مصطفى النحاس
كانت ظروف مصطفى حين استقل بدور الزعامة معاكسة له، أو شديدة الخطر بالنسبة لموضعه؛ فلم يتقدم إلى مكان الزعيم على دفوف النصر، وأناشيد الفرح، وزفيف الجماهير؛ وإنما جاء إثر نكبة قومية شديدة ومصاب عام جلل، وهو رحيل الزعيم الأول سعد من هذه الحياة، وعلى ظن مَشَّاءٍ في نفوس خصوم البلاد بأن وفاته سوف تضعف الحركة الوطنية وتشلها، وتوهن الوفد وتحطم بنيانه؛ لأن خليفته، في تقديرهم لم يكن على غراره، ولم يطبع في مصنع الطبيعة على نسقه، ولم يسبك مثل سبكه، ووسط ائتلاف سياسي يُخْشى من انهياره، ويُشفَق من تداعيه، وخلال غمرة حزن عام تركت البلاد جميعًا في غُمة وحداد …
وكان على مصطفى النحاس أن يدلل على فساد ظنونهم، وكاذب تقديرهم مثبتًا أن سعدًا حي فيه، ماثل به، قائم في صدره، متحرك في خاطره، وأن ما بناه لن يهدم، وما أقامه لن يدك، وأن الوفد منيع لأنه فكرة، روحيٌّ لأنه فوق المادة، وأنه على حفظ التراث العظيم لقدير، وللقيام على التركة الحسنة الكبيرة كفء، وبالتبعات الجسام حقيق، وأنه قد وضع في مكانه، واستوى في محله، وساقت به الأقدار الرحيمة ليتولى هذا الأمر أهلًا له، حريصًا عليه، قويًّا متمكنًا باذلًا حياته إذا اقتضاها، متجردًا من شئون نفسه ليستأثر الوطن به، وتستحوذ القضية العامة على كل شيء فيه.
وقد كان الائتلاف قبل بيعته ضرورة سياسية من أجل حماية الدستور من خصومه، والحرص عليه حيال أعدائه المتربصين دوائر السَّوْء به، ولكن الأحزاب التي رضيت به مع سعد عادت يومئذٍ تظن أنه قد حان لها أن تفضَّه، وقَرُب أن تنزع أيديها منه؛ إذ كان اندماجها بادي الرأي فيه، انتقامًا من فريق استبقها إلى الحكم وغلبها على الظفر به، وأصبح تعللها من بعد سعد أن تعود هي إليه، وتتولاه هي وحدها متهافتة عليه؛ لأنه إذا كان من الصعب عليها مغالبة سعد بسبيله، فلعله قد صار سهلًا رَدُّ مصطفى عنه، أو خذلانه في أزمة من الأزمات ليخلو لها هي وجه السلطان تتبوأ مقعده، وتعيث في الأرض مفسدة.
وكانت ثمَّ أيضًا كراهية الإنكليز لمصطفى النحاس بالذات، بل كانت هناك كذلك بغضاء لورد لويد له خاصة، وخشيته من وقوع الزعامة له قبل أن يصير أمرها إليه، وانتواؤه تسديد ضربة قاضية في بداية رياسته للوفد وقيادته، حتى يُمْهَلَ فيتمادى ويصبح القضاء على سلطانه عَصِيًّا.
ولا ننسى مع هذا أن محادثات كانت تجري بين ثروت باشا وبين الإنكليز، وأن نتائجها بلا ريب سوف تعرض عليه ليحكم فيها، ويوجه الوفد بسبيلها، وهو موقف خطير للغاية يقتضي منتهى الحكمة والحذر والفطنة، ويوجب اليقظة الدائمة والانتباه الشديد.
ووسط هذه العوامل المجتمعة: ائتلافٌ يترنح، والخيرُ في إسناده، أو الحكمة أن يُتْرَك ليجيء تدهورُهُ من ذاته، أو من صنع دسه وكيده؛ ودستورٌ عزيز حورب له، وكوفح من أجله، وكتبت مواده بالدم الزكي جعل مدادًا لكلماته؛ وتربصٌ من جانب الإنكليز دائرةَ السَّوء به للتعجيل بانقلابه، وسط هذه العوامل مجتمعةً، وجد مصطفى النحاس باشا نفسه مكتَنَفًا؛ فثبت في موقفه، واستعان أقصى الحكمة والسياسة والرشاد في خدمة بلاده، وراح يرتقب الحوادث هادئ النفس مليء الصدر إيمانًا وقوةً وسكينةً.
واستأنفت الدورة النيابية سيرتها في ذلك العام، فانعقد البرلمان في السابع عشر من شهر نوفمبر، وكان الملك قد عاد من رحلته في أوروبا، فافتتح البرلمان؛ كما رجع ثروت باشا قبل ذلك بيومين، فحضر افتتاحه، وألقى خطبة العرش، وفي الجلسة الأولى للنواب انتخب مصطفى النحاس باشا رئيسًا له بالإجماع، فاكتملت له رياسة الشعب مزدوجة: قيادة الجهاد، وزعامة السياسة؛ فبرز هو في ردائهما جليلًا حسن السمت، نظيف الثوب، وَضَّاءً باهر المطالع، تنعقد من حوله هالة بيضاء من ضياء.
وأشارت خطبة العرش إلى المحادثات إشارة خفيفة، لم تتعرض فيها للتفاصيل؛ فلبثت البلاد ترتقب من ثروت باشا أن يعلنها بما قد جاء به في حقيبته، ولكن طال الانتظار على غير طائل، وكان عذره كلما تحدث أحد إليه أنه لا يزال ثَمَّ بينه وبين السير أوستن تشمبرلن أخذٌ وردٌّ في بعض المسائل؛ حتى استولى الضجر، واستحوذ التبرم، وسرى الاستياء.
وكان لورد لويد — كما ظهر فيما بعد من كتابه «مصر من عهد كرومر» — متململًا من تلك المباحثات، واثقًا من خيبة الرجاء فيها، موقنًا بعقمها وقلة نفعها، وقد زاده تبرمًا بها وسخطًا عليها أنها جرت بغير علمه، وكادت تنتهي على الاتفاق وهو فيها غير شريك؛ إذ حرص وزير الخارجية البريطانية يومئذٍ على أن تجري المحادثات بينه وبين ثروت باشا دون وساطته.
لقد كان لويد يرى أن الأمل في نجاح هذه المحاولة كان يومئذٍ بعيدًا، ويعتقد أن وزارة الخارجية البريطانية بما صنعت في ذلك الحين «قد احتبلت ثروت باشا في فخ القدر المنصوب له، وراودته عن مصيره، جريًا وراء نظرية غريبة، وهي أن استئناف المفاوضات معه قد يذلل له تأليف حزب يسمى «حزب المعاهدة» من أفراد «معتقلين» يتيسر لهم التغلب على نفوذ «المتطرفين»، بل لعله يستطيع به الفوز في عدد الأصوات في المجلس عليهم آخر الشوط ونهاية المدى»!
وقد كان ثروت باشا من طول استمهاله، وكثرة تسويفه، يلوح كأنما هو مدرك نهايته، عليم بنتيجة موقفه، وإذا كانت وزارة الخارجية البريطانية قد عميت عنها، فلم يكن هو بلا ريب عنها عَاميًا. وفي هذا يقول لورد لويد: «ولكن كان الأمل الوحيد لديه هو في الإلحاح كل حين في إجراء مناقشات ومباحثات أخرى، للظفر بتسامح جديد، وتساهل زائد، ولم تكن نجاته في النهاية ممكنة إلا بأعجوبة أو معجزة، فإذا لم تظهر هذه المعجزة، ولم تبادر إليه تلك الأعجوبة، فإن كل ما هو في استطاعته أن يرجئ — ما أمكنه — حلول موعد معركة الحياة أو الموت بالنسبة له، بل معركة «واترلو» — التي قضت على نابليون وحطمته تحطيمًا — وأن يؤجل يومه المحتوم وموعد هزيمته الساحقة.
يا لثروت باشا من رجل مسكين! وإن لم يكن قد حان بعد اختبار درجة «الشجاعة وحسن السياسة والصراحة» التي كانت لديه، والتي وصفها سير أوستن تشمبرلن في بعض رسالاته لي وكتبه، ولكن موعد ذلك كان آتيًا لا ريب فيه. ولم يكن السرور الذي شعر به وزير الخارجية من توقع إمضاء المعاهدة مدعاةً لسرور ثروت باشا، ولا باعثًا البتة عليه، وإنما كان عند ثروت حلمًا مزعجًا، وانتظارًا للبلاء قبل وقوعه.
ومن تلك اللحظة كان المقدر لتلك الأماني المعسولة التي تجول في وزارة الخارجية البريطانية أن تتلاشى رويدًا، وأن يتبدل ذلك السرور ألمًا وخيبة؛ إذ راح ثروت باشا — بدافع غريزة حب الذات والدفاع عن النفس — يصارع ويجاهد بكل قواه في سبيل تحاشي لقاء الخاتمة المحتمة، والنهاية المنتظرة.
ولشد ما كانت دهشتي في الثامن من شهر فبراير سنة ١٩٢٨ — أي بعد شهرين تقريبًا من عودة ثروت باشا إلى القاهرة — أن أبلغني دولته أنه قد اعتزم عرض مشروع المعاهدة على النحاس باشا وعلى الوزارة في الحال. وهكذا أطلقت أخيرًا قذيفة ابتداء الشوط في سباق مرهوب النتيجة، ولن نلبث طويلًا حتى نعرف أولًا وآخرًا مصير المعاهدة والقدر المحتوم الذي ينتظرها. وعلى هذا النبأ اشتد القلق في نفس وزير الخارجية وساورته الهواجس سراعًا، فتلقيت في الحال تعليمات منه تقضي بمقابلة الملك ورئيس الوزراء والنحاس باشا بلا إبطاء، وأن أبين لهم، بالتأثير في نفوسهم، خطورة القرار الذي حان أن يتخذوه في أمر هذه المعاهدة.
وكان وزير الخارجية قلقًا على الأخص من ناحيتين: أولًا من أن رئيس الوزارة — أي ثروت باشا — كان يومئذٍ يحاول — وهو أمر طبيعي جدًّا — المناورةَ بحيث يمكن إلقاء المعاهدة في اليم من شحنة السفينة، مخافة الغرق دون أن يؤدي ذلك إلى استقالته، وثانيًا من أن الملك بدلًا من أن يرى في ذلك شيئًا مخيف العاقبة كان يميل إلى اعتباره عملًا لا بأس به.»
ولقد طال الانتظار، وكان ثروت باشا يمهلنا من وقت إلى آخر؛ لأنه كان لا يزال بينه وبين سير أوستن تشمبرلن أخذ ورد في بعض المسائل حتى استولى الضجر على نفوس الكثيرين، وأخصهم محمد محمود باشا، وأحمد خشية باشا الوزيران في وزارة ثروت باشا، فقد كاشفاني بذلك مرارًا فكنتُ أهدِّئهما، وأهوِّنُ عليهما الاصطبار حتى ينتهي ثروت باشا من أخذه ورده مع وزير الخارجية البريطانية، حرصًا منا على إنجاح المحادثات، وقد عرفتم بعد ذلك السر في هذا الإلحاح من جانب هذين الوزيرين.
وكانت مهمتي شاقة في هذه التهدئة، إلى أن كان يوم ٧ فبراير سنة ١٩٢٨، إذ نبأني ثروت باشا أنه سيطلعني على المحادثات على شرط أن تبقى سرية بيننا، حتى نرى ما سيكون بشأنها؛ فوعدته بذلك، فأرسل إليَّ المستندات الخاصة بهذه المحادثات في نجع حمادي، اليوم العاشر من ذلك الشهر، خلال الاحتفال الرسمي بوضع الحجر الأساسي لقناطرها.
اطلعت على تلك الأوراق في الأقصر، فهالني ما رأيت! لقد رأيت مشروعات معدَّلة، انتهت بمشروع كامل صُبَّ في صيغته النهائية، وقال عنه سير أوستن تشمبرلن إنه وُضع باتفاق الطرفين، كما اشتملت المحادثات على رسالة منه سُلِّمت إلى ثروت باشا في ٦ فبراير جاء فيها: «إن الحكومة البريطانية قد قالت كلمتها الأخيرة في هذا الشأن، وإنها لا يمكنها أن تقبل أية مناقشة في نص المعاهدة نفسها، وإنه إذا رفضت الحكومة المصرية هذه التسوية اضطرت الحكومة البريطانية إلى أن تشدد وتدقق فيما احتفظت به في تصريح ٢٨ فبراير من الحقوق.» وختمها برجاء دولته أن يبادر إلى عرض المعاهدة على زملائه، وأن يقوم بتوقيعها في أقرب فرصة.
لقد كانت هذه الرسالة بمثابة إنذار لمصر في حالة الرفض، والظاهر أنها هي التي حملت ثروت باشا على أن يخبرني في اليوم التالي لوصولها بأنه سيطلعني على المحادثات على أن يبقى أمرها بيننا مكتومًا.
قلت إن الأمر هالني، وفي الحق لم يكن ذلك المشروع متفقًا، لا في أساسه ولا في نصوصه، مع استقلال البلاد وسيادتها … كما أنه فوق هذا قد أوجدها في حالة خطيرة بسبب «الإنذار» الذي شفع به؛ ولذلك قابلت ثروت باشا في ٢٢ فبراير بعد عودتي من الأقصر، وصارحته بحضور عدلي باشا برأيي في المشروع، ورجوت إليه أن يعمل على إنقاذ البلاد من شره المستطير … واتفقنا أن نعرض الأمر بصفة سرية أيضًا من جانبي على الوفد، ومن جانبه هو على زملائه الوزراء.
وهنا نعود إلى لورد لويد فنراه يقول في هذا الموضع من كتابه: «وتلبية لتعليمات وزير الخارجية دعوت النحاس باشا إلى لقائي، وعينت السادس والعشرين من الشهر موعدًا، وفي خلال ذلك تحدثت إلى الملك في هذا الشأن حديثًا طويلًا، فنبأني الملك أنه قد بذل كل ما في إمكانه لحمل ثروت باشا على «الدخول في الشق؛ الفخ» ليلزمه عرض المعاهدة، ولكنه ظل على روغانه المألوف، ولا يزال على رأيه من بقاء باب المفاوضات مفتوحًا، ولم يكن ثروت باشا في الواقع قد عرض حتى ذلك الحين نص المشروع على زملائه الوزراء.»
وقد جرت المقابلة بعد ذلك في موعدها المضروب بين لورد لويد ومصطفى النحاس باشا، فكانت وقفة الزعيم في الحق خليقة به، موائمة له، وقفة مصر كلها بسائر ذكريات ضحاياها وشهدائها، بل وقفة شجاعة وجرأة ووطنية عالية ورفيع ثبات. وقد قص مصطفى نفسه على الناس فيما بعد دقائق ما جرى بينه وبين لورد لويد، كما عرض لها لويد نفسه في كتابه، وإن خرج ببعض معانيها عن نصوصها الصحيحة ومراميها الحقيقية، رغبة في التجسيم، ونزوعًا إلى التأويل.
يقول مصطفى في صدد ذلك اللقاء: «ولقد لقيت لورد لويد في مساء الأحد، فأخبرني أنه قد علم من ثروت باشا أنني سأعرض على الوفد في جلسة الغد مشروع المعاهدة، وأنه قد تلقى رسالة من السير أوستن تشمبرلن لكي ينبهني إلى الخطورة التي تنجم عن رفض مشروع المعاهدة، والمسئولية العظمى التي تقع على عاتقي باعتباري زعيمًا للأغلبية. قلت إني آسف لأن هذا المشروع قد خيَّبَ أملي في نجاح المحادثات التي كتمها عني ثروت باشا زمنًا طويلًا؛ لأنه كان تحفظًا مرتبًا — بناء على اتفاق مع السير أوستن تشمبرلن إلى حين إتمامها — على أن يعرضها علينا عند نجاحها، وقد وعدته بالتأييد إذا هو حافظ فيها على حقوق البلاد في الاستقلال التام، وكانت الضمانات لصيانة المصالح البريطانية لا تتعارض مع هذا الاستقلال، فلما اطلعت على المستندات التي سلمت لي في نجع حمادي، وانقطعت إلى قراءتها طول إقامتي في الأقصر، رأيت أنها قد بنيت على أساس لا يتفق مع الاستقلال، بل أقرت شرعية الاحتلال، ولا يتفق احتلال مع استقلال.
قال: إن بقاء القوات العسكرية البريطانية في مصر لا يتعارض مع الاستقلال ما دامت مصر هي التي تقبل بقاءها في أرضها بمقتضى المعاهدة.
قلت: إن المصريين الذين عارضوا الاحتلال منذ وجوده لا يقبلون بحال بقاء القوات العسكرية الأجنبية في الأراضي المصرية لمنافاة ذلك لاستقلالهم الذي هو حقهم الطبيعيُّ، قال: كأنك تقول إنه لا يمكن اتفاق قبل خروج الجنود البريطانية من مصر، قلت: محالٌ أن يكون اتفاق مقبولًا عند المصريين إذا لم يكن أساسه الجلاء، قال: وكيف نغادر البلاد بعد أن ثبَّتنا دعامات ماليتها. قلت: تغادرونها طبقًا لوعود الشرف المتكررة التي وعدها رجالكم الرسميون، وفي الوقت ذاته نعقد معكم محالفة ود وصداقة. قال: وماذا يكون الحال إذا غادرت قواتنا البلاد، فأغارت عليها دولة أخرى، قلت: إن ذلك لن يكون ما دمتم حلفاءنا، فإننا نصد بقواتنا غارة الأجنبي إذا حدثته النفس بالإغارة، وتساعدوننا أنتم على ذلك بقواتكم بحكم المحالفة إذا احتاج الأمر إلى المساعدة، وأساطيلكم على مقربة منا في البحر الأبيض المتوسط، وهي سيدة البحار.
قال: وما فائدتنا نحن من الجلاء؟! قلت: فوائد جمة، فأولًا: تكسبون صداقتنا، وثانيًا: توفرون على أنفسكم الرجال والأموال التي يضطركم إليها بقاء قواتكم المعسكرة في البلاد، ونحن كفيلون بالمحافظة على قناة السويس، ولا تتحملون أنتم غير مساعدتنا وقت الحاجة بحكم المحالفة، وثالثًا: يتفرغ كل منا إلى مصالح بلاده، فلا يكون في شغل دائم بهذه الحالة الشاذة القائمة الآن، والتي لا يترتب عليها إلا استدامة النفور والمشادة والحذر، ورابعًا: بحكم الصداقة والمحالفة يزداد تبادل المنافع المادية والأدبية بين البلدين، وخامسًا: يروح ذلك أكبر فخر لكم يساعدكم على تخفيف أعباء متاعبكم في الشرق …
هذا ما قلته ولم أشأ الدخول في تفاصيل المشروع، إذ لا فائدة من ذلك ما دام الأساس الذي بُنيَ عليه باطلًا، وإنما قلت له إنني لم أفقد الأمل في أن يتم الاتفاق إذا ما حسنت النية من الجانبين، فإن ذلك هو اعتقادي الذي لم يفارقني في وقت من الأوقات حتى في أشدها حرجًا، فإن مصلحة البلاد هي في إنهاء هذا الاتفاق، بشرط أن يكون اتفاقًا مبنيًّا على العدل والمساواة واحترام الحقوق، اتفاق الصديق للصديق لا السيِّد للمَسوُد. أما من جانبنا فإن حسن النية موفور، ولم يبق إلا توافرُه من جانب القائمين بالأمر في إنجلترا؛ فإن لم يتوافر الآن فسيتوافر على الأيام.
