الفلسفة النفسية والشذوذ

الفلسفة النفسية

ليس من الممتنع على نحو ما قال «فاكه» أن نعرف أنَّ الفلسفة خالدة في كل عصر، وأنها تقضي حاجة من حاجات العقل البشري، وتجمع المستنبطات العلمية في نظامٍ من الأفكار، وتجتاز العلم،١ فتبحث وتنقِّب على قدر الإمكان عن لغز الكون وسرِّه، فلا الفلسفة، ولا علم ما وراء الطبيعة ينطويان في يومٍ من الأيَّام، فالحياة لا قيمة لها كما قال «نيتشه»، إلا من حيث أنَّها آلة المعرفة، ومهما تطمح البشرية إلى المعرفة الجزئية، فإنَّها تظل شديدة التطلع إلى المعرفة الكلية، فلا تكل في سبيل الوصول إلى هذه المعرفة، ولا تفتر رغبتها فيها.

للروح الفلسفي في أدب الإفرنجة مظاهر شتَّى: فمرة يعرض كتَّابهم لنفس المرأة، فيمعنون في بواطن هذه النفس، حتى تنكشف هذه البواطن للعيون، كما فعل «بورجه» في روايته «أكاذيب»، فإنَّه لما قال في بعض مواطن هذه الرواية: «من النساء طائفة لهن أسلوب سماويٌّ في الإغضاء عن انبساطات ينبسطها الرجال في حضرتهن …» كشف الغطاء عن حيلة خالدة من حيل النساء.

ولمَّا قال في الرواية ذاتها: «تشعر النساء بفرحٍ عظيمٍ إذا قلن في شيءٍ من الابتسام، حقائق لا يُؤمن بها الرجال، الذين يسمعونها منهن، فإنهن يشعرن في مثل هذه الحال بقليلٍ من الخطر، الذي يهز أعصابهن هزًّا لذيذًا …» عرض مُلاحظة ثمينة في معرض حديث، أصاب فيه كل الإصابة. ولمَّا قال أيضًا: «كلَّما قلَّ نصيبُ استحقاق النِّساء للشفقة عليهن، ازدادت رغبتهن في خلق هذه الشفقة في القلوب، وإلهام هذه القلوب إيَّاها …» صوَّر طائفة يسيرة من روح المرأة في صورة جديدة.

لقد كان «بورجه» أستاذ الروايات النفسية، يصف النُّفوس وحالاتها ونشوئها وتحوُّلِها، وصفًا قويًّا، تعمَّق فيه كلَّ التعمُّق، ففي روايته «أكاذيب» وصف كيف يكون حب النساء المنصرفات إلى الملاذ، أو حب النساء المنخفضات في عصرنا هذا. وفي روايته «التلميذ» وصف، ماذا تستطيع تنشئة العقيدة الفلسفية في النفس التي عزمت على أن تُطابق بين فكرها وعملها، ففي هذه الرواية مائة وخمسون صفحة في التحليل تكاد تكون أعجب ما كُتِبَ في هذا الباب.

قد يعرضون لتصوير غرائز النِّساء، اللواتي يندفعن في أعمالهن مُطيعات لحمهنَّ ودمهنَّ، فإنهن ألاعيب الطبيعة، وهنَّ يجهلن القوة التي تدفعهن، وإلى القارئ صورة عاطفة من عواطف أحد الأشخاص، الذين صورهم «موباسان» في قصته: «اليد اليسرى»: «هل تعلم هذه المرأة في معظم الأحوال، هل تعلم هاته النساء، حتى أدقهن نظرًا، وأشدهن تراكبًا، لماذا يعملن؟! إنهن يجهلن ذلك، كما يجهل الدُّولاب لماذا يدور في الهواء، فكما تهب ريح غير محسوسة على هذا الدولاب، فتدير سهمه المركَّب من حديدٍ أو نحاس أو من خشب، كذلك يظهر عامل من العوامل لا تدركه الحواس، فيحرق قلب النساء المتقلِّب، ويدفع هذا القلب إلى عزيمة من العزائم، سواء أكانت النساء من المدن، أم من الأرياف، أم من الضواحي، أم من الصحراء.

