مصطفى النحاس نشأته وتكوينه
كان سعد من أهل الريف، وجاء مصطفى كذلك منه، بل من الإقليم ذاته، ولم يكن بين مولد سعد ومنبت مصطفى غير مسافة قصيرة وأميال معدودة، وكلا المنبتين طيب، خصيب في الزرع، والحرث والنسل معًا، حتى ليعدُّ أخصب أقاليم مصر على الجملة منابت، وأكثرها في النوابغ مَعَدًّا، وأغناها بالمشهورين والأذكياء ثراءً.
من مديرية الغربية كان مجيء الزعيمين، كأنما أريد لهذا الإقليم أن يفخر بما ندر أن يتهيَّأ لإقليم سواه، وإن كانت أقاليم مصر في المنابت والموالد والمساقط أجوادًا طيبة كرائم. ولم يكن الناس يعرفون مولد سعد على التحقيق أيام حياته؛ فقد شغلتهم عظمته عن كل شيء خارج عن دائرة نفسه ونطاق بطولته، ولكنهم عرفوا حين مرتحله من هذا العالم «القرية» الصغيرة التي كانت أول ما شهد فيه نور هذه الحياة، فاشتهرت من ذلك الحين، وترددت على الشفاه، وقام لها في الناس ذكر كريم.
ولكن مولد مصطفى عُرف من نبوغه، واشتهر معه من كثرة اختلافه إليه وبره به ومزاره في كل عام، وجعل الناس إذا ذكروا المنبت الذي أنبته، أقروا له شهرته، وارتضوا له إنجابه، ولم يعجبوا له أن يكون للزعامة منبتًا.
وبين القرية التي ولد سعد فيها والبندر الذي جاء مصطفى منه — مع التماثل في الإقليم، والتشابه في التربة، والجوار في الجو والأفق — وجهُ شبهٍ آخر في التاريخ، يردهما إلى عصور فيه زاهرة، وقرون فيه حفلت بالعظائم واشتهرت بأعجب الحضارة؛ وهي عصور الفراعنة وبداية مصر القديمة ذات المجد العظيم.
أما إبْيَانَهْ — موطن سعد — فكانت في أيام الفراعنة من جملة بحر الروم — البحر الأبيض المتوسط — فلما انحسرت أمواهه عنها بسبب «طمي» النيل، ارتفع نشز من الأرض أو يَفَاعٌ في البحر أُنشئت فوقه تلك القرية، وكانت أرضها تصل إلى بحيرة البرلس، كما كانت يومئذٍ تابعة لمدينة «فوه» كشأنها الآن، وكانت فوه تعرف يومئذٍ بمدينة «متليس»، وظلت تنمو وتزدهر حتى اشتهرت في القرن الخامس عشر للميلاد، وأصبحت أعظم مدينة في مصر بعد القاهرة، حتى لقد اتُّخِذَت مستقرًّا للقناصل الإفرنج بعد الفتح العثماني.
ويرجع نسب أهل هذه النواحي إلى «المليذيين» الذين نزحوا إلى مصر في القرن السابع قبل الميلاد على ظهور السفن في عهد «ابسماتيك»، وهم الذين أسسوا مدينة «فوه» — أو متليس كما أسلفنا عليك — وقد دخلوا في دين المصريين وصاهروهم واندمجوا فيهم بعدما أقاموا زمنًا مستمسكين بديانتهم، متأبين النزول عن قوميتهم، وقد استعان فرعون بهم فأعانوا، وذلك في رواية المؤرخ المشهور «استرابون»، حتى إن من يتأمل وجوه أهل هذا الإقليم وسكانه — وبخاصة شَعْرهم ولونه — لا يشك في أنهم من سلالة أولئك النازحين النازلين.
وتقع «منية المرشد» شمال شرق «إبيانه»، وقد زارها ابن بطوطة الرحالة المشهور حين قدم إلى هذه البلاد من «طنجة» في أوائل القرن الثامن من الهجرة، وتقوم إلى اليوم في الجنوب الشرقي من إبيانه — مهبط سعد — تلال قديمة وآكام ورُبًى عالية.
وكذلك كانت «سمنود» معروفةً في عصور الفراعنة، وكانت تُدْعى قديمًا «جمنوت» — وهي قريبة في الغُنَّة من سمنود — كما كانت تسمى أيضًا في التواريخ القديمة «سبنيت»، وقد ذكر العلَّامة المؤرخ مارييت أن فراعنة الأسرة الثلاثين كانوا من سمنود، وكان جلوس أول ملك من ملوكها على السرير قبل ميلاد المسيح بثلاثمائة وثمانٍ وسبعين سنة، وفي أواخر زمن فراعنتها استولت الفرس على مصر للمرة الثانية، فأقاموا بها بضع سنين حتى جلاهم الإسكندر الأكبر عنها، وانتزع الملك من أيدي الفراعنة الأصليين.
وكانت سمنود مولد المؤرخ «مانيتون» الذي نقل عنه الرومان ما نقلوه من تاريخ قدماء المصريين.
وقد روى المقريزي في خططه أن سمنود كانت في صدر الإسلام من المنازل التي ينزلها العرب لربيع خيولهم، فكان إذا جاء الربيع كتب عمرو بن العاص لقبائل العرب بربيعهم حيث أحبوا، فكانت القرى التي يختارها أكثرهم هي: منوف، وسمنود، وإهناس، وطحا. وكان عمرو يقول للناس إذا قفلوا من غزوهم: «إنه قد حضر الربيعُ، فمن أحَبَّ منكم أن يخرج بفرسه يربعه فليفعل، ولا أعلمن ما جاء أحدكم قد أسمنَ نفسَه، وأهزلَ فرسَه، فإذا حَمَض اللبنُ، وكثر الذبابُ، ولوَى العددُ، فارجعوا إلى فُسْطَاطكم.»
