الصفات والخواص المشاهدة في الزعامة والزعماء
وينبغي أن تتوافر في الزعامة وأهلها من عظماء الرجال وقادة الجماعات صفات معينة، وخواص نفسية كثيرة، ولسنا نعني بوجوب توافرها أن كل زعيم يتحتم أن تجتمع لديه بجملتها، ولا أن كل نوع من أنواع الزعامة في الناس يقتضي احتشاد هذه الصفات لديه جميعًا؛ وإنما نحن فيما نورده في هذا الباب من ذلك مستقرئون تراجم العظماء، مثبتون الصفات والمواهب التي ظهرت في خلق كثير من الزعماء، مستدركون هذا الاستدراك لخطأ الذهاب إلى التعميم؛ لأن الواقع هو أن بعض ضروب الزعامة قد يحتاج إلى هذه الصفات، والبعض الآخر قد لا يكون بحاجة إلى هذه الخواص مجتمعة متوافرة.
لقد دلت دراسة سر الزعامة الناجحة على أن التفوق الشخصي ينبغي أن يكون من لوازمه وبواعثه وأسبابه، توافر مقدار غير اعتيادي من النشاط البدني وقوة الأعصاب، فإن الذين ينهضون نهوضًا غير مألوف فوق سواد الناس وجمهرة الخلق يُشَاهَدُون عادة أملك للانبعاث، وأقوى جسومًا، وأحضر نشاطًا، وأمتن أعصابًا، وأعظم جلدًا من الأفراد الاعتياديين؛ إذ ثبت أن المقدرة على التأثير في الناس راجعة إلى المقدار الذي يملكه الزعيم من هذه الصفة؛ فإن النشاط يحفز النشاط، والقوة تلهم القوة، وليست حماسة الجماهير إلا وليدة المقدرة الغزيرة في زعمائهم، والنشاط الحي الزاخر عند قادتهم، وكل إنسان منا بلا ريب قد أدرك من سير حياته كيف أن تأثير عمله ومقدرته على الدأب، واسترواحه إلى الكد والمتابعة، مرتبطٌ بحالته العصبية، ومبلغ قوته ومدخر نشاطه، وأن التراخي وسرعة الشعور بالتعب ووشيك الإعياء من أقل الجهد وترك العمل يسير وئيدًا على هونه — هي أعْدَى أعداء الزعامة، وصفات معطلة لها، وأعراض تنفي وجودها، وترسل عليها أقتم الظلال والألوان.
وينبغي ألا ننسى أن من أهم مقتضيات الزعامة في تأدية دورها كمنشط للجماعة، وملهم القوة للأنصار والأتباع، ومستثير للحماسة ومشعل للنفوس، أن تكسب نشاطها ألوانًا من الحمية، وتلبسه ثوبًا من القوة والحيوية، ويحسن لهذا بالزعيم أن يُعْنَى بمظهره الشخصي؛ ليكون مظهره توكيدًا لقوته وشدة بأسه ومراسه، والنشاط الزاخر في كيانه، ومما يساعد على إثارة الحماسة في نفوس الناس أن يبدو زعيمهم مليئًا بالقوة، مُتْرَعًا بالنشاط، مفعمًا روحًا وشبابًا وحياةً.
ولا ينقص من شأن الزعيم وقدره أن يحيط قضيته التي يجاهد لها ببعض الضوضاء والحركة والفتون؛ لكي تبدو ساحرة لافتة الأنظار مثيرة النشاط والحمية والوقدة في نفوس المقودين؛ لأن الناس إنما يرجون ذلك منه ويتوقعونه ويتلقونه بفرح وانبعاث معه وقبول.
وليس معنى هذا بلا شك أن يستخدم صفاته الشخصية ومواهبه المغناطيسية الجذابة لخدمة نفسه، واكتساب الإعجاب بشخصه، وإنما معناه أن يجعل نفسه رمزًا لمثله الأعلى وقضيته.
ولا خفاء في أن الجماهير تحب أن تقاد، وأن قيادة الزعيم لهم لتبعث في أعماقهم إحساسًا ما كان لينبعث وحده، لولا هذا العامل الخارجيُّ الكبير السلطان، وإنهم ليجدون في متابعة زعامتهم التعبير المقنع الكافي لما كان يعمل في نفوسهم، ولا يجد أداة لذلك التعبير، فلا يلبثون أن يصبحوا قوة مُحسَّة خارج أنفسهم فيشعروا بأنهم وحدة حسية انسجمت واتحدت مع قوة أكبر منهم، ومن ثم تبرز وحدة المجموع كتلة متراصَّة يشد بعضها بعضًا كالبنيان المكين.