قال: إنك تقود البلاد بهذا الرفض إلى أمر خطير، فإن الحكومة البريطانية التي تساهلت إلى الآن في مشروعات بعض القوانين المصرية ستتشدد فيما بعد ذلك، قلت: إني إنما أعبِّر عن شعور البلاد الحقيقي وأؤدي واجبي، وللقوة أن تفعل ما تشاء …»
هذا هو الحِوَار العجيبُ الذي جرى بين ممثل الحق، وممثل القوة؛ أو بين خصمين خطيرين، كلٌّ منهما معتدٌّ بذاته، معتز بجانبه. ولكن أولهما نَازِعٌ إلى قوة الاقتناع في غير خوف، والتدليل في غير تراجع، والمحاجة في غير تحايل ولا اصطناع، وثانيهما جانح إلى التهديد لأنه هو وحده حجته، وإلى النذير لأنه كل سلاحه ومظهر قوته. وقد رأينا خلال هذا الحوار كيف كان مبلغ اعتداد مصطفى بحقوق بلاده، وكيف أبدى من العزة الصادقة بمكانه، وإباء التفريط في حق وطنه، وهو يعلم أن على الإباء عقابًا، وأن مع الرفض نكبات وخطوبًا، وتجاريب قاسية وأيامًا غُبْرًا مكفهرة المطالع، وأحداثًا مروعة داهمة.
يرفض مصطفى النحاس مشروع ثروت — تشمبرلن، وهو في تلك الظروف الدقيقة للغاية، العليم بأن ثلاث محاولات من قبل قد حبطت وعوقبت البلاد على حبوطها؛ فكان العجب أن يأتي العقاب جزاء إباء تفريطها، وأن هذه هي المرة الرابعة التي يعتزم فيها الرفض ليتكرر الحبوط فيتكرر العقاب والتعذيب، وعرض البلاد من جديد على النار لتُصهَر صَهْرَة الحديد، وقد كفاها ما قاست من اكتواء وبلاء.
ولكن مصطفى النحاس لم يكن يسعه غير أن يرفض في تلك الظروف الرهيبة، وسط ائتلاف لا شك في أن بعض أضلاعه تختلج لثروت ومشروعه، وتميل إلى الانتهاء من القضية، على أي لون يكون الانتهاء، ولكن لم يكن هذا كله في الاعتبار والميزان ليرجح عنده فوق اعتزامه الرفض؛ لأن القبول في اعتقاده، خطوة مُودِيَة، وعمل أثيم.
كان الموقف جليلًا رهيبًا، موقف زعيم لأول عهده بالزعامة، أمام إغراء عظيم يهز أكبر القلوب، ويوسوس لأقوى العزمات، ويخيف الإرادة ويزعزع الشعور؛ لأنه يتعلق بمصير أمة، ومستقبل شعب، ومصالح ملايين!
وقد كان لذلك الحوار أثر بليغ في نفس لورد لويد؛ لأنه أثبت جوهره في كتابه، وإن جعل يهوِّن من مسئولية مصطفى النحاس بسبيل موقفه، قائلًا إنه لم يكن على النحاس باشا أية مسئولية، إذ كان واثقًا من تأييد الرأي العام له، مهما كان الموقف الذي يحتمل أن يقفه منافيًا للحكمة والسداد!
وراح ثروت باشا يعرض وثائق المحادثات على زملائه الوزراء في جلسة رسمية، على أن يدعوهم لجلسة أخرى لإبداء رأيهم فيها؛ وذهب مصطفى النحاس باشا من جانبه يعرض الأمر على الوفد في عدة جلسات طويلة، فرأى الوفد بالإجماع رفض المشروع المعروض، للأسباب ذاتها التي بسطها مصطفى وشرحها لهم؛ فلقيت المعاهدة الثروتية بذلك قضاءها المحتوم، وحلت عليها الخاتمة القاضية.
وبقي أمر الوزارة القائمة في الحكم ومصيرها، فرأى الوفد أن يسعى بكل قواه للاحتفاظ بوحدتها، والحرص على استمرارها، والسير بالسفينة في طريقها؛ فتحدث إلى ثروت باشا أحاديث كثيرة يريد بها أن يجعل رفض المشروع بالإجماع لتخرج الوزارة من الأزمة سليمة ناجية لمتابعة أعمالها ومواصلة حكمها، كأن المحادثات لم تَغْنَ بالأمس ولم يكن لها أدنى وجود؛ كما أن الوزراء أنفسهم اتفقوا فيما بينهم على صيغة للرفض يحسبونها أقرب إلى قبول ثروت باشا من غيرها، ولكنه رفض بتاتًا أن يتعرض الرد لقواعد المشروع وجوهره، وأصر على أن يكون إبلاغه وزارة الخارجية البريطانية منحصرًا في رد الوزارة على حدتها، وأن يلحقه هو بكتاب استقالته.
وتقدم رد الوزارة على المشروع إلى الحكومة البريطانية على يد ممثلها في مصر في الرابع من شهر مارس، وهو اليوم ذاته الذي رفع فيه ثروت باشا إلى القصر كتاب الاستقالة، وكانت البلاد يومئذٍ في حماسة الغضب من المشروع، وغضبة استنكاره والاحتجاج عليه. واشتد القلق بالنفوس، واستولت على الأذهان أسوأ الظنون، وراح الناس يتساءلون: هل من خطر على الدستور ومصيره؟ فقد أَلِفُوا أن يروا كل تجربة فاشلة في باب المفاوضات تنتهي للدستور بسوء، وتجد شِفَاءَ حقد أصحابها في النَّيل من الحياة النيابية أي منال.
ولم يكن ثم شيء يومئذٍ يحمي الدستور غير قيام الائتلاف، على ما كان يسري تحته من تيارات خفية، وما كان يجري خلف جبهته من ألاعيب. ولكن الأمة كانت عن استمراره راضية، وفي قيامه ومواصلته متشددة؛ فلم يجد أحد من الذين ينتسبون إليه من أشخاص الأحزاب الجرأة الكافية ليكون أول المنشقين عليه، والضاربي المعاول في بنائه؛ فثبت هؤلاء في مواضعهم من الائتلاف يرقبون تطورات الحوادث، ويرصدون الأفق السياسي على الأيام.
ومضت فترة قصيرة عقب تقديم الاستقالة، والجو غامض، والأفق مكفهر، والظنون مساورة، وحَمِيَّة الطلاب والشباب قد غلبت إرادتهم، فلم يستطيعوا لها كبحًا. وكان مصطفى النحاس إزاء المظاهرات التي كانت تقوم يومئذٍ منهم ينصح لهم بالتزام السكينة، في لغة الأبوة الناصحة، وحكمة السياسة المتزنة الحصيفة؛ وكانت الوزارة قد كفت عن تصريف الأمور، فراح الإنكليز المشرفون على البوليس يتناولون الأمر في أيديهم، ويحاولون الاحتكاك بمشاعر الشباب ليثيروا في الأفق غبارًا متعاليًا، فيزداد الأمر سوءًا، وتستحكم الأزمة حلقات، ويستنفر الغضب الشباب كلَّ مْستَنْفَر!
ولكن الوفد كان حكيمًا كدأبه، فأمسك زعيمه الشباب إلى جانبه، وباعد بينهم وبين تهور الحماسة، في موقف خطير يقتضي التدبر والتأمل والسكون.
وما كاد رد الوزارة المصرية يتقدم إلى دار المندوب السامي، حتى بعثت هذه إليها بمذكرة رسمية في اليوم ذاته (٤ مارس)، مُبدِيَةً خلالها قلقها من جهة «مشروعات قوانين معينة» تتعلق بحفظ الأمن العام وحماية الأرواح والممتلكات! وهي بلا ريب إشارة إلى «قانون الاجتماعات»، وهو مشروع قانون كان البرلمان يوشك أن يفرغ من إقراره في نهاية السنة السابقة (١٩٢٧)، وقد جاء هذا القانون تعديلًا لمواد القانون رقم ١٤ الصادر في سنة ١٩٢٣ عقب إلغاء قانون سنة ١٩١٤، وكان المراد منه الحد من اختصاص السلطة التنفيذية بسبيل منع الاجتماعات والمظاهرات وتقييد مصادرتها كل التقييد، وقد نبه الإنكليز في ١٨ ديسمبر السابق إلى استيائهم من مضي البرلمان في هذا التشريع وهو في المرحلة الأولى منه، ولكنهم ما لبثوا أن أمسكوا عن توجيه النظر إليه لقيام مناسبة المفاوضات، وارتقابًا لما تفضي إليه من النتائج.
وحين حبطت المفاوضات على تلك الصورة عادوا إليه ليجعلوا منه وعيدًا جديدًا، بل ليلغموا به الطريق أمام الوزارة التي تتولى الحكم بعد استقالة ثروت وخروجه، وقد كشف ذلك لورد لويد نفسه في كتابه فقال: «وكانت الإشاعات قد راجت يومئذٍ حول ما قد يحتمل أن يكون من تطورات الموقف ومفاجآته؛ فقد كان للوفد — وهو الحزب المتمتع بالمركز والسلطان، المشرف الآمر الناهي في البرلمان — الحق الواضح في ترشيح رئيس الوزارة الجديد من بين رجاله. ولم يكن لدينا سبب يحملنا على الاعتراض على هذا الأمر، إذ كان النحاس باشا ومؤيدوه على استعداد لتحمل المسئولية، ولكن كان بالطبع في مؤخرة المسرح الرجلان القديران الطموحان المنتميان إلى الأحرار الدستوريين، وهما محمد محمود باشا، وإسماعيل صدقي باشا، منشغلين بشد الحبال، وجذب الأستار، ولم يكن يدري أحد على التحقيق ماذا عسى أن تكون النتيجة من وراء هذه الحركات التي يصطنعانها، والألاعيب التي يدبرانها في الخفاء.
وفي الخامس من مارس لقيتُ الملك فعلمت أنه من المرجح أن لا شيء يحول دون استدعاء النحاس باشا، وكان ذلك مدعاة للنظر إلى المستقبل بعين القلق والمخاوف الشديدة؛ إذ لو تمكن الوفد في مدة حكمه من تنفيذ برنامجه التشريعي، فلا تمضي بضعة أشهر حتى يستولي تمامًا على اختصاصات السلطة التنفيذية في الأقاليم، وحتى يتم له النجاح في إنشاء نظام الإدارة العامة؛ فلا نجني من ذلك غير المتاعب الكبار، والنتائج الخطيرة.
ومن ثَمَّ لم يكن أمامنا من أمل غير ذلك الإنذار الذي كلفت توجيهه إلى الحكومة المصرية، إذ سيروح ذلك النذير «تحية مناسبة من جانبنا أو ترحيبًا» بالرئيس الجديد في منصبه، فإذا هو رفضه كان لنا العذر إذا نحن أثرنا أزمة في سبيل مسئوليتنا الواضحة عن النظام والأمن في البلاد.
وفي اليوم ذاته، قَبِلَ النحاس باشا — بناءً على دعوة الملك — تأليف الوزارة الجديدة، وكان الظاهر أن غرضه هو ورجال حزبه التعلق بالحكم طويلًا، أو قدرَ المستطاع، حتى يتمَّ لهم تعزيز مركزهم، وتوطيد سلطانهم؛ ولم يكن ثمَّ مَحِيصٌ من تجنب المشاكل إلى حين.
… ولم تكن مساعيه في سبيل الحصول على معاونة الأحرار الدستوريين مضمونةَ النجاح، إذ لم يفز الذين كانوا منهم في صف هذا التعاون في الاجتماع الذي عقدوه يومئذٍ بالغلبة على النافرين والمعترضين إلا بمقدار بضعة أصوات، على حين ذهب صدقي باشا يجلس بجانب النافرين من التعاون والرافضين …!»
وفي السابع عشر من شهر مارس سنة ١٩٢٨ تألفت الوزارة الجديدة برياسة مصطفى النحاس باشا، وكانت الأغلبية فيها للوفد، ولم يدخلها من الأحرار الدستوريين غير محمد محمود باشا، وقد جُعِلَ على المالية، وأحمد خشبة باشا، وجعفر ولي باشا، وقد نجا بتأليفها الدستور من الخطر الذي ظُنَّ يومئذٍ أنه قد أحدق به، وكانت تلك أول مرة لنجاته في سلسلة التجاريب الاستعمارية التي امتحنت الأمة بها عَبْرَ السنين وفي مجاز الأعوام.
لقد وقف مصطفى النحاس في تلك الأزمة موقفًا رائعًا للغاية، موقف رجل عظيم لا يتردد أمام أكبر التبعة، ولا ينزوي من حمل المسئولية وهو أعرف الناس بخطرها وجسامتها، بل لقد تقدم إليها شجاعًا جَلْدًا فاحتملها، وهو يعلم أن هذه المهادنة التي التزمها الإنكليز، إن هي إلا مهادنة إلى حين، وأن من ورائها كمدًا شديدًا، وحقدًا دفينًا، وكظمة غضب مختنق، ونية سوء تستوجب الحذر البالغ، والفطنة الساهرة، والخاطر اليقظ المتنبه، والتدبير الحكيم.
وقد استن مصطفى سُنَّة طيبة على أثر تقلُّده رياسة الوزارة، فقد ذهب لزيارة دولة ثروت باشا في داره، فلما لقيه قال باسمًا: «إن اختلاف وجهة النظر السياسية لا تؤثر في نظري فيما بيننا من العلاقات الودية التي بيننا، بل أرجو أن توثقها الأيام وتزيدها ارتباطًا، وألَّا نُحرمَ من خدماتك في المستقبل.»
وعند ذلك اغرورقت عينا ثروت باشا بالدموع، وقال: «هذه أول مرة أسمع فيها كلامًا كهذا من رجل سياسي، وأنا لذلك به مستبشر مغتبط، وسوف تجدني دائمًا في خدمتك!»
ولكن لم يقيضِ الله لثروت باشا بعد ذلك أن يتقدم إلى بلاده بعمل، أو يحاول خدمتها من طريق آخر، فإن حياته السياسية كانت قد صارت إلى نهايتها بفشل مشروعه الذي كان آخر اجتهاده، ولم يكن صادرًا فيه عن تفريط أو خيانة لحق وطنه، ولكنه كان صادرًا عن عقيدة توحي إليه أنه ليس ثم سبيل إلى أكثر من ذلك، وأنه ليس في إمكان مصر أن تظفر يومًا بأكثر منه أو أوفر نصيبًا.
وقضى ثروت نحبه بعد ذلك ببضعة أشهر فجأة وهو في باريس، فتأثرت البلاد لموته وحزن الناس لمصابهم فيه؛ لأنه كان بلا شك من رجال مصر المعدودين.
وبدأت الوزارة الجديدة برياسة مصطفى النحاس باشا بداية خطرة، وكانت الأدلة والقرائن توحي من أول يوم في عمرها أنها سوف لا يطول الأمد بها، لا عن عجز أصيل فيها، فقد كانت قوية جليلة الشخصيات بارزة الكفاية؛ ولا عن كراهية في الشعب لها، فإن الأمة تلقتها بتأييد عظيم، وفرح بالغ، واغتباط كثير؛ إذ نجا بها الدستور من الغرق، ولم يطغَ بها السيل على الحياة النيابية، وإنما كان يهدد حياتها اجتماع عوامل خفية عديدة عليها، وقيام مكائد منوعة ضدها، وبغضاء متأججة في صدر لورد لويد من ناحيتها، وكان الائتلاف يوشك أن يهن وتَوْهَى ساقاه يومئذٍ لولا أن تماسك وتساند إذ وجد المختفون وراء الأستار أن الفرصة لتفكيكه غير طيِّعة ولا مؤاتية.
وكان مصطفى يعرف ذلك ويحسه تمامًا، ولكنه أبى أن يتراجع؛ لأن التراجع ليس من صفته، وظل في موقفه شجاعًا جريئًا مستعدًّا لملاقاة خصومه، متأهبًا لمواجهة أعداء الدستور والكائدين له والمحاولين التخلص منه، مهما كلفهم ذلك من جهد وثمن ووصمة العار، والخزي في الدنيا، ونقمة الملايين.
بدأت الوزارة حياتها، وأمامها مذكرة «٤ مارس» التي لم تجب عليها وزارة ثروت باشا التي سبقتها، بحكم استقالتها حين وصولها، وقد تعهد الإنكليز توجيهها في ذلك الظرف بالذات لتكون قنبلة في طريق مصطفى النحاس باشا أول ما يبدأ المسير.
وهنا يصف دولته الموقف من ناحية شعوره، فيقول: «ولكنا لم نهب خطرًا، ولم ننكص على الأعقاب، بل رأينا من واجبنا أن نتحمل مسئولية الحكم التي ألقاها الدستور على عاتقنا، حتى نحتفظ — كما أعلنا ذلك في برنامجنا — بحقوق البلاد كاملة في مصر والسودان، احتفاظًا يتفق مع كرامة حقنا، وروعة نهضتنا، والعمل على تمكين الدستور وتقاليده من نفوس الأمة جميعًا، حكومةً وشعبًا، وأخذنا أنفسنا على أن تجري أعمال الحكومة في الداخل على سنن العدالة والمساواة، وألَّا يكون للأهواء سبيل إلى النفوس، فلا يميز فريق على فريق، ولا يغلب رأي على رأي إلا بالحق، في سبيل المصلحة العامة …»
لقد كان الحرص على الدستور دائمًا، والدفاع عن الديمقراطية العامل البارز فوق سواه في حياة مصطفى السياسية؛ فقد ظل للدستور حارسًا شجاعًا على الأهبة أبدًا للذود عنه، مهما كانت الظروف من الخطورة، ومهما كانت المواقف مرهوبة، ومهما كان الخصوم كُثرًا متألبين.
وكان لا بد في ذلك الموطن من تجنب التعرض لهيكل الائتلاف، وإن كان الواقع يومئذٍ أنه قد وهن وتراخت مَسَانِده؛ إذ كانت الحكمة تقضي بألا يكون الوفد البادئ بنفض اليد منه والتخلي عنه، بل يدع غيره يروح المهاجم المبادر حتى يحمل وِزْرَ ما صنع، وإصر ما اقترف. فلا غرو إذا كان مصطفى النحاس باشا — بدافع ذلك الحرص، وإملاء تلك الحكمة — قد راعى موجبات الائتلاف حين تأليف وزارته، تاركًا فريقًا من زملائه غير مُشْرِكِهم في الحكم، ليأخذ غيرهم من الأحزاب؛ وإن كان فريق كبير من الأحرار الدستوريين قد أظهروا يومئذٍ تعففًا من الاشتراك فيه، ولكنه كان زهادة مصطنعة، لترقُّب الحوادث، وتحيُّن الفرص، وانتظار الأزمات التي تخدم الأغراض التي كانوا يرمون إليها من اتخاذ ذلك الموقف المريب.
وقد كان خطاب العرش يتضمن عبارات صريحة تقوم بمثابة الرد على تلك المذكرة البريطانية التي أريد بها أن تكون عقبة في طريق الوزارة، وكانت هذه العبارات كافية بسبيلها، مغنية عن الإجابة عليها، ولكن خصوم الدستور وأعداء الوفد ومُتَلَمِّسةَ الحكم والذاهبي النفوس حسراتٍ عليه، أبَوا أن يستمعوا إلى صوت الضمير، وأصروا على أن يكون رد آخر، وجواب حاسم؛ وهم يحسبون أن إصرارهم هذا قد يرد مصطفى عن التقدم، ويغريه بالإحجام، ويرسل الخوف من جوانب النفوس، فلا تجلد على الجواب. ولكن مصطفى بتلك الجرأة الرفيعة المعروفة عنه مضى في الثلاثين من شهر مارس سنة ١٩٢٨ يرسل إلى الحكومة البريطانية ردًّا صريحًا بليغًا على مذكرتها، محتجًّا فيها على التدخل الذي تتوعد إنجلترا مصر به؛ لأنه يشل سلطة البرلمان في التشريع والرقابة على الإدارة، ويجعل مهمة الحكم مستحيلة على أية حكومة جديرة بهذا الاسم، خاتمًا الرد بقوله: «ولذلك لا يسع الحكومة المصرية أن تقبل تدخلًا، ولو أنها سلَّمت بمبدئه، لأسلمت رايتها، وأنكرت وجودها، بل إنها كحكومة دولة مستقلة ذات سيادة لَتُدرِك حق الإدراك ما عليها من واجبات، وتعتزم — بعون الله وتوفيقه — أن تنهض بأعبائها في حرص ودقة، وعلى وجه مُرْضٍ للجميع …»
هذا هو الرد القوي الصريح الذي بعث به مصطفى النحاس باشا إلى الحكومة البريطانية في ذلك الموقف الخطير، والظرف الدقيق؛ فتلقته الصحف الإنكليزية يومئذٍ بالتعليقات الهائجة المحنقة، وراحت تكيل للوفد المطاعن وتنادي بأنه قد غلا غلوًّا كبيرًا، وتصف الحرص على حقوق البلاد، والصراحة في الرأي، والشجاعة في المجاهرة والمكاشفة، حماقة وإسرافًا. وأسرعت الحكومة البريطانية إلى إرسال مذكرة أخرى في الرابع من شهر أبريل، معلنةً فيها أنها لا تستطيع قبول رد الحكومة المصرية كبيان صحيح للعلاقات القائمة بين مصر وبريطانيا، ومؤكدةً تمسكها بتصريح ٢٨ فبراير، واحتفاظها بالتصرف المطلق بالنسبة للتحفظات الأربعة المبينة فيه.