وبعد هذه الحركات يستطعن أن يدركن، إذا كنَّ يعقلن ويفهمن، لماذا عملن هذا الأمر بدلًا من ذاك، أمَّا في وقت تحرُّكهنَّ للعمل، فإنهن يجهلن سبب التحرك؛ لأنهن ألاعيب حواسهن العجيبة، فهن عبدات طائشات، يخضعن للحوادث، وللبيئات، وللانفعالات وللاتفاقات، التى تهتزُّ منهن نفوسهن لحمهن!»

وفي بعض الأحايين، يتصدَّى الكتاب لمرضٍ من أمراض النفس، فيصفون مبلغ تأثيره في النفس، قال «أناتول فرانس» في وصف الحسد:

يعمل فينا الحسد عمل الملح في الجليد، إنَّه يحل تجاليد الإنسان بمجامعها ويعجل في حلِّها تعجيلًا راعبًا، فمثل الحاسد كمثل الجليد، فإنَّ الحاسد ينحلُّ في الوحل، فالحسد نوع من العذاب والنار، والحاسد محكومٌ عليه بالعذاب، الذي يُصيب من يريد أن يعرف كل شيء، وأن يرى كل شيء!

في مرات يصف كاتب من الكُتَّاب مزاجًا من الأمزجة، فيتجلَّى في هذا الوصف روح عقيدة فلسفية بجملتها، كما تجلَّى روح التَّفاؤُل في وصفِ السَّيدة «سارسي» لمزاج والدها في مقال علق منه بالحفظ ما يلي:

كان أبي ينهض بأعباء الحياة الثقيلة، والابتسامة على شفتيه، فقد كان جذل الظَّاهر والباطن، يستقبل المحن وهو هادئ البال، حتى كنت أقول في نفسي: أفلم تجر دمعةٌ في قلبه. وكان ينظرُ إلى الأشياء من وجهها الحسن، فإذا حدث حادث، واستطاع بعده أن يغط قلمه في الحبر، ويتمِّمُ مقاله الذي بدأ به، لم يُبالِ بهذا الحادث مهما كان عظيمًا، ومن رأيه ألَّا يهتم الإنسان بأمر قيمته نسبية، فالذين هم من هذه الفطرة سعداء؛ لأنهم يفخرون بسكوتهم في آلامهم، كان قوي الطبع، ومادام قادرًا على أن يُعارك، ويعلم، ويقرع الناس ويقرعوه، ويغمزهم ويغمزوه، فالحياة في نظره حسنة طيبة.

ولكن التعمُّق في التحليل، لا يظهر في شيءٍ ظهوره في وصف حالة من حالات النفس، كالفرح، والكآبة، والتغلغل إلى هذه الحالات، وكشف الغطاء عن دقائقها المُتباينة.

شهد مرَّة «أناتول فرانس» رواية: هاملت، في المسرح الفرنسي في باريس، فتكلَّم عن هذه الرواية في كتاب من كتبه الخالدة: «الحياة الأدبية» قال في جُملة كلامه، مُخاطبًا هاملت نفسه: لقد شعرت رؤيتي إيَّاك يا أميري بفرحٍ كئيبٍ، وهو أكثر من الفرح الفارح!

قسَّم «أناتول» الفرح في عبارته هذه قسمين: الفرح الكئيب، والفرح الفارح أو الفرحان، وهذا غاية في التحليل.