ولا يكفي أن تحب الجماهير أن تقاد، بل تجب قيادتها وجوبًا؛ فإن أكبر الخطر على بعض الزعماء أن رسالتهم تظل ذهنية فحسب، وتبقى حججًا تعرض، وآراء تبسط، ونظريات تشرح، أي تعيش في أفق الفكر دون سواه؛ إذ المشاهد أن أمثال هذه الرسالات تخمد وشيكًا، وتبرد ويعاجلها الفناء؛ لأن الناس إنما يتحركون بتحرك مشاعرهم، وتجيش حماستهم بمس النواحي العاطفية العميقة الأغوار في طباعهم، وإن للقوة والنشاط لسريانًا من الزعيم إلى نفوس الناس وقلوبهم، وسلطانًا عظيمًا على الأرواح، فإذا ما استطاع فرد أن يستخدم هذه القوى في إكساب قضيته هذه الفتنة العاطفية، واجتذاب الجماهير إليها بهذا التأثير؛ فهو الزعيم الحكيم الذي يعرف فن القيادة والسلطان.
وليس العمل وحده يكفي بالنسبة للزعامة، ولكن ينبغي إبرازه في مظهر السمو والتمام والإجادة والإتقان، فقد أُثِر عن العالم لويس باستور أنه في شبابه كان في إمكانه أن يدخل الامتحان، إذ كان الرابع عشر في الترتيب خلال السنة الدراسية، ولكنه لم يشأ أن يدخل الامتحان قائلًا إن عمله لم يكن من الإحسان والإجادة بدرجة كافية، فأرجأ ذلك إلى العام التالي، وقد وصل ترتيبه في التقدم إلى الرابع بعد الرابع عشر؛ وذلك لأنه لم يشأ أن يقنع بمجرد المرور في الامتحان.
إن قولنا نحن «هذا يكفي» رضوانًا منَّا بتأدية عمل ما، لا يصلح شعارًا للزعماء؛ إذ يجب أن يكون مبدأهم مواصلة العمل والانكماش فيه، حتى يبلغوا به درجة الكمال ومرتبة التمام.
وهذا يستتبع وجوب العناية والتدقيق، وهما من خواص الزعامة والذين يتطلعون إلى قمتها العالية، كما أن النشاط قد يظهر في المداومة والانتظام؛ فقد لبث الفيلسوف هربرت اسبنسر عدة سنين لا يستطيع بسبب صحته أن يشتغل أكثر من ساعة واحدة في اليوم، ولكنه مع ذلك تمكن من إخراج مقدار عجيب مدهش من المؤلفات في تلك الفترة من السنين.
والجلد على العمل وقوة احتمال الدأب والكد من صفات الزعامة وخواص الزعماء، وهي خلة تابعة لقوة النشاط والحيوية الزاخرة فيهم، والبنية القوية المكينة لديهم، وقد قيل عن نابليون إنه إنما نجح في حروبه وفاز في معاركه بفضل شبابه وصحته، ووفرة حيويته، ومقدرته على احتمال المجهود البدنيِّ احتمالًا يجاوز كل الحدود، حتى لقد كان يركب جواده فيظل فوق صهوته يومًا كاملًا، وينام عندما يريد النوم في غير غلبة للنعاس عليه، وقد أوتي معدة تأكل أي شيء وتهضم أي طعام.
وكذلك يقال عن الرحالة الرائد المشهور جون وِيسْلِي إنه قطع على صهوة الخيل أكثر من مائتين وخمسين ألف ميل أو مسافة تعادل عشرة أمثال خط الاستواء، وإنه جعل يخطب ويعظ خمس عشرة مرة في الأسبوع باستمرار وانتظام زهاء خمسين سنة متوالية، وقد ظل خلالها يخوض المستنقعات، ويعبر الأنهار ويقرأ ويطالع وهو على صهوة جواده، حتى إذا بلغ الثمانين، جعل يشكو من أنه يستطيع أن يطالع ويقرأ أكثر من خمس عشرة ساعة في اليوم!
