الزعامة والزعماء في النظام الديمقراطي
لا يتيسر لأحد في النظام الديمقراطي؛ أي في البلد الذي يسوده الروح النيابي، ويقوم الأمر فيه على قواعد الدستور، أن يكون زعيمًا وطنيًّا، ما لم يكن في الوقت نفسه سياسيًّا في رياضة العقول واجتذاب القلوب وعظم التأثير في الأذهان.
وهذا الرأي يسترعي النظر إلى ما هو معروف عن النظام النيابي مُشَاهد فيه، مُحَسٌّ بالنسبة إليه، وهو أن الزعيم يواجه في الواقع حائلًا عظيمًا عجيبًا في ذاته يقف له في الطريق يمنعه الوصول إلى أوج المكان الذي يطل منه على الجميع، وهذا الحائل هو أن كل فرد يعتبر نفسه صالحًا طيبًا كُفْوًا كالآخر تمامًا، وأن الجميع متساوون نظراء أمثال من هذه الناحية، فمن يَبْغِ أن يبلغ الزعامة فيهم يتحتم عليه أن يدلل على أنه أحق بالقيادة من الآخرين.
وليس يكفي مجرد الرغبة في الوصول إلى الزعامة، وإنما يجب أن تتمثل الرغبة عملًا رائعًا، ومسلكًا فريدًا، وتصرفًا بادهًا، واتخاذَ أساليب مقبولة، ووسائل صالحة، وطرقًا واضحة الحجة، بيِّنة المناهج، مزدانة الحَوافِّ والجنبات بالزهر والرياحين.
لقد كانت القوة أو المقدرة على تصريف الشئون قبل أن تنتشر الأفكار الديمقراطية في العالم انتشارها اليوم ويتسع لها المدى اتساعه الأخير، يُظَنُّ أنها مَحْضُ القوة، وكان يلوح أن القوة هي التي صَنَعَت الحق، وفي مجتمع تسوده هذه الفكرة، كانت الزعامة بطبيعة الحال تلوح في التصور وتبدو في الاعتبار مظهرَ الظفر بالقوة واستخدامها، والمقدرة على التملك والتفرد والسيادة والسلطان.
وفي الواقع لا تزال تصوراتنا وأفكارنا وأخيلتنا في معاني الزعامة وتعريفها متأثرة كثيرًا بفكرة الماضي ونظريته من حيث السيادة والنفوذ.
ولكنا نعيش اليوم في عصر ديمقراطي مُقَرٍّ معترف به، بل نحيا في عهد يجد الفرد فيه حقوقه وامتيازاته مصونة مؤيدة، صريحة مُعلَنَةَ. وقد أصبح المجتمع يرتضي ويُسَلِّمُ بحق الفرد في الحياة والحرية وطلب السعادة والتماس الهناء، وإن كان هذا التسليم نظريًّا على الأقل؛ إذ أصبح من القضايا المُسلَّم بها أن الناس قد ولدوا أحرارًا متساوين، وأمسى مفروضًا أن لكل شخص قيمته في ذاته، ولفرديته وحقوقها كل الشأن وأكبر الحساب. ولا تزال فكرة المساواة آخذة في النمو والازدياد والقوة والاطراد والتحقيق والتنفيذ مع تطور الحياة ومر السنين.
وإذا كان الأمر كذلك في المجتمع اليوم، أفلا يقلل قيام المساواة العامة الضرورية في النظام الديمقراطي والحياة النيابية من الفرص المهيئة لنهوض الزعامة، كما يضعف من حاجة الناس إليها، والتماسهم لوجودها، وافتقارهم إياها؟! بل أليس من شأن تشدد المجتمع الحديث في اعتبار حقوق الفرد وامتيازاته قاعدة لكل القيم الاجتماعية، وأساس كل تقدير للأشخاص، أن يؤثِّر أكبر التأثير في فكرة الزعامة ووسائل قيام الزعماء؟!
لقد يلوح هذا صحيحًا على وجهه، مستقيمًا على ظاهره، ولكن الواقع هو بالعكس؛ إذ الحقيقة أن الفرص المساعدة لقيام الزعامات في المجتمع الديمقراطي اليوم قد أصبحت أكثر من قبل، وزادت زيادة متناهية، وإنها لتنمو كذلك وتتوافر وتسنح كثيرًا، إذا ما فُهِمت الزعامة على حقيقتها من ناحية مقتضياتها النفسية وجوهرها الصحيح ومعدنها السليم.