وأمام هذا الإصرار من جانب الحكومة البريطانية على موقفها المتحدي ووجهة نظرها المتحرشة المستنفرة، لم يتراجع مصطفى النحاس ولم ينثن مُجفلًا، ولم يتهيب ما قد يكون من وراء هذا العَنَت الصارخ، والتحدي المعتمد على القوة والسلطان، بل وقف في مجلس النواب في الخامس من شهر أبريل سنة ١٩٢٨ يخاطب المجلس كله والعالم الخارجي بجملته، مناديًا بأن رده كان متفقًا مع البيان الوزاري الذي ألقاه في المجلس من قبل، وكان موضع رضاه وقبوله لاحتفاظه بحقوق البلاد مع استبقاء صلات المودة بين مصر وبريطانيا العظمى، ولا حاجة به إلى القول بأن الحكومة المصرية متمسكة بوجهة نظرها المستمدة من برنامجها، والتي تعتقد أنها خير سبيل لتوثيق عرى الصداقة بين البلدين.
وقد قوبل هذا البيان في المجلس بموجة من الحماسة، وعاصفة من التصفيق؛ واشترك في الحماسة له والإعجاب به المتكلمون عن الأحزاب الأخرى ممن عُرِفوا من قبل بالإسراف في المعارضة، والغلو في النقد والانتقاص والتعييب.
وأعقبه في حفلة المحامين التكريمية لدولته في السابع والعشرين من أبريل خطاب جامع في حكمة المشرع من سن قانون الاجتماعات، وبحث شامل لجميع مواده وفقراته وأغراضه ومراميه؛ فكان ذلك كله بيانًا صريحًا بليغًا في الرد على دعاوى الحكومة البريطانية ضد الفكرة، بل تلك الدعاوى التي أرادت أن تستغلها، على تلك الصورة المكشوفة، لتحدي الحكم الدستوري ومقاومة الوزارة القائمة بالأمر، ومحاولة التخلص منها لتجربة سواها من الصنائع و«الأحباب» والمناصرين.
ولكن حملة الصحف البريطانية ظلت قائمة مشتدة مستحمية، ولم تلبث الحكومة الإنكليزية أن أرسلت في ٢٩ أبريل إنذارًا آخر تطلب فيه من مصطفى النحاس باشا توكيدًا كتابيًّا قاطعًا بأن البرلمان لن يواصل نظر مشروع هذا القانون، وتقول فيه إنه إذا لم تتلقَّ دار المندوب السامي هذا التوكيد قبل الساعة السابعة من مساء ٢ مايو، فإنها سوف تكون حرة في اتخاذ أية تدابير تراها واجبة في هذه الحالة. كما راحت في الوقت ذاته تحرك البوارج والأساطيل تأييدًا لنذرها، وتعزيزًا لوعيدها، مُلوِّحةً بالقوة المادية لكي تحمل قوة الحق على النكوص والرجوع!
ونشطت يومئذٍ الدسائس في البلاد، وترامت الأراجيف، وصرح بعض كبار الإنكليز لبعض كبار المصريين بأنه إذا لم يسحب قانون الاجتماعات، فسوف يعطل البرلمان سنتين أو ثلاثًا، وسوف تحل بمصر نكبات وكوارث وخطوب.
ولكن مصطفى لم يُرَع من ذلك الوعيد، ولم تذهب نفسه شَعَاعًا من تلك النُّذُر، بل ظل ثابتًا في موقفه، حافظًا لأمانته، راعيًا لعهده وذمته، والأمة من حوله مؤيدة له، شادة أزره؛ لأنه لم يكن صادرًا إلا عن عقيدتها، ولم يكن معبرًا إلا عن إرادتها، ولكنه إنما رأى ذلك الأفق مكهربًا يستوجب التصرفُ فيه غايةَ الفطنة، وتقتضي مواجهته أكبر الكياسة وبراعة المأخذ؛ فعمد من تلقاء نفسه — بعد التداول والمشورة — إلى استخدام حقه الدستوري في مطالبة مجلس الشيوخ بتأجيل النظر في مشروع قانون الاجتماعات إلى الدورة التالية، حتى تهدأ العاصفة، وتسكن الزوبعة العاتية، ويتسع الوقت للأخذ والرد في حلم وأناة وسكون.
وقد أقر المجلس ذلك الطلب، وكتب مصطفى النحاس باشا في أول مايو سنة ١٩٢٨ رده على الإنذار البريطاني مكررًا فيه توكيد الحكومة المصرية وتمسكها بوجهة نظرها بالنسبة لتصريح ٢٨ فبراير، وهو أنه لا يزال تصريحًا من جانب واحد، وأن الحكومة البريطانية ذاتها قصدت أن يكون له فعلًا هذه الصفة، وأنه على هذه الصورة لا يلزم الطرف الآخر ولا يقيده، كما صرح بذلك المستر رمزي مكدونالد رئيس الحكومة البريطانية يومئذٍ في كتابه الذي أرسله إلى لورد اللنبي بتاريخ ٩ يوليو سنة ١٩٢٤ إلى المغفور له سعد زغلول باشا رئيس الحكومة المصرية في ذلك الحين.
وقد حوى الرد المصري أيضًا هذا التعقيب: «ولقد أوضحت الحكومة المصرية مرارًا وجهة نظرها هذه بكل صراحة وإخلاص للحكومة البريطانية، ولم تألُ جهدًا في إثبات ما انطوت عليه من حسن النيات. وقد كان لي الشرف أن أوضح لفخامتكم في أوقات متعددة بصدد مشروع قانون الاجتماعات أن ليس في مقدور أية حكومة دستورية أن تبعث بالمبدأ الدستوريِّ القاضي بفصل السلطات، فتسحب مشروع قانون وافق عليه المجلسان والحكومة معهما، ولم يبقَ منه أمام مجلس الشيوخ إلا فقرة واحدة تتعلق بالشكل.
ثم سمحت لنفسي أن أبين لفخامتكم أن مشروع القانون بما تضمنه من نصوص، وما اقترن به من تصريحات … لا يُعَرِّضُ أمن الأجانب لخطر ما، بل كل ما نرمي به إليه هو تنظيم الحريات الدستورية مع صيانة الأمن العام صيانة تامة. كما أني صرحت مرارًا أنه إذا دَلَّ العمل على نقص في القانون بعد إصداره، فإن الحكومة المصرية على أتم الاستعداد لاقتراح تعديله بما يتفق مع مقتضيات النظام العام …
تلقاء ما تقدم جميعه من المظاهر الجليلة لصدق النية، وحسن الاستعداد، لا يسع الحكومة المصرية إلا أن تبدي أسفها الشديد على أن الحكومة البريطانية لم تقدر رغبة الحكومة المصرية الأكيدة، ومجهوداتها الصادقة المتوالية في توطيد العلاقات الطيبة بين البلدين؛ ولذلك لا يسع الحكومة المصرية أن تسلم بما جاء في مذكرة ٢٩ أبريل، فتعبث بحق مصر الأزلي عبثًا خطيرًا، بل ما كان لها أن تعتقد أن الحكومة البريطانية، بما عرف عنها من ميول حرة، تبغي إذلال أمة عزلاء من كل سلاح، إلا قوة حقها، وصدق طويتها؛ ولهذا فإن الحكومة المصرية مدفوعة برغبتها الصادقة في التفاهم والمسالمة التي كانت على الدوام رائدها، قد طلبت بالأمس — في حدود حقها الدستوري — إلى مجلس الشيوخ أن تؤجل المناقشة في مشروع القانون إلى دورة الانعقاد القادم، وقد وافقها المجلس على ذلك، وهي تأمل أن تقدر الحكومة البريطانية تلك الخطة الودية، وأن يمهد بذلك السبيل إلى تذليل المصاعب الحالية على ضوء الثقة المتبادلة التي يجب أن تسود العلاقات بين البلدين، وأن يعقبها عهد من التفاهم الحقيقي والمودة والعدل.»
هذا هو الرد الخالد المشَرِّف، والجواب التاريخي الجليل، الذي لم يكن في وسع أية حكومة مصرية أخرى — مهما كان شأنها — أن ترسل أكثر منه، أو تبعث بما هو أجل وأروع وأخطر شأنًا، وأبرز كرامةً وعزةً ووطنية عالية، بل لقد كان ذلك الكتاب أكبر قيمة من البوارج التي هددت مصر بها، وأرفع منازل في التقدير من كل تلك الأساطيل التي اتخذت لمصر المجاهدة نذيرًا.
لقد سجل هذا الرد الصريحُ القويُّ الصالحُ الرافعُ الرأس إباءَ مصر وكبرياءها، واعتدادها الذاتي، ومبلغ حرصها على الحق وكفالتها للدستور، وحمايتها للنظام الديمقراطيِّ من كل عبث يراد به، وكل مكيدة تُدبَّر للقضاء عليه … فلا عجب إذا استقبلته البلاد بفرح صادق، ورأت فيه رفعة كلمة الحق، وجلال معنى الكرامة، وعدته فوزًا مبينًا لمنطق الوطنية الصحيح، وأقبلت على زعيمها الوطني الجريء الصادق العاطفة الأصيل الحكمة والرأي، تقره على ما صنع، وتؤمن له على ما كان منه، وتؤيده كل التأييد.
ولكن النية في الجانب الآخر كانت منصرفة إلى الشر والأذى، والرغبة في القهر والتحكم والإعنات؛ إذ كان لورد لويد عدوًّا لمصطفى النحاس لدودًا، وخصمًا مستنفرًا حقودًا، ومناجزًا لا ينتهي من كيد، ولا يقف عند حد، ولا تسكن له ثائرة، بل لم يكن لويد سياسيًّا أخا أناة وحلم، ولكنه كان أحمق سريع البادرة، استعماريًّا مسرفًا يود لو يقضي على الحركة الوطنية شر قضاء لو أنه استمكن له القضاء عليها، وتيسر له التمثيل بها، والإجهاز على آخر أنفاسها المتراجعة المُصعَّدَة؛ حتى لقد همَّ بأن يرد على ذلك الكتاب التاريخي الخالد مرة أخرى، ويشعل النار التي أوقدها أيما إشعال فتكون حريقًا مستطيرًا مندلع الألسنة مُرسَلَ الذوائب في كل مكان، لولا أن منعته حكومته مبينةً له أن هذا الكتاب مقنع ينبغي الوقوف عنده والرضوان به.
وبذلك يعترف لورد لويد في كتابة قائلًا: «… ومن الواضح أن ذلك الرد لم يحوِ التعهد المطلوب، بل هو في الواقع قد أعرب في وسط ألفاظه الكثيرة عن نية المضي في ذلك القانون، وكان وقت التسامح في مثل هذا التهرب قد انقضى بلا ريب، إذ لم نكن أرسلنا هذا البلاغ النهائي إلى الحكومة المصرية إلا بعد أن قدمنا لها كل فرصة للتراضي والمراجعة، وها هو ذا الرد قد جاء متهربًا مما طلبناه، بل أخطر من ذلك أنه جاء منكرًا لحجتنا التي أقمنا طلبنا على أساسها. فلو تركنا هذه الأساليب التي تتذرع بها مصر حتى تنجح وتتغلب على ذلك الإنذار النهائي، فإن أية بلاغات أو مطالب أخف منه لهجة وأكثر اعتدالًا نتقدم بها في المستقبل سوف لا يعبأ بها، بينما يجد الوفد من حيث الموقف الداخلي المجال فسيحًا أمامه لاكتساب الثقة والهيبة والنفوذ، في حين يتأثر مركز الأحرار الدستوريين من جهة أخرى أسوأ التأثير.
وهذا ما أبنته بجملته لوزير الخارجية، مشيرًا بوجوب مطالبة رئيس الوزراء في الحال بأن يشفع هذا الرد بتأكيد كتابيٍّ بأن هذا المشروع لن يستأنف السير فيه طيلة مدة حكمه.
ولكن الحكومة البريطانية كانت ترى غير هذا الرأي، وقد وجدت ذلك الرد مُقْنعًا، وآثرت ترك المستقبل لظروفه. وأما النحاس باشا نفسه فقد اغتبط وتنفس الصُّعَدَاء إذ وجد الأزمة قد انفرجت وهو لا يزال في الحكم، وراحت الصحافة الوفدية تنوه بتلك النتيجة وتعدها انتصارًا شخصيًّا له، وتحسبها في عداد مفاخره، ووجوه فضله …
وقد كان جليًّا أن مركزه قد تحسن كثيرًا في أرجاء البلاد بسبب ذلك، وأننا حتما سنجد أنفسنا قبل نهاية العام مصطدمين مع المتطرفين، ونرى مركزنا يضعف، ومركزهم قويًّا مكينًا …»
هذا هو ما سجله لورد لويد في كتابه، وهو دليل واضح على نفسيته، ومبلغ خصومته لمصطفى وكراهيته، والإسراف في الإعنات والتضييق والإحراج للتمكن منه، والاستعلاء عليه، وإرغامه على التسليم والإذعان.
ولقد بُلِي النحاس باشا في إبان زعامته برجل متهور مُعْدم من أفانين السياسة، كثير الهياج، نزَّاع إلى الشغب، شديد الغطرسة، مَزْهُوٍّ بمركزه، مُعْجب بسلطانه، لا يعرف في أية حادثة تعرض له غير لغة البوارج، واستقدام الأساطيل، والالتجاء إلى المنطق المسلح، وتفكير القوة الغاشمة. وإزاء رجل كهذا ينبغي الاعتصام بمقدار كبير من الفطنة والحذر والاحتياط، ويجب التذرع بالأناة وسعة الصدر وطول البال ولطف التناول؛ وإلا تحطم كل شيء عند أول صدمة، وفسد الأمر قبل إدراك أول علاج.
لقد كان لورد لويد يحسب نفسه صاحب هذه البلاد ومالكها غير مُنَازَع، ووليَّها الأكبر غير مدفوع؛ حتى لقد بلغ من جرأته ذات مرة أن راح يتحدث إلى مصطفى النحاس بلهجة الأمر والنهي، وأسلوب السلطان الشرعي ذي الجلال؛ فما كان من مصطفى إلا أن رده إلى نفسه، وأثابه إلى صوابه، قائلًا له إنه لا يعرف ملكًا غير الملك فؤاد! فأجفل متراجعًا بغير انتظام.
وقد كان يريد — كما رأيت — أن يتمادى في الإعنات، لولا أن حكومته وقفته عند الحد الذي وجدت فيه الكفاية والاقتناع، وقد سمعتُ أن مصطفى باشا في زيارة له عقب انفراج تلك الأزمة للورد لويد، لم يلبث أن وجد أمامه رجلًا جديدًا غير ما ألف من قبل من شأنه، وشهد حياله شخصًا لا عهد له به؛ فقد راح في تلك المقابلة «الودية للغاية» — وقد طال المجلس أكثر مما كان منتظرًا — يتفكه له ويتلطف، ويغير التقاليد المتبعة في هذه المقابلات؛ إذ لم يكد يصل إلى الدار حتى وجد في استقباله مستر سمارت عند الباب، فمشي به إلى حيث كان اللورد لويد في انتظاره عند باب قاعة الاستقبال.
فانتهز مصطفى باشا هذه الفرصة، فطلب إلى لورد لويد أن يكون رسول سلام، ووسيط خير بين مصر وبين بلاده، فإن سياسة التحرش والعداء لا تجدي بينهما نفعًا …
وحينَ انتهى الحديث وهَمَّ مصطفى باشا بالانصراف صافحه لورد لويد في هزة قوية، ثم صحبه إلى الباب الداخلي للدار، حيث كانت السيارة في انتظاره؛ فركبها مودعًا بكل احترام وإكبار.
وكانت هذه أول مرة يودع فيها المندوب السامي البريطاني زائره إلى الباب؛ فقد كانت التقاليد المرعية يومئذٍ أن يسير اللورد مع الزائر إلى باب القاعة التي استقبله فيها، ثم يدق الجرس فيحضر السكرتير، وهذا يصحب الزائر إلى حيث تنتظره المركبة.
لقد حملت الوطنية الصحيحة الصادقة خصمها على احترامها، وأكرهته على الاعتراف بها؛ فكانت تلك شهادة خصم عنيد، طاغية، شديد المحَال، لا يعرف في الخصومة هوادة، ولا يجنح في العداوة إلى رفق. وهذا الإحساس الذي يكنه لويد هو بذاته إحساس سائر خصوم مصطفى وأعدائه؛ فإنهم ليحاربونه بكل قواهم، ويقاومونه بآخر ما لديهم من الوسائل، ولكنهم مع ذلك في قرارات نفوسهم لا يستطيعون أن يكنوا له سوى الاحترام والإجلال.
على أن هذا الاحترام الذي اعترف لورد لويد به لم يمنعه بعد ذلك من الاسترسال في خصومته، والمضيِّ في كيده لمصطفى ومحاربته، وإن راح يجعل الكيد المصنوع يومئذٍ له منبعثًا من مصدر آخر سواه، ونسيج يد غيره يده، وفي ذلك يقول: «ولم يلبث الموقف الذي لم يكن يومئذٍ حسنًا مطلقًا بالنسبة لنا أن تطور تطورًا من الأساس، بسبب حوادث كانت خارجة عن إرادتنا، ولا ريب في أنه ما دمنا نبدي ثباتًا في المحافظة على مركزنا، فلا أمل هناك ولا مشجع لتلك العوامل الداخلية المعارضة للنظام الحالي على إظهار أثرها وإبداء سلطانها، غير أن حوادث الشهرين السابقين راحت تدل على أن نفوذنا قد تراخى وسلطاننا قد ضعف، فلم يعد من المنتظر بسبب هذه الأعراض الظاهرة علينا أن تظل تلك العوامل المناوئة في سكون لا تتحفز للعمل.
ولم يكن الملك يخفي كثيرًا كراهيته للحكم النيابي، فلما أحبط الوفد السعي الذي سعته الحكومة البريطانية في سبيل عقد معاهدة مع مصر، واستخف بالبلاغ النهائي الذي وجه إليه عقب ذلك، ثم مع كل هذا وجد نفسه لا يزال ثابتًا فوق صهوة جواده؛ لم يلبث جلالة الملك أن رأى من ذلك كله أن الفرصة سانحة أمامه، وأنه قد وجد سببًا لا يحتمل الإنكار، وداعيًا يبرر تدخله …»
وكان قيام الحكم الدستوري في البلاد هو غرض سياستنا، وقد أيدناه وحافظنا على وجوده دائبين في غير كلال ولا ملل حيال العقبات والصعاب المستمرة، بل كان أول ما عنيت به في الواقع هو استعادة ذلك الحكم بعد أزمة سنة ١٩٢٤، فإذا هو الآن تحت رحمة القصر …
ولحسن الحظ تقدمت إليه الوسيلة لتحقيق ذلك الغرض، فإن الوفد — كما علمنا من المصادر الموثوق بها — لم يكن يعتقد لحظة أن الإنذارات والبلاغات التي وجهت إلى النحاس باشا بشأن قانون الاجتماعات كانت جدية مقصودة فعلًا، فلما جاء البلاغ النهائي إليهم أخذهم على غرة. وفيما كانوا مسترسلين في سرورهم واغتباطهم بانفراج تلك الأزمة الخاصة به، ونجاتهم من ذلك الموقف الصعب، إذ واجهتهم استقالة محمد محمود باشا من الوزارة، وكان هو العضو الوحيد فيها من حزب الأحرار الدستوريين.
«على أن الغرض من هذه الاستقالة لم يبقَ طويلًا خافيًا، إذ لم يمضِ عليها يومان فقط حتى أذيعت فضيحة ذات أثر خطير للغاية في سمعة رئيس الوزراء».