ومن هذا القبيل قوله الكآبة، وقد تكلَّم على كتاب من كتب «لوني» فقال:

قصَّ علينا «لوني» أنباء الأسابيع الأخيرة، التي قضاها في بلاد اليابان، إنَّ في قصصه هذا صفحات مُنتخبة، لكنها غاية في الكآبة، وسواء أوصف البلد المقدس «كيوتو»، وألمح إلى مَعابده الآهلة بعجائب المخلوقات من قديم الدهر، أم صور الجماعات الحسان في «يدو» التي تنسحب على أذيال أوروبة في أزيائها ورقصها، أم مثل لنا الإمبراطورة في سحرها الغريب، إنَّه ينشر في صفحاته كآبة غامضة، دقيقة، نافذة، تُغشي قلبك كما يغشي الضباب الجو!

فغموض الكآبة ودقتها ونفاذها، غاية في التعمق في معرفة حالات النفس.

وكما كانت الكآبة في هذا المقام غامضة، دقيقة، نافذة، كانت في مقامٍ آخر ذات صفاتٍ مُختلفةٍ عن هذه الصفات، فقد تكلَّم «أناتول» مرَّة على «فلوري» الذي كان له في النقد الأدبي، وفي الصحافة المقام الأوَّل، كفَّ بصر «فلوري» في أواخر عمره، فكان يزوره «أناتول» في داره، وفي زيارة من هذه الزيارات طاف «فلوري» حول مكتبته و«أناتول» قابض على ذراعه، يدلُّه على الطَّريق، فكان «فلوري» يضع يده على كتابٍ من الكتب، فيعرفه بمجرد اللمس، وإنَّه ليضع هذه اليد على كتاب اسمه: «شيشرون»، اذ أخذت هذا الشيخ هزة، وبعد أن ذكر لأناتول تاريخ هذا الكتاب، وكيف صار إليه، قال أناتول:

وإنَّه ليتكلَّمُ إذ بلَّل الدمع عينيه، وكنت معه وحدي، لا يراه غيري، فلمسني بيده، فكأنما اجتمعت لي الشيوخ كلهم في صورته، أفلا تلقنا ذكريات شبابنا الطائر بكآبة لطيفة لذيذة في خاتمة حياتنا!

فأضاف «أناتول» إلى الكآبة في هذا الموضع صفات اللطف واللذة، وفي موضع آخر جعل لها صفات تختلف عن كلِّ ما تقدَّم، فقد نشر «موباسان» قصصًا سمَّاها: «اليد اليسرى» في الوقت الذي نشر فيه «لوني» رحلته إلى اليابان وسمَّاها: «يابانيات الخريف». فقال «أناتول» في قصص «موباسان»:

إنها تترك في القلب أثر الكآبة، ولكن «موباسان» لا يُفصح مثل «لوني» عن كآبة الأشياء، ولا يظهر عليه أن تفاوت قوانا وآمالنا يعمل فيه عمله، فالحقيقة أنَّه خالٍ من القلق على أنَّه ليس بجذلٍ، فالكآبة التي ينشرها، إنَّما هي كآبة بسيطة قاسية، وصافية!

وكما يتجلَّى روح الفلسفة في إمعانهم في بواطن النَّفس، وفي كلامهم على الغرائز، وفي تصورهم للأهواء، وفي وصفهم للأمزجة، وفي تحليلهم لحالات النفس، ولدقائق هذه الحالات، كذلك يتجلَّى هذا الروح الفلسفي في تعليلاتهم، فبعد أن تكلَّم «أناتول» على كآبة «لوني» و«موباسان» مضى يبسط أسباب هذه الكآبة فقال:

