الأسلوب والتنظيم وحاجة الزعامة إليهما
لا غَنَاء للزعامة عن الأسلوب والتنظيم لكي تصيب النجاح وتبلغ الهدف وتوفي على الغاية، وتنبغي مراعاة هاتين القاعدتين في الزعامة ذاتها، وفي الهيئة السياسية أو الاجتماعية التي ترأسها، أو تتولى الإشراف عليها، وتقودها إلى الغرض المرجوِّ والمقصد المنشود.
أما من حيث الأسلوب والتنظيم بالنسبة للزعيم نفسه، فمظهر ذلك في ترتيب أوقاته، وتنظيم ساعات عمله، وتنسيق برنامج عمله اليومي، وتوحيد طريقته في التفكير، ومنحاه في النظر إلى الأشياء وتقدير الأمور وتدبير الشئون. وأما من جهة الجماعة نفسها أو الهيئة التي يليها، ففي بناء وحدة قوية، وإنشاء نظام مكين ثابت، وتعيين نيابة صالحة عنه، وتمثيل مناسب كفء للقيام بمهمته، وحسن اختيار أعوانه، وتسلسل القيادة في صفوف الموالين والتابعين؛ لتكون ثَمَّ رياسات فرعية، وشعبات منظمة متعاقبة متتالية، كما يتجلى ذلك أيضًا في مبلغ تنشيط القُوَى العامة، وإثارة الحمية للعمل، وبث روح التآلف والتضامن، وبعث الملكات والكفايات الكامنة إلى الظهور والإنشاء والتكوين.
«مكان لكل شيء وكل شيء في مكانه» هذا هو مفتاح الأسلوب وشعاره والمراد منه، فإن العقل الذي يشتغل كالساعة هو أروع مظهر لمعنى الأسلوب وفضله، وأدق التعريف لصفته وطريقته، ويبدأ الأسلوب بالصغير والتافه، وينتهي بالكبير والعظيم والخطير من الأمور، ففي هذا التدقيق الكلي يبرز جلال الزعامة، وعليه ينهض أساس كل رياسة ناجحة مهتدية إلى الطريق.
وقد وضع الفيلسوف «كانت» نظامًا ثابتًا لحياته لم يكن يرتضي فيه تغييرًا أو تحويرًا يومًا من الأيام، حتى قيل إنه كان يخشى التغييرات التافهة مخافة أن تؤثر في صحته أو تعوق سير دراسته، فكان الشديد على نفسه المتزمت العنيف، لا يعرف في أسلوب عيشه تساهلًا، وحتى كاد يجعل «التدقيق» أول صفات العلم ومزاياه، وكان يصر على أن يحتذي مريدوه وطلاب العلم عليه حذوه في هذه الصفة التي كانت عنده بارزة.
وكان بنيامين فرانكلين يمتحن مبلغ تدقيقه في مسلكه وتصرفاته بين حين وآخر بأغرب ضروب الامتحان ليصلح من أخطائه، ويهذب من أغلاطه، ويمحو من هناته. وكان فريق من العظماء والزعماء والنوابغ الكبار يحفظون «يوميات» يدونون فيها كل أعمال يومهم ساعة فساعة، حتى وقت النهوض من الفراش، وما قرءوه قبل الفطور وبعد الفطور، وجملة ما يفعلونه سحابة النهار، وكان دأبهم في هذا التدوين مراعاة الدقة التامة في نظام العيش وأسلوب الحياة.
وروي عن باستير العالم البحاثة الكبير أنه القائل: «إن الفرصة الحسنة لا تواتي غير العقل المنسق المنظم.» ولقد اتهمه أصحابه بالبطء ونسبوا إليه يومًا التراخي من فرط هذا التدقيق العجيب الذي أخذ نفسه به في كافة بحوثه وأعماله، ولكن الذين تدبروا مزية هذا الأسلوب وفضله ونفعه راحوا يقولون إنه ما كان يقرر شيئًا إلا وهو المتثبت منه المتأكد كل التأكيد، وقد قال فيه أحد الكُتَّاب الفرنسيين: «يحفظك الله يا باستير لفرنسا ويمد في أجلك، ويُبقِي فيك على هذا التوازن العجيب بين العقل النَّير الذي يتأمل ويرقب ويلاحظ، والعبقرية المُلْهَمة التي تحس وتكشف وتهتدي، واليد الحاذقة الحكيمة الموفقة التي تنفذ وتستكمل في أتم تدقيق عُرِف عن العلماء إلى الآن!»