وقد وُصِف فيكتور هوجو بالنشاط والقوة البدنية المتناهية حتى لقد قال عنه أبوه إن شعر رأسه ولحيته كان أكثف من أشعار الناس ولحاهم كثيرًا، حتى لقد كانت الموسي والمقص يَتَثَلَّمَان من خشونة شعره، وكانت له أسنان الذئب حِدَّةً، حتى ليكسر بها أجمد الجوز قشرًا، وقد قال عنه الأديب فلوبير إن له قوة من الطبيعة وعصارة الشجر في دمه، وكانت خاصيته البادهة تناهي القوة والبأس كما كانت العافية تغمر بدنه وتفيض منه، وقد بقيت بشرته إلى شيخوخته متوردة بلون الشباب اصطباغًا واحمرارًا …!
وفي الحق إن التشبث بالغرض صفة عالية تقترن بالعظائم، وتلازم العزمات القوية المثابرة، ولا تطيق الفتور والوَني والتثبيط، ولا تعرف اليأس والقنوط والتسليم، وكلما اشتدت المعركة وحمي الوطيس، اتَّقدت العزمة والتهبت المشاعر واستعر الوجدان وازداد الكر والفر والإقدام.
وكثيرًا ما يجد النشاط العظيم مُضطَرَبه في الشجاعة الدافعة الجليلة التي تستفيض إلى الزعامة وتبلغ مواضعها، وتلك هي الشجاعة التي لا تخشى شيئًا ولا تنزوي متراجعة من أمر مهما تعاظمها، بل إنها لتسير حتى إلى التضحية والاستشهاد في سبيل فكرة رفيعة أو مبدأ عظيم أو قضية عامة خطيرة الشأن بقدم ثابتة، وأحسب هذا النوع الروحي من الشجاعة مقدسًا؛ لأنه يكتسب شيئًا من قداسة الدين، ويصبح إيمانًا لا يتزعزع ويقينًا لا يهن، ولو راجعت قوائم الضحايا والشهداء لأدركت أن الدافع الذي احتثهم على التضحية بأرواحهم من الجلال بحيث يلوح أشبه شيء بالدوافع الدينية، وكم من امرئ واجه خصومه بشجاعة فجردهم من أسلحتهم وقَلَّم من أظفارهم، وأطفأ من حدة خصومتهم، وشدة لَدَدهم، بفضل شجاعته وقوة إقدامه.
ولطالما كانت الشجاعة في مواجهة الأعداء والخصوم هي الصفة البارزة في أخلاق كثير من الزعماء الناجحين، وهذه الشجاعة التي تلازمها المثابرة ويصاحبها الدأب والثبات، تجد غذاءها بلا ريب من مَعين النشاط ووفرة القوى البدنية، إذ ليس شيء هو أشد تأثيرًا فيها، وأذهب لمدخرها من التعب والكلال والجهد وتراخي البدن، وإن إشراق الطلعة ونشاط المظهر ومداومة المجهود، إنما تُستمد من قُوى لا تعود إلى الأذهان بقدر ما تعود إلى الجسوم والأبدان، وساعة يبتدئ الزعيم يسائل نفسه: هل هذا الذي أحاوله خليق بأن يُحاَوَل؟ يكون الرجحان في أمره أنه بلا شك قد أصبح بحاجة إلى الراحة والاعتزال!
•••
وليس في الدوافع المختلفة التي تحرك الناس في إثر الزعيم دافعٌ هو أعظم أثرًا من أن يجدوه أمامهم في المواقف الرهيبة، والأحداث الكبار، متقدمًا مستبقًا حمَّالًا للأعباء الثقال مُتَّزن الخطى أمام صفوفهم وهم من خلفه تابعون، إذ يوم يشهدون ذلك منه لا يبقى فيهم فرد متخاذل ولا امرؤ متراجع الخطوات، بل كلهم يومئذٍ متقدم منبعث إلى حمل مسئوليته والاضطلاع بواجبه ومهمته.
ألا إن الرجل الذي يخشى حمل المسئولية عن نفسه وعن الآخرين لا يمكن أن يكون زعيمًا، ولا أن يروح يومًا على الطريق المؤدية إلى الزعامة، فلا مَعْدَى عن المخاطرة وتحمل الأخطار، وإطاقة الأعباء الكبار؛ لكي يكون المرء زعيمًا ويتصدى لقيادة الناس، وإن كان من الحكمة ألا يجازف المرء ولا يخاطر إلا وهو عالم بمبلغ ذلك وشأنه وحقيقته وحَدِّ خطره.