إن الخطر الحقيقي الذي تتعرض له الديمقراطية هو خطر انتشار الصَّغَار والتفاهة، وشيوع التماثل والتناسق، وقبول الحياة للاستمرار على وتيرة واحدة ونظام رَتِيبٍ، وقيام أقيسة عامة للقيم والمراكز والأخطار. ووجه الخطر من ذلك كله هو من حيث فقدان الإمامة والهداية والتوجيه، والنشاط الروحيِّ والحماسة النفسية، والشعلة التي تلهب الحياة العامة وترسل وقْدَتَها في كل القلوب والأذهان.
الخطر الحقيقي هو ما يخشى على الحياة في النظام الديمقراطي من الركود والأسَن، وما قد يغشاها من الجمود والنوم والإغفاء والبلادة واليأس والكلال والإعياء.
وفي سبيل درء هذا الخطر لا غَنَاءَ عن بذل الجهود الفعالة الإيجابية المثمرة لإنقاذ المجتمع من مظاهر هذا الخطر وبوادره وكافة نواحيه؛ إذ لا بد من قوة توجيه تدفع بالنفوس إلى العظائم، وتسوق الأفراد إلى البذل والتضحية والإيثار، وتضرم نار الحماسة في الجماعة ليسيروا نحو المُثُل العليا، ويحدثوا الجسام، ويتطلعوا إلى الكمال.
وإذا صح أن الديمقراطية لا تيسر للزعامات طريقها، ولا تفتح السبل أمامها، ولا تمهد لها أطيب المهاد، بل قد لا تشجع — كما هو الظاهر — على قيامها، وتستريب بالذين يبلغون مكانها، وتتشكك في الأفراد المبرزين الذين ينهضون ليحتلوا فيها مواضعها؛ إذا صح هذا أو نحوه مما هو مشاهد اليوم في الديمقراطية أو محسوس من ناحيتها، فإن الدافع مع ذلك هو أن الفرص التي تتهيأ في النظام الديمقراطي للفرد الذي يستطيع التدليل على حقه في امتلاك النفوذ، وإصابة الرياسة، والظفر بالسلطان، لا تزال كثيرة، وَفْرَة، مأتية، متوالية السنوح، لا تكاد تضارع، ولا مثيل لها فيما مضى من العهود وأدوار الحياة.
وما ذلك إلا لأن الديمقراطية مهما بدت في الظاهر قائمة على المساواة والتماثل والتجاوب والانقياد، فلا تزال في الحقيقة قائمة على مجموعة مركبة من أفراد يحنون أو يتطلعون إلى إبراز أنفسهم بوسائل أو أساليب لا يكادون يشعرون بها، ولا يتعمدونها تعمدًا، ويريدون أن يشبعوا ما يعتمل في نفوسهم، وما يضطرب في أخلادهم من آمال وعُلالات وطموح إلى التفوق والتبريز والعلاء.
وليست الفرص التي تسنح لبلوغ الزعامة ومرتبة القيادة منحصرة في الميدان السياسي وحده، وهو الميدان الذي تتبادر إليه الأذهان رأسًا كلما جاء ذكر الديمقراطية، أو عرض حديثها للمتحدثين، فإن الزعامة السياسية في الحق خطيرة الشأن عظيمة القدر مرهوبة الجانب كبيرة السلطان، ولكن الواقع أنها ليست سوى ميدان من عدة ميادين يمكن الإنسان أن يعلن فيها عن نفسه، ويبرز في ساحتها إذا واتاه البروز.
إن فرص الزعامة والتفوق والغلبة لَتَصيح عالية الصوت، طالبة الظهور، منادية الأكفاء والأفذاذ إليها، في كافة النواحي وجملة الميادين؛ إذ في كل ميدان منها يعمل الناس، ويحاول أفراد منهم تأدية رسالاتهم، والنبوغ بينهم والاستعلاء، وهم يريدون من أعماقهم أن ينهضوا فوق المساواة الاسمية، أو المساواة القانونية، لإظهار سمو أقدارهم عنها، وحقيقة رفعتهم فوقها، من حيث المقدرة والنباغة والاستعداد.
ولكن لكي يبلغوا هذا الذي يتطلعون إليه ينبغي أن يُقَادُوا، ويجب أن يذعنوا إلى الزعامة، ويدخلوا في صفوف المؤمنين بها، والنازلين على أمرها، والمرتضين لوجودها، حتى يتسنى لها أن تنظم وجودهم، وتقسمهم طرائق وهيئات وجموعًا، وتستخدم كفاياتهم في سبيل الصالح العام والغايات الاجتماعية المنشودة في الحياة.
إن هذا التقسيم ضروري في الجماعة لأجل إيجاد الصلات والروابط والعلاقات المنظمة للعمل، المرتبة لتوزيع الجهود، الصالحة لإبراز العبقريات والنباغات والأكفاء، الكفيلة ببلوغ طِبَاق جديدة من الفكر والنظر، والوصول إلى آفاق بعيدة من الأمانيِّ والآمال والأغراض.
وما مثل الزعيم في ذلك كله إلا كمثَل المرشد أو الدليل المحترف في تسلق الجبال والهضاب، فإن الدليل لا يعتبر بالضرورة أحسن ولا أمهر ولا أسمى من الذين يتقدمهم إلى صعود الجبل ويَسْتَبِقهم جانبَ الهضبة أو صخور الهَرَم، وإنما هو المفروض فيه فقط — وهذا وحده كافٍ — أنه العليم العارف الخبير بصعود هضبة خاصة أو مرتفع معين أو قمة معلومة، فهو لهذا يستبق المتَسلِّلة، وطلاب الصعود وملتمسة الارتياد، تنظيمًا للصعدة، واستهداء بالخبرة، واسترشادًا بالدليل.
ولا شك في أن الحياة تتطلب هذين النوعين، والدنيا بحاجة إلى هذين الصنفين، وإن كانت الفرصة لنوع الأدلاء والمُرشِدَة في النظام الديمقراطي أكبر بوجه خاص، وأكثر سنوحًا، وأوفر ظهورًا؛ إذ في وسع الدليل عندما تتضافر الجماعات على الجهود والدأب والعمل المشترك الموَحَّد الاتجاه، أن يباعد بين المتسلقين في أثره والتابعين له والمترسمين لخطاه، وبين الخطأ والزلل، ويجنبهم الوقوع في الأغلاط الخطيرة المهلكة، وقد يحدوه نشاط المجموع، وتحفزه طاعتهم وامتثالهم إلى البلوغ بهم أعلى القمم وأسْحق القلَلِ، والوصول بهم إلى ذُرًى لم يبلغها أحد من قبلهم، أو ما كانوا لولاه لها بالغين.
ولا يخفى أن الصعوبة الكبرى ليست في تردد الأمة الحرة في الانقياد للزعامة، وتراخي الشعب الديمقراطي في الاستسلام لها، والسير في إثرها؛ بل هي في الخوف من أن يعمد الذين تحتاج الأمم إلى قيادتهم وتطلب إليهم احتلال مكان الزعامة فيهم، إلى أخذ كل شيء في أيديهم، والاستيلاء على كل سلطة لأنفسهم؛ فيروحوا طغاة أكثر منهم زعماء، وبغاة عتاة جبابرة، لا هداة أخيارًا صالحين.
ومن الحق بل من الواجب أن يكون عبء الإثبات ومهمة التدليل على صلاحية الزعامة وطيب نوعها وحكمة اتجاهها واقعًا في الجماعات الديمقراطية على الزعيم نفسه، فهو الذي ينبغي أن يبرز حقيقته للناس في عمله، ويدلل على نوع زعامته بمسلكه وتصرفاته.
وينبغي ألَّا ننسى أن الشعوب الديمقراطية العريقة قد تلقت دروسًا تاريخية في هذه الناحية، ووجدت العبر المواثل لها في ماضي حياتها، فأضحت بحق تخشى قيام الطغاة والجبابرة، وتشفق من النزعات الاستبدادية التي طالما خلقت من قبل أُسْراتٍ متحكمة، وأرستقراطيات وراثية، وبغاة مطلقي السلطان.
ومن ثم قد أصبحت هذه الشعوب تطلب — ولها الحق فيما تطلب — من كل زعيم يتولى قيادتها أن يبرر وجوده، ويثبت استحقاقه لمكانه، ويدلل على شفيعه لاحتلال موضعه، بأن يظل أبدًا راعيًا لحقوق الأمة وسلطتها، ذاكرًا حقوق الأفراد وآمالهم، وأمانيهم ومطالبهم، مخلصًا لبلاده، متفانيًا في وطنه، بعيدًا من نزوات الشهوة والمآرب والأغراض.
وليس هذا بنافٍ ما للزعماء من سمو المواهب، ورفعة النفوس، وبُعد البصيرة، وأصالة الرأي، وما هو باعتراض على وجود هذه المَلَكات والصفات فيهم، ولكنه بالعكس يدلل على وجوب توافرها، مثبت لضرورة اجتماعها؛ لأنها هي المعوان لهم على مجانبة الخطأ، والبعد من إغراءات السلطان.
ومن هنا كان من حق الزعامة أن ترتفع بمكانها عن مواضع الصفوف، بل من واجب الصفوف أن تسمو بزعيمها عن مكانها هي ومحلها، وتقيمه في المحل الأرفع، وتقدسه تقديسًا، وتمجده كل التمجيد؛ لأنها إنما ترعى فيه رمزها، وتنظر فيه إلى مثلها الأعلى ونبراسها، وتعتبره مجتمع آمالها وأمانيها وصورة فذة مفردة من صور نفوسها، وخوالج مشاعرها، وما يعتمل منها في القلوب والأذهان.
نعم هو إنسان مثلها، وبَشَرِيٌّ كما هم بَشَرٌ مثله، ولكن المثل العليا تحتاج إلى هذا التقديس؛ لأنه إنما يتوجه إلى المبادئ التي تتمثل فيه، ويراد به المعنى الجليل الذي يُطِلُّ منه، وليس في ذلك ريح الوثنية، ولا ظل لمعنى العبودية؛ لأنه ليس عن خوف، ولا هو من رهبة، ولكنه احترام ذاتيٌّ، احترام الأمة لكرامتها، وإدراك نفسيٌّ عميق لقيمتها، وهو مظهر عزة الناس بأنفسهم، وتقديرهم وإيمانهم بما يعتنقون من مبادئ وتعاليم، وما يبتغونه من مقاصد سامية ونبيل غايات، ومراتب رفعة وكمال.
ومن أكبر الخطر على الزعامة نفسها أن تنزل بأقيستها وأغراضها إلى مستوى الجماعات التي تتولى قيادتها، فإن ذلك ذاهب بجلالها، مضعف لشأنها، مفقد لسلطانها العظيم، وإنما ينبغي للزعيم أن يكون أعْرَفَ وأخَبْرَ بأتباعه وأنصاره وأشياعه وجماهيره منهم هُمْ بأنفسهم، وأن يكون نظره إليهم وتصوره لهم وعمله ومجهوده من أجلهم مقترنًا بالواقع، ملازمًا الحقيقة، متطلبًا الخير، متطلعًا إلى التقدم بهم إلى الأمام، فإن مهمة الزعامة أو واجبها الأول هو أن تَحْمل الناس على الولاء والتفاني في أغراض ومقاصد عظيمة خليقة بهم كأفراد أحرار مسئولين، وجماعة مستقلة تريد أن تحتل بين الشعوب مكانًا عليًّا.
وفي الحق إن الأمم في الاستجابة إلى زعمائها والاستماع إلى أصوات قادتها، إنما تستجيب لما هو أحسَنُ في نفوسها، وتستمع إلى ما هو أنقى وأسمى في أدوارها ومشاعرها وحواسها، وهذا وجه آخر من قولنا إن سريان الشخصية واتساع مدى سلطانها وترامي حدود نفوذها، وهو السريان الذي يساعد الزعيم على إيجاده عند التابعين له والسائرين في أثره، إنما يتلاقى في وقت واحد مع أكبر آمالهم في العيش، وأعز أمانيهم في الحياة؛ بل إن هذه الوَحْدَة التي يجتمع الزعيم مع أنصاره وجماهيره عندها، وحدة الشعور، ووحدة الأماني والآمال والمطالب والدوافع، هي أكبر مبرر لوجود الزعامة، وخير مدلل على وجوبها في النظام الديمقراطي؛ إذ ليست الديمقراطية سوى العلاقة النفسية التي تربط أفراد المجتمع، والصلة الروحية التي تشد بنيانهم العام، والآصرة المعنوية من الرخاء والمساواة في الحقوق، والاشتراك في الجهاد للمُثل العليا التي تتطلع المجاميع إلى بلوغها، وليس الزعيم الديمقراطي في الواقع سوى الوسيط أو المعوان الذي يساعد الجماعة على الارتباط بهذه الصلة، والتزام هذه الرابطة، والتضافر على بلوغ تلك الأمثلة.