وفي سمنود مساجد كثيرة قديمة العهد، كانت كلما تهدمت، رُمِّمَتْ وأُصلِحت، وفي جهتها القبلية — كما روي في الخطط التوفيقية — «وابور» لورثة البدراوي بك أُنشِئ لحلج القطن وسقي المزروعات، ولكنه أزيل اليوم وأقيمت في موضعه المدرسة الابتدائية التي أنشأها من قبل وقفُ البدراوي، وضمت الآن إلى وزارة المعارف عقب قيام مصطفى النحاس باشا أخيرًا بالنظارة عليه. وكانت في الجهة القبلية من المدينة أيضًا «ورشة» قماش لورثة البدراوي، فأصبح موضعها اليوم فِنَاء للمدرسة، ومَضيَفَة للوقف لإيواء النازلين، ومثوى للطارئين وقِرًى للطاعمين. وثمَّ كذلك «وابور» كان لرجل من الإنكليز يُدعَى مستر ماجور في الجهة البحرية، ولكنه آل بعد ذلك إلى رجل فرنسي يُدعَى مسيو فوميه، من تجار الأقطان، واستحال أخيرًا إلى أنقاض دارسة، وفي تلك الجهة أيضًا دار أنشأها عبد العال بك، مشرفة على البحر، ذات سياج من حديد ورصيف، وقد رتَّب صاحبها قراءة القرآن فيها كل ليلة، وهذه الدار قائمة إلى اليوم كما كانت في عهد مُنشِئِها الأول، ولكنها أصبحت وقفًا، وقد أجرى عليها الواقف مالًا لقراءة القرآن وإقامة الأذكار، وهي اليوم مقابلة تمامًا لدار أسرة الرئيس، ولكن للأسف سوف تُزَال تلك الأبنية القديمة لإقامة كوبري سمنود الحديث.
وفي سمنود من البيوت المشهورة بيت أحمد البدراوي رئيس المشيخة بحارة الشيخ سلامة، وبيت أحمد الصعيدي بحارة الدوَّار، ومنزل الشعراوي نصير على البحر، ومنزل السيد عبد العال رئيس مجلس مركزها، ومنزل مصطفى أفندي سَبَلَة، وقد آلت هذه المنازل جميعًا إلى ورثة أصحابها، وقد ظلت باقية على حالها، كما بقيت الأزقة والشوارع مُسمَّاة بتلك الأسماء.
وتحوي سمنود في رواية الخطط التوفيقية معملًا للدجاج، أنشأه البدراوي الكبير، وكان يستخرج منه في كل سنة مائة ألف دجاجة، ولكن هذا المصنع قد أتت عليه الأيام، ثم أعيد إلى مكانه بالذات من عشر سنوات، واسترد سيرته الأولى وشأنه القديم.
وكان عدد المسلمين في سمنود لذلك العهد الذي نروي عنه اثني عشر ألفًا، فأصبح اليوم قرابة سبعة عشر ألفًا. وكان الأقباط فيها يبلغون خمسمائة، ولكنهم اليوم لا يبلغون على الأرجح أكثر من مائتين، وكان عدد الإفرنج (الأجانب) نحو العشرين، ولكنه كان قد زاد فترة من الزمن، ثم عاد اليوم قريبًا من ذلك أو نحوه.
وكان شيخ الناحية في ذلك العهد هو المرحوم علي بك البدراوي، وكان رجلًا ذا نفوذ كبير، حتى لقد عهد إليه محمد علي الكبير بجباية الضرائب، وكان واسع الحيلة، شديد البطش، فاقتنى أملاكًا كثيرة، وأرضًا مترامية الأرجاء، بقي له منها ألف وسبعمائة فدان، غير المنازل والدور، فأوقفها جميعًا على وجوه البر وسبل الخير، ولم يجعل لأولاده منها غير مرتبات محدودة تجري عليهم، وقد عُهِد بهذه الأوقاف أخيرًا إلى مصطفى النحاس باشا، فأحسن إدارتها، ورد الحقوق إلى صاحبها، وقام عليها خير قيام.
ويعود تاريخ بناء الدار التي كان فيها مولد مصطفى النحاس وإخوته إلى عهد جده المرحوم الشيخ سالم النحاس، فهو الذي شيدها وجعلها واسعة الرحاب، فسيحة الأفنية، على طراز ذلك العهد وأسلوب عمارته، وهي لا تزال إلى اليوم حسنة الطلاء، مدهونة بالزيت، جميلة النقوش، وقد آلت الدار إلى ولده المرحوم الشيخ محمد النحاس والد الزعيم؛ فابتنى فوقها طبقتين زوَّج فيهما ولديه المرحوم محمد بك النحاس والأستاذ سالم النحاس، وهي إلى اليوم منزل العشيرة، ولها في سمنود مقام كبير وشأو عظيم، استمدته من مكان عميدها اليوم الذي نبت منها أطيب منبت، ونشأ خير تنشئة، وأرسل اسم سمنود ذاتها مع مطار الشمس، ورفع ذكرها في العالم بجملته.
وكانت سمنود إلى عهد غير بعيد مركز تجارة واسعة للأخشاب، فاشتغل المرحوم الشيخ محمد النحاس والد زعيمنا بهذه التجارة، ولم يكن تاجرًا كبير الثروة متسع النطاق مترامي المعاملة؛ ولكنه كان مع ذلك غنيًّا باسمه الحسن، وشهرته النقية، وسمعته الطاهرة في الأسواق، وهو أنه التاجر المستقيم، أو «التاجر الذي لا يكذب»، فوثق الناس به، وسكنوا إلى ذمته حتى لقد كان التجار الآخرون إذا جاءهم أحد يريد معاملتهم لجئوا إليه يسألونه رأيه فيه، فإذا ما شهد له أخذوا بشهادته ووثقوا برأيه. ولقد كان في سمنود تجار أخشاب أكبر منه ثروة، وأوسع من مَتْجرِه نطاقًا، ولكنهم لم يصيبوا من حسن السمعة مثل الذي ترامى له، وتسامع الناس به من أمر استقامته ونقاء ذمته، فكان مآل تجارتهم من بعدهم إلى زوال وفناء.