لقد أكلنا ثمر شجرة العلم، ولم يبقَ منه في الأفواه إلا طعم الرماد، وضربنا في مناكب الأرض، وخالطنا أُممًا شتَّى، منها السُّود والحمر والصفر، وبان اختلاف البشرية، ورأينا أنَّ هذا الاختلاف أعظم ممَّا كنَّا نتصوره، ووجدنا أنفسنا أمام إخوان أجانب، لا تُشابه أرواحهم أرواحنا، إلا بقدر ما تشابهها أرواح الحيوانات، ثمَّ جُلنا في الأحلامِ كلَّ مجالٍ فقلنا: ما هذه البشرية التي تتغيَّر سحناتها وأرواحها وآلهتها، بتغَيُّر مباءاتها، ولمَّا كنا لا نعرف من الأرض إلا حقولها، التي كانت تدرُّ علينا الخيرات، كانت هذه الأرض كبيرة في أعيُننا، فلمَّا عرفنا مقامها في العالم، تصور لنا صغرها، فقد علمنا أنَّها ما كانت إلا قطرة طين، فوضع هذا العلم منَّا، وكنَّا محمولين على الظنِّ، بأنَّ أشكال الحياة والعقل كانت أعظم مما تمثَّل لنا، وأنَّ في الكواكب والعوالم بمجامعها مخلوقات تفكر، ففهمنا بعد ذلك أنَّ عقلنا صغير، الحياة في ذاتها لا طويلة ولا قصيرة، فالرِّجال الذين تغلب عليهم البساطة، فيقيسونها بالنسبة إلى مُدَّتِها الوسطى، يقولون — وحقًّا ما يقولون: إنَّ الإنسان إذا مات بعد أن يخُطَّه الشَّيب فقد شبع من عمره، أمَّا نحنُ فماذا صنعنا، فقد شئنا أن نحرز عمر الأرض القديم وعمر الشمس، وها نحن الآن نقيسُ حياة البشر على أدوار طبقات الأرض، وعلى أعمار العوالم، فرأينا بعد هذا القياس أنَّ الحياة قصيرة، غرقنا في بحر الزَّمن والمسافة، فتبيَّن لنا أنَّا لم نكُ شيئًا، فثقل علينا هذا الأمر، ولم نشأ أن نقول شيئًا لكبريائنا، فاصفرت وجوهنا، والخطب والجلل أنَّ إيماننا ذهب بذهاب جهالتنا الحسنة، ذهب رجاؤنا، واضمحلَّ أملنا، فلم نؤمن اليوم بالذي كان عزاء لآبائنا، وهذا شديدٌ علينا، فقد كان الإيمان بجهنم نفسها يطيب ويعذب.

وممَّا زاد في بُؤسنا، أنَّ تكاليف الحياة المادية أصبحت أثقل من قبل، فإنَّ الجماعات الحديثة قد جوَّزت ضروب الأماني، فاستثارت بذلك مجهود الإنسان، وأصبح التَّزاحُم على الحياة أشد من كل دهرٍ، وصار الظَّاهرون فيها أكثر حمقًا، والمنكسرون أعظم انكسارًا، لقد أضعنا حب الخير بضياع الإيمان والرجاء، وكانت هذه الفضائل الثلاث، تحمل الأرواح البائسة على ظهر هذا البحر، بحر العالم، فمن الذي يأتينا اليوم بالإيمان، والرجاء، وحب الخير!

ضبط النفس

يقول الدكتور فكتور جوشيه: لكي يكون الإنسان سليم التفكير، صادق العزيمة، يجب أن يتغذَّى مُخه بدمٍ نقيٍّ، وقد ثبت أنَّ مُمارسة الرياضة البدنية، واتِّباع القوانين الصِّحيَّة، من أهم العوامل التي تُنقِّي الدم، وتصفِّيه من الأدران والأوشاب، ومن ثمَّ فالرياضة البدنية تحسن الصحة وتقوِّيها، واتباع القوانين الصحية يمكن الإنسان من تهذيب الإرداة، ولكنه يتطلَّب أن يجري في حالةٍ معنويةٍ جيدةٍ.

ويقتضي ضبط النفس أن تُهيمن على أفكارك، وتحقيقًا لهذا الغرض، يجب عليك أولًا أن تتجنَّب القلق، والهم، واليأس، والغيرة، والحسد، والكُره، وغيرها من المشاعر والأفكار التي لا تضرُّ ولا تُفيدُ.

وعليك ثانيًا أن تحصر ذهنك في موضوعٍ واحدٍ، لا يشغلك عنه أيُّ شاغِلٍ، وهذه الطريقة التي تُسمَّى بالتركيز الذهني، هي أضمن الطرق للتفوق في العمل، والنجاح في الحياة.