ولكن هذا التخلص من الاشتراك في المؤامرة على الدستور يكذبه الواقع الذي جرى يومئذٍ، وبرزت أدلته وقرائنه، فإن الصحافة البريطانية راحت في ذلك الحين تسند الرجعية وتنفخ الأبواق تشجيعًا لها، وتردد مطاعن خصوم الوفد في البلاد، وتهاجم الحكومة الدستورية مع المهاجمين.
وتصدى بعض النواب من الحزب الوطني في مجلس النواب لارتكاب اعتداءات صارخة على بعض وزراء الشعب وحراس الدستور، والتهجم في المجلس عليهم للإمساك بتلابيبهم، ومحاولة التعدي بالإشارة عليهم، لإيقاع الاضطراب في المجلس وإفساد نظام جلساته؛ فلم يسع فريقًا من نواب الأغلبية إلا أن يقترحوا إدخال تعديلات على اللائحة الداخلية تكفل إقرار النظام، وتمنع تكرار العدوان، ولكنَّ أولئك النواب المشاغبين الذين استُخْدِمُوا يومئذٍ للتمهيد للمؤامرة انسحبوا من الجلسة احتجاجًا على ذلك التعديل، وآزرهم الأحرار الدستوريون الذين بيَّتوا للمكيدة تحت جنح الظلام، ثم راحوا هم كذلك يهاجمون الوفد جهرة غير حافلين بموثق الائتلاف ولا آبهين.
ومشى كبراؤهم بالدسيسة على الحياة النيابية عند العرش، كما بعثوا بتقرير سريٍّ إلى الإنكليز يصورون لهم فيه طريقًا جديدًا لحكم البلاد بأيديهم دون دستور، وبلا حاسب ولا رقيب، في سبيل ما كان الإنكليز يبتغونه، وهو هدم الوفد والتخلص من الدستور، وإذلال البلاد وحملها على الخنوع والتسليم والإذعان.
وكان مرادهم من بداية الأمر أن يحيطوا بمصطفى النحاس من جميع جهاته، ويصطنعوا كل الوسائل لإكراهه على الاستقالة حتى يكون هو القاضي بيده على سلطة الأمة، والمسلم في حراسة الدستور، والنازل عن قيادة البلاد إليهم، والمتخلي عن الأمانة التي وضعها الشعب فيه؛ لكي ينهض لهم العذرُ بعد ذلك في هدم الدستور، وتعطيل الحياة النيابية، وهو أن الأغلبية نفسها هي التي أرادت أن تتخلى عن حقها، وهي التي نفضت أيديها من الحكم طائعة. وما كان مصطفى النحاس وهو في مكان الزعامة، المؤمن بقوته والتفاف الأمة حوله ومحبة الشعب له، أن يقترف هذه الخيانة في حق وطنه، أو يرضى لنفسه أن يكون أداة هدم الدستور، وآلة تقويض الديمقراطية، وهو حارسها الأمين، وزعيمها النزيه الساهر عليها الوفيُّ الحفيظ.
وبقيَ مصطفى في مركزه مخلصًا لواجبه، متمسكًا بالأمانة الوديعة لديه؛ فلم يجد المشتركون في المكيدة أمامهم سبيلًا لتحقيق مكيدتهم، وتنفيذ ما دبروه بياتًا، غير الالتجاء إلى الاستقالة من هيئة الوزارة، فابتدأ الحيلة محمد محمود باشا دون سبب ظاهر أو علة معقولة، ثم تراجع فاسترد استقالته، حائرًا لا يدري ماذا يصنع، ثم عاد يرفعها مرة أخرى، وفي أثره استقال جعفر ولي باشا، وتلاه إبراهيم فهمي كريم باشا، متسللين هكذا على صورة مخجلة، كما ذهب خشبة باشا يسعى بالإفك بين الأعضاء والدسيسة والنميمة؛ فكانت مهزلة الاستقالات، وكان موقف مصطفى حيالها موقف رجل شجاع قوي رصين، معتمد على أمته التي تخلص إليه، وعلى كثرة الشيوخ والنواب الملتفة حوله، وعلى إبائه التخلي من تلقاء ذاته عن واجبه نحو وطنه المقدس العزيز.
وكان لا بد إذن من سهمٍ آخر مَرِيشٍ يُحْكِمُ الرُّماةُ تسديده، ولا غَنَاء عن دسيسة مسمومة تصطنع لتلويث سمعته، والتشهير به، وحَطْمِ الثقة الغالية التي له في نفوس الملايين من أمته؛ فلم يلبث مصنع الدسائس أن أخرج فجأة، وعقب مهزلة الاستقالات، صورًا لوثائق تتعلق بقضية للأمير أحمد سيف الدين، يراد بنشرها الطعن في نزاهة مصطفى النحاس من جهة الصناعة التي شرَّفها من قبل بدخولها، ورفع شأنها بالسلوك في أهلها، وهي صناعة المحاماة، ونزاهة المحامي الكبير الذي لم يتخذها يومًا مُحْتَرَفًا، وإنما جعلها أبدًا فنًّا رفيعًا، وصناعة الحق، شريفة مثل شرفه، نزيهة كنزاهته، طهورًا كطهارته؛ فكانت سخرية القدر أن يحاربوا رجلًا مثله من أقوى نواحيه، وأمنع حصونه وطوابيه، وأروع صفاته ومزاياه؛ ليكون سخط الشعب عليهم عظيمًا، حتى وإن نجحت مكيدتهم، وحكم الأمة بالبراءة مقدمًا قبل أن يجلس القضاة لإصدار حكمهم في مبلغ شناعة هذه الدسيسة وطهارته من معناها الأثيم.
ولكنهم لم ينظروا إلى هذه الناحية حين خرجوا بتلك المكيدة، وإنما كان نظرهم يومئذٍ متجهًا إلى القصر، ومرماهم منها إلى إيغار صدره وتأريث نار كارهيته، وتقديم الحجة الظاهرة للتذرع بها في تحقيق الغرض المُبَيَّت، والغاية المنتواة، وهي إزالة الحكم النيابي من الطريق، والعود إلى الحكم المطلق، حكم القصور والأرائك والعروش في غبرة التاريخ وظلمات القرون.
وقد نجحت المكيدة من هذه الناحية، ولكن ظل مصطفى النحاس في موضعه، حريصًا على واجبه، متمسكًا بأمانته، وكان ذلك في الحق أروع موقف من زعيم تألبت جميع أفاعيل الحقد والدس والكيد والكره والبغض عليه؛ فما أبه بها، ولا تراجع أمام تألبها، وثبت لتكون الرمية الأخيرة من كفهم، ولا يستسلم أو ينكص أو يتزحزح من مكانه؛ فلم يجد الحقد أمام هذا الإباء الرفيع إلا أن يلقي تلك الرمية — فكانت «الإقالة»، ولم تكن الاستقالة، وشتان بينهما في مقاييس الشرف والحرص والإباء وجلال الكبرياء …
لقد كانت محاربتهم لمصطفى النحاس بهذه الوسيلة محاربةً وضيعةً اقترفت من أجلها السرقة والتزوير والتدليس والإفك المبين؛ إذ تناولت أمرًا لا بأس منه بتاتًا، ولا ظل تهمة عليه، بل مشرِّفًا لصاحبه محمودًا معدودًا من فضله وتسامحه واستجابته لدعوة المظلوم، وشجاعته في لقاء السلطان والنفوذ مهما كان له من شأن ورَهَب عظيم، ما دام الحق في يده، والعدل رائده، ودفع الظلم مرماه … تناولت هذا الأمر فشوهت صورته، وزيفت له تزييفًا، وزعمت أنها قد وقعت منه على فضيحة؛ فكانت الفضيحة لها هي أنها مُحَارَبَةٌ نذلةٌ خسيسة، بغير وازع ولا ضمير.
تتلخص حقيقة الدعوى في أن سمو الأمير أحمد سيف الدين وهو محجور عليه كان مقيمًا من زمن بعيد في أحد المصحات ببلاد الإنجليز، فاحتالت والدته السيدة نوجوان هانم بمساعدة آخرين، واختطفوه من ذلك المصح، وأوصلوه إلى الأستانة، ثم أخذت الوالدة تفكر في رفع الحجر عن ولدها أو في تقرير نفقة له، وكلفت بذلك محمد شوكت بك، فحضر إلى مصر في نوفمبر سنة ١٩٢٥، وأخذ يسعى في إنهاء هذا الموضوع وديًّا فلم يوفق، فاستصدر من الوالدة في ١٩ ديسمبر سنة ١٩٢٦ توكيلًا رسميًّا فوضت إليه فيه الرأي في اختيار من يلزم من المحامين لأجل المطالبة بحقوق الأمير والاتفاق معهم على الأتعاب التي يستحقونها بالمقدار القانوني «المعقول»، فوكل محمد شوكت بك ثلاثة محامين هم الأساتذة: مصطفى النحاس باشا، وويصا واصف بك، وجعفر فخري بك. وتعاقد الجميع على اتفاق مؤرخ الثاني من شهر فبراير سنة ١٩٢٧، يقتضي قبولهم القيام بالمرافعة والدفاع عن حقوق الأمير، توصلًا إلى رفع الحجر عنه وتسلم أمواله، واحتياطيًّا، تقدير نفقة له تتناسب مع مركزه وثروته عن المستقبل، وأيضًا عن الماضي من تاريخ فراره من المَصَحِّ إلى يوم تقرير النفقة، مع تقدير مبلغ من المال لأجل شراء منزل له في الأستانة واقتناء أشياء أخرى مما يحتاج إليه.
وقد حددت الأتعاب للثلاثة المحامين في هذا العقد بمبلغ ١١٧٠٠٠ جنيه، تدفع بعد رفع الحجر وتسلمه أمواله، كما حددت الأتعاب فيما يختص بالنفقة بمبلغ ١٠٠٠٠ جنيه إذا قضى المجلس بنفقة سنوية قدرها ٢٢٠٠٠ جنيه، وأن يكون للمحامين مبلغ ٥٠٠٠ جنيه إذا قدر المجلس للمحجور عليه مبلغ ٦٠٠٠٠ جنيه نظير المشتريات والنفقة عن المدة الماضية، واتفقوا على أن مقدار هذه الأتعاب يزيد وينقص بحسب أهمية المبلغ الذي يقضي به، وقد دفع الوكيل إلى المحامين المذكورين مبلغ ١٥٠٠ جنيه بصفة مقدم أتعاب.
هذه هي خلاصة الوقائع كما وردت في نص دعوى الاتهام، وقد اتخذ منها الخصوم غير الشرفاء مطاعن في حق مصطفى النحاس وزميليه بأنهم اشتطوا في تحديد الأتعاب، وتقاضوها فاحشة باهظة، وأن الاتفاق الذي عقدوه مع وكيل الأمير غير جائز؛ لأنهم أقدموا عليه دون التثبت من ظروف القضية، وقبل الاتصال بصاحب الشأن نفسه، وأنهم في ذلك الاتفاق قد أرادوا استغلال نفوذهم النيابي ومراكزهم السياسية للتأثير في إجراءات الدعوى، وأنهم ألقوا في روع أصحاب الشأن في القضية أن هناك اقتراحًا في مجلس النواب بإلغاء مجلس البلاط، وأن لهذا أثرًا كبيرًا في نجاح القضية وكسبها لمصلحتهم.
صورة مصغرة للدكتاتورية في ظلمها، في إثمها، في طغيانها، في خذلانها …
كان المغفور له زعيمنا المبرور يقول إن الإنجليز خصوم شرفاء، وكان الذي يقول هذا رجلًا نفاه الإنجليز وعذبوه، ولكنه عرف معنى الخصومة وشرف النضال، فقدر خصمه كما قدر نفسه، والرجال تعرف أقدار الرجال.
والخصومة الشريفة هي التي لا تتدنى إلى الدس والخسة، بل تناضل في وضح النهار، فقد تُنفى، وقد تسجن، وقد تنزل إلى ميدان الحرب فتقاتل، ولكنها لا تلفق التهم، ولا تعمل في جنح الظلام، ولا تخاتل.
ولقد أدركت الدكتاتورية أن في الخصومة الشريفة تشريفًا لخصمها، وأن النفي والسجن يكبران من قدره، ويرفعانه إلى أعلى عليين، فلماذا إذن لا يلجئون إلى الخصومة غير الشريفة، وممَّ يخافون؟ أيخشون حساب الضمير؟ كلا، فلن يكون حسابه عسيرًا أو يسيرًا، فقد صفى حسابه وظائف معدودات، وذهبًا نضيرًا …!
وعلى أثر نشر هذه التهم في صحيفة الذين طبخوها، طلب النحاس باشا إلى النيابة العامة إجراء تحقيق فيها، كما طلب جعفر فخري بك إليها التحقيق لمعرفة المسئول عن سرقة الأوراق من مكتبه، مبينًا أن من بينها كتابًا باللغة التركية تعمد فيه أصحاب الدسيسة تشويه المعاني عند ترجمتها في سبيل محاولة تلويث سمعتهم والحط من كرامتهم في البلاد.
ومن العجب أن التحقيق لم ينتهِ إلا في العشرين من شهر ديسمبر سنة ١٩٢٨؛ أي استغرق نصف العام، كأنما كان يزحف على بطنه زحفًا، ويخطو خَطْوَ السلحفاة. وقد جاء بعد هذا التراخي المستطيل، والتلكؤ الغريب، قاضيًا بإحالة الأساتذة المحامين على مجلس التأديب.
ولقد تلقى مصطفى وصاحباه هذا القرار بكل هدوء وسكينة واطمئنان؛ حتى لقد قال الرئيس وهو يبتسم: «لقد كنت أتمنى أن يقرروا هذا القرار، فلسوف تظهر الحقيقة بأجلى مظاهرها ناصعة البياض؛ فإن العدل كفيل بتبرئة الأبرياء، وإدانة المجرمين …!»
وقد جاء حكم مجلس التأديب الذي رأسه حسين درويش باشا مشرِّفًا للمحامي النزيه مصطفى وصاحبيه؛ إذ أصدر المجلس حكمه في فبراير سنة ١٩٢٩ بالبراءة، وأقر في حيثياته أن أولئك الخصوم غير الشرفاء الذين اصطنعوا تلك الدسيسة الرخيصة لم يتورعوا عن «الدس والسرقة والتزوير، وشراء ذمم الشهود في سبيل خصومتهم الأثيمة النكراء».
لقد جاء ذلك الحكم التاريخي عميق الأثر، اندكت له معاقل الطغيان واستحكامات الحكم المطلق، جاء مفخرة للذين اتهمهم من لا يقاسون ولا قلامة ظفر بأقدارهم، في نزاهتهم وشرف ذممهم، ونقاء سمعتهم؛ فاسودت له وجوههم وباءوا بالخزي والخذلان. جاء سجلًّا نقيض ما اتُّهِمُوا باطلًا به، وهو أنهم لم يشتطوا فيما طلبوا «ولكن أشفقوا»، وأن عملهم من الأول إلى الآخر «كان محمودًا، فلا يُفهَم كيف يكون محلًّا للمؤاخذة»، وأن سلوكهم كان قيامًا بالواجب المفروض عليهم، وأن لا نزاع في أن الخطاب وعقد الاتفاق قد وقعَا في أيدي أولئك الخصوم الأثمة بطريق السرقة، وأن السارق أبقاها عنده في طي الخفاء إلى أواخر شهر يونيو حين عنَّ له «لغرض ما» أن يذيع تلك الأوراق في الصحف، فكانت هذه العبارة الأخيرة في حيثيات الحكم الخالد إشارة إلى المكيدة التي بيتت لهدم الدستور بمحاولة تلويث سمعة حارسه الشريف النزيه الوفي الأمين.
لقد كانت إذن النية مبيتة لأحداث ذلك الانقلاب الخطير في نظام الحكم، وكان أصحاب المؤامرة يفضلون بادئ الرأي أن يحدث ذلك الانقلاب من طريق الأغلبية نفسها، بحملها على التخلي عن الحكم مختارة ضيقة الذرع بما تجد من العقبات والحوائل والمكائد في طريقه، فلما ثبت مصطفى النحاس في مكانه، وتشبث بحقه الدستوري وموضعه، لم يجدوا سبيلًا أمامهم غير «الإقالة»؛ فكانت إقالة مشرفة لمصطفى النحاس؛ لأنها إذ كانت قد أزاحته عن مقعد الحكم، فقد رفعته في قلب الأمة مكانًا عليًّا، وسمت به أي سمُوٍّ، وعلت به علوًّا كبيرًا.
ومنذ بدأ ذلك الانقلاب، كان الموقف خطيرًا بالنسبة للزعامة وجد رهيب، فإن مصطفى لم يكن قد قضى في الزعامة يومئذٍ غير بضعة أسابيع، ولم تمكث وزارته في الحكم غير شهرين وعشرة أيام تقريبًا؛ لأنها تولت الأمر في السابع عشر من شهر مارس سنة ١٩٢٨، وأقيلت في السابع والعشرين من شهر يونيو، ولم تقضِ هذه الفترة القصيرة إلا وسط شباك متعقدة الخيوط من الدسائس، ونسيج مشتبك من الكيد المبين.
ولكن مصطفى النحاس كان الرجل القائم في محله تمامًا، المختار للمعركة الناشبة أحكم اختيار؛ فتلقى هذا الامتحان الخطير بكل ما آتته العناية الإلهية من قُوَى الصبر والمرابطة والكفاح واليقين والإيمان.
لقد أرادوا «هدم الوفد» فلتستمع ماذا كان يقول مصطفى النحاس نفسه إزاء ما كانوا يريدون ويحاولون: «لو كان بالإنكليز حاجة إلى أشخاص أعضاء الوفد ورئيسه، لمددنا إليهم أعناقنا، وأبحناهم إشباع نفوسهم من لحومنا، وإبْرَاد غليلهم من دمائنا، إن كان ذلك ثمنًا لاستقلالنا؛ ولكنهم لا يستفيدون من لحومنا ولا من دمائنا، إذ لا تكون استفادتهم إلا من تغلب رأي أنصار الحماية على رأينا، وهيهات ما يشتهون!
إنهم ليعلمون أن أيديهم لن تصل إلى قرارة قلوبنا لتنزع منها إيماننا بحق بلادنا، ولا تصميمنا على الذود عن وطننا، ولكن جهلهم بحقيقة شعبنا يحملهم على الطمع في صرفه عنا، وإغرائه بالانفضاض من حولنا، والانتقاض على مبادئنا … وهل لنا مبادئ غير مبادئ الشعب؟ وهل لنا سياسة غير سياسة الأمة؟ إننا لم نختط للبلاد سياسة جديدة، بل نادينا بسياستها، ولم نأتِ إليها بمبادئ جديدة بل نادينا بمبادئها، فإن الوفد هو جندي الأمة، وليست الأمة جندي الوفد …!
لذلك كانت باكورة عملهم أن أجلوا جلسات البرلمان شهرًا لكي يسعوا جهدهم في استجلاب رضاء ممثلي الأمة عنهم، وحملهم على السكوت عن فعلتهم، ومواطأتهم على الحنث بأيمانهم، والتخلي ساعة العُسْرَةِ عن مناصرة وطنهم، ولقد استعانوا في سبيل ذلك بكافة وسائل الوعد والوعيد، والتغرير والتضليل؛ ولكن الله خيَّب ظنونهم، فحرص ممثلو الأمة الشرفاء على كرامتهم، وحفظوا الأمانة التي وضعها الله في أعناقهم؛ فأثبتوا للعالم أنهم جديرون بالنيابة عن هذه الأمة، وكانوا أحقَّ بها وأهْلَهَا. بل لقد كان هؤلاء الشيوخ والنواب أهلًا في نظر محمد محمود لأن تقوم وزارته على ثقتهم، فلما يئس منهم استحالوا في عينه «عصابة» لا تستحق احترامًا ولا تقديرًا! وهكذا لا يتغير الحكم على الأمة بحسب أهليتها واستعدادها، بل بحسب «النظَّارات» الإنجليزية التي يضعها أمثال هؤلاء الوزراء على أعينهم كلما بدا لهم تغييرها.»