وكانت والدته سيدة تقية، صالحة، قوَّامة، صوامة مُزكية كما كان والده، إذ كان أفق العشيرة كذلك، جوًّا طاهرًا تسوده العبادة، ويغمره التُّقَى، وتُراعَى فيه الفرائض، وترفرف عليه أجنحة السكينة والدعة والسلام.
وكانت التقوى في آل النحاس مسموعة عنهم في المدينة من قديم الزمن، والتمسك بالدين أول صفاتهم التي عُرفوا بها في المجامع والندوات.
وكان لمصطفى أخ من أبيه وهو المرحوم أحمد النحاس، وخمسة أشقة، قضى كبيرهم — وهو محمد النحاس — نحبه؛ فله اليوم من الإخوة الأستاذ سالم النحاس ومحمود النحاس التاجر، وعبد العزيز النحاس بك كبير المفتشين في وزارة الداخلية، وله أخت وحيدة هي حضرة صاحبة العصمة السيدة زهرة النحاس، وكانت زوجًا للمرحوم إبراهيم شوقي بك، نجل المرحوم إبراهيم فوزي بك محافظ القاهرة في إبان الثورة العرابية، وكان قد وُكل إليه يومئذٍ بحماية أرواح الأجانب فلم يُرَقْ في الثورة دمُ واحدٍ منهم، ولم يُطَلَّ قتيل، فكان ذلك حقيقًا بفخار، حريًّا بأن يسجل له صفحة ناصعة في كتاب الشهامة والوطنية ومَنَعَة الجوار. وقد وجدت هذه السيدة الفاضلة عند شقيقها مصطفى أعز الحنان، وأكبر الحب، وأعطف الرحم، وأندى القُرْبَى، كما وجد أبناؤها النجباء — وحيد وإخوته — عند خالهم الأب الراعي، والعميد الحنَّان البرَّ، والوليَّ الكريم.
وكانت وفاة والد مصطفى في سنة ١٩٢٠، بعد أن رعَى مصطفى ولزمه وحنا عليه إلى سن الأربعين، فلم يغادره يوم آذن الرحيل إلا وهو على طريق المجد مُصعدٌ، وفي أول النبوغ الوطني متألق النجم، وفي سبيل الوطن مجاهد يسير إلى ربوة الزعامة بخطى فساح، وقد قضت والدته بعد أبيه بثماني سنين.
في سمنود إذن، ذلك البلد الطيب، ملتقى الحضارتين: حضارة مصر الفرعونية، وحضارة مصر العربية، في تلك الوحدة التي أنشأها التسامح الديني، والسهولة الإسلامية، ووصى بها صاحب الرسالة المحمدية قومه، كما رأيتَ في خطبة عمرو بن العاص فاتح مصر، بسبيل منازل الربيع فيما تقدم لك في سمنود المُمرعة الخصيبة، وعلى شَرَفٍ من أمواه النيل، ووسط الحقول النضيرة، والمروج المترامية — كان مولد مصطفى النحاس، وذلك في الخامس عشر من شهر يونيو سنة ١٨٧٩، بل في ذلك الأفق المنزليِّ الوادع الهادئ الذي ترفُّ عليه السكينة، وتملأه أنفاس التُّقَى والفضيلة، فتح عينيه على ضياء هذه الدنيا وليدٌ من أطيب الأعْرَاقِ، كتبت له العناية الإلهية أنه سوف يصبح الرجل العظيم الذي يتولى أمر أمة مجاهدة لأشرف ما جاهدت له الأمم في هذا العالم، ويسير بها إلى غايتها شجاعًا قويًّا جلدًا على الأحداث حتى يدرك النجاح.
لقد اختارت الطبيعة له أحضانها الحانية ليعتنقها من الطفولة، ويمرح في جنباتها صبيًّا يرتع في الحقول، ويقفز إلى اليمِّ ليتعلم السباحة، ويذهب عاديًا في المروج، ليس عليه خَفْق الرياح، ولا زفيف الهواء، تحت ضياء الشمس يباكرها في مثل نشاطها، ويودعها عند المغيب.
كذلك جاء مصطفى النحاس من أهل القُرَى مثل سعد آتيًا ليكون المولد صحيًّا، من قلب الطبيعة التي أرادت به معنى من أكبر معانيها، وهيأته لمقصد من جليل مقاصدها؛ لأن الطبيعة تُؤمِّن على مصنوعاتها، وتتخير لأخيار قوالبها، وتتكفل بإفراغها وانتخاب الظروف المساعدة لإخراجها، وقد أرادت أن يكون مصطفى بالنشأة فلاحًا ليناسب الأمة التي سيتولى قيادتها، وأعطته كل مزايا القرويين في سراح الأفق، وسعة المحيط، وقوة التربة، وسلامة المناخ؛ ليدرك من الصفات الخُلُقية والمنازع النفسية التي تهيئ له السبيل إلى البروز، وتفتح له الطريق إلى التفوق، وتعينه على التمرس بالشدائد، والتجلد للصعاب والمشاق، واحتمال كبار الأعباء والصبر على عظائم الخطوب.