إن تحمل المسئولية الشخصية حتى إلى حد المخاطرة بالحياة هو ميسَم الزعامة وعنوان العظمة وصفة القادة الشجعان المغاوير المكافحين، ويوم قال الناس للعلامة باستور وهو يشتغل بالبكتريا — أو الجراثيم المعدية الفاتكة: إن هذا العمل الذي تتولاه خطر شديد العدوى، لم يكن جوابه غير أن قال: «وماذا يهم هذا أو يعني؟! إن الحياة وسط الأخطار هي والله الحياة، بل هي الحياة الحقيقية، حياة التضحية، حياة المثل والقدوة والأسوة، الحياة المثمرة المنتجة النافعة …!»
وتعدد الجوانب من مزايا الزعامة وصفاتها الأولى، وذلك أن تظهر قوة الزعيم في أنحاء متعددة، وتتجلى في مظاهر كثيرة، وتسير في اتجاهات مختلفة، وقد يلوح هذا التعدد في وقت واحد، فيكون الرجل العظيم مديرًا وحاذقًا للإدارة، وماليًا عريفًا لفنون المال واستثماره، أو يكون رئيسًا وكاتبًا وخطيبًا، أو محاميًا مِدْرَهًا ساحر البيان.
لقد اشتهر روسو بمقدرته في الفن والأدب والفلسفة والاجتماع؛ كما تفوق ميشيل أنجيلو في الرسم والموسيقى والنحت والهندسة؛ وكان تيودور روزفلت في آن واحد عالمًا طبيعيًّا، وسياسيًّا قائدًا، وكاتبًا فحلًا، ومحاضرًا واسع العلم، وقد قيل عن العلامة «بوز» الهندي إنه — بجانب علمه الواسع بالمعارف الطبيعية — المهندس والكهربائي والمثَّال والخبير بالعاديات والفنون.
ولا خفاء في أن هذا التعدد لجوانب المقدرة في الزعامة يصونها من الصدأ، ويحميها من التثلم، وذهاب الحدة والإرهاف؛ كما أن هناك نزوعًا من ناحية هذا التعدد إلى المخالطة بين العمل واللهو بنسب متساوية أو بنسب واجبة، فلا تقطع الأيام في عمل دائم متواصل لا استجمام منه، ولا متعة خلاله، ولا رياضة نفس ورفاهة بدن.
وهناك وجه آخر من هذا التعدد الطبيعي؛ وهو قابلية الزعيم للجلوس في أية جماعة، والاختلاط بأية ندوة، والاحتفاء بمَقْدِم أي قبيل من الناس حتى لقد قيل عن أحد الزعماء إنه كان السهل اللين العريكة، الرقيق الحاشية، العذب المحضر، المؤنس المقبل على الرفقة والجماعة بنفسه الصافية الشفافة الأديم.
وكذلك يروح تعدد جوانب القوة والنشاط شهادة بارزة على صلتها الوثيقة بالزعامة، إذ ليس من ريب في أن النشاط هو الدينامو أو المحرك أو الأداة الثابتة في جهاز الشخصية القوية، أو هو الدافع الباعث الذي تستمد منه الصفات الأخرى في الزعامة قواها وحياتها ومظاهرها المتعددة.
النشاط الحيوي هو البداية بالنسبة للزعامة، ولكنه ليس مع ذلك النهاية في مجموع صفاتها ولوازمها الكثيرة ومقتضياتها المنوعة؛ لأنه لا يكفي لضمانها، فقد يسير النشاط في ناحية من الخطأ، وقد يضل الطريق السويَّ، وإنما يجب أن نعترف بقوة الذهن أو الذكاء والعلم وأصالة الرأي والحكمة والسداد.
وأبرز العناصر التي تتركب منها قوة الذهن وتتصل بتكوين الزعامة هي قوة الملاحظة، وبعد النظر، وصحة التقدير، وملكة التصور والتفكير، وقوة العارضة والمنطق، وما يتفرع عن هذه من المزايا والصفات المتقاربة والمَلَكات المجاورة المتماثلة.
وإذا أردت منا أن نُعرِّف لك الملاحظة، قلنا إنها إدراك الاتجاهات العامة، والتبصر في الدقائق، ورؤية التفاصيل، وكشف الجزئيات، وهي ترى النتائج الكبرى التي تترتب على عمل ما، وتكشف دقائق اللحظة وكل ما يحيط بها؛ وهي تبتدئ باستخدام الحواس في فهم الأشياء، ثم تمتد بعد ذلك إلى إدراك الصلات والعلاقات والروابط بين بعضها وبعض؛ بل هي التحري والتساؤل والتقصي والاستقراء جميعًا؛ لتكوين المبادئ ووضع الخطط ورسم السياسات المختلفة.
وقد قال العلامة شارلز داروين على الرغم من حيائه وتواضعه إنه لم يفترق عن مجموع الناس وسوادهم في شيء أكثر من أنه أَلِف أن يلاحظ الأشياء التي تفوتهم وتَعزُب عن بالهم ولا تتصل بحسهم، وأن يُعنَى باستقرائها عناية التدقيق وطول البال.
الملاحظة تمهد وتوطن للعمل الصالح، وتعبِّد الطريق للفعل الصحيح والمسلك الصائب الحكيم؛ وهي تكفل للمرء علم ما يحتاج إلى علمه لملاقاة الطوارئ، وملاقاة الحوادث ومواجهة المفاجآت والخطوب، كما أن التساؤل يوسع مدى العمل، ويستكمل الملاحظات ويكسب المعرفة الضرورية لقيام الزعامة وبروزها، فقد كان الزعيم لنكولن يألف الإكثار من الأسئلة والمبالغة في التقصي، واستجواب الذين يتقدمون إليه بالأنباء والأخبار والمعلومات، وقد تمكنت منه هذه الملكة من النشأة والطفولة، فكانت كلمات مثل «استقلال» و«مستقل» تشغل خاطره الصغير وتشوقه إلى فهم معانيها، فكان لا ينفك يسأل عن معناها، فلما أجيب إليه لبث مستيقظًا ساهرًا الليل كله يستوضح لنفسه المراد من كلمة الاستقلال والمقصود، حتى بلغ شأو الرجولة فأضحى رجلًا أكبر ملكاته ومواهبه سرعة ربط الألفاظ من معانيها واختيار أبسط الكلمات للتعبير حتى يتيسر لأكثر الناس فهم الأفكار والأحاسيس التي كان يريدهم على فهمها، وكان يقول عن نفسه: إنني لا أرتاح لحظة ولا أسكن ولا أهدأ من ناحية فكرة تعرض لي، وأريد بثها ونشرها، حتى أسايرها شمالًا وأتابعها جنوبًا وأحدَّها شرقًا وأبلغ تخومها مغربًا.
إن أكثر الناس سطحيون، فمن الصفات النادرة التي تَخْلُق بالزعامة قوةُ الملاحظة؛ فهي المزية الكفيلة بأن تفتح أمام الزعيم آفاقًا جديدة من الفكر قلَّما يستطيع الناس أن يرقوا إليها إذا لم يتوفر لهم الهادي الأمين.
وأما بُعد النظر فذلك هو المقدرة على رؤية أمر من الأمور من جميع جوانبه في غير ميل أو تجانف إلى جانب واحد منها، وإنه ليقي الرجل منا السقوط في الفخاخ التي كثيرًا ما يقع الناس فيها بقصر نظرهم وضيق أذهانهم، كما أنه يُعِين المرء على التسامح ولا يجعله يَضِيقُ بشيء، ويُفْسح له مدى التفكير ومضطرَبه.
ويقتضي النظر البعيد وسبق الأحداث خيالًا قويًّا وحكمًا متزنًا، فإن مزاج هاتين الملكتين من شأنه أن يوفر الاستعداد، ويكفل التأهب وييسر الاحتياط للمجهول، والتعرف من المنتظر وغير المنتظر على السواء.
ويشمل الذكاء وقوة الذهن ملكة التقدير الصحيح للأشياء، سواء منها القيِّمة والتافهة، فإن هذه الملكة هي خير معوان على صواب الحكم وسداد البت في الأمور، والوصول إلى نتائج حاسمة وقرارات فاصلة، ويقتضي التقدير من الناحية النفسية وزنَ الشواهد والأناة في البحث وطول التفكير، كما يوجب التدقيق في التفاصيل والجزئيات، بل الاهتمام بالتوافه والشئون الصغيرة، فكثيرًا ما رأينا العظماء يرون في التافه ما يؤدي إلى الخطير، ويشهدون في الأمر الصغير ما يُحدِث كبير الأثر، وقد كان أندرو كارنيجي يقول: «احذروا من التوافه وصغار الأمور.» ومرد ذلك إلى أن الاستخفاف بها قد ينقلب خطرًا، ويستحيل شرًّا عظيمًا، وقد يكون في الكلمة أو النظرة أو الحادث البسيط ما يؤثر في مصير فرد أو مصير أمة بأسرها، وإن صغار الأشياء هي التي تخلق الإنسان أو تحطمه، وتبنيه أو تهدمه، بل إن التوافه هي التي تشترك مع العظائم في تقرير المصير، وبناء الإرادة، وطريقة المسير إلى الغد المجهول …!