لقد كان الغرض من ذلك الانقلاب إذن تحطيم الوفد بتحويله عن زعامته، وتغيير موقفه بجانب رياسته، ومظهر إبائه ورمز قوته … كان الغرض إسقاط مصطفى النحاس بفض الناس من حوله، واستمالتهم إلى غير جانبه، وكان ذلك الغرض هو التجربة ذاتها التي جربت في سعد فحبطت وفشلت؛ لأن سعدًا كان معه كل مجد الثورة، وكل ذكريات النهضة ماثلة في شخصه، أما مصطفى النحاس فقد ظنوا أن إسقاطه لا يحتاج إلى مثل ما احتاجت التجربة في سعد من قبله؛ لأنهم حسبوه — وهو في بداية زعامته — رئيس ضرورة، وثمرة ظروفٍ عارضة، وليست فيه عندهم العبقريةُ السياسيةُ ذاتها التي كانت في سعد بارزة متجلية.
ولكن مصطفى النحاس في تقدير الله الذي خلقه، واعتقاد الصحب والأولياء الذين وثقوا به، وإيمان الشعب الذي أطاع في الولاء له تجربة سعد وتجربته، وثقة الزعيم الأول الخاصة وثقته هو العامة؛ برز لهم يومئذٍ صعب المكْسِر، منيعًا من الهدم، ثابتًا في مكانه، لا تزحزحه الأعاصير العاتية.
وكان أروع مظهر لقوة الوفد هو «الدستور» والنظام النيابي، وأجلُّ ناحية من نواحي عظمة مصطفى وجلال قوته هي أنه الحارس لذلك الدستور والقائم الساهر على صيانته؛ فلم يكن أمام أعوان الاستبداد والحكم المطلق، وأعداء الوفد البغاة عليه، في سبيل تحقيق ذلك الغرض الذي راود هواهم، وداعب أحلامهم، بعد العجز عن استمالة أنصاره واستهواء أعوانه، غير إزالة الدستور من الطريق، والتخلص من الديمقراطية القائمة متراسًا للزعامة وخندقًا للوفد؛ فلم يحفلوا أن يكونوا هم الذين طالما فخروا بأنهم الذين وضعوا الدستور، وهيَّئُوا مواده، وأقاموا ساحته، ونصبوا رايته، هم بأعيانهم الذين يتقدمون للفتك به، ويجترئون على خنقه؛ لأن خصومتهم للوفد تغلبت عندهم على كل حساب، وارتفعت لديهم فوق كل اعتبار.
غير أنهم كانوا في أعماق صدورهم يحسون، بعد يأسهم من المحاولة المبدئية، وهي استمالة الناس إلى الانفضاض عن الوفد والمروق من صفوفه، بأن الأمر الذي يطلبونه جدُّ عسير، وأصعب منالًا مما كانوا يتصورون؛ فلم يستطيعوا الفرار من البداية من الاعتراف بأنهم حيال غرض شاق، ومطلب خطير؛ فجعلوا حل المجلسين لمدة ثلاث سنين قابلة للتجديد!
ولقد ظنوا أن هذا التحديد الواسع المدى، المترامي الأجل، من شأنه أن يحدث اليأس في صدر الوفد، بسبب طول الأمد، ولكنه كان في ذاته عنوانًا ظاهرًا على يأسهم هم مما يحاولونه، وضعف ثقتهم بالنجاح فيما ائتمروا به، كما كان في ثناياه عامل أملٍ في الجانب الآخر، وباعث رجاء؛ لأنه اعتراف بقوته، بل إقرار من ناحية الغرض نفسه باستحالته!
ولم يكن هذا وحده المظهر الكاشف لضعف نفسيتهم ووهن روحهم المعنوي من أول الأمر وبداءته، ولكنهم في بيانهم بسبيل تعطيل الحياة الدستورية كشفوا عن تناقض صريح ويأس بالغ قبل المحاولة؛ فسموا الوفد «بفئة قليلة»، ودعوا تأثيرها، مع هذه القلة التي زعموها، «لا ينقطع في الوقت القصير»! فلم يكن شيء أبلغ من هذا اعترافًا بيأس اليائسين.
وقد رأيت كيف بدءوا بمصطفى النحاس فهاجموه من سخرية القدر في نزاهته بوثائق تلك الدعوى التي أسلفناها عليك، فكان ارتفاعهم إلى الحكم بها ليكون سقوطهم أيضًا بفعل براءته منها، مع ثباته هو طيلة الوقت حيال وسائلهم النكراء وشنائعها، ومكافحته الرائعة لأساليب دكتاتوريتهم وصنائعها، كما كان بفعل يأسهم ذاته الذي لم يستطيعوا من البداية إخفاءه، فجعلوا المحاولة لأعوام ثلاثة تتجدد بغير تحديد ولا تعيين!
لقد خُيِّل إليهم أن الخسارة التي مُنِيَ بها الوفد برحيل سعد ستكون مصدر قوة لحزبهم، وأنه وقد زال الشبح الأكبر الذي كان يحجبهم عن أعين الناس، سيبدو للناظرين ضئيل أشباحهم، ويظهرُ جبارًا كل قزمٍ من أقزامهم، غير أنهم أدركوا أن مصطفى النحاس قد خطا خطوات الجبابرة إلى زعامة الأمة لا ينازعه فيها أحد، وأن الوالد الذي مات قد أنجب خير ولد؛ فجمعوا جموعهم، واستعدوا أعوانهم، وضربوا الوفد ورئيسه ضربات خُيِّل لهم أنها القاضية؛ فاستنامت أعينهم للدهر، وحسبوا أن عينه هي الساهرة، وما علموا أن الوفد وليد الاضطهاد، وربيب الجهاد، لم يزده القمع إلا نضالًا، وأن الحرية قبسٌ من النور. لا يزيدها الظلام إلا اشتعالًا.
لقد حقت لك يا سيدي الرئيس خلافة سعد، فهذه الخلافة ثمنٌ من الألم والشقاء، هو ثمن المجد، ولقد دفعت الثمن سخيًّا، وذهبت في السخاء إلى أبعد حد، فما من تضحية إلا تحملتَها، وما من مرارة إلا ذقتَها، فهنيئًا لك هنيئًا بالدستور وقد افتديته، وهنيئًا لك بالوطن فقد أنقذته، وهنيئًا لك بالألم فإن أسقمكَ فقد غلبته، وسيأتي وقت تعرف فيه الأمة ما فعلت وفعل الوفد، فقد اتهموك واتهموه بزريِّ التهم، وهددوك وهددوه بالسجن والألم، فلم يُجْدِهم ذلك شيئًا؛ لأن الوفد لا يخشى أن يكون إلى السجن مصيره وقد كان له مقرًّا؛ ومن لم يكن في الحرية طليقًا، فأولَى به أن يكون في السجن حرًّا …!
وقد كان جواب الأمة على هذه التهمة الباطلة يوم ألقيت على مصطفى النحاس فتدحرجت تحت قدميه، أن أقامت له حفلة تكريم في «الجزيرة»، شاهدة له بالبراءة عندها، قبل أن يشهد القضاء له بها عنده؛ فكان ذلك جوابًا بليغًا، وردًّا مُفحمًا، وشهادة ناطقة، وحكمًا مبينًا.
وكان موقف الشيوخ والنواب إزاء تأجيل البرلمان شهرًا قبل الالتجاء اليائس أخيرًا إلى حله وتعطيل الدستور وأحكامه، أن أعرضوا عن إغراء المؤامرة واستهوائها، واحتقروا مراودتها ومحاولاتها، فعمدت الوزارة الغاشمة إلى استصدار أمر ملكيٍّ بالحل؛ وتم بذلك في التاسع عشر من يوليو الانقلاب الرجعي الذي كان خصوم الدستور يريدونه، بل تمت بذلك الثورة على الدستور، والتآمر على الحياة النيابية التي اكتنفها حقد الحاقدين، ومقت الماقتين.
وقد كان هذا الإجراء باطلًا بطلانًا أصليًّا؛ لأنه مناقض للدستور، معطل لأحكامه التي لا يمكن تعديلها، ولا المساس بها، بل كل ما ترتب عليه من الآثار كان باطلًا كذلك، كما أن وجود الوزارة ذاتها التي أجرته في منصة الأحكام، كان مخالفة مستمرة للدستور، وثورة قائمة عليه، ولم تكن الصفة التي اكتسبها شيوخ الأمة ونوابها بمقتضى نصوص الدستور لتزولَ عنهم بالاعتداء على حرمة هذه النصوص أيًّا كان هذا الاعتداء، وأيًّا كان المعتَدِي؛ فإن الدستور الذي أعلن سلطة الأمة قد غدا ملكًا للأمة وحدها، نصوصه مصونة، وأحكامه مقدسة، وقد أقسم الجميع على احترامه.
ولذلك لم يتردد وكيل مجلس الشيوخ ورئيس مجلس النواب في مطالبة الوزارة بفتح أبوب البرلمان التي أوصدتها ليعقد البرلمان في نهاية فترة التأجيل جلساته ويزاول عمله، ولكن الوزارة في الموعد المعين — وهو الثامن والعشرون من شهر يوليو سنة ١٩٢٨ — راحت تسد أفواه الطرق المؤدية إلى البرلمان بقوة الجند المدجج، وتستعين الجيش والشرط على الوقوف في وجوه الشيوخ والنواب، وهم سائرون إلى قدس الدستور وباحة الحكم النيابي، وجعلت تقتفي في ذلك اليوم المشهود خطاهم، وتتعقب حركاتهم، وتملأ المدينة من جواسيسها وعيونها حولهم لتحول بينهم وبين الاجتماع في مكان آخر غير دار نيابتهم، وظنت أنها قد ملكت عليهم السبيل، وأعجزتهم كل إعجاز.
ولكن ذلك كله لم يكن ليجدي نفعًا إزاء العزمة القوية، والإيمان العميق، والقسم الرهيب على الكتمان؛ فاستطاع الشيوخ والنواب أن يجتمعوا اجتماعهم التاريخي العظيم في ذلك اليوم الخالد الجليل في دار آل الشريعي بالقاهرة، على حين راح جواسيس الوزارة وعيونها في حيرة لا يدرون أين المجتمع، ولا يعلمون أين المستقر!
وفي تلك الجلسة الخالدة اتخذ البرلمان عدة قرارات ضد الحكم الباطل المسلط على البلاد، وبشأن اعتبار البرلمان قائمًا وله حق الاجتماع بحكم الدستور ونصوصه، وأن الوزارة ثائرة على الدستور، فلا ثقة له بها، ويجب أن تتخلى عن مكانها، كما قرر تأجيل اجتماعاته من تلقاء نفسه إلى السبت الثالث من شهر نوفمبر سنة ١٩٢٨، إلا إذا طرأ ما يدعو لانعقاده قبل هذا التاريخ.
أقسم بالله العظيم أن أحافظ على الدستور، وأدافع عنه بكل ما أوتيت من جَهد وعزم إلى آخر رمق في حياتي.
كذلك سجل البرلمان المصري في تاريخ حياته يومًا خالدًا عظيمًا، ودوَّن في سِفْر الوطنية الصادقة حادثًا مشهودًا لا تُمحى على الدهر ذكراه.
وكان تأثير هذا الحادث في البلاد خطيرًا غمر النفوس جميعًا، وشمل كافة طبقات الأمة؛ فراحت تعلن تأييدها لتلك القرارات الحكيمة، وتجاهر بولائها للوفد وزعيمه؛ وفي وسط هذا التأييد العام، ظل الوفد رافعًا عَلَمَ الجهاد في الساحة، عاملًا على مكانته، والشعب حافٌّ من حوله، يوليه الطاعة والمحبة والإخلاص والوفاء.
وقد وصف ساحر الوفد وخطيبه البليغ الفاتن — مكرم عبيد — أصحاب ذلك الانقلاب أو الأعوان عليه، فقال يومئذٍ في وصفهم: هم قوم صنعهم الهوى فأذلهم، وطوَّح بهم الفكرُ فأضلَّهم، يشتهون أولًا، ويفكرون ثانيًا، مخضعين تفكيرهم لشهواتهم وأطماعهم؛ ولذلك فالرأي عندهم نزوة، والعاطفة شهوة.
فهل من عجب وقد باعوا أنفسهم لشهواتهم، وسخَّروا ذكاءهم لنزواتهم، أن يكون لهم في كل يوم فكرة، لأن لهم في كل يوم شهوة، وأن يكون الرأي عندهم سلعة تباع وتشرَى، بثمن أعلى أو أدنى، بحسب أسعار السوق وتقلباته.
يا لهم من قوم بائسين، لا يهمهم في سبيل أطماعهم أن يتخذوا من الطامعين ناصرًا وظهيرًا، ولا يهولهم، وهم في رغد من العيش، أن تشرب أمتهم كأس الحياة مريرًا، ولا يزعجهم أن يحرم المخلصون نعمة الحرية في منافيهم وسجونهم ما داموا يمشون في الأرض مرحًا ويستنشقون النسيم عبيرًا، ولا يخجلهم — مع كل هذا — أن يجمعوا الفتات من حول موائد الوفد ليصنعوا بها لأنفسهم خبزًا وفطيرًا، ولا يَشِينهم أن يستغلوا جهد العاملين ويرفلوا في مجد مستعار، فما كانت الحياة عندهم إلا مظهرًا وقشورًا!
لقد كان هؤلاء الذين وصفهم مكرم أصدق ما يوصفون به، هم الذين وجدوا أنفسهم بعد ذلك الحادث الخطير الرهيب أمام غرض لا يتواتى لهم، فاشتدوا في القسوة اشتدادًا، وتناهوا في الإساءة إلى الوفد محاربة وقمعًا وتشريدًا، فلما أعجزتهم الإساءة إليه عن الظفر به محصورًا وحيدًا، امتد عدوانهم إلى الأمة كلها؛ فآذوا الأبرياء، وسلطوا ألوان التعذيب وصنوف البلاء على الشعب نفسه جموعًا وآحادًا، فصمدت لهم الأمة صمدًا، وظلت ملتفة حول الوفد أبدًا، غير عابئة ما تلاقي من الألم والقسوة والتعذيب.
وحاولت الوزارة قطع ما وصل الحب والولاء بين مصطفى النحاس وبين أمته بجميع أساليب الطغيان، ووسائل العنف والعدوان، ولكن الزعيم ظل ساخرًا من كل تلك الوسائل والأساليب، يخرج للقاء الشعب مهما أرصدوا على طريقه من القوات المسلحة، ويروح يتصل بالأمة مهما اتخذوا لصده من تدابير مكشوفة فاضحة، وقد لقي في ذلك كله عناءً كثيرًا، وعنتًا طويلًا، ومشاقَّ وأهوالًا، وهو الصبور المتجلد، المهاجم المشتد، المتقدم لا ينثني ولا يرتد، غير حافل بالكتائب التي كانت تُحشَد لمنعه، والقوات العسكرية التي تُرصَد لمنع الناس من استقباله، فكذلك فعلوا في طنطا ودمنهور والإسكندرية، وكذلك صنعوا في المنصور والدقهلية، إذ وضعوا الجنود صافات على طوال الطريق من بنها وإليها، وفتحوا الكباري ليحولوا بين الزعيم وبين الاتصال بها، وأقاموا الأشراط بالعصيِّ والبنادق والقذائف لتفريق الجموع الجامعة، وتشتيت الزُّمَرِ الحاشدة المتدافعة، في غير مبالاة بضمير ولا قانون.
ولكن زعيم الأمة لم يكن لينثني عن لقاء الناس في أقاليمهم، أو ينصرف عن الاتصال الشخصي بهم في ربوعهم، متقدمًا يلاقي الجنود بصدره، مقتحمًا لا يبالي العدوان الأثيم عليه، منتويًا سفرًا في أحرج أوقاته، معتزمًا الانتقال في البلاد في أرهب ظروفه وساعاته، معطيًا من نفسه للناس القدوة البالغة، بارزًا أمام الشعب بالأسوة الحسنة؛ لا يستريح هو ليجاهدوا، ولا يخاف هو ليتشجعوا، وإنما يتقدم هو مخترقًا طريقه مهما ازدحمت عليه أساليب المنع والحصار والاحتجاز والتفريق والتشتيت، فلا يلبث الناس أن يسخروا من الأذى ملاقيه بشجاعة عجيبة، ويهزَءُوا بالألم؛ لأن أرواحهم أقوى من الجسوم، وأصبر عليه من الأبدان.
وكان الناس في سواد الريف يجدون في الطبيعة رحمة، ولا يجدون في الجند غير القسوة الموحشة الآثمة. لقد كان الناس إذا حيل بينهم وبين لقاء زعيمهم في المحطات أو قلوب المدائن أو صميم المراكز والبنادر بما كان الجند يصنعون بهم من الأذى والضرب المبُرِّح ووسائل الإعنات والإحراج؛ خرجوا إلى المزارع، وتسللوا في الغيطان، ونَسَلُوا من كل حدب وفج عميق إلى الأشرطة الحديدية، يجاورنها مستبقين ليظفروا بتحية الرئيس في القطار، وهم يحملون سعف النخيل شارات وإعلانًا، ويلوحون بالمناديل فرحًا باللقاء ونشاطًا إليه وابتسامًا. لقد كان الناس يومئذٍ يصلون إلى الزعيم في أسفاره للقائهم سباحة في النهر، وعَوْمًا في الترع والأقنية، وركضًا بجانب القطارات، وجموعًا في المراكب والسيارات، بل كأنما كانت الحقول والمروج المترامية تنَشقُّ يومئذٍ عن رءوس، وينفتح أديمها عن هامٍ وأجسام، وتدوي في نواحيها الأصوات في الفضاء بالهتاف دويًّا.
وكم أوذيَ أهل القرى والمدائن في المحطات من العصي الغلاظ والهراوات! وكم امتلأت السيارات بالآحاد والزرافات، لاستياقهم إلى المخافر، والتنكيل بهم في المراكز، وإرهابهم بكل أساليب التخويف والوعيد والطغيان!
فهل نسيَ أحد ماذا صنعت الإدارة في المنصورة أيام محمد محمود قبل أيام صدقي، إذ سمعت نبأ مقدم الزعيم لزيارتها؟ وكيف بلغ بها التفكير في اصطناع الحوائل، واختراع الحواجز، أن احتفرت الطرق المعبدة، واستحدثت فيها الأخاديد والشقوق غير الممهدة، تظاهرًا بالحاجة إلى تعبيدها، وحشدًا للهراسات الثقال في أكثر نواحيها، وفرشًا للقطران والأسفلت يكسوان أديمها ليمتنع على القادمين والمستقبلين المسير والاتصال واللقاء.
وهل نسي أحد كيف عمدوا إلى معالم الزينات التي أقيمت لاستقبال مصطفى الزعيم في المدينة فهدَّموها، وإلى السرادقات الرِّحاب فأزالوها من مواضعها، فإذا ما اشتكي الناس من ذلك العدوان على تعبير نفوسهم ومظاهر فرحهم وإخلاصهم، زادوهم عسفًا، وشددوا عليهم تعذيبًا وتنكيلًا؛ فلم يجد الأبرياء البررة يومئذٍ سميعين لشكاتهم ولا مستجيبين؟!
ولقد أنكرت الوزارة يومئذٍ تلك الاعتداءات، وزعمت أن الأمة قد انفضت من حول مصطفى النحاس، فلا زينات له ثَمَّ ولا حفاوات، ولكن القدر الساخر أبى إلا أن يفضحها ويكشف عن سوء عملها، فقد رفع صيدليٌّ من الأتراك في المنصورة على صيدليته علمًا تركيًّا قبيل مقدم الزعيم واستقباله؛ فطلب الشرطة إليه أن ينزله عن صيدليته لأن إقامة الأعلام ممنوعة؛ فأبى الرجل متذرعًا بأنه إنما قد أقامه بمناسبة عيد الجمهورية التركية، ولكنهم لم يحفلوا حجته ولم يأبهوا بقوله، وأنزلوا العلم عَنْوة وقوة، فما كان من الصيدليِّ إلا أن أبلغ الحادث إلى سفارته، فأحتج وزير تركيا المفوض رسميًّا على هذا الحادث الذي عده إهانة لعلم دولته، وطلب إجراء تحقيق مع المسئولين ترضية لكرامة راية بلاده، ولم يكن لرجال الإدارة من عذر عن ذلك الحادث أو شفيع، غير أنهم حسبوا ذلك العلم من الأعلام التي أقامها الناس استقبالًا لمصطفى الزعيم، وزينة يوم لقائه.