نشأ مصطفى في تلك البيئة الطبيعية لكي تتناسب النشأة مع الحياة العملية التي ترتقبه، إذ كان قد خُلق ليكافح ويناضل ويجاهد لكبار الغايات وعُليا الأمثلة؛ فاقتضى ذلك كله أن يكون قويًّا بالفطرة، سليم البناءة من الحداثة، مكتمل الخلق من الطفولة، حتى يظل على السنين شابًّا مدَّخَر القُوَى، موفور العافية، لا يُحْسَبُ عمره بالأعوام، وإنما يُحْسَبُ شبابه المحفوظ عليه بالجدة الظاهرة، والقوة الزاخرة، والخليقة المكتملة، وصحة البنيان.
وإذا كان قد أخذ ذلك كله عن الطبيعة التي ولد في أحضانها ليظل شبابه باقيًا، فقد أخذ كذلك عن البيئة المنزلية التي درج فيها الصفات والنزعات الكفيلة ببقاء شبابه، واستدامة قواه، والاحتفاظ بكيانه، إذ تأثر بمحيطه «العائلي» والتقوى الغامرة للأفق الذي نبت فيه، وورث الاستقامة المكينة من أهله؛ فليس أحفظ للشباب من الاستقامة، ولا أعوَد من التقوى على سلامة الأبدان.
ولقد رأينا جمهرة الناس في بلادنا يذبلون، ويغيض ماؤهم، وتَنْفَدُ قواهم، وتخبو حرارة نشاطهم، قبل أن يدركوا الخمسين؛ بل يروحون مع مطالع الكهولة شيوخًا مُدبرين من إسرافهم على أنفسهم، وحملهم على قواهم في مراكض الشباب، وميادين الشهوات، ومطاوعة إغراءات النفس اللوَّامة، ومتابعة اللهو، وإركاض أفراس اللذة، والمتع المُلِحَّة المستبدة المحطمة للأعصاب.
نشأ مصطفى في ذلك البيت الطاهر، ودرج في ذلك الأفق الساكن الوديع؛ فاكتسب الاستقامة، وحَرِص على الصلاة من العاشرة، حتى لقد سئل فيما بعد عن سر هذا التمسك الصادق بشعائر الله، فقال إنه حين انحدر به أبوه إلى القاهرة ليسلكه في المدرسة، ذهبا من ساعتهما رأسًا إلى ضريح سيدنا الحسين — رضي الله عنه — فلم يكد والده يقف به أمام المقام الطاهر حتى انبعث في خشوع يقول: «لقد سلمت لك مصطفى!» فشعر الطفل في تلك اللحظة بوحي خفي دب إلى نفسه، واستفاض في مشاعره، وغَمَرَ حواسه؛ فظل يذكر تلك الوقفة الدينية الرهيبة طيلة الحياة، ويتمثل تلك الكلمات تدوي في أذنيه على الأيام، ومنذ ذلك الحين لم يترك فرضًا، ولم يهمل ميقات صلاة؛ بل لقد كانت هناك جوائز ومكافآت للصلاة في المدارس الابتدائية والثانوية، فأحرزها جميعًا، وفي سائر أعوام دراسته.
هذا هو أول أثر للمحيط العائلي في نفس مصطفى عند طفولته، وهو تأثير خُلُقي يتصل بالشعور، ويلقي في الوجدان بذور الفضيلة، وتشيع في النفس من أفاعيلُه كرائم الآداب، ورفعة الأخلاق، والتنزه عن الدنايا، ويضع في أعماق الخاطر قوة الإيمان والاعتماد على الله، وجلال اليقين الذي لا يتطرق اليأس إليه في أشد الحلكات، وأبلغ المحن، وأرهب البلاء.
وكذلك بدت بوادر نفسه الصالحة الطاهرة قبل ظهور مخايل ذكائه ورفعة ذهنه؛ لأن النشأة النفسية إنما تكون من عمل البيت، وصنع المؤثرات العائلية، وأفاعيل الوسط الأول والبيئة الخاصة. وعلى مبلغ هذه النشأة من القوة والنقاء والخير والطبيعة تكون الرجولة، ويروح المصير، ويتيسر النجاح، ويتواتى الفوز والتوفيق.
بفضل التربية المنزلية والتكوين النفسي الأول، ظهر مصطفى النحاس في شبابه موضع الإعجاب، وتجلى في رَجْلَتِه محل الإجلال والإكبار، وفي زعامته الوطنية كاسب الإيمان ومُكسبه، ورابح اليقين وموحيه، والمتجمل بالثبات والمنادي إليه، والرفيع النفس والنفوسُ ألفافٌ حوله، والمتغلب على خصومه وإن تكاثروا عليه، بقوة تلك المزايا التي استمكنت منه بفضل النشأة والتكوين.
وخارج البيت لم تلبث استعداداته الذهنية أن ظهرت بادهة مدهشة كمواهب نفسه، ولم تكن في سمنود مدارس كبيرة في ذلك الحين، وإنما كانت ثَمَّ مدرسة لتعليم الفرنسية أنشأها قبطيان من أهل المدينة، وهي مدرسة صغيرة متواضعة، لا تكفل تعليمًا كبيرًا ولا حسن تنشئة، ولكن الصبيَّ مصطفى جعل يختلف إليها في طفولته ليأخذ عنها المبادئ الأولية.
وفي تلك الفترة، وقبل أن يبلغ العاشرة، ظهرت مطالع نجابته فجأة، وبوغت القوم بسرعة التقاطه للعلم، وخارق ذكائه، وعجيب حافظته. وقد ذكر كثير من الناس قصة عن طفولته وما كان منه في مكتب التلغراف، وهي في الحق قصة صحيحة غير مصنوعة، وإن لم يأتِ رُوَاتُها على الدقائق الصادقة فيها وحقائق التفاصيل، ونحن موردوها هنا على وجهها الصحيح.
في ذات يوم شهد مصطفى وهو في طفولته عبد الحميد حافظ أفندي المستخدم في مكتب التلغراف يحرك أنامله على جهاز آلي أمامه، فينقل الجهاز إشارات معينة، فوقف يتأمل هذا العمل مليًّا، وقد هاج حب الاستطلاع في نفسه؛ فكاشف الموظف برغبته، وكان عبد الحميد صديقًا لأبيه، فدفع إلى الصبي بكشف طويل يحوي الحروف الهجائية وبجانبها مصطلحاتها التلغرافية، بين شرطة ونقطتين، أو نقطة وشرطة، ونحوها. فلم يكن من الصبي إلا أن أكب من لحظته على حفظها، واضعًا كل ذهنه وقلبه في استظهارها، حتى لم يكد يؤذن مغرب الشمس حتى جاء الغلام إلى العامل طالبًا إليه أن يُسمِّع عليه ما حوى ذلك الكشف من نقط وإشارات وشرطات.
وما كان أشد عجب الرجل ودهشته لما قال الغلام، فراح يقول له: «كيف تكون حافظتك قد وعت في يوم واحد ما لا تعيه ذاكرة سواك في شهر؟!» فألح مصطفى عليه في سماعه قائلًا: «إذا تلخبطت فعاقبني!» فأصغى الرجل إليه وراح هو يتلو ما حوى الكشف من أوله إلى آخره تَلْوَة المستظهر الحفيظ العليم؛ فاشتدت دهشة العامل، وعجب لقوة ذاكرة الغلام الباكرة ووقدة ذكائه العجيب.
وتسامع أصحاب أبيه بما جرى، فأشاروا عليه بأن يُعْنَى بهذه المخايل الخارقة للمألوف، والمواهب النادرة في الغلمة والأصْبيَة، ناصحين له بأن يدخله إحدى مدارس القاهرة ليتلقى العلم بانتظام، ويبرز ما وهبه الله من ذكاء غريب.
ألا ثقي بما أنا قائل لكِ. إن هذا الغلام العزيز نجم سوف يروح كوكبًا فرقدًا متألق الضياء، وسوف يصيب في يوم من الأيام إعجاب أوروبا المستنيرة كلها، ومن ثَمَّ ينبغي للناس جميعًا أن يَعدُّوه كشيء هو مِلْك لهم، لا مِلْك أحد خاصة، ومن الخير للناس مجموعًا، ولمصلحة الإنسانية ذاتها، أن يُنتفع بمواهبه الخارقة المألوف التي حَبَتْهُ الطبيعة بها، وأن تُوجَّه أحسن التوجيه. وإنَّ عليكِ لواجبًا عظيمًا، وهو أن تضحي بكل ما يمكن التضحية به في سبيل تربية هذا الوليد وتنشئته.
وقد كانت هذه الكلمات نبوءة من الكولونيل حققتها الأيام، وقد راح في الكتاب ينصح لوالدة مازيني أن تَقْصُرَ دراسة الطفل على ما يُكسِبه المعارف الصحيحة والعلم المحض والثقافة النقية من أخلاط النظريات والقضايا الجدلية، وأن تُجنِّبه تناول الكتب الحاوية لصنوف الحوار، ومختلف وجهات النظر، قائلًا في ختام رسالته: «إن ذهنًا عبقريًّا كذهنه سوف يسهل عليه أن يختار لنفسه الكتب الصالحة من هذا الطراز في الأوان الموافق، والحين المناسب.»
ولعلَّ والد مصطفى قد وجد نفسه في الموقف الذي وجدت والدة مازيني نفسها فيه حيال ما ذَرَّ من ذكاء وليده، وما بدر من مخايل نجابته، فاستنصح الصَّحْبَ في أمره، واستشار أهل مودته فيما عسى أن يسلكه بشأنه. وكان فيهم صالح باشا ثابت وعبد الحميد أفندي حافظ وغيرهما؛ فكانت النصيحة أن يدخله في إحدى مدارس القاهرة، وكأنما أحسَّ القوم يومئذٍ حيال هذا الغلام الذكي من الحداثة، القوي الذاكرة في الطفولة، أنهم أمام ظاهرة غير مألوفة، وأن لهذا الغلام شأنًا في غده، وهي النبوءة التي كثيرًا ما صحبت طفولة العظماء، واستبقت في الصِّغَر مصائر النوابغ والمتفوقين.
وأدى البحث في أي المدارس أصلح له إلى اختيار المدرسة الناصرية، وكانت يومئذٍ أكبرها شأنًا، يختلف إليها أبناء اليسار وأولاد أهل الجاه والعظاميين، وكان ناظرها أمين سامي باشا المربي المعروف.
وكان خروج مصطفى من البلد الذي درج من المهد فيه، والوسط الناضر الذي كان يحتويه، والأفق المنزلي الوادع الذي يكتنفه إلى القاهرة في تلك السن الباكرة، منظرًا في البيت مؤثرًا، وموقفًا أحسبه لا يزال إلى الساعة منطبعًا على صفحة خاطره. ولا ريب في أن وداع والدته الحنون الرءوم له كان أليمًا، ولا بد من أن يكون قد جرى مقترنًا بنصائح الأم ووصاتها للطفل الذي راح يغترب عن أفقه الصغير ليعيش في أفق جديد غريب عليه، وسط الحاضرة المليئة بالإغراء، المزدحمة بالمفاتن، الجديدة على طفل من الريف نقي الصفحة بريء الخاطر.
لقد دعت أمه الله له بأن يتولى حراسته ويجنِّبه السوء ويرعاه، وهي في إشفاق ودموع. وصَحِبَه والده في سفره ليدخله المدرسة وهو مستخير الله في أن يسلك بولده مسالك التوفيق.