وهذا هو المراد بما يقال أبدًا عند إظهار حسنات الزعامة الديمقراطية وإبراز فضلها والتنويه بخيرها، من أنها هي التي تحدث وَقْدَة النشاط في الجماعة، وتستثير الحمية في النفوس، وتُكْسِبُ الأمم روح المرح والأمل، وتبعث عاطفة الإيمان واليقين؛ لأنها في الحق، إذا بلغت أشدها وظهرت في رأس الجماعة بخير مراتبها وأحسن درجاتها، أكبرُ معوان لنا على السمو فوق أنفسنا، وهي لهذا السبب وحده — إن لم يكن لسواه — من أكبر واجباتها لكي تنجح وتعمر في البلاد الديمقراطية أن تعمل في كل ناحية، وتشرف على كل فرع من فروع الحياة، وتوجه الآخرين أحكم توجيه، وترشد الناس جميعًا إلى ما ينفعهم. ويَرُدُّ عليهم أحسنَ مَرَدٍّ، وهي ليست موكلة كما يُظَنُّ بالقضايا الخطيرة وحدها، والحركات الكبرى دون سواها؛ وإنما هي — كما قلنا — المشرفة على كل شيء، الباعثة النشاط والسداد والحكمة في كل ناحية، أو هي «الراعي» العام الذي يرتاد للجماعات أطيب مُرْتَاد، ويرعى مرافقها أتم الرعاية …
•••
وفي العصر الحديث قد رأينا زعماء مضت خططهم بادي الرأي صالحة لخير المجاميع، ثم ما لبثوا بفعل التخدير الروحي الذي استعانوه على تملك نواصي الجماعات، والأخذ بمقاود الأمم، خلال النشوة المذهلة، والثمل بأحلام المجد والعظمة، وأمانيِّ الخير والرخاء، أن انقلبوا مطلقي السلطة، منفردين بالأمر، وإن أبقوا في الديمقراطية على ظل واهن، وتركوا النظام النيابيَّ قائمًا بهيكله دون جوهره. وقد صبرت الجماعات لهذا التحول الجديد، وارتضت إلى حين هذا الانقلاب الظاهر؛ لأنها ظلت في ثمل بالمجد المنتظر والعلاء المتطلَّع إليه، والرفعة التي يُتَحَدَّثُ لها عنها في لغة من الشعر، وبيان كالسحر، وتصوير يستبي القلوب، ويستحوذ على الوجدان.
وفيما شهدنا من فعال بلسودسكي زعيم بولونيا، وبريمو دي ريفيرا في إسبانيا، وفنزيلوس في اليونان، ومصطفى كمال في تركيا، وهتلر في ألمانيا، وموسوليني في إيطاليا، أدلة ماثلة على الديمقراطيات التي تتعرض للخطر الذي أشرنا إليه، وشواهد نواطق عن احتمال اتجاه الزعامات الديمقراطية إلى ما يسمونه السلطان المطلق للخير، أو الدكتاتوريات الخَيِّرَة الحسنة القصد الطيبة المراد.
ولكن هذه الأحداث ليست في الواقع كما قدمنا غير هزات عارضة، وفترات قصار، تمر على الجماعات، فتدعها تستسلم لحرمانها من حقوقها، وتسلم كل السلطات وهي مصدرها، تحت تأثير الحلم الذهبيِّ المصَوَّرِ لها، فإذا لم يتحقق، اقتصت من الذين خدعوها، واستعادت سلطانها المغصوب.