ومن فضل الأسلوب الشخصي وأثره أنه يكسب صاحبه الاتزان، ويجنبه السرعة، ويباعد بينه وبين الزلل، كما أنه يدخر قواه، ويفسح له في وقته ومداه، ويساعده على معرفة العمل الذي في وسعه أن يؤديه، والزمن الذي تستغرقه بدايته ومنتهاه، بل إنه ليعين على الافتنان والتجويد والإتقان، ويجعله يألف حسن التنسيق والترتيب والتوضيح والبيان.
ولا يكون الأسلوب إلا حيث تكون المهارة، وحيث يسير التدقيق يسير الحذق والبراعة، وفي رفقته يمشي أبدًا بُعْد النظر وفضيلة الاستقلال، وهو مرتبط بجملة من المعالم الخُلقية، والمزايا النفسية، والمواهب الشخصية، بحيث تكسب المرء درجة من السلطان، وحدًّا من السيادة أو الزعامة، لا يمكن التفوق عليها بسهولة من طريق آخر.
ولا خفاء في أن وضع برنامج دقيق للعمل اليومي من شأنه أن يزيد في محصول العمل ونتاجه، ويكثر من قطوفه وثماره، كما أن الأسلوب يقتضي أيضًا تنظيم الوقت تنظيمًا اقتصاديًّا. وقد كان شارلز داروين العالم المشهور صاحب مذهب «النشوء والارتقاء» — على الرغم من ضعف صحته، وهو ما يجعل عمله بطبيعة الحال محدودًا — ينظِّم كل ساعة من ساعات نهاره لعمل ما أو مهمة معينة، ولا يقنع منها بغير أكبر ربح وأجزل فائدة، وكان يعتقد أن التدقيق والعناية مِعْوَانٌ على توفير شطر كبير من الوقت؛ لأنه لا يضطر المرء إلى عمل الشيء «مرتين»، وأحسب داروين هو القائل: «لقد جهل قيمة الحياة من يرضى أن يُضيِّع من وقته ساعة واحدة.»
وفي عصرنا الحديث لا يستطيع أحد أن يصعد إلى مرتبة الزعيم أو القائد المنفذ إذا لم يحسن توزيع المسئولية ورياضة أصحابه وأنصاره على حمل التبعات. وقد قال أحد أصحاب الأعمال الناجحين في هذا المعرض: «إن السبب في نجاحي حتى أصبح لي هذا المصنع الكبير هو أنني استخدمت لكل فرع منه رجالًا أكفاء وأشخاصًا خبراء عارفين لمطالبه، إذ لا يتيسر لفرد واحد أن يعرف كل شيء في متجر يحوي ألوفًا عديدة من السلع والصنوف، ولقد أصبحنا في عصر «التخصص»، وأمسينا بحاجة إلى أن نحسن علم ما نحن بحاجة إلى علمه أشمل العلم.»
ومن ثم ليس للزعيم المنظم غَنَاء عن الاستعانة بأهل النظر وذوي الخبرة وأصحاب الخطر والمكانة في الناس فيجمعهم إليه، ويؤلف بينهم حوله، ويسند إلى كل طبقة منهم عملًا خاصًّا، ومهمة مستقلة بذاتها. وقد قيل عن الزعيم لينين في هذه الناحية إنه في كل ناحية من نواحي الحياة يلتمس مشورة الأخصائيين ويركن إلى آراء الثقات، حتى لقد افتقد في الشئون العسكرية عَوْنَ القواد الذين كانوا في المناصب على عهد الحكم القيصري القديم، وإذا رأيتَه يستشير «ماركس» الألماني مثلًا في المسائل الثورية والشئون الانقلابية، رأيتَه كذلك يستنصح تايلور الأمريكي مثلًا بسبيل حسن الإنتاج الصناعي ووسائل تقدمه وتنميته، وهو لا ينفك يتحدث عن فضل الخبراء من سائر الصنوف والألوان: الحاسب والمهندس والزارع والأستاذ على السواء.
ومن مزايا الزعماء الكبار وأساليب نجاحهم العناية التامة بالدقائق والجزئيات، ولا نحسب موطنًا تظهر فيه قيمة هاتين الصفتين ومبلغ نفوذهما وأثرهما العظيم هو أنسب من مواطن التجرد للإصلاح الاجتماعي، ومواقف الجهاد المجتمع الصفوف لتحقيق غاية عامة، ففي هذا المجال تتجلى فضيلة التدقيق، وقيمة العناية الكاملة بكل صغيرة وكبيرة.
ولا مراء في أن الجماعات الكبيرة المنظمة من شأنها أن تمتص وتبتلع وتجتذب، وهي في ذلك كله قوية الأثر، شديدة الامتصاص، رهيبة الجاذبية، ومن ثم قد تنتزع الزعامة المتفردة المطلقة بقوة هذا الامتصاص آخر شيء من النشاط عند الأفراد والتابعين، وتستنفد كل ذرة من قوى الأنصار والمنضوين تحت رايتها، كما قد ينتهي الغلو في التنظيم إلى جعلهم مجرد آلات مُسخَّرة وأجهزة آلية فاقدة الإرادة، ومثل هذا مُشاهد في الجماعات الكبيرة التي يقودها هتلر، كما هو ظاهر كل الظهور في النُّظم الفاشية تحت سلطان الزعيم الإيطالي موسوليني، فإن الرجال والنساء والشباب والشيب مندمجون في هذه النظم اندماجًا كليًّا ينزع منهم كل إرادتهم، ويجردهم من كل استقلال المشيئة وحرية التصرف والسلوك والتفكير.
ولكن الزعيم الحذر الشديد اليقظة غير المجازف ولا المتهور، حَرِيٌّ بألا يغلو في بسط سلطانه، خليق بألا يتناهى في إملاء إرادته، حتى لا تكون قيادته قيادةَ استعباد، ونفوذه نفوذَ مستبد طليق الهوى.
وقد رأينا قبل الآن زعماء عُدُّوا من خيرة المنظمين للجماعات، ثم لم يستطيعوا في بعض الأحيان أن يجنِّبوا أنفسهم الجنوح إلى انتزاع إرادة الناس انتزاعًا، والحمل على قواهم بأشد العنف والإجهاد، وقد قيل عن الرئيس «هوفر» إنه كان يتولى كل شيء في الجماعة، وينفرد بكل صغيرة وكبيرة من السلطان حتى لينفرد بالأمر المطلق في تحريك أقل شيء، وتنفيذ أتفه الشئون.
وأخطر ما تنبغي الإشارة إليه بسبيل التنظيم هو حسن اختيار الأكفاء لتوزيع التبعات عليهم، فقد شهدنا زعماء حكماء يحسنون انتقاء الأفراد الذين يعرفون أكثر منهم في النواحي المختلفة من حياة الجماعة ويدركون ماذا ينبغي من العمل، وما يجب من التصرف، أسرع وأتم وأكمل من إدراكهم. والقاعدة التي راضوا أنفسهم في ذلك على اتباعها هي أن يجعلوا صحبهم وزملاءهم كبارًا مثلهم ذوي تبعات معينة عليهم، بارزين بجانبهم، ماثلين أمام الشعب بأخطارهم وكفاياتهم ومواهبهم المنوعة.
وقد كان من هذا الطراز من الزعماء سعد زغلول، إذ جعل من دأبه وديدنه توزيع التبعات بين صحبه وأنصاره الكبار، وخَلَّى بينهم وبين مواهبهم يبرزونها في كل ما يُسِّرت له، كما كان يشجع على إبرازها، ويأخذ بأيدي الموهوبين والأكفاء ليصعد بهم إلى القمة، ويعلو بهم إلى الأوج. وكان الوفد المصري هو ثمرة هذا التنظيم النيابي في هيئته، ونتاج هذا التنسيق الحكيم في سائر نواحيه وفروعه، حتى لقد عُدَّ الوفد بشهادة خصومه من خير الهيئات السياسية تنظيمًا، وأمتنها في تدبير الخطط إحكامًا، وأروعها في العمل أساليب.
وقد سار خليفة سعد على آثار سلفه؛ فاستطاع أن يُبقِيَ الوفد على هذا النظام التقليدي المكين بعنايته البالغة بالروح المعنوي في وسط الجماعة، ويقظته التامة لمطالب التوزيع في المسئوليات، وتقسيم الواجبات، وحسن سير العمل في كل موقف وظرف وحين.
وقد مات بوكر واشنطن فظنَّ خصوم حركته في أمريكا أن عمله قد انتهى بنهايته، والحركة منطفئة بانطفاء سراج حياته، ولكن لَشَدَّ ما بهتوا وعجبوا أن رأوا ذلك النظام البديع المكتمل قد عمَّر بعده طوال السنين.