وكان مجيء مصطفى إلى «الناصرية» في الثلاثة الأشهر الأخيرة من السنة الدراسية، فأمر الناظر بامتحانه ليعلم أي الفِرق هو لها الصالح المناسب؛ فظهر يومئذٍ أنه يليق للسنة الثانية، فَسُلِكَ في تلاميذها. وكان من المشقة عليه — ولا ريب — أن يجاري زملاءه وإخوانه فيها، وهو لم يدخلها معهم من بداية السنة، ولكنه جاء من الريف يحمل أول بوادر النبوغ، فلم يلبث أن تفوَّق على أقرانه جميعًا في امتحان النقل إلى السنة الثالثة.
ولكن أمين سامي باشا لمح في مصطفى تلك البوادر السراع المتوثبة، فخشِيَ أن تخمد تلك الجذوة بإرهاقها، وتخبو حرارتها بالحمل عليها وإجهادها؛ فنصح بأن يسير الطفل في الدراسة سيرة طبيعية، وأشفق والده عليه من تلك الطفرة الخطرة؛ فأشار عليه بالترفُّق، خيفة الإيغال، وبالتؤدة؛ لأنها أعْوَنُ على شُقَّة المسير، فأطاع مصطفى ورضي النصيحة، ودخل السنة الرابعة الابتدائية، فكان في نهايتها أول الناجحين.
وكان النظام المتبع يومئذٍ أن الناجحين في نهاية السنة الرابعة ينتقلون مباشرة إلى الدراسة الثانوية، إذ لم تكن الشهادة الابتدائية قد تقررت بعد ونظمت لها الامتحانات النهائية العامة. ولكن في تلك السنة التي كان مصطفى فيها موشكًا أن ينتقل إلى الدراسة التجهيزية، وهي سنة ١٨٩١، ولم يكن الصبيُّ قد جاوز الثانية عشرة، تقررت فجأة إقامة امتحان عام لنيل الشهادة الابتدائية، وكان ذلك مباغتة أعدتها الأقدار لتُبرِز ذكاء مصطفى، ونجابته وبوادر نجاحه، وقوة استعداده، وغزارة ملكاته؛ إذ لم يكن بين مصطفى وتأدية ذلك الامتحان سوى أسبوعين، ولكنها على قصرها لم تكن المهلة القصيرة حيال عزمه الوثيق، وصبره المكين، وجلده الطويل؛ فنجح في الامتحان وبرز على رأس الفائزين فيه.
كذلك أتم مصطفى الدراسة الابتدائية غريبًا في القاهرة، قادمًا إليها من صميم القرى، وكان في الناصرية «بالقسم الداخلي»؛ أي يبيت فيها ويجد طعامه. وكانت الأقسام الداخلية في معاهد العلم مواطن إغراء خطر، وفتون شديد السلطان على النفوس الساذجة، والصفحات النقية البريئة، بسبب اختلاط الطلاب ومعيشتهم الاشتراكية، وكانت الناصرية كما قدمنا مدرسة أبناء الذوات، وأولاد الأغنياء النازحين من الريف، وقد اشتهر طلابها بالترف والنزوع إلى المراح، والاستجابة للهو والعبث، والاستماع إلى المفاتن والمغريات.
ولكن مصطفى الذي انحدر من سمنود وفي خاطره دعوات والدته ووصاة أبيه، وفي أعماق نفسه أثر البيئة الصالحة التي عاش فيها، والأفق المنزلي الوادع النقي الذي كان في المولد يكتنفه، لم يتأثر بما كان يجري من حوله في ذلك الوسط المدرسي الجديد عليه؛ إذ كانت نفسه الطيبة من الطفولة منصرفة إلى الدرس، منكمشة في التحصيل، منشغلة بالطموح، مليئة بالتطلع والنزوع إلى التفوق، وقد تمكنت منها العبادة، وتأصل فيها الوازع الديني؛ فلم يكن في ساعات فراغه ينزع إلى اللهو كأثر من حوله، وإنما كان يروح إلى الصلاة في المواقيت، أو يطالع بعض الكتب المدرسية يستزيد منها ويَزكَّى بها، ويجمع إلى ما تلقنه في المدرسة ما يعالج هو بنفسه فهمه بلا معلم ولا ظهير.
وفي المدرسة الابتدائية، ظل مصطفى في هذه «المناعة» الخلقية من المغريات ووساوس الغرائز، وبنجوة من الجموح الذي ينزع إليه أكثر الولدان بسبب كثرة الاختلاط والاندماج؛ بل لقد اكتسب فيها ما لم يكن يألفه من قبل، وهو الصبر على الحرمان، والرضوان بالشظف، وإيلاف التَّخَشُّن، والجلد على التقشف إذا ما اضطر إليه.
ومن ذلك العهد ألف الرضا بكل الأطعمة، فليس له «صنف» مخصوص، ولا لون من الأطعمة هو أحبها إليه.
وانتقل مصطفى إلى المدرسة الخديوية، فأظهر فيها التفوق ذاته، والنبوغ الباده بكل أعراضه ومزاياه، وكان دخوله المدرسة في قسمها الداخلي «بمصروفات»؛ ولكن أمين باشا سامي الذي أدرك نبوغه وعرف ذكاءه وتبيَّن مواهبه أراد تشجيعه وجَعْلَه قدوة حسنة لسواه؛ فطلب أن يبقى «مجانًا» هو ورفيق له يُدعى محمد فهمي ياقوت، فسمح له بذلك.
وفي المدرسة الخديوية، كان مصطفى في الحق قدوة مُثلى، ونموذجًا طيبًا للطالب العاكف على دراسته، المنصرف إلى العلم بكُلِّيَّته، العَزُوف عن النزق واللهو، المقبل على المطالعة والمزيد من المعارف، وقد أحبه رفقاؤه لمواهب ذهنه وعاطفته، وتأثروا في رحاب المدرسة بشخصيته، واعترفوا جميعًا برقَّة حاشيته، ووفاء طبيعته، وكرم شمائله، وحبه الصادق للعدل، حتى ليذهب إلى حماية أي طالب يُستَهدف لأذى رفقائه، أو تُسَاء معاملته في حلقات اللِّدَات والأقران.
وكان مصطفى في الخديوية وقورًا، وملامح وجهه تكسوها الرزانة والسكون، وإن أشعَّت عليها في أكثر الأحيان ظلال ابتسامة حلوة ساجية، وإيماضة رفيقة هادئة، وكان متحدثًا فصيحًا؛ فإذا ما تناقش والصحاب في مسألة من المسائل، نَمَّ وجهه وصوته وحركاته وإشاراته عن اتزان باكر، وتَمَكُّنٍ من موضوعه، وفهمٍ صحيح لكلياته وجزئياته.
وكان كل همه في الدرس والمذاكرة، ولم يكن ليشترك مع الأقران في لهوهم ومراتعهم، حتى إن نقاء حياته أرسل أفقًا من الطهر والنقاء فيما حوله، وطَهَّرَ جوَّه ومحيطه.
وعقب دخوله المدرسة الخديوية شاء اللورد كتشنر أن يأخذ من المدرسة عددًا من طلابها لإلحاقهم بالمدرسة الحربية، وكان مصطفى من بينهم؛ ولكنه كان يُؤثِرُ مواصلة دراسته والانتقال منها إلى المدرسة العالية، فرفض النقلة إلى المدرسة الحربية، وعند ذلك ظن الموظف الإنكليزيُّ الذي يحاول تنفيذ مشيئة المعتمد البريطاني أنه مستطيع أن يؤثر في هذا الطالب الذي اجترأ على الرفض، من ناحية ضعيفة، يحسبها مطعنًا قابلًا للجُرْح؛ فقال له إن كل تلميذ يتعلم هنا «بالمجان» لا بد من أن يلتحق بالمدرسة الحربية، ولكن مصطفى — في شمم وعزة وشجاعة — راح يجيب قائلًا: «ما طلبت أنا المجانية عن فاقة، ولا سألتها عن عوز؛ ولكن ناظر المدرسة هو الذي شاء ذلك مكافأة للمتقدمين، وجزاء للمتفوقين.»
فأسقط في يد المفتش، ولم يُحِرْ جوابًا.
وظل مصطفى متفوقًا على أقرانه في المدرسة الخديوية، على رأس الفرق جميعًا، حتى أصاب «البكالوريا»، وانتقل إلى مدرسة الحقوق، حيث المضطرب فسيح لبروز النبوغ، والمجال متسع أمام الذكاء الوقَّاد، والشخصية القوية من النشأة، فلم يلبث مصطفى أن ظهر بأول مقدمات «الزعامة»، ومطالع قيادة المجاميع، وقد ظل على تفوقه أول فرقته في جميع سني الدراسة، وهو البارز على رأس إخوانه، الظاهر وسط الحلقات، حتى أحرز «الليسانس» وكان أول الناجحين.
وكانت بوادر زعامته في هذه الفترة الباكرة من حياته، بسبيل مصير طلاب الحقوق وخرِّيجيها إذا ما فرغوا من دراستهم القانونية؛ فقد وقف مصطفى النحاس يومئذٍ موقفًا رائعًا من أمر هذا المصير وسبيله، وأبدى من الرزانة والرصانة والثبات على الحق ما كان مقدورًا له أن يبدي في مجال السياسة بعد ذلك، ومواقف الوطنية الصادقة، حتى لم يعد عن ذلك الأمر إلا وهو الناجح الموفق المنتصر.
وتفصيل ذلك أن خريجي الحقوق كانوا يومئذٍ يُعيَّنون «كَتَبَةً» في النيابات بمرتب شهري لا يتجاوز خمسة جنيهات، وكان ذلك الإجراء سوء تقدير لهم، ووضعهم في غير مواضعهم، وإنزالهم في خدمة القانون دون منازلهم الخليقة بهم، فلم تكد نتائج الامتحان النهائي تظهر، وتُعرف أسماء الناجحين فيه، حتى دعا مصطفى أفراد فرقته الذين نالوا الليسانس معه إلى حفلة أقامها لهم في القناطر الخيرية، فجاءوا متوافين إليه مُلبِّين.
وحين اكتمل عِقْدُهم نهض مصطفى فيهم قائلًا لهم إنهم بنَيْلهم إجازة الليسانس قد أصبحوا من رجال القانون في البلاد، وإنه من الجرم أن يقبلوا وظائف كتبة في النيابات براتب خمسة جنيهات، فقال قائلهم: «وماذا نصنع إذن؟» قال: «أريد أن نقاطع الوظائف الحكومية، ونخوض معترك الحياة العامة أحرارًا طلقاء المشيئة غير مقيدين.»
فاستقبل فريقٌ منهم الفكرة راضيًا محبذًا، على حين لزم فريق الصمت وأطالوا السكوت، فعاد الزعيم الشاب يقول: «أما من جهتي فإنني أرفض الدخول في هذه الوظائف من الوجهة المالية، فإذا كان فيكم من تضطرهم حالتهم المالية إلى التوظف وهم كارهون، فليعلنوا ذلك من الآن، فنحلهم من الاشتراك معنا؛ فإن ذلك خير من أن ينشقوا علينا بعد أيام، فيعوقوا علينا سير حركتنا، ويفسدوا علينا تضامننا.» فقال أربعة منهم إن ضيقهم المالي يكرههم على قبول هذه الوظائف صاغرين، فقال الزعيم الشاب المتحمس لفكرته، الحريص على كرامته: «هذا حسن، فليتَّحد الباقون، وليتناصروا، وليكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا.»
وما لبث نبأ هذه الحركة أن اتصل بولاة الشأن المصريين والإنكليز، فخشوا العاقبة وعهدوا إلى ناظر مدرسة الحقوق بأن يدعو مصطفى النحاس إليه فيبحث معه الأمر في رفق، فلما دعاه الناظر ذهب إليه، ولكنه لم يكد يدخل عليه حتى وجد حوله وكيل المدرسة وبعض الموظفين الإنكليز، ومن بينهم مندوب من قِبَل دار الوكالة البريطانية.
وراح القوم يسألونه عن الباعث الذي بعثه هو وزملاءه على القيام بهذه الحركة، فبسط لهم الأسباب في لهجة الجد والحزم والغضبة الصادقة للكرامة.
ولما فرغ من قوله وهم مرهفو الأسماع له، انثنوا يقولون له: «وماذا تريد أنت لكي تكف عن دعوتك هذه؟»
فقاطعهم قائلًا في حماسة الأبيِّ المترفع: «لست أبغي شيئًا لنفسي خاصة، ومهما عرضتم على زملائي فإنني شخصيًّا لن أقبل التوظف في النيابات، وإنما الذي أطلبه لإخواني هو أن يُعيَّنوا في وظائف «مساعدي نيابة» بمرتب خمسة عشر جنيهًا في الشهر.» فقالوا: «إن هذا الطلب صعب التحقيق، إذ ليس يتيسر الترقي بهم إلى وظائف مساعدي النيابة دفعة واحدة.»
فجعل مصطفى يناقشهم في ذلك وهم يناقشونه طويلًا حتى أقنعهم برأيه، وألزمهم وجهة نظره، فارتضوا تعيين الخريجين في وظائف «معاوني» نيابة بعشرة جنيهات في الشهر.
وكذلك انتصر مصطفى ورفع من شأن إجازته، ونجح في زعامته الباكرة ومطالع قيادته، ووُفِّقَ في الدفاع عن حقوق الجماعات بقوة يقينه، وجاذبية شخصيته، ورفعة نفسه عن الصغار والمادية، ونفاره من المساومة، ووقوفه موقف الشهامة والكرامة والإباء.
وكذلك بدرت نزعة الزعامة في نفس مصطفى وهو في العشرين أو قرابتها. وقد اقتضت منه الزعامة الباكرة يومئذٍ الوقوف بجانب الحق، فوقف بجانبه رافع الرأس، قويَّ المنطق، بادهَ الحجة، بل لقد أريد على الكف عنها بالمساومة والإغراء؛ فأبى الإذعان إلى ما أريد عليه، فكانت تلك صورة مصغرة من زعامته الوطنية حتى توانت له الظروف المهيَّأة، وحان مطلعه على رأس الأمة ليقودها بتلك الزعامة الحريصة الحفيظة النزيهة ذاتها إلى ساحة الجهاد، وميدان الفوز والنجاح.
وقد رفض وهو قائم في ذلك الموقف الخليق بالإعجاب دخولَ الوظائف، وكان دخولها يومئذٍ مرمى آمال الشباب، وغاية أماني الطلَّاب، رفض الوظيفة ولم يكن أهله أغنياء مكثرين حتى يستغني عنها الاستغناء كله؛ ولكنه كان أبيًّا على المساومة، بعيد مطارح الأمل، قصيَّ مسافة الأمانيِّ، يحس في أعماقه أن الميدان الحر أوْأَمُ له، وأصلح لمثله، وأكثر إبرازًا لمواهبه.
رفض مصطفى وظائف معاوني النيابة، وأبى راتب عشرة جنيهات في الشهر، ولو أنه ارتضى ذلك وقَبِله، لأُعطِيَ أكثر من ذلك وأكبر أمدًا، ولكن بثمن زعامته الأولى في حلقة الشباب، وبتضحية الفضيلة النامية في نفسه، الثجَّاجة من منابع إحساسه، الغزيرة المورد والمَعِين …
لقد كانت عشرة جنيهات في الشهر يومئذٍ راتبًا حسنًا، يُقِرُّ عين كل شاب، ويُرضِي أمانيه؛ إذ لم تكن في ذلك الحين أزماتٌ اقتصادية، ولا ضوائق متراخية الآماد، ولم تكن ثمَّ قيودٌ مالية على العلاوات، وحَدٌّ من الترقيات، كما ترادف ذلك وتكاثر في العهود الأخيرة، حين اشتد الزحام على الوظائف، وكثر على الحكومة وخدمتها الزُّمَر والحشود وجموع المتهافتين.
وهكذا استكمل مصطفى حياته الدراسية بإبراز مظهر جديد من مظاهر الإباء والرفعة، وفرغ من دور النشأة أحسن ما يكون الفراغ، وانتهى من مرحلة التكوين أجلَّ ما تروح النهاية؛ فكان ذلك كله توطئة مناسبة لما كان يرتقبه في حياته العملية من مواقف عظيمة، وأحداث كبار، وفعال جسام.
وقد تجلَّت في مصطفى النحاس على نهاية هذا الدور غيرته الصادقة على «الكرامة»، وأنفته من الصغار، والتنائي عما يخدش العزة؛ فراح يستفتح حياة العمل في الميادين الحرة عَيوفًا، كريمًا، قوي النفس، لا ينزل عن كرامته، ولا يترخص فيها، ولا يقبل التساهل فيها والتفريط.
لقد كانت تلك بداية صالحة موائمة لما كان يُنتَظر أن يكون من أمره في الغد القريب، وكانت تلك نشأة قوية رفيعة تخلق بشاب أعدته العناية الربانية لكي يمسك بزمام الزعامة في أمة تصبو إلى أعز غاية في هذه الحياة، وهي «الحرية»؛ وتجاهد لأشرف مطلب، وهو «الاستقلال».
فلننتقل إلى دور الحياة العملية لنرى كيف سلك مصطفى فيه، وماذا كان من أمره خلاله، قبل أن يؤدي رسالته الوطنية إلى الناس …