لقد كان جرم أولئك الطغاة بغير سلطانهم عظيمًا، فقد قضوا يومئذٍ على الحريات في جميع مظاهرها لكي يمنعوا الاتصال بين الأمة وزعيمها، إيهامًا لمواليهم ومصطنعيهم بأن الوفد قد انتهى، ومصطفى النحاس قد تلاشى، والأمة عادت شتيتًا متفرقًا؛ فكان ذلك كله منهم معوانًا على بروز كلمة الأمة، وسموِّ سلطان مصطفى على نفسها، ورفعة مكانه من ولائها وإخلاصها؛ لأن كل ما صنع لتحطيم الوفد يومئذٍ وزعامته عاد وسيلة لحفظ سلطانه، وبقاء كيانه، وازدياد يقين الشعب به وإيمانه، وثبات الزعامة عند ذروتها العالية.
وفي سبيل هذا الإيهام ذهب رئيس الوزارة يومئذٍ يطوف الأقاليم، وراح حكامها يصطنعون له الحفاوات اصطناعًا، ويلفقون له الاستقبالات تلفيقًا، بحملهم الخفراء والمشايخ و«الأنفار» العاملين في الأرض حشودًا إليه في القفاطين القُشُب، والثياب الجدد، والمظاهر المنحولة، والأزياء المستعارة، وكانوا يركبونهم القُطُرَ، ويشحنونهم في السيارات استياقًا إلى حضرة الوزير الذي استحال بهم «دون كيشوت» في قطعان البَهْم والأنعام، يحسبها كتائب وجيوشًا جرارة! ويمضي يشكرها على الحفاوة الباهرة …!
وكانت هذه الوسائل كلها فضيحة ومَعَرَّة ومهزلة؛ إذ ثبت يومئذٍ بالأدلة القاطعة أنها كانت مصنوعة مفتعلة، حتى لقد ضُبِطَت الاستمارات التي كانت الحشود بها مُرَحَّلة، كما ضُبِطَت الإشارات التي كانت متبادلة بين المدير وعماله، يلقي إليهم تعاليمه في كيفية إتقان التمثيل وإجادة المناظر، وإحسان السبك والإخراج والتحلية والتجميل والتلوين.
ولقد كانوا يحتالون على جلب الناس من صميم القرى وقلب الريف إلى خصم الوفد، بزعمهم أنهم إلى الوفد ورئيسه سائقون بهم! فلقد والله أعجزهم الوفد يومئذٍ من نفسه، فاستعانوا به عليه. وما كان الوفد ليهزم أو يتحطم بهذه السهولة، ولا بمثل تلك الوسيلة، بل ما كان مثل «الوفد» لينهدم بأية أداة ولا أية حيلة؛ فقد جمع الله «الوفد» ليكون في حكمته عقيدة بلد، وفكرة شعب، ورجاء شيخ وولد، وألبسها من معاني الحياة، ما اشتملت به في لغة الإنسانية، العواطف الرئيسية؛ فإذا قيل أمامك «الحب» عرفتَه، وإذا سمعت «البغض» أدركته، وحين يطرق أذنيك «الوفد» أحسستَ ما يراد ووعيتَه … ولقد جرى الوفد أول ما جرى حادثًا، ثم استحال بعد ذلك مُحدِثًا، ونزلَ إلى الدنيا خطرةَ إلهام، أوحت به نفسٌ إلى نفس، وفاض من صدر إلى صدر، ثم ما لبث في خطة الأقدار أن تحوَّلَ إلى فكرة عامة، قَرَّت في روح أمة، من يؤمن بها فقد آمن بقوة نفسه، ومن يكفرْ بها فقد خرج من الدنيا بغير إيمان!
ولقد أوقعت الأقدار في خاطر عدوها أنها ليست سوى صنع رجل بمفرده؛ فإن مضى من هذه الدنيا مضت، وإن قضى انقضت. ولو أن الحكمة الإلهية كانت تجري في مشيئتها على مشيئة الناس وإرادتهم، لتركت سعدًا على الأعقاب المقيمَ المعمِّرَ لها، العائشَ المستطيلَ به الدهر في ظلالها، ولكنها أبَتْ إلا أن يكون لخيبة أمل العدو درسان: درس له، ودرس لصنائعه؛ فجعلت لعمر سعد حدًّا، ولذكراه خُلْدًا، ومن ورائه وفدًا؛ فوارت في الثرى رُفَاته، وأشاعت روحه تغمر الحياة كلها بعد وفاته، فكرةً على الدهر باقية.
لقد كان موت سعد آية أخرى على روحانية هذه الفكرة، ولو كانت كما قال السفهاء حركة «مصطنعة» تطلب عَرَضًا، أو تريد خدعة، لكان القضاء عليها في تلك الفاجعة، ولكن سعدًا ظل يعيش بالروح في مصطفى وأصحاب مصطفى، وفي النفوس التي تتناجى بهم، والصدور التي تهتف بأسمائهم والوادي كله الذي يحس هذه الروحانية من فوقه مرفرفة، ومن حوله محيطة مكتنفة.
وقد حورب مصطفى كما رأيت أدنَأَ محاربة، واتُّهِمَ في أشرف خلاله ومناقبه، فخرج من ذلك منتصرًا؛ لأن من ورائه قَدَرًا كان له منتصرًا، ولولا روحانية هذه الفكرة، لنجح الأثَمَةُ الغَدَرَة، ولَمَا باءوا أبدًا من عدوانهم بنقمة تمازجها حسرات، ويخالطها حقد دفين.
ولم يكتفِ خصوم الوفد بما اقترفوا لمحاولة القضاء عليه ففشلوا، ولكنهم وقفوا من تعطيل الدستور بئس ما وقفوا، فزعموا أنهم عطَّلوه لينقذوه! فكانت تلك الحجة أضحوكة عهدهم كله، ونكتة الدور بجملته، ومضوا يرددونها في غير خجل، ويوحون إلى الصحف الاستعمارية تردادها في غير حياء، متهمين الأمة بأنها لا تصلح للحياة النيابية، وأن الشعب المصري لا يستحق دستوره، وأن الكثرة قد أفسدت النظام النيابي وشوهته تشويهًا!
وكان ذلك بهتانًا عظيمًا، فإن الحياة النيابية كانت خيرًا وبركة على البلاد، وكانت بداية برلماننا أروع البدايات؛ فقد تواتى لنا على فترة مستطيلة من الكفاح، فمضى فينا عزيزًا، وراح غاليًا؛ إذ بذلنا في سبيله دمًا زكيًّا. وهو وليد الثورة، ورث عنها صلابة عودها، واكتسب مواهبه من موهبتها، وأخذ حَميتهَ من حميتها؛ فطلع من نشأته قويًّا في مثل قوتها، فتناوله شيخ جليل برعايته وتربيته، وقد شاءت الحكمة الإلهية أن يُحْرَم ذلك الشيخ نعمة البُنوَّة الخاصة ليجدَها في البنوة العامة؛ لأنها جاءت به أبًا لمصر كلها، حتى لا يستحوذ ولد أو وِلدَانٌ قلائل على كل أبوته، ويحتكروا لأنفسهم حنانه ورعايته؛ فلم يلبث الشيخ أن اتخذ تلك الأمة الشابة ابنته، وجعل الوفد حفيده، وكذلك نشأ برلمان مصر في كفالة سعد فكان خير حفيد لأعظم جد.
لقد كان البرلمان شيئًا جديدًا على مصر، وكان المنتظر أن نكون نحن أيضًا جُدُدًا عليه، تبدهنا في مستهله صدمة المفاجأة، ويطغينا منه الظفرُ به، فنهجم على تناوله غاشمين، ونروح تحت قبته أغْفَالًا لم تصقلنا بعدُ التجربة، ولم تعلمنا الحوادث مطالبه، ولم تعوِّدنا تقاليدَه وآدابَه، ولو أن شيئًا من هذا وقع لنا أو فرط منا، لَمَا كان عجبًا، ولَمَا مضى مستنكرًا ولا مستغربًا؛ لأن أعرق الأمم الدستورية، وأقدم الشعوب عهدًا بالحياة النيابية، لا تزال إلى اليوم تخطئ، ولا تني تغلط وتَهِمُ، ولكن من رأوا سعدًا تحت القبة، وشهدوه فوق المنصة في دار الندوة، وهو الجديد على تلك الحياة، الأزهري الصميم، أطال المجلس في الصحن، والقعود في بهرة الرواق؛ فقد شهدوا رجلًا عجيبًا، ووجدوا حيالهم شخصية ممتازة موهوبة، رجلًا جاء من لَدُنِ الله حاملًا الروح البرلمانيَّ كله في أحناء صدره، وحذق أوضاعه بالفطرة، وأدرك أسراره بقوة الإلهام، وروعة الفكرة، ولقد كنا منه حيال رجل برلماني عريق، عجم الدساتير كلها، ووعَى نظم البرلمانات بجملتها، ومن جاءت به الأقدار لينشئ شيئًا جديدًا، يجيء جاهزًا له، مكتملًا من معانيه، مزودًا بعدته ومطالبه ومراميه؛ فلا يُعْوِزُه العلم والمعرفة، ولا يحتاج إلى الأستاذ ولا العريف؛ لأن الله حباه بالعبقرية، وقديمًا رأينا العبقريين مُحْدِثين في العلم، منشئين في المعرفة؛ لأن علم العبقرية لا يأتي دائمًا من طريق التجربة وحدها، وإنما يفيض من نبع أغْنَى، ومن مَعِينٍ ثَجَّاج مصدره في السماء، ومَصَبُّه في الأرض؛ ولأن المعرفة عند العظماء ليست اكتسابًا من طول المرانة، ولا أثرًا من حكم العادة، وإنما هي من مَفِيضِ النفس الملهَمَة القوية الدفَّاعة، الرهيبة السيل، الجليلة المنحَدَر.
ألا إن سر العبقرية عند الله، وقد جاءنا سعد في البرلمان بسحرها، ثم مضى إلى الله بذلك السر …
ومن فوق منصة الرياسة مضى الشيخ الجليل ينشئ الحفيد العزيز أحسن التنشئة، ويكفل له أصلح التربية السياسية، ويعوده السكون إلى خير الأوضاع وأمثل النظم، ويرسل من جلاله على النَدْوَة جلالًا، ويفيض عليها من كبار آماله لمصر آمالًا، ويحيل الشباب رجالًا.
وما لبثنا أن رأينا المجلس يفيض حياة، وشهدنا من قوة خطابة الشيخ المخلوق للمنابر خطباء في الحق أشداء، وأذهانًا جبارة تحل أعقد المسائل، ومَدَارِهَ مفوَّهين يصولون بمنطقهم في مجال المشاكل. ومن لم يتعلم فن الكلام المختار الجميل، على مشهد سعد ومسمع صوته، وسحر حميته، راح آخر الدهر أخرسَ مُحصرًا لا يجيد كلامًا.
ولقد نبغ في المجلس المُحدَث متكلمون، وقام فيه خطباء بارزون، ونهضت مع كل فرع من الفروع العامة لجان من الباحثين المدققين، وفَّوا المشروعات درسًا، وأحاطوا بالموضوعات التشريعية علمًا وبحثًا، وكانت مصر الكبيرة ممثلة حقًّا في مصر الصغيرة، والعالم كله ينظر إلينا، ويعجب من أمرنا، كيف التقطنا الفن، وحذقنا في أقصر فترة من الزمن ما لم يحذقه سوانا إلا على فترة بعيدة من الدهر.
لقد كان برلماننا عجيبًا من نشأته، كأنما لم يكفِ مصر العجيبة أن بدهت الدنيا بغرابة ماضيها، فجاء حاضرها أبدع وأغرب.
وقد رجع سعد بعد رحيله من هذه الدنيا إلى المجلس، روحًا مرفرفًا فوق المنصة، سائدًا أرجاء المجلس؛ فقد وضع الأساس، وبنى القاعدة، وحدَّد حدودَ الدفاع وحدود المعارضة، وعرف القوم واجبات المجلس ومقاصدَه؛ بل لقد أدى الرسالة، وأتم من حياته الغاية، ثم ترك لمن بعده المسير إلى النهاية.
وجاء مصطفى فجلس فوق المنصة، برلمانيًّا بالمنطق والحمية والحماسة، فيه من سعد كل روائحه، حاشدًا من الإخلاص للدستور كل دلائله، فكأنما غاب الشيخ بجثمانه ليحضر من حول مصطفى بروحه ووجدانه.
لقد أثبتنا ببرلماننا الحديث أننا أقبلُ الطبائع البشرية للحضارة، وأكدنا للعالم بأسره أننا نلابس الحياة الجديدة أجمل ملابسة، وأننا حساسو الفطرة، سليمو الذوق، مستوون على سوقنا، وأن برلماننا في المرحلة الأولى من عمره قد جمع من أدلة الحياة، وأُسُس النجاح، وحسن الاختيار له، وبراعة الأخذ بأوضاعه، ما لم يجتمع بعضه لبرلمان عريق قديم متراخي الأمد.
ولو رجع المرء إلى إحصاء حسنات الحكم النيابي في الفترات القصار التي قطعها، رغم الدسائس المحيطة به، والمكائد التي تنسج خيوطها في الظلام لإيذائه وتعويق سيره؛ ولو عاد إلى قوائم القوانين التي أقرها، والمشروعات الحيوية التي اقترحها أو وافق عليها أو ابتكرها، والمقترحات والرغبات التي ساق إلى الحكومة بها؛ لوجد أن البرلمان المصري، على حداثة نشأته، قد أثمر أطيب ثمراته، وأبدى أعجب نشاطه، وأثبت فضله وكفايته، ودلل على أن المصريين قد أوتوا الاستعداد الصالح له، والحذق لكل مطالبه ومقتضياته، والنزعات الطبيعية التي ترفع من مستواه لو أنه خُلِّيَ بينه وبين التقدم في طريقه غير محارَب، ومتابعة المسير بغير عائق ولا حائل ولا احتجاز.
وكان من الجرأة الغريبة أن الوزارة التي جعلت تطعن في الحياة النيابية، وتتهم البلاد بأنها لا تصلح لها، هي بذاتها التي لم تستطع أن تؤدي شيئًا لها في باب الإصلاح، ووجوه التحسين؛ حتى لقد وصفت يومئذٍ بالشيء الوحيد الذي تظاهرت بالعناية به أكثر من سواه، فقيل عنها يومئذٍ «وزارة البِرَك»، أو وزارة المستنقعات! لأن رئيسها جعل كل همه الهدم لما بنته النهضة المصرية من مطالعها، وأقام من ردم البِرَك كل مفاخره!
وفي قائمة الهدم خلال ذلك الحكم المطلق غير الصالح جرائم عدة وأنواع كثيرة متقاربة ومنفردة، حَسْبُنا أن نشير من جملتها إلى ما صنعت تلك الوزارة بالصحافة، فقد عطلتها بالعشرات، وضربت عليها أشد الحدود، ونكلت بأهلها أقسى نكال، ونثرت ذهب المُعِزِّ على الصنائع منها والمقربين نثرًا.
وصادرت حرية الاجتماعات، ولم يكفِها القانون القائم بصددها، وإنما ذهبت في تعديله إلى جعل البوليس قاضيًا يمنع ويفض الاجتماع كما يشاء، ويعاقب الداعي إليه إذا أراد؛ حتى لقد بلغ من تماديهم في مصادرة الاجتماعات أنه حين عقدت الوزارة اتفاقية النيل مع الإنكليز، تلك الاتفاقية الخطيرة الثابتة الضرر بمصر ومصالحها الحيوية، بل تلك الاتفاقية التي كانوا يروِّجون لها كل ترويج، طالب الناس في الأقاليم جميعًا بعقد اجتماعات لبحث هذه المسألة الخطيرة والتشاور في أمرها؛ فكان المنع باتًّا استنادًا إلى ذلك القانون الاستثنائي الشاذ الجديد.
ولقد كان البوليس أيضًا يستند إليه في فض اجتماعات أصحاب القضايا في مكاتب المحامين، فيهاجمها ويخرج الناس منها بالقوة والإكراه.
وحرموا على الموظفين — وهم من خيرة الأمة وصفوتها — أن يُعْنَوا بمصير بلادهم؛ إذ أدخلوا تعديلًا على نص المادة ١٤٤ من القانون المالي يقول: «يحظر على الموظفين والمستخدمين أن يشتركوا في اجتماعات سياسية، أو أن يبدوا علانية آراءً أو نزعات سياسية، وكل من يخالف ذلك يكون قابلًا للعزل!»
ولو أنها عمَّمت الأخذ بهذا التعديل المصنوع لهان الأمر بعض الشيء، ولكنها أحلت لقوم ما حرَّمت على الآخرين، وأطلقت أيدي موظفي الإدارة وغيرهم من الموظفين فأمعنوا في العمل السياسي والدعوة السياسية لها في الوقت الذي اضطهدت فيه عشرات من الموظفين لمجرد الشبهة والأخذ بالظن.
وما لبثت أن تفشت «المحسوبية» في الوظائف، وأغدقت العلاوات والترقيات الاستثنائية على الأنصار والأقارب والمزدلفين والمَلَقة واللاعبين بالأذناب؛ فأصبحت الوظائف بذلك وقفًا على قليل من الناس لا يستحقونها، ولكن يصيبونها غنائم وأسلابًا، ومن لم يظفر منهم بمنصب أو موضع بارز أجرت الوزارة عليه مالًا وفرًا من «المصروفات السرية» بغير حساب.
ولم يتورع ذلك العهد الغاشم الفاسد عن المساس بقدسية القضاء والتعريض بعدالته، غير حافل بطمأنينة الناس إلى عدالة القضاء، وحسن توزيعها عليهم بالسواء، ولا آبِهٍ بوجوب قيام الثقة بين القضاة والمتقاضين، بل راحت وزارة الحقانية تحاول السيطرة على ضمائر القضاة، فإذا لم يصادف حكم المحكمة هوى في نفس الوزير أو تعارَضَ وسياستَه، بادر إلى حرمان تلك المحكمة من سلطتها، إما بتشتيت أعضائها بطريق إداري، أو بتشريع خاص.
وفي ذلك يقول المجاهد الكبير الأستاذ مكرم عبيد (باشا) حين عرض له في بعض خطبه الفياضة الساحرة: «ولما صدر حكم مجلس التأديب في قضية أتعاب سيف الدين، استصدرت الوزارة في ثورة من الغضب قانونًا، هو صَيْحَةُ مُوجَع لا عملُ مُشرِّع، ولم يأخذها في حكم هيئة قضائية سامية مقدسة وَرَع، بل أعلنت صراحة أن الباعث على هذا التشريع هو صدور ذلك الحكم، ثم تهجمت عليه في مذكرتها التفسيرية قائلة: «وإذا كانت مقاليد المحاماة قد خفيت على مجلس التأديب وجبَ على الشارع إبداؤها، أو إذا التبستْ عليه وجب الإيضاح وإزالة اللبس.» وليتها اقتصرت على ذلك، بل ذهب بها الأمر إلى حد استباحة كرامة المجلس ونقل اختصاصه إلى محكمة أخرى، فكان ذلك في الحق امتهانًا لكرامة القضاء لا يغتفر. ولا ريب عندي في أنه لو صدر حكم مجلس التأديب في عهد دستوري لاستقالت الوزارة، أما في عهد الدكتاتورية والاستبداد، فالوزارة لا تستقيل … ولكنها تقيل المحكمة!»
وحاول ذلك العهد الغاشم أن تقوم القطيعة بين الشباب وزعيم بلادهم إمعانًا في الكيد له، والدأب على تجربة كل قُوَى السلطان الغاشم في فض الناس من حوله؛ فأخذت الوزارة الطلاب في مدارسهم بأقسى المَثُلات، وأجرت عليهم قانونًا استثنائيًّا يحرم عليهم التفكير في وطنهم، والحب لبلادهم، والحنان والعطف على قضية دستورهم واستقلالهم، متخذةً من كلمة الاشتغال «بالسياسة» متكأة تستند إليها في قمعهم وفصلهم من معاهدهم، وإشاعة الإرهاب في أوساطهم النقية الطاهرة.
لقد كان تحريم ما سموه يومئذٍ «سياسة» على شباب هذا البلد وأبنائه وورثة الحاضر وتركته، هو محاربة للوطنية باسم مستعار، وخلف ستار مهلهل لا يُخفِي ما وراءه؛ إذ كان الاشتغال بالوطن، والتفكير فيه، والخشية على مصيره، والتعلق بزعمائه، والولاء لقادته، ينبغي أن يسري في الدم ويتغذى منه الجسم، وتتأثر به الروح، ويشتعل في الخاطر، ويستحوذ على الفكر والعاطفة والوجدان.
لقد كان اشتغال الناس جميعًا، موظفين وشبابًا وطلابًا وعامة وخاصة على السواء، بما سموه «سياسة» تخويفًا وتشويهًا لأكبر المعاني وأشرف الأحاسيس في تلك العهود المظلمة، والأدوار الخطرة على المستقبل والمصير، هو الاشتغال فعلًا بمسألة الحياة أو الموت؛ لأن سكون الشعب إلى ما يراد به هو الجلوس في انتظار الفناء والرضى بالجمود والموت؛ وأما المجاهدة بكل قوى النفوس، والنضال المستمر بكل أدوار العمر — شباب وكهولة ومشيب — لتخليص الوطن من ظَلَمَته، وتنجية البلاد من محاولة اغتصابها أو الاستبداد بها؛ فهو العمل للحياة، واحترام الحياة، والرغبة الصادقة في الظفر بأشرف معاني الحياة!
لقد كان الاشتغال يومئذٍ «بالسياسة» — أو حب الوطن — هو في تلك العهود الغاشمة تلبية للغرائز المتأصلة في البشرية، ومجانبة الموت الاجتماعي، وابتغاء الحياة الحقيقية الملابسة للفطرة والخليقة والتكوين.
لقد أردنا أن نكون أحرارًا، وأن نسترد استقلالًا ودستورًا، فهل كان يصح أن يكون الاشتغال بالسياسة، أو بالتالي، الاشتغال بهذا المثل الأعلى، بل هذا المطلب الديني المقدس — لأنه مزيج من الدين، والإيمان به جزء من اعتناقه والحرص عليه — مقصورًا على فئة دون أخرى، محصورًا في طبقة دون طبقة؛ لكي يظل فريق من أهل البلاد مسترسلين مع أحلام خواطرهم، مدفونين مُغَيَّبِين في الصناعات والحرف يصيبون منها أرزاقهم، أو منشغلين بالتحصيل والتجهز للمستقبل، فإذا ما انتهوا منه أقبلوا يواجهون الحياة، فلا يجدون حيالهم غير وجود كالعدم، وحياة كالموت، ومستقبل مظلم مؤيس، تموت الآمال صرعى على جوانبه؟
لقد كان الاشتغال بالسياسة يومئذٍ وبهذا المعنى الصادق الذي يجب له، ينبغي أن يشملنا جميعًا بكل مراحل الأعمار، وأدوار الحياة، بل كان يجب أن نتوجه بمجموعنا التام نحو السياسة، نُعنَى بها عنايتنا بدرء أكبر الخطر، ومقاومة أشد الوباء، ومكافحة أدوى الداء؛ لأن الانصراف عنها كان يومئذٍ هو التسليم لعدونا، والنزول على الضيم الذي يراد بنا، والرضى الذليل المجرم باستعباد المستعبدين.
لمصلحة مَنْ كان يطلب إلى فئات من الناس ألَّا يشتغلوا بالسياسة في هذا البلد، إن لم يكن لمصلحة الذين كانوا يريدون القضاء عليه وإبقاءه محتلًّا يرسف في القيد إلى الأبد؟!
كل تعليم لدينا، وكل عمل في خدمة الحكومة عندنا، وكل شأن من شئوننا؛ كان يومئذٍ رهن رقابة عدونا، معرَّضًا لإيحائه السام الفاتك بقصد استئصال الشعور الوطني، أو الاشتغال بالسياسة من معاني وجودنا لنظل أبدًا منزوعي الغرائز، نعيش في قبور الذل راسفين.
ومَنْ — ليت شعري — كان أولى يومئذٍ بالدفاع عن مصيره والذود عن مستقبله، من جموع الشباب قبل الشيوخ لأنهم عدة كل كفاح، والذَّادةُ عن المُثُل العليا في كل عصر. وها هي ذي أمم الغرب تعتمد اليوم على شبابها؛ لأنهم حملة المصباح المقدس، وشعلة الحياة المتوارثة جيلًا بعد جيل.
بل في إنجلترا ذاتها التي اغتصبت حريتنا، ينادي الزعماء شبابها، ويهيب القادة بفتيانها أن هلموا في حماستكم الصادقة لتكونوا عدتنا، وتعالَوا بجمعكم مضحين في سبيل وطنكم مستشهدين.
هذا هو ما كان ينبغي أن يروح موقف الشباب في عهود الظلم والطغيان، وأدوار التجاريب الاستعمارية المتعاقبة لتحطيم الزعامة وتوهين الوفد وتشتيت الإجماع، وقد لزمه شبابنا أعلياء النفوس، وثبتوا فيه جياشي الأرواح، وكان لهم بعض الفضل في الفوز المبين الذي اكتسبته الأمة وزعامتها في معارك الدستور والاستقلال.
وقد يكون المنطق سليمًا اليوم، والنصيحة سديدة الآن، إذا قيل للشباب وقد اجتزنا تلك الأدوار، وتخلصنا من تلك العهود، واحتوانا عهد جديد نملك فيه مطلق الحق في التصرف في شئوننا، وبناء مجد وطننا: «لا عليكم اليوم أيها الشباب، قَرُّوا في معاهدكم، وانكمشوا في دراساتكم، ودعوا الزعامة تعمل متوخية الخير، وتشتغل ملتمسة الإصلاح والإحسان، وإنما أبقوا عدة لها متى تحتج إليها تجدها على حبل الذراع، ورصيدًا طيبًا موفورًا متى تلتمسه تُصبْهُ في مواضع الخطر ومطالب الجرأة والتضحية والشجاعة والإقدام».
ليكن الشباب اليوم في حراسة الدستور، وحماية الاستقلال، وصيانة قدس الزعامة ليكونوا بجانب مصطفى النحاس في كل موقف، وعند بادرة أي خطر، وعلى إيذان بالمجيء أيةَ ساعة تستحق المجيء، ولا يستمعَنَّ أحَدٌّ منهم إلى المشاءين بالوقيعة؛ فليس في البلد كله سياسي أفضل ولا أحسن ولا أنزه ولا أطيب ولا أكثر إخلاصًا من مصطفى النحاس لبلاده وأمته.
ولقد رأينا بولدوين يقول يومًا بسبيل واجب الشباب في بلاده: «إن فريقًا من الناس يريدون أن يفرضوا على الوطن أسلوبًا شاذًّا من الحكم، ينهض على الاستبداد والظلم والجبروت، ولكن في وسع الشباب — بإخائه الجليل وتعاونه الوطنيِّ الرفيع — أن يصون الديمقراطية التي ظفرنا بها تراث المهج والأرواح الغالية.»
فليكن هذا إذن موقف شبابنا، قوةً لا تنكر بجانب زعامتنا، تصون معها الحرية، وتعزز بجانبها الاستقلال.
وكان من أشنع مساوئ ذلك العهد ونُكْره، انتشار الجاسوسية في البلاد إلى حد يكاد يبلغ ما كانت عليه في تركيا على عهد السلاطين الغابرين. وكان الجواسيس ينبثون في المجامع، ويتعقبون الآمنين، ويتأثرون المخلصين والمنتمين إلى الوفد والمنتسبين من قريب أو بعيد، يتبعونهم كظلهم، ويتلصصون على جهرهم وسرهم، ويفترون على ذممهم، والدكتاتورية من ورائهم تتحرش بالأقوياء منهم، وتبطش بالضعفاء، وفوق هؤلاء وهؤلاء عين الله ناظرة شاهدة.
ولقد كان عدد الجواسيس الذين يحيطون بفندق سان استفانو أثناء إقامة دولة الرئيس الجليل فيه يبلغ ٨٧ من رجال البوليس السري، فإذا خرج دولته إلى النزهة في سيارته تبعته سيارة البوليس، وحدث مرة أن سيارة الرئيس غابت عن أنظارهم فراح المساكين يطوفون الشوارع ويدخلون البيوت، ويسألون بلهفةٍ هذا وذاك إذا كانت سيارة الرئيس قد ذهبت من هنا أو من هناك!
وكان الجواسيس فوق ذلك يلفقون التهم على الأبرياء أعجب تلفيق.
ومن بين القوانين الشواذ التي أصدرها ذلك العهد، قانون سموه «حماية الموظفين» لإغراء الموظفين، وبخاصة رجال الإدارة والموكلون بحفظ النظام والشُّرط الساهرون على حقوق الأفراد وحرياتهم، بإهدارها، والتنكيل بخصوم العهد والمستهدفين لنقمته، في غير خشية من عقاب أو خوف من جزاء أو زاجر من قانون، بل لقد كان اطمئنان الموظفين إلى قيامهم بنجوة من المؤاخذة إذا هم أسرفوا في التضييق على حريات الناس وإيذائهم، بمقتضى هذا القانون الشاذ المنافي لأبسط مبادئ العدالة والمساواة، باعثًا لفريق كبير منهم على الغلو في إيذاء خصوم العهد وضحاياه، ليكون ذلك جوازًا لهم إلى الترقية، ومطمعًا في الإغداق عليهم منحًا وعطاء.
لقد جعل ذلك القانون الهمجيُّ طبقة الموظفين فئة خاصة فوق الناس، ودون منال القانون؛ إذ قضى بألا يجوز رفع الدعوى العمومية على موظف مباشرة — وهو حق من حقوق الإنسان تقضي به مبادئ القانون — ما لم يُسأل في ذلك الوزير الذي يختص بأمره، أو بعبارة أخرى، المعتدِي عليه؛ ليكون الخصم والحكم معًا!
وبقوة هذا القانون الشاذ راح البوليس يدخل البيوت وينتهك حرماتها، ويقبض على الناس من غير وجه حق، ويعتدي على الشيوخ والنواب في الساحة الملكية، ويقسو في الضرب والإيذاء إلى حد إصابتهم بجروح وكسور خطيرة، فيرفعون الشكوى إلى النيابة العمومية، وهذه ترفعها إلى الوزارة، وهذه تودعها سلة المهملات …
لقد كان ذلك العهد عهد شراء الذمم، وإضاعة الأموال، عهد الإسراف والتبديد، عهد الإغراء والإفساد بكل ألوانه ونواحيه؛ حتى لقد كانت المصاريف السرية تنثر على الأنصار والمأجورين نثرًا، إلى أن بلغ رقمها حدًّا مخيفًا يدل على مبلغ الغلوِّ يومئذٍ والاستهانة والتفريط.
وفي هذا الباب من الإسراف في أموال الدولة ينبغي أن يدخل ما سمي يومئذٍ باتفاقيات النيل؛ فقد راح وزير ذلك العهد والحاكم بأمره يرتبط مع الإنكليز باتفاقيات مائية بالغة الخطر على مصير البلاد، ويقرهم على إنشاء خزان جبل أولياء؛ ليمكن لهم من قتل مصر بسلاح الماء.
- أولًا: بأن تلتزم مصر القرض العثماني المعقود سنة ١٨٥٥ بمبلغ مليون و٣٨٦ ألف جنيه.
- ثانيًا: أن تدفع للحكومة البريطانية ستمائة ألف جنيه تعويضًا عن البواخر الإنجليزية، التي غرقت أثناء الحرب وكانت تحمل فحمًا لمصر.
- ثالثًا: أن تدفع ٢٩٤ ألف جنيه للحكومة البريطانية من الرسوم التي حصَّلتها الجمارك المصرية على بعض مستوردات السلطة العسكرية البريطانية في أثناء الحرب؛ فمجموع ما تدفعه الحكومة المصرية مليونان ومائتا ألف جنيه.
وتناول الاتفاق أيضًا مبلغ مليون و٥٨٥ ألف جنيه تعويضًا لمصر من ألمانيا عن الخسائر التي تحملتها من جراء الحرب، فيكون مجموع المبالغ التي تناولها الاتفاق أربعة ملايين و١٦٥ ألف جنيه!
ولم ينسَ الوزراء أنفسهم، فرتبوا لكلٍّ منهم مرتبًا خاصًّا سموه التمثيل؛ فللرئيس خمسمائة جنيه، ولكل وزير ثلاثمائة جنيه، ما عدا وزير الخارجية الذي له من المصاريف السرية عشرة آلاف جنيه، هذا بينما الوزراء في عهد البرلمان قد أنقصوا من مرتباتهم ثلاثمائة جنيه لكلٍّ منهم.
وراح عمالهم في الريف يضربون على الناس إتاوات فادحة للاشتراك في حزبهم أو ناديهم؛ فكان عمال السلطان الغاشم يجمعون تلك الإتاوات بالسياط وأساليب التخويف والإرهاب والبطش الشديد.
وأقاموا رقابة على البريد، يفضون غُلُفَه، ويعبثون به، وينتزعون منه ما كانوا منه موجسين؛ فقد حدث أن أرسل الوفد نسخًا من نداء عام له في غلف كثيرة إلى أنصاره في سواد الريف، فجعلت إدارة البريد تصادر تلك الكتب غير آبهة بحرمات ولا قوانين.
وتناهوا في انتهاك الحركات إلى حد الانقضاض على الدور والمنازل يفتشونها، ويقتحمون الخدور في صميمها، ويغشونها بالليل كالسطاة واللصوص، ويروِّعون أهلها ترويعًا.
وفي اليوم الخامس عشر من شهر مارس سنة ١٩٢٩، وهو يوم الدستور، قدم إلى القاهرة من جميع أطراف البلاد جموع زاخرة من الناس يتقدمهم شيوخهم ونوابهم، مهرعين إلى ساحة عابدين، متوجهين إلى مليكهم ليرفع عنهم هذا الظلم الذي أصابهم، ويرد إليهم الدستور الذي آمنوا به. وكانت الوزارة قد أعدت لهذا اليوم عدته، وأجلَبَتْ عليها بخيلها ورجلها وقواتها المسلحة.
وفي اليوم المرتقب كانت القاهرة وكأنها في حالة حصار تموج بقوات البوليس والجيش مشاةً وركبانًا، تسلحهم العصي الغليظة والبنادق والمسدسات، وتقيهم الدروع والخوذات.
وبينما القوة تتحفز للهجوم وتتخذ العدة لاكتساح كل من يقف في سبيلها، وبينما الخيول الصافنات وقد ملت الانتظار تعلن شوقها إلى حومة الوغى بصهيلها … إذا بجيوش العدوِّ مقبلة؛ وا عجباه! فلا عصي معها تُتَّقَى، ولا سيوف يُخشَى من صليلها، عزلاء من كل سلاح إلا أنها توكلت على الله في نضالها، تسير الهُوَيْنا في سكون وثبات، وجلال الحق يمشي في رحالها، وعلى رأسها شيوخ واهنون يقودونها إلى استشهادها، ليت شعري كيف دبت القوة في أوصالها!
ها هما الجيشان يتلاحمان، ها هي ذي السماء تبكي رحمة على الأبرياء، وقد انهالت عليهم القوة بعصيها ونصالها، ها هم أولاء الشيوخ الوقورون يسقطون على الأرض جاثمين، فتختلط دماؤهم بأوحالها، وها هي ذي النقالات تنقل الجرحى لا إلى المستشفيات يعالجون فيها، بل إلى السجون يُكَبَّلون في أغلالها.
أيها الشيوخ والنواب:
لقد استحققتم ببطولتكم تقدير الوطن …
كان ذلك موقفًا تاريخيًّا جليلًا يغمر ذلك العهد الغاشم كله بجلاله، إزاء خزيه هو وعاره وسَفَاله؛ وقد كان هذا آخر مسمار دُقَّ في نعشه، وأشنع جرم ختم به سلسلة جرائمه وآثامه، والفعلة الشنعاء التي لطخت بعارها آخر أيامه كأول أيامه.
وكان فخار العقيدة الوفدية أنها صمدت لذلك كله صمدة إيمان، واصطبرت لكل تلك الآثام والآلام اصطبار قوة لا صبر ضعف، وخاضتها جميعًا مَخَاض جلد واحتمال لا مخاض وهن ويأس؛ فتم لها بفضل ذلك كله النصر، واستكمل لها الفوز، واستعادت مكانها أروع مما كان؛ إذ اكتسبت في المعركة قوة الاحتمال، ومناعة الحصن، واستحكام المواقع، وحصانة البنيان.
وقد لبث ذلك العهد خمسة عشر شهرًا؛ فكان مكثه واستطالته، وازدحام الجرائم خلاله، واحتشاد الآثام والمحن والجهاد حياله، وتتابع الجهاد وجملة آلامه وأهواله، ثم انتهاؤه بعد ذلك جميعًا بخزيه وخيبته وفشله؛ دليلًا قاطعًا على أن الوفد لا يتحطم، والفكرة لا تنهدم، والمبادئ في مكان مكين.
لقد كان النصر حليف الزعامة في كل تجاريب ذلك العهد الغاشم ونكباته؛ فقد ظل مصطفى النحاس قائمًا — كما يقول لورد لويد في كتابه — على صهوة جواده، يُشْرِف على الموقف، ويجول في الميدان، ويوجه الجموع، وينظم الصفوف، ويحتل التَّلَعَات، ويقتحم المخاطر، ولا يتردد عن المهاجمة بنفسه، ولا يتراخى عن التقدم بذاته، وهو بين ذلك جميعًا مؤمن بأن النجاح له، والفوز نهاية جهاده، كلما صدمته صادمة ابتسم لها، وسخر منها؛ لأنها لم تكن لتفعل في نفسه غير هزة كالكهرباء، يسري في أثرها نشاط غريب وروح مُنْعش، وحركة جديدة، وشعور قويٌّ غالب ينبعث غير لاوٍ على شيء، ويطفر مستبقًا ليسترد الموضع ويستعيد الميدان.
كل الفضل يومئذٍ كان للروح المعنوي في صفوف المجاهدين، وكل الأصل في هذا الروح لحكمة الزعامة وسداد القيادة؛ فقد عرف مصطفى النحاس يومئذٍ كيف يمسك بهذا الروح الخفي اللطيف الساري السارب في يمينه، يوجهه أحكم التوجيه، وينفخ فيه من روحه هو وإيمانه، ويطلقه في أحسن ميادينه، فقد حورب هو بالذات حربًا مجرمة نكراء، فكان يتلقى السهام غير منزوٍ ولا منكمش ولا مُجْفِل، وكان أبدًا الثابت الجلد الصبور المطمئن؛ ومن ثم راح القدوة المثلى لصفوف أعوانه، والأسوة الحسنة لجموع المجاهدين تحت عَلَمه وفي ميدانه، كلما تعبوا وجدوه حيالهم غير مُتْعَب فنسْوا تعبهم، وكلما أجهدتهم المعارك نظروا إليه بإعجاب وأكبروا إيمانه ومجاهدته، فعادوا يرتفعون فوق أنفسهم خفافًا مستَجِمِّين ناشطين.
بني وطني:
لا أدري أيَّ يَوْمَيْكم أحقُّ بشكري، وأمْتَعُ لفكري، وأوْلَى بأن ينفِّسَ عن صدري: أيوم حزنكم لتشهيرهم بالأمة، يوم اتهامهم خليفة سعد؟ أم يوم فرحكم بإعلان البراءة، وهو حكم على خصوم الوفد؟! … وأنا في كليهما خادم هذه الأمة الكريمة المغمور بعطفها، المرموق بحبها، فلقد والله أكبرتُ حزنكم، كما أكبرتُ فرحكم. فلله دَرُّكُم! وهو القادر على أن يتولى عني جزاءكم، فلنتوجه جميعًا بالشكر لأحكم الحاكمين الذي برأ حياتنا النيابية من كيد الكائدين، وحفظها من رجوم الشياطين.
أيها المواطنون الأعزاء:
لقد ناديتكم يوم الاتهام فما كَذَبْتُكُم، ووعدتكم فما أخلفتكم، واليوم ها أنتم الأَعْلَونَ بحمد الله، فاسجدوا لله واشكروا.
كان خصومنا بالأمس يرموننا بأشنع التهم، فرحين بما دبروه للأمة من وراء ستار. فما هي إلا أن طلعت العدالةُ في وضح النهار، فسجلت لزعمائكم في حكمها، بلفظ صريح، «الشفقة، والرفق، والقيامَ بالواجب، والنزاهةَ، والصلابة في الحق»، ودَمَغَتْ الخصوم بمِيسم «السرقة، والتزوير، والتلفيق، واستخدام الأشرار»، وخرجت الحياةُ النيابية من هذه الغمرة أصلب عودًا، وأكثر جنودًا، وأرفَعَ بنودًا، وأزْكى شهودًا، وكان سعيها محمودًا.
ولقد علمتم أن زعماءكم عند حسن ظنكم؛ فافخروا بقضائكم النزيه، وباهوا به الأمم، واهنَئُوا برجال المحاماة منكم، فهم فيكم عَلَم؛ واشكروا معي تلك الشعوب النبيلة الكريمة التي تحزن لحزنكم، وتفرح لفرحكم، وتتطلع باهتمام إلى أخباركم وأحوالكم؛ لأن بها من حب الحرية ما بكم، وتشفق على نفسها مما يصنعه الخصوم في سبيلكم. كما نشكر الغربيين المحترمين الذين دفعهم شعورهم بالعدل وتقديس الحرية إلى مجاملتنا عند اتهامنا، وتهنئتنا بكلمة القضاء فينا. وأخيرًا فلنشكر كل لسان تحرك بالصدق، وكل قلم انتصر للحق، وكل قلب خفق للعدل، والله ولينا ونعم النصير.
لقد جاء هذا الحكم ضربة في الصميم من ذلك العهد الغاشم وأيامه النكر، وقد اعترف لورد لويد في كتابه بذلك، فقال: «وقد كان من سوء الحظ أن أحد التدابير التي اتخذت في أوائل السنة الجديدة كان القرار بإحالة النحاس باشا وزميليه (ويصا واصف بك وجعفر فخري بك) على مجلس التأديب بشأن سلوكهم غير اللائق بصناعتهم في قضية سيف الدين؛ إذ كان كل ما يمكن أن يرجى من تصرف كهذا هو الحكم «بالتوبيخ»، وهو لا يقدم ولا يؤخر شيئًا، بينما يروح حكم البراءة — كما حصل فعلًا — انتصارًا للوفد وضربة عنيفة لهيبة الحكومة وسمعتها؛ فقد جمعت القلوب حول النحاس باشا، وضمت شتات العطف نحوه، وسهلت تصوير الحكومة في صورة الطغيان ومقاومة الشعور العام.»
وقد وقعت هذه الضربة الموجعة المحُطِّمة في وقت كان الحكم المطلق فيه قد تخاذل، وبدأ يحس الفشل، وينزع إلى التردد من فرط الحيرة والكمد لتصدمه حركة أخرى، أو تفسد عليه ما بقيَ من أمره، وهي حركة واسعة النطاق كان يراد منها «غربلة» الحكام في الأقاليم بإحالة فريق كبير منهم على المعاش بغير مبرر ظاهر ولا شفيع مقبول.
وبدأت سياسة القصر يومئذٍ — إذ أدركت انحراف التيار نحو منعطف الخيبة والفشل — تتراخى وتحتجز معونتها، وتمسك تأييدها الذي كانت من قبل سخية به.
وبرز كذلك عاملٌ خارجي فأعان على نجاة البلاد من ذلك العهد الأليم، وهو سقوط وزارة المحافظين في شهر مايو من سنة ١٩٢٩، وقيام حكومة العمال مكانها؛ فلم تلبث الحكومة الجديدة في بريطانيا أن شعرت بأن السياسة القديمة في مصر — سياسة المحافظين من قبلها — قد حان أن تتبدل؛ لأن ممثلها في مصر — وهو لورد لويد — قد أسرف في التطبيق أسوأ الإسراف، حتى لقد ذهب المرحوم المستر هندرسن وزير الخارجية الإنكليزية في حكومة العمال في وصف تلك السياسة إلى أنها «تيار هائج مائج، كثيرًا ما يروح كدِرًا لا يهدأ يومًا ولا تصفو صفحته ولا يروق أديمه!»
وكان الملك فؤاد يومئذٍ في برلين في زيارة رسمية للرئيس هندنبرج، وكان مزمعًا السفر من ألمانيا إلى بلاد أخرى في أوروبا لزيارات رسمية أخرى، على أن يقدم إلى إنجلترا بصفة غير رسمية في النصف الثاني من شهر يوليو، وكانت النية كذلك أن يكون محمد محمود باشا رئيس الوزارة في إنجلترا عند وصول جلالته إليها، وأن يكون لورد لويد أيضًا هناك بإجازته الصيفية في ذلك الشهر بالذات.
ولم يكد لورد لويد يصل إلى لندن ويجتمع بالمستر هندرسن حتى ذاع النبأ بأن لويد قد أقيل من منصبه؛ وتبَيَّن فيما بعد من كتاب لويد نفسه «مصر من عهد كرومر» أن المستر هندرسن تخلص منه بذوق، وأوعز إليه من طرف خفيٍّ لطيف بتقديم استقالته. وقد حاول لويد بعد هذا أن يثير ضجة حول زحزحته عن مكانه، ولكن ذلك كله لم يستمع أحد له، وأذن الله لمصر بالخلاص من ذلك الاستعماري المتعجرف النزَّاع إلى خيلاء النفوذ وزهو السلطان.
لقد تخلصت مصر يومئذٍ من سياسي صغير، دُفِعَ به إلى تمثيل أمة كبيرة عند شعب عاقل رزين؛ فخرج بمعاني التمثيل السياسيِّ إلى معاني «التمثيل» المسرحيِّ، ففشل فيهما معًا؛ لأنه لم يحذق أفانين السياسة وأساليبها، وكانت تلك المظاهر التي تراءى بها هي ورق «التين» الذي راح يخصف به حتى لا يبدو عاريًا من البراعة، مجردًا من الحذق والافتنان.
لقد كان كل ما في لورد لويد صنعة وقالبًا وشكلًا، وكان مقدورها في مشيئة الطبيعة الفشل؛ لأن الشخصية الصادقة هي أروع مظهر في الطبيعة، ونصيبها في العالم هو الفوز المنَظَّم؛ وأما الشخصية الكاذبة، فإن نصيبها في الدنيا هو الهزيمة غير المنظمة.
لقد كان لويد في أقيسة الرجولة رجلًا اعتياديًّا، لم تؤتِهِ الطبيعة نبوغًا، وإنما أعطاه حزبه شيئًا يشبه النبوغ، ومن الناس كثيرٌ هم من صُنْعِ الناس، ترفعهم الكمية ولا يرفعهم النوع؛ فإذا ارتفعوا على سطح الدنيا، لم يلبثوا عليها إلا كما تلبث الرغوة المُزبِدَةُ على صفحة الماء المتدفع، والموج المصطخب، يمضي جُفَاء، ذاهبًا في الحال هَبَاء.
نشأ لورد لويد في المحافظين، فرآه قومه غنيًّا لم يبدد جِدَّتَهُ في سباق الخيل، ولم يتلاشَ في أسواق المراهنات، ومجال المضاربات، والأندية ومواطن الشهوات؛ فقالوا نجربه في معنى من معاني الجد؛ لكيلا يفسد أو يتبلد، وحسبوه اكتشافًا جديدًا في قومه، وشبابًا طيبًا وسط شيخوختهم؛ فراحوا يدفعونه إلى المناصب دفعًا، أملًا منهم وطمعًا، وأعطته المناصب رُوَاءها وقوَّتها ولكنه لم يعطها شيئًا من روائه هو وقوته؛ وكذلك ارتفع عليها ليسقط بها، إذ لا شيء في ذاته يسنده، ولا قوام له من نفسه يؤيده، فاستسلم للمنصب يجذبه ويشده؛ لأن المنصب هو المغناطيس الذي يجذب الإبرة والمسمار، وهو محك المواهب والقِيَمِ والأقدار.
لقد كان لورد لويد رجلًا ماديًّا، سر الحياة كلها عنده في المادة الظاهرة، لا يتغلغل إلى ما وراءها، ولا يعرف قوة الروح وصنعها وبناءها. ولم يكن لورد لويد يفهم سر الشرق؛ لأنه قنع من عمله بالسطوح والأغشية، ولم ينفذ إلى أعماق الشرق المستترة الخفية؛ فظن مصر التي أعطت من قديم الزمان ومنحت، صابرة راضية بالحرمان، من بعض ما أفادت به ووهبت؛ وحسب أن مصر في صغرها، ليست كإنجلترا في كبرها، كأن شريعة الحياة تحد بحدود الأرض، وتقاس بالمتر المربع واليارد، وكأن سيدة ما وراء البحار ينبغي أن تعيش، وسيدة ما وراء التاريخ ينبغي أن تموت، وكأن الحرية حق يعطى بشروط، أو يسلب بغير شروط، وهو تخريج في فلسفة المستعمرين تضحك منه الحياة نفسها، وتستهين به؛ لأنه مبدأ مفتون بالقوة، وجد هوًى من نفس لويد ومنزعه، فاعتنقه ليختنق به، ولزمه ليكون لزامًا عليه، وجربه في الهند تجربة، وأحدث به في مصر نكبة، ثم خرج منه بأفضح الخيبة والخذلان …
وتلقى الناس في مصر أنباء ما صنع المستر هندرسن وزير الخارجية البريطانية في حكومة العمال يومئذٍ باللورد لويد، إذ حمله على تقديم استقالته بفرح بالغ، وابتهاج ظاهر؛ إذ أحسوا أنهم قد تخلصوا من خصم مبين، وعدو سريع البادرة، أهوج، يغلو في استعماريته؛ وبدا لهم كذلك أنه علامة حسنة على قرب تغيير السياسة البريطانية في البلاد، ودنوِّ حياة الوزارة ذات اليد الحديدية التي فشلت في التجربة التي استعين بها عليها، وباءت مما حاولته بخُسْر شديد.
وما لبث أن أعلن تعيين سياسي آخر في منصب المندوب السامي البريطاني في مصر، وهو سير برسي لورين، فتساءل الناس من يكون هذا المندوب الجديد، وهل سيبتلون منه بلويد آخر، أو هو سياسي من طراز مخالف له متباين معه، فقيل لهم إنه من «الموظفين» في سلك التمثيل السياسي، أو من «الدبلوماسيين» الذين حذقوا الصناعة، واكتسبوا فيها — بحكم التجربة — المرانة والليونة والاستعداد؛ فلم يشأ الناس أن يحكموا حتى يروا عيانًا ما هو صانع، ويشهدوا بأنفسهم ما سوف تحدثه على يديه الأيام.
وما كاد صيف ذلك العام ينتهي، حتى قدم المندوب الجديد إلى مصر ليتسلم مقاليد منصبه، كما تسامع الناس بأن هناك مقترحات قد عرضت من المستر هندرسن بسبيل تسوية العلاقات بين مصر وإنكلترا، وحملها محمد محمود باشا إلى البلاد ليعرضها على الأمة «ممثلة» في برلمان ينتخب انتخابًا حرًّا لا زيف فيه لمشيئة الشعب وإرادة البلاد.
لقد آذنت يومئذٍ على هذه الصورة خاتمة حياة الحكم المطلق، وحَقَّت على الاستبداد كلمة الموت، وبدت تباشير الحياة للدستور والنظام النيابي قبل أن ينتهي نصف المدة التي حددها صاحب هذه المأساة في سبيل القضاء على الوفد، والإتيان بخلق جديد واستخلاف قوم آخرين.
وعاد صاحب «اليد الحديدية» إلى مصر يحمل تلك المقترحات وبوده لو لم يحملها؛ لأنها شهادة وفاة عهده، ووثيقة نهاية حكمه وانقضاء أمده؛ فسمي يومئذٍ «ساعي البريد»، إشارة إلى أنه لم يكن له في تلك المقترحات غير وِزْر حملها، وإن راح هو يومئذٍ يدَّعي أنه قد تفاوض فيها وتناقش، وباحث واجتهد، وسجل جهده في كتاب أخضر ليكون خير شهيد.
عاد صاحب اليد الحديدية محطوم النفس، متخاذلًا في أعماق روحه، وإن ظل مع ذلك في الظاهر، لتغطية الوجه، يتراءى بأنه لا يزال القوي العزيز.
وما لبث عقب انحداره إلى مصر حاملًا تلك المقترحات في حقيبته أن راح هو وجماعته يحاولون تعديل قانون الانتخاب. وهو في ذلك يقول: «أنا وحدي» الذي أملك هذا التعديل، ولكن الإنكليز كانوا في الواقع يريدون الاتفاق مع الشعب لا مع فرد مثله قليل الأسناد محدود الأعوان؛ فلم يمكنوه من تعديل القانون، فمكث شهرًا أو يزيد وهو يتلاعب حينًا ويتذلل حينًا ويتحمل سائر صنوف الهوان، وتلقى إليه السخرية من الصحف مختلفة الألوان، فلا يهدر ولا يزمجر، ولا يحس غضبًا ولا يشعر، منتظرًا كلمة القَدَر من شفتي خصمه مصطفى الذي تغلب عليه بقوة الحق، وكفاح النفس، ونضال الروح، في معارك المبادئ والإيمان واليقين.
لقد انتصرت المبادئ في شخص مصطفى النحاس وقومه وصحبه وأنصاره؛ فقد كانت المبادئ هي المسيطرة على كل شيء فيه، الموهوبة منه كل حياته … وقد ترك مصطفى شأن عاطفته، وأخلد إلى عاطفة الكثرة التي وجهها فأطاعته، والجموع الساحقة التي وكلته؛ فلم يَعُدْ يعرف له صحابًا ولا خصومًا إلا صحابه في المبدأ، وخصومه في العقيدة، وقد يُعَادَى في ذات نفسه، ويرتع الشانئون الحاقدون في لحمه وشخصيته، ولكنه يظل أبدًا المنكر لحق نفسه، المجاهر بحق الذين وكلوه، وأقاموه حيث أرادوه، منصرفًا عن مطالب حياته إلى مطالب مبادئه وفكرته، مقيمًا نفسه الوسيلة المجردة من هواها إلى بلوغ غاية أمته.
لقد قال بسمارك — منشئ ألمانيا في القرن التاسع عشر وزعيمها الأوحد: «إني لأخلع عنِّي الحياة كما أخلع الثوب القذر إذا أنا وجدتني لحظة ما هاويًا إلى درك الذين يعيشون لأنفسهم ويحيون لذواتهم!»
ذلك صوت المبادئ المتمكنة من قلوب أهلها: تجردهم من أنفسهم وتصَفِّي من الشوائب طباعهم، لا تنزغ بهم نزغات الهوى فيخاصمون للأحقاد، أو يحاربون محاربة الأفراد للأفراد؛ لأنهم آثروا مصير الأمة على مصائرهم، واستحالوا طلاب الحق يؤثرونه على ذواتهم، فإن أصابوه تركوا الباطل يموت من كمده، ويختم حياته بيده.
لقد منيت حياتنا السياسية بقوم يحسبون أنفسهم في قضية البلاد «عمليين»، وهم والله كذلك في هذه العملية الشخصية التي حسابُها يسيرٌ في حقيقة نفسها، وحساب البلاد والشعب والوطن عسير عليها. ومبادئنا عند هؤلاء خيال بعيد الأفق، وهم في ذلك الجهلة والكذبة في دعواهم؛ لأن الروحانية ليست خيالًا، وإن تراءت كذلك في أعينهم وموازينهم، وما السياسيُّ الصادق إلا رجل يغَذِّي الحقيقة والخيال معًا، وإنَّ أنفع الأخيلة ما جاء عن طريق الروح، ولم يأتِ عن طريق الخداع والضلالة، وما خواطرنا وأناشيدنا ومزامير نهضتنا إلا لغة الروح، وترجمان الخيال، ولسان العاطفة؛ لأن لطلاب الحرية المسلوبة منهم لغة غير لغة الناس؛ لأنها تنبعث من أعماق النفوس، وتنبع من أسمى منابع الإحساس، وأعلى مصادر الوجود، وكل ما عداها من زمان أرسطو إلى أيام «بوانكاريه» من الفلسفات والنظريات محشود في بضعة كتب، قائم في مجموعة محدودة من المؤلفات والأسفار. وإنما السؤال الأخطر، والمشكل الأكبر، هو أي المبادئ أحقُّ بأن نَدِين بها، وأي العقائد السياسية نحن باعتناقها خلقاء؟!
كل فكرة في الحياة إنما تُوزَنُ بقيمة المُوكَّل بتنفيذها، والرجل الذي يدفعها من ورائها. والسياسيُّ الصادق هو الذي يكشف أنصاره على الفكرة، وصحابته في المبدأ، ويجمع إليه أكفأ القادرين على الاشتغال بها، والصالحين للذود عنها. ومن هنا يتجلى الفارق بين السياسي الذي عينته الأقدارُ لمكانه، وجاءت به الطبيعةُ لِيَشْغَلَ في الدنيا موضعه، وفي رأس الحَشدِ مطلَعَه، وبين الساسة «المحترفين» ممن اتخذوها صنعة، وابتذلوها مهنة؛ فإن الأنصار والصَّحْبَ والأعوان يجيئون إليه هو طُلقاءَ الإرادة، طوَّاعين للمبدأ، مرحبين بالعقيدة؛ لأنها أصابت هوى نفوسهم، واتحدت مع رغبة صدورهم ونزعة طباعهم؛ وأما أولئك فلا يجيء أحد إليهم إلا مَسُوقًا بزخارف المادية، مدفوعًا بمفاتن النفس الأثِرَة، وذلكم — أي السياسي الصادق المخلص — بعيدُ مطارح الرأي في الناس، يقيسهم بمقدار مبادئهم، ومبلغ إنكارهم لأنفسهم، وأولئك يقعون على الأنصار بالإغراء، ويجمعون الضعاف بالملق والإطراء، والمصانعة والدهاء، وعندهم أن المرء إذا أراد أن يكون سياسيًّا لبقًا، وداهية حاذقًا، فليكن كاذبًا مدلسًا، خوَّانًا ممالئًا ملابسًا، ولا بأس من أن يناقض اليوم ما قاله أمس؛ فإن فَعَلَ ذلك كله كان الناجح الموفَّق في سياسته، كأنما يصح في الأذهان أن يقوم بجانب الحساب المفهوم على قواعده الأربع الأولية، حيثُ يروح الحاصل هو مجموع وحدات معينة، وأرقام ثابتة، حسابٌ رياضيٌّ آخر، يختلط فيه الجمع بالطرح، وتتشابه فيه الخسارة والربح، وتتمازج خلاله الزيادة والنقصان، وهو تخريج سياسي لا يصح إلا في منطق الساسة الكذبة، وهم أشباه الحواة المهرجين، واللاعبين السيمائيين، يخدعون وهم المخدوعون، ويُمَوِّهون على النظر وهم على أنفسهم يموهون.
أما السياسيُّ الصادق الوفي لمبادئه، فذلكم رجل يُجْرِي قواعد العلم على عقيدته، ويعلم أن كل الذرات الدقائق خاضعة لقانون الجاذبية، وأن كل الحقائق كذلك في عالم الأخلاق متصلة بقانون العلة والمعلول، وفي ذلك يقول كافور الإيطالي: «إن كل المسائل السياسية أو الخلقية هي أشبه الأشياء بقوس تقاس كل دقيقة من دقائقه بأدق الأقيسة وأضبط الحساب»، ومن ثَمَّ كانت عناية الزعيم بتوخي الدقة المتناهية في اختيار رجاله والأمناء على فكرته، والحفاظ لمبادئه؛ بل من هنا قام الإيمانُ الراسخ بأن الخطأ في ميزان الشخصيات قد يفسد عليه حكمه، ويلوي عليه قصده، فلا صداقة عند الزعامة لغير الأكفاء لعقيدتها، ولا مودة إلا بينها وبين النفس المؤمنة بغايتها أصدق الإيمان.
لقد انتصرت المبادئ في تلك التجربة التي أريد بها تحطيم الزعامة، وتوهين سلطان الوفد، إذ أعجزت الأمة أصحابها بصبرها العجيب، وثباتها الجليل، كما أعجزتهم زعامة مصطفى النحاس بصبره الرفيع، ومقاومته البالغة، وحكمته البارزة في قيادة الجماهير، وتغذيته للروح المعنويِّ في الصفوف، وشجاعته الرائعة التي قدر الله لها أن تخرج من كل المعارك بانتصار بعد انتصار.
قوتان لا تنهزمان: إرادة أمة، وإيمان زعيم …