وهذا هو ما كان خصوم الوفد يتوقعونه عقب رحيل سعد من هذه الدنيا، ولكن خاب فَأْلُهم، وطاشت أحلامهم، وظل الوفد قائمًا على شأنه، مستوليًا على مكانته، ملتفًّا حواليه من الأمة التي عرفت كيف تصونه وتحوطه بسياج من الإيمان، وسور منيع من اليقين.
وبفضل التنظيم الداخلي في الجماعة أو الهيئة أو الحزب لا يلبث الزعيم أن يجد نفسه على رأس حشود من أشباهه، وجموع زاخرة يحتذون حذوه ويسيرون على منهاجه، فهو قائم على رأسهم، ولكنه في الواقع موزع فيهم، كثير بينهم، متعدد الصور والأمثال في وسطهم، وإنما نجاح ذلك كله رهن بمَجنَح الزعيم واستعداده واتجاهه، فإذا ابتغى من هذا جميعًا محض مجده الذاتي ومجرد شهرته وغايته، ففي أكثر الأحايين ينتهي الأمر به إلى السقوط والتلاشي والفناء، أما إذا كان هدفه الأوحد منه هو إنجاح قضية ما، أو الفوز بمقصد عام وأمنية قومية، فليس أمامه سوى العمل على تنمية الكفايات من حوله، وادخار القُوَى المنشئة بجانبه، ولا غناء في سبيل النجاح عن إطلاق اللجُم وإرسال الأعنَّة، والسماح للأفكار الجديدة والمثل العليا أن تعيش وتحيا بفضل احتثاثه وحفزه وتشجيعه.
وأنت فقد تسأل كيف يتسنى للزعيم أن يتعهد الهيئة التي يقودها بالتنمية والتعزيز والتكثير، هل يعمد إلى زيادة عدد أفرادها، والإكثار من أعضائها، وتضخيم حجمها، حتى تتفيَّل وتتناهى جسامتها البارزة، أم يتولى الإشراف على الكفاية، وتغذية مصادر الإنتاج، والعناية التامة بالعمل والإنشاء والخلق والبناء؟ ونحن مجيبوك بأن الزعيم الطليق المنفرد يفضل الوجه الأول، وأن الزعيم الديمقراطيَّ هو الذي يُؤْثِرُ السبيل الثانية. وقد رأينا زعيمًا مثل فرانكلين يأبى قبول مزيد من الأفراد في عضوية حزبه أو ناديه «الجونتو»، على رغم الإقبال على الدخول في حظيرته، مكتفيًا بالقدر الذي اندمج فيه، مستغنيًا عن الإكثار بترقية الكفايات وحسن القيام على النظام؛ لأنه المعوان الأوحد على النجاح.
إن أكبر مظاهر الزعامة الديمقراطية لتتجلى في رغبة الجماعات في العمل معًا، ومعرفة وجوه القوة ووجوه الضعف فيها، واكتشاف الميول التي لا تجد سبيلها، والنزعات التي لم تبلغ غايتها، والعمل على توجيه الجهود والقيام ككتلة واحدة تامة الأجزاء مرصوصة البنيان.
ومما يعيب بعض الزعامات أنها قد تروح جَنُوحًا إلى الترفُّع عن الجماعة واعتزال الصفوف، والتواري بالحجاب عن الجماهير، ومحاولة السمو على الأفراد، وأنها قد تنادي بوجوب التضافر أو التعاون، ولكنه لا يعدو أن يروح تعاونًا من جانب واحد وتضافرًا يؤدي كل فرد منهم ما يريده الزعيم ويشاطره ويبتغيه، وقد كان تيودور روزفلت أكبر مَن أدرك وجوب قيام العناصر الديمقراطية في الزعامة فقال: «لقد تعلمت درسًا غاليًا لا يقوَّم بثمن ولا يقدَّر بقيمة، وهو أن ليس من أحد في وسعه أن يؤدي أرفع خدمة للمجموع ما لم يتعاون وصحبه وزملاءه عليه، فإن كلمة «خذ وهات» هي شعار التعاون الصحيح، ووجه التضافر التام الكفيل بأحسن الثمر.»
إن الأسلوب والتنظيم إذن مشتركان اشتراكًا فعليًّا حقيقيًّا في العمل على إنجاح الزعامة، وتيسير السبل أمامها نحو الفوز المبين، وبلوغ الغاية النهائية الحاسمة …