وينبغي أن تروِّض نفسك على التركيز الذهني شيئًا فشيئًا، فتحصر تفكيرك في موضوعٍ معيَّن، دقيقة فدقيقتين فأكثر تدريجيًّا، حتَّى يُمكنك تركيزه نصف ساعة أو أزيد، من غير مشقَّةٍ ولا عناءٍ.

وسوف تشعر في أثناء هذه الرياضة الذهنية، أنَّ ذكاءك يقوى وينمو، حتى يُصبحَ في وسعك أن تفهم الموضوع، الذي تفكِّر فيه فهمًا جيدًا، وأن تستخلص منه الحقيقة بعد أن انقشعَتْ وتبدَّدَتْ، تحت قوة التركيز الذهني، سُحُب الغموض والإبهام التي كانت تُحيطُ به من كلِّ جانبٍ.

مرض السهو

ولكن لعلَّك تزعم أنَّك عاجزٌ عن تركيز ذهنك في موضوعٍ واحدٍ، لما يغشاه من السَّهو والطيش، وإنَّك لصادقٌ فيما تزعم، فكم كان أبواك ومعلِّمُوك يقولون عنك في ابتسامةٍ يُخالطها الأسف والتسامح، إنَّك ذكيٌّ، ولكنك طائشٌ ساهٍ! ولكنهم لم يفعلوا شيئًا لشفائك من هذا المرض، الذي يمكنك أن تُشفى منه باتِّباع طريقة التركيز الذهني، والتدريب عليها في شيءٍ من الصبر والجَلَدِ، تدريبًا مُتواصلًا، تصاعديًّا في مدَّته وقوته.

وإذا شعرت بشيءٍ من الهمِّ والقلق، وغيرهما من تلك الأفكار المُؤذية، وجبَ أن تُبادرَ إلى تناسيها، وتركيز ذهنك في شيءٍ آخر يشغلك ويستغرق فكرك، ولئن ثابرت على ذلك، أمكنك بعد وقتٍ طويلٍ أو قصيرٍ، تبعًا لاستعدادك أن تهيمن على أفكارك، وتتحكَّم فيها، بدلًا من أن تتحكَّم هي فيك، وتستبد بحياتك ومصيرك.

ثم ينبغي أن توقف تيَّار الخواطر الجوفاء الشَّاردة، التي تطغى عليك أحيانًا، وقد صدق من قال إنَّ الرجل بأفكاره، وبقدرته على ضبطها، وتنقيتها، ثمَّ توجيهها حيثما يريد، لخيره وخير الآخرين.

الإيحاء الذاتي

ومن عوامل ضبط النفس تهذيب الإرداة، ولعلَّ من أفضلِ ما يُساعدك في تهذيبها اتباع طريقة الإيحاء الذاتي، كأن تُحدِّث نفسك بصوتٍ مسموعٍ بأنَّك سعيدٌ مُغتبِطٌ، وإن كنت في الواقع شقيًّا مهمومًا، وبأن هذا الشَّقاء لا بدَّ أن ينقضي، وفي وسعك أن تتغلَّبَ عليه، ودوامُ الحالِ من المحالِ.

وإليك بعض ما ننصحك باتباعه في تهذيب الإرداة:
  • (١)

    حدِّد لنفسك عملًا تُؤدِّيه يوميًّا، وتحاسبها عليه كلَّ مساءٍ.

  • (٢)

    امضغ طعامك مضغًا بطيئًا جيدًا، فالمضغ الجيد يُسهِّلُ الهضم، ويقوِّي الإرداة في الصبر على أدائه، والواقع أنَّ الفم الذي تجري فيه حركة المضغ، هو العضو الوحيد من أعضاء الجهاز الهضمي، الذي يمكنك أن تضعه تحت إشراف الإرداة، ففي وُسعك أن تحرِّك فمك كما تُريدُ وحينما تُريد، وليس في استطاعتك أن تفعل ذلك مع معدتك، أو أي عضوٍ آخر من أعضاء الجهاز الهضمي.

  • (٣)

    ضع لنفسك مِنهاجًا للتغذية، فلا تأكلُ أكثرَ من المقدار المعيَّن، ولا تقرب الطعام على شبعٍ، وعليك بالصَّومِ من حينٍ إلى آخر، وبالكفِّ عن تناوُلِ اللحم، والتوابل، والمنبهات أحيانًا.

  • (٤)

    يجب أن تؤدِّي بعض الألعاب الرياضية أداءً مُنظَّمًا، في صباح كل يومٍ ومساءه.

  • (٥)

    تنفس تنفيسًا عميقًا، كلَّما خرجت إلى الهواء الطلق، واحرص على استخدام الأنف دون الفم في حركتي الشهيق والزفير.

الشخصية وسكينة النفس

قال الدكتور ي. لوث نيمان: وضعتُ مرَّة، وأنا شاب، جدولًا «بطيبات» الحياة المُعترف بها، فكتبت هذا البيان بالرَّغائب الدنيوية: الصحة، والحب، والموهبة، والقوة، والثراء، والشهرة، ثم تقدمت بها، في زهوٍّ إلى شيخٍ حكيمٍ.

فقال صديقي الشيخ: «جدول بديعٍ، وهو موضوع على ترتيب لا يعد غير معقول، ولكن يبدو لي أنك أغفلت العنصر المهم الذي يعود جدولك بغيره عبثًا لا يطاق.»

وضرب بالقلم على الجدول كله، وكتب كلمتين: سكينة النفس.

قال: «هذه هي الهبة التي يدَّخِرُها الله لأصفيائه، وإنَّه ليُعطي الكثيرين الذكاء والصحة، والمال مُبتذل، وليست الشُّهرة بنادرة، أمَّا سكينة القلب فإنه يمنحها بقدر.»

وقال على سبيل الإيضاح: «ليس هذا برأيٍ خاصٍّ لي، فما أنا إلا ناقل، من المزامير، ومن ماركس أوريليوس، ومن لاوتسي، وهؤلاء الحكماء يقولون: «خلِّ يا رب نعم الحياة الدنيا تحت أقدام الحمقى، وأعطني عقلًا غير مضطربٍ».»

وقد وجدت يومئذٍ أنَّ من الصَّعبِ أن أتقبَّل هذا، ولكن الآن، بعد ربع قرنٍ من التجربة الخاصَّة، والملاحظة الدقيقة، أصبحت أدرك أنَّ سكينة النفس، هي الغاية المُثلى للحياة الرَّشيدة، وأنا أعرفُ الآن أنَّ جُملة المزايا الأخرى، ليس من الضروري أن تُفيد المرء السكينة، وقد رأيتُ هذه السكينة الباطنة تزهر بغير عونٍ من المال، بل بغير مددٍ من الصحة، وفي طاقة السكينة أن تحول الكوخ إلى قصرٍ رحيبٍ، أمَّا الحاجة إليها فإنها تحيل القصر الملكي قفصًا وسجنًا.

وتأمَّل دعوات الإنسانية من كلِّ مِلَّة في كلِّ عصرٍ، فإنها كلها تلخَّصُ في أمرين: رزق اليوم والسكينة الباطنة، على أنَّ هذه الدَّعوات من أجل سكينة النفس، لا ينبغي أن تخلط بالهرب إلى برجٍ عاجيٍّ من عباب الحياة، وإنما غايتها التوازن الباطل، الذي يمكننا من التغلب على صدمات الحياة.

ولا سبيل إلى الفوز بسكينة النفس، بجهدٍ يسيرٍ أو عابرٍ، وقد يعين على إيتائها أن يكون المرء على صِلةٍ بالأعمالِ النبيلةِ — من أدبية وموسيقية وفنية — غير أنَّ هذه وحدها لا تُرضي جميع مطالب الرُّوح كل الرِّضا، ومن المