المصرية تلتمس المنجاة خيفة البطش، وتلوذ بالمكامن خشية الطغيان.
ولكن الوطنية ظلت في قيد الحياة، وبقيت سارية تحت التيار، فكان أول يوم في الاحتلال هو كذلك أول يوم في عذاب الوطنية الحزينة الجريح، الوطنية التي تخشى أن تذهب كلمة ماكرة بحياتها، وتجد أشد ألوان العقاب على مجرد الاتهام أو محض الارتياب.
وأعقب السنين الأولى من «التصفية» التي عمد الاحتلال إليها للاطمئنان بأنه قد استأصل الوطنية المصرية من الجذور، وأخمد حركتها فلم تعد ترسل ولا أنفاسًا من لهب، ولا ذوائب من دُخَان. أعقب تلك السنين عهد لورد كرومر، وهو عهد من عهود السياسة الإنكليزية في مصر لم يمر على البلاد مثيل له؛ فقد جمع يومئذٍ بين العنف واللين، والصرامة والتسامح، واستعان الترغيب والترهيب، فكان في ذلك كله عهدًا أفتك أسلحة من كل العهود، وكان مرحلة من أخطر المراحل التي مرت على الوطنية المصرية في مجتازها إلى الحركة القومية الثانية التي كانت تُعدُّها العناية الإلهية ويتمخض عنها الزمان.
بَيْدَ أن الوطنية المصرية لم تلبث أن وجدت معوانًا جديدًا، وظفرت بعامل آخر من العوامل الصالحة لها، الكافلة لتغذيتها، وهو «الصحافة» وقيام الأحزاب؛ فقد ظهرت البوادر الأولى للصحافة في تلك الفترة الساكنة في الظاهر، وإن كانت في الباطن فترة تجمُّع الأبخرة المحتبسة في جوف البركان، وكان لورد كرومر من الدهاء ولطف السياسة وبراعة الوسائل والأساليب بحيث لم يعمد إلى مقاومة هذا العون الجديد، وإنما رأى أن يصانعه ولا يشتد في محاربته، أو على الأقل لا يتظاهر صراحة بمقاومته ومناوأته؛ فبدأت الصحافة تنمو، وراحت تشب وتترعرع وتسري رويدًا، وينفسح لها المُضطَرب، ويتسع لها الفضاء.
وكان الخديو الجديد عباس الثاني الذي تولى الأمر بعد الثورة الأولى قد اتخذ موقفًا دقيقًا للغاية، وسلك مسلكًا يدل على يقظة وحذر بالغ؛ إذ كانت دعوى الإنكليز في احتلال البلاد من أنهم جاءوا لحماية العرش لا تزال الحجة التي يبررون بها بقاءهم، وكانت تلك الحجة هي أصل المُصَاب وسر النكبة، وكان الخديو الجديد الذي ورث أعقاب ذلك المصاب وَتِركةَ ذلك البلاء، يعرف مبلغ الأكذوبة التي تنطوي تلك الحجة عليها، كما رأى نفوذه الذي قيل إن الاحتلال إنما أتى ليؤيده، ولم يجئ إلا ليصونه، قد وجد من مدعي حمايته وزاعم صيانته افتياتًا تدريجيًّا عليه، وقصًّا على مهل من أطرافه؛ فلم ينِ أن أخذ يقاوم أحيانًا ويدع المقاومة أحيانًا أخرى، ويصانع في شيء ويصمد في شيء، وهو بين ذلك عجيب السياسة، غريب الأساليب.
وكان هناك عامل آخر من الخارج يحرِّض سرًّا على المقاومة، ويبث في الخفاء روح الاعتراض والمغالبة إزاء سياسة الاحتلال وسلوكه وتصرفاته، وذلك العامل هو الدولة العثمانية بحكم سيادتها التي اعتدى عليها ولم تستطع أن تفعل شيئًا، وتريد أن تنجو تابعتها من النير الطارئ الذي وضع فوق عنقها، وقد وقفت هي تشهد ذلك عاجزة.
وكذلك سارت هذه العوامل الثلاثة صدرًا لصدر، تتجاوب وتتعاون على المقاومة ولكن في حذر، وفي غير كبير أمل؛ لأن الأمة كانت قد خرجت من الثورة العرابية بكراهية للسياسة، ونفور من السياسيين، وإشفاق من أشباح الماضي القريب وذكرياته الدامية، ولكنها مع ذلك لم ترتضِ الاحتلال لحظة واحدة ارتضاء تسليم وقبول، وإنما خَلَتْ إلى وطنيتها الحزينة وشعورها المكتئب صابرةً متجلدة، ولكنه صبر لا يتاخم الذل، ولا يجاوز حدود المهانة والإذعان.
وكما كان الخديو ماضيًا في سياسته اللولبية، كانت الصحافة ممثلة في «المؤيد» بادئ الأمر تعمل من ناحيتها ولكن بحذر أيضًا ورفق ومخاوف، وكان الصحفي الكشَّافُ من الأزهر كذلك شيخًا مجاورًا على جانب كبير من الذكاء، وقد أوتي حظًّا خارقًا للمألوف من اللباقة وبراعة التناول ومهارة الأداء.
ذلك هو الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، ذلك العصامي العجيب الذي سار بالصحافة في طريقها الجديد لولبيًّا كروح العصر، مواربًا مماذقًا وفق طريقته وأسلوبه، ولكنه وطنيٌّ مع ذلك كله، ووطنيته متمشية مع الزمن ومراعية في مسالكها الظروف والموقف والاتجاه.
وفي ذلك الحين كان في مدرسة الحقوق شاب ذكي يطلب العلم، وقد بدأ يفهم المحيط السياسيَّ الذي يكتنف حياة بلاده، وإن كان فهمه له فَهْمَ الشباب قبل أن تصقلهم الخبرة، وتعالجهم التجربة، ويفتح أعينهم على سعة أحداقها الاندماجُ في البيئة، والتوغل في الدرس والبحث والازدكار.
وفي حمية الشباب، وبشعلة الذكاء والإحساس المستجيب للخطابة والإنشاء، بدأ ذلك الشاب الجديد يبرز من المدرسة ولم يكن قد خرج بعدُ منها؛ إذ انثنى ينشئ — وهو طالبٌ — صحيفة مدرسية، ومضى في حشد يحشده من إخوانه ورفقائه يقف على طريق الخديو في روحاته وغدواته ليؤدي تحية الوطني المخلص لوليِّ البلاد، ويهتف بحياة حاكمها الشرعيِّ، وينبه ذلك الحاكم المتململ من السلطان المشترك مع سلطانه، بل الجائر عليه في قسمة السلطة والنفوذ، إلى أن هناك جيلًا جديدًا يستجيب له، وشبابًا يتأهب لتأييده.
والتفتت العوامل الأخرى لهذا الوطنيِّ الجديد، فجعلت في الخفاء تشجعه، وراحت سرًّا تؤازره وتدفعه؛ فما لبث بعد ترك مكانه في المعهد العلميِّ أن اتصل بالقصر، وأقام علاقة خفية بينه وبين تركيا أو دار الخلافة، وراح هو من جانبه يضع كل قلبه في العامل الوطني البارز للناس، وهو «الصحافة»، فاستطاع بفضل المساعدات التي جعلت تتوارد عليه إنشاء صحيفة «اللواء»، وهي في الحق الصحيفة الوطنية الأولى في ذلك الدور الدقيق من أدوار الحركة المصرية، بل الصحيفة التي راحت تغذي الشعور القومي وتنميه، وتستثيره إلى الإفاقة والنهوض.
وكذلك قامت في البلاد صحيفتان وطنيتان: المؤيد ثم اللواء، ولكن طريقهما في الواقع لم يكن واحدًا، ومسيرهما لم يكن مؤتلفًا، واتجاههما لم يكن مشتركًا ولا متفقًا؛ إذ جعل «المؤيد» كل وطنيته في مناوأة الإنكليز لمصلحة الخديو ليس أكثر، وإن كانت وجهة تلك المصلحة متفقة أحيانًا ومصلحة مصر نفسها، مصر العانية المتألمة المغلوبة على أمرها المستبد بها من جميع الجهات، وجعل «اللواء» كل وطنيته منصرفة إلى استنهاض الشعب، ومحاربة السياسة الاستعمارية، ومناوأة الاحتلال، وإن ظل بحكم المعونة التي كان يتلقاها من الخلافة يدافع عن السيادة العثمانية، ويدعو إلى الجامعة الإسلامية، ويؤلب الشرق على الإنكليز.
على أن دعايته لتركيا لا تقدح في وطنيته، ولا يمكن أن تكون عابًا في حق إخلاصه، أو ذامًّا بالنسبة لنزاهته؛ لأنه في الحق كان يدافع عن استقلال وطنه، ويريد أن يستعيد الحرية لبلاده، وإنما جعل أمر السيادة العثمانية سلاحًا آخر في يده، وظهيرًا إضافيًّا يقوي موقفه، ويشد أزره، ويزيد في بيان أحقية دعوته، كما جعل من سياسته ووجوه دفاعه الوطني الالتجاء إلى أوروبا، لحمل دولها على إنقاذ مصر من الاحتلال.
وكذلك كان مصطفى كامل الداعية الأول لمصر في الخارج، حتى لقد قام برحلات كثيرة إلى أوروبا وطوفات بأرجائها، واتصل بكبار ساستها وأهل النفوذ فيها، وخطب في أكبر ندواتها، وأولم أعظم الولائم لإنارة الرأي العام فيها بسبيل قضية مصر ومأساتها، وكان حركة دائمة ملتهبة على فرط تحوله ودقة بدنه ووهن صحته.
ولكنه لم يكن ليأبه بحق بدنه أو يَحْفِل بقواه؛ لأن روحه كانت زاخرة بالقوة، مستفيضة بالعزم، مُترَعة أملًا ويقينًا وإرادة شماء.
وقد حارب كرومر في مصر محاربة دائبة، وقاوم اتفاقية السودان في سنة ١٨٩٩، واستنكر أشد الاستنكار الاتفاق الودي الذي انعقد بين فرنسا وإنجلترا في سنة ١٩٠٤، وهو ذلك الاتفاق الاستعماري الرهيب الذي تفاهم فيه المستعمران المتنافسان، وتراضيا على أن تطلق فرنسا يد إنجلترا في مصر، مقابل أن تطلق إنجلترا يدها في مراكش والمغرب الأقصى، وكان مصطفى كامل يظن أن فرنسا قد تعينه وتنتصر لندائه، وكان يتصورها بألوانها القديمة، نصيرة الحرية وحقوق الإنسان؛ حتى لقد قدم في بداية جهاده قبل ذلك بسنين كتاب استغاثة إلى شيوخ فرنسا ونوابها، وشفع الكتاب بصورة رمزية رهيبة بارعة الخيال، صورة مصر سيدة عارية الجسد مكبلة بالسلاسل والأغلال، يمسك بها أسد رابض، وعن يسارها شيخ متكئ على إناء تتفجر منه أمواه النيل، وبجوار الأسد رجل قابض على سيفه وواضع قدمه في الماء؛ رمز الاحتلال!
ولكن مصطفى كامل الشاب لم ييأس، وهو القائل: «لا معنى للحياة مع اليأس، ولا معنى لليأس مع الحياة»، وإنما راح يواصل جهوده ناشرًا في العالم ظلامة مصر مستثيرًا الدنيا إلى حديث وطنه المعذب الأسير.
ووقعت مأساة دنشواي، وهي قرية صغيرة ذهب إليها بعض الضباط الإنكليز لصيد الحمائم، فنشبت بينهم وبين أهلها مشاجرة صغيرة على صيده، انتهت إلى فاجعة رهيبة بسوء ما صنع الإنكليز؛ فقد ارتكب كرومر فيها أشنع خطأ يرتكبه سياسي في العالم، وتصرف بسبيلها تصرفًا مشينًا منكرًا يلطخ قومه بالعار، إذ أقام محكمة مخصوصة في القرية للانتقام من الذين اتُّهِموا بالاعتداء على أحد الضباط البريطانيين، وراح يرسل المشانق لتنصب في ساحة القرية على مشهد أهلها وأعين نسائها وبنيها قبل أن تبتدئ المحاكمات، وانثنى ينفذ الأحكام غداة صدورها أمام أقارب المحكوم عليهم وأهليهم المُرَوَّعين البكاة الضعفاء، وصحب الشنق في ناحية، الجَلْد في ناحية، ووُضِعت في أطراف السياط قطع من الرصاص؛ فكان المنظر وحشيًّا ترعش من هوله الأبدان.
وقد وثب مصطفى كامل عقب المجزرة صائحًا صيحة داوية، هازًّا ضمير الإنسانية، كاشفًا الأستار عن هذه المأساة النكراء، مثيرًا عاطفة العالم اشمئزازًا واستحياءً؛ فكانت نتيجة صرخته البالغة أفول نجم كرومر وانطفاء كوكبه، وختام حياته السياسية وتحطيم مجده؛ إذ عاد إلى بلاده، وعُفِيَ عن الأبرياء الذين ألقى بهم في غيابة السجون، وراحت دماء الشهداء مطلولة غالية الفداء.
لقد كان موقف مصطفى كامل من تلك المأساة وقفة وطني شجاع ثابت نَاضِحٍ عن بلاده بكل قواه، ولو لم يكن في تاريخه السياسي غير هذه الحسنة لكانت كافية وحدها لإحاطة سيرته بهالة من شعاع المجد ولُمَع الفخار وضياء الخلود.
وكانت صحة مصطفى كامل في ذلك الحين قد ذوت، وزيت مصباحه كاد أن يَنْفد، فاخترمه الموت عقب ذلك الانتصار بشهر أو نحوه؛ أي في العاشر من شهر فبراير سنة ١٩٠٨، فريعت مصر لمنعاه، وسرى الأسى البالغ في صدرها لرحيله، فشيعت جثمانه الذاوي الذابل في أفخم مواكب الموت، وأروع سَفَرَات الأرواح إلى السماء.
كذلك مات مصطفى كامل قبل أن يتجاوز الرابعة والثلاثين، فكان موته رائعًا جليلًا؛ لأنه حفز الحركة الوطنية وبعثها أقوى مما كانت من قبل، وجدد يقظتها فانتبهت من عنف الصدمة انتباهة مستطيلة في حياة الجهاد ومسيرة القضية المصرية إلى نهايتها المؤمَّلة وغايتها المرتجاة.
•••
وكان مصطفى كامل قد وجد أنصارًا له في البلاد وأشياعًا يناصرونه، منهم الشجاع الجريء الذي يتكشف بمناصرته، ومنهم المتهيب الذي يشايعه مخافتًا ويخشى الظهور في زمرته. وكان بين الأنصار الشجعان الكبار النفوس المخلصين حقًّا لوطنهم، الباذلين في سبيل قضيته عن ندى وسخاء، رجلٌ متعلم مهذب عريق المحتد، حسن الموارد، قويم الخلق، طاهر النفس، محترم الشخصية، لم يتردد في مساعدة مصطفى كامل بكل جوارحه، ولم ينزوِ عن تغذية الحركة بماله وجهوده، متفانيًا في الفكرة الوطنية بكل ذاته؛ ولو رام الراحة وابتغى الوظيفة وأراد السلامة من المخاطر، لكان له في كبار المناصب وفيرُ نصيب.
وكان مصطفى كامل قد بدأ يفكر في تأسيس حزب يدعوه «الحزب الوطني»، وكان أول خاطر له عام ١٩٠٦، وكان يومئذٍ متصلًا بالخديو سرًّا، فاتفق معه على تنفيذ الفكرة، ولكن لم يتواتَ له ذلك في تلك السنة، إذ سافر إلى أوروبا لبث دعوته لقضية بلاده.
وعاد في سنة ١٩٠٧ مريضًا ضاويًا يبدو أثر السَّقَام على مُحيَّاه، ولكن فكرة تأسيس الحزب كانت قد اختمرت في خاطره؛ فنشط لتحقيقها، ودعا الأنصار إليها، وألقى بالإسكندرية في أكتوبر من تلك السنة خطابًا جامعًا أعلن فيه مبادئ الحزب الذي ينادي بتأسيسه، ثم اشتدت وطأة المرض عليه، وألحت ذاتُ الصدر على بدنه، فبادر إلى تنفيذ الفكرة في ديسمبر من العام ذاته، ولم يفارق بعد ذلك سريره حتى تخطفَه الموت أوجع متخطَّف قبل أن يشرف على حزبه الوليد.
وكان محمد فريد الشخصية الفذة بين الأنصار، والرجل البارز الخليق برياسة الحزب بعد صاحبه، فكان انتخابه عُقَيبَ وفاة مصطفى كامل بالإجماع، وراح من ذلك الحين يجاهد ويغترب ويطوف، ويشرف على الصحف الثلاث: «اللواء» وأخويه «لاتندار» و«الاستاندارد»، ويبذل فيها من حرِّ ماله كلما احتاجت إلى المعونة والغياث، ولكنَّ الصحيفتين الأخيرتين استنفدتا أموالًا كثيرة بغير جدوى، ومتاعب جمة بغير نجاح.
وكان خَلَفُ كرومر على السياسة البريطانية في مصر يجري على أسلوب غير أسلوبه، وهو سير إلدون غورست، فبدأ الضغط على الحزب الوطني يُحَسُّ شيئًا فشيئًا، ولكن وطأة أساليبه لم تقتل الحركة القومية، بل كانت عاملًا جديدًا على تنميتها، وظل فريد في رياسة الحزب يكافح كما كافح صاحبه، وإن لم يكن قد أُوتِيَ براعته الخطابية وحماسة لغته.
وحدث في أوائل سنة ١٩١٢ أن نشر فريد بك مقالًا في صحيفة الحزب عن السياسة الإنكليزية وأساليبها في مصر؛ فاستدعته النيابة للتحقيق معه، وخشي هو المُعْتَقل، فنزح إلى الأستانة قبل أن يُنَال منه. وقد لبث في أوروبا يومئذٍ مجاهدًا بآخر ما عنده، شريدًا في الغرب، محرومًا من الأوبة إلى بلاده، حتى نشبت الحرب العظمى وهو في ألمانيا، فقاسى خلال أعوامها السود أشد درجات الألم، وقد نفدت موارده من طول إنفاقٍ على قضية وطنه، وسخيِّ بذلٍ وتفانٍ وإخلاصٍ ووفاءٍ.
وقد شاهده بعض بني وطنه في آخر أيامه يسكن غرفة في سطح بيت، وقد أمْلَقَ وأُدْنِف وحط السَّقَام على بدنه، وهصر الشقاء عوده، وسمعنا روايات كثيرة عن حياة الشظف التي كان يعيشها في تلك الأيام، وكيف كان يقاسي الخَصَاصة والفاقة معتزًّا بكرامته، حريصًا على إبائه، شديد الأنفة؛ ولكنا نجد الألم في تردادها، ويحزننا قصُّ تفاصيلها؛ لأنها تدل على مبلغ قسوة العصر على بطل وطني شجاع كريم، إذ كان ينبغي أن ينتشله من تلك المخالب الكاسرة التي نشبت في نفسه، وكان بلا ريب غير عادم سبيلًا إلى البر به سدادًا لبره، والوفاء له كما كان لوطنه من أكبر الأوفياء.
لقد قضى فريد شهيدًا، ولسنا نعلم شخصية سياسية في ذلك الدور من الثورة المصرية كانت أنزه ولا أطهر من شخصية ذلك الوطني الذي أفنى حياته في سبيل بلاده، فقد جاد لها بكل ما ملَكَ، وقضى لأجلها مُمْلِقًا غريبًا نازحًا في نسيان مطلق من الناس، وإن ذكراه اليوم لَعَطِرة أريجة، عبَّاقة بنفح ذلك الروح السامي الرفيع الذي ضفا على حياته السياسية في عهد كان يمكن أن يَسْلَمَ بنفسه، ويرتع في بَحَابح ثرائه، وينكمش لأَثَرَتِه، ولا يستمع لوسواس إيثاره دون أن يُلَام أو يجد عاتبًا؛ إذ كذلك كان العصر، وهكذا كانت الحياة، ولكنه كان فوق مستوى البيئة، وأسمى من وهدة الجيل، فما من عجب أن يروح في الشهداء والناس له شهود، والحياة ذاتها متفرجة، والجيل نفسه في كنود وجحود.
•••
ومن بعد مصطفى وفريد لم يقم على ذلك الحزب رئيس من طراز أحدهما، ولا كُفو شخصيتهما، ولا نظير أو ضريب إخلاصهما، وحين يفقد حزب سياسيٌّ مهما تكن رفعة مبادئه الرأسَ الصالح له والقائد الحريص عليه، لا شك يتحطم جملة واحدة، أو يأخذ في الضعف والخمول والانحطاط.
ولسنا ننكر أن الحزب الوطني بقي بعد فريد أعوامًا، واحتوى أفرادًا أخيارًا، وأشخاصًا إخوان نزاهة وسمو أحاسيس؛ ولكن هؤلاء إنما جاءوا على فترة من السنين، وظهروا على شتيت متفرق وحزب مبعثر منتثر، فلم يستطيعوا أن يهدُوه إلى سواء السبيل.
ومنذ أصيب هذا الحزب بنكبته في رئيسيه الأوَّلَيْن، جعلت الأهواء تتلقفه، والمنازع الشخصية تتلاعب به، وأيدي الشر والسوء تتناوله؛ فلم يلبث أن فقد اتجاهه، وضل على الطريق، وذهب أفراده ضاربين في كل ناحية.
وقد تلاشت هذه الجماعة كحزب من زمن بعيد وعهد طوال، وإن بقي ثَمَّ أشخاص يتشبثون بأنهم حملة تراثه ووُرَّاث تركته؛ ولكن هؤلاء إذا صح ما يدَّعون، كانوا أسوأ الوارثين.
لقد أصبح هؤلاء المتشبثون ببقاء النسبة فيهم لمبادئ مصطفى وفريد في أدوار متعاقبة وظروف محن طارئة، أدواتٍ في أيدي الوزارات المتحكمة، وذيولًا للطغاة والمعتدين.
ولكن يلوح لي أن ذلك الحزب الكبير الذي أسسه مصطفى كامل ومحمد فريد كان قد أتم دوره برحيلهما من هذه الحياة كتمهيد لما بعده، وتوطئة للدور الذي يليه في خطة الأقدار، وسياق الحوادث، ومسيرة الزمن، ومراحل الغد المجهول.
لقد أدى مصطفى كامل وصاحبه فريد الشهيد ما عهدت الطبيعة إليهما بتأديته قبل أن تدخل الثورة المصرية في دور نضوجها، وليس أبلغ في هذا المعنى من كلمة قالها مصطفى كامل نفسه في تفسير رسالته وهي: «إنني أريد أن أوقظ في مصر الهَرِمَة مصر الفتاة، هم يقولون إن وطني لا وجود له، وأنا أقول إنه موجود، وأشعر بوجوده بما آنس له في نفسي من الحب الشديد الذي سوف يتغلب على كل حب سواه، وسأجود في سبيله بجميع قواي، وأفديه بشبابي، وأجعل حياتي وقفًا عليه.»
وكأنما كان مصطفى كامل يودع دوره الطبيعي في الثورة حين وقف قبل رحيله من هذا العالم ببضعة شهور يقول على الملأ في خطاب سياسي له: «إننا لا نعمل لأنفسنا، بل نعمل لوطننا، وهو باقٍ ونحن زائلون، وما قيمة السنين والأيام في حياة مصر وهي التي شهدت مولد الأمم كلها، وابتكرت المدنية والحضارة للنوع الإنساني بأسره؟! إن العامل الواثق من النجاح يرى النجاح أمامه كأنه أمر واقع، ونحن من الآن نرى الاستقلال المصري ونبتهج به، وندعو له كأنه حقيقة ثابتة، وسيكون كذلك لا محالة؛ إذ مهما تعددت الليالي وتعاقبت الأيام، وأتى بعد الشروق شروق، وأعقب الغروب غروب، فإننا لا نمل ولا نقف في الطريق، ولا نقول أبدًا: لقد طال الانتظار! لقد وجهنا قلوبنا وقوانا وأعمارنا إلى أشرف غاية اتجهت إليها الأمم في ماضي الأمم وحاضرها، وأعلى مطلب ترمي إليه في مستقبلها، ولو تخطَّفنا الموت من هذه الدار واحدًا بعد واحد، لكانت آخر كلماتنا لمن بعدنا: كونوا أسعد حظًّا منا، وليباركِ الله فيكم، ويجعل الفوز على أيديكم، ويخرج من الجماهير المئات والألوف بدل الآحاد للمطالبة بالحق الوطني والحرية الأهلية والاستقلال المقدس.»
كذلك قال مصطفى كامل قبل مماته، كأن نبوءته بِسَعْدٍ المُعَدِّ المُهيَّأ للدور القادم تطلُّ على الغيب من خلال كلماته، وكأنما كان مصطفى كامل بشيرًا بسعدٍ ودوره القادم قبل الإيذان بساعة الرحيل.