ولقد كان القدر الرحيم متلطفًا بنا، راعيًا لأمرنا؛ فنشأت عندنا الديمقراطية، قبل أن يتوطد لدينا الاستقلال، وكان خصومنا يظنون أننا سوف ننشغل بها عن طلبه، أو ستشغلنا هي بأنفسنا، وتبذر بذور الشقاق والفرقة بيننا، فلا ننصرف إلى استكمال استقلالنا؛ فأطلقوا لنا أولًا المشيئة في إقامة الديمقراطية ونظامها، وافتتاح الحياة النيابية ومطالبها، فوضعنا دستورًا وأنشأنا برلمانًا، ثم وقف خصومنا عن كثب يشاهدون ماذا تُرَى نحن صانعون …؟!
ولكن الدستور الذي أريد به أن يكون أذًى وبلاءً انقلب خيرًا ووفاءً، بل إن الدستور الذي قصد به أن يروح أداة تفريق، لم يلبث أن استحال أداة توحيد ووسيلة إجماع، ومظهر تكاتف وتضافر والتئام؛ لأنه جاء فغربل الجماعة، ونخل الحياة، ونفى ما لا خير فيه، وأبقى على الخير الصالح وأبرز الطيب الماكث في الأرض، وجعل الزَّبَد جُفَاءً.
كذلك وَقَتْنا الديمقراطية من بداية أمرنا؛ فاستَرْوحنَا إليها، وحذقنا في وقت قصير مطالبها ومقتضياتها، وصُنَّا بها إجماعنا، وحفظنا بفضلها كثرتنا؛ فلم يلبث القدر الرحيم مرة أخرى أن أراد أن يزيدنا بها استمساكًا، وينمي في نفوسنا قوة الحرص عليها، فجعل خصومنا غضابًا منها، مؤتمرين بين حين وآخر بها، حتى لقد راحوا يعطلون أداتها، ويغرون أعوانهم بسحبها وحرمان البلاد منها، فاشتدت اللهفة مع الحرمان، وازداد بفضلها اليقين والإيمان، وتوالت فترات الجهاد والكفاح لاستردادها، فكان انتصار الديمقراطية في كل مرة ملهمًا بأن النظام الديمقراطي هو أصلح النظم، ما دام هو المستهدف أبدًا لأعنف العدوان.
وقد نشأت الزعامة عندنا في وسط الثورة، فكانت بطبيعة الموقف من النشأة زعامة تستند إلى المشيئة العامة، وتعبر عن إرادة الأمة؛ بل وقاها سلطانها الروحي الغامر الشامل في الجماعة من فتون السلطان الماديِّ في الحكم والأمر والنهي وطلب الطاعة، إذ كانت خارج الحكم المستغنية عنه، المعتزة بمكانها دونه، ثم إذ جاءت الديمقراطية وحل عهدها، أكسبها الحق في الحكم فهي تشدد فيه؛ لأنه حقها، ولا يمكن أن تتركه لغيرها، فيتولاها بلا حق فيه، ومن يغتصب حقًّا فهو المسيء حتى وإن ابتغى به الإحسان …
ومن ثم جربت البلاد الطغيان ليكون درسًا لمعناه وخبرةً بوجوهه وامتحانًا بمواده، وليظل النظام الدستوري الديمقراطي هو الموئل الأوحد من شره، والملاذ الأكبر المستعاذ به من سوئه وأذاه.
وهكذا خدمت الديمقراطية الزعامة فينا، وصانت بالدستور — وهو أداتها الأولى — إجماعنا، فكان الوفد المصري مع زعامته الأولى صاحب الفضل في إنقاذ الديمقراطية من خصومها المتكاثرين.
وقد أثبتت الحوادث بعد ذلك أن الديمقراطية هي التي أنقذت الاستقلال أيضًا وهيأت له، وأعانت على الظفر به، وبذلك اكتسبت الزعامة الثانية — أو زعامة مصطفى النحاس — قوتين مجتمعتين: القوة التي تستمدها من الديمقراطية، والقوة التي تستعين بها من الاستقلال، بل بهذا وحده انتفى الخطر الذي تتعرض الجماعات له، وقامت زعامتنا على أوطد أساس، ونهضت فوق أقوى القواعد لأعز مكان.
لا خوف إذن علينا في عهدنا الجديد من النزوع إلى التفرد، ولا خشية من الجنوح إلى الاستئثار؛ لأن نظامنا النيابي هو بالنسبة لنا ساحل الأمان وصخرة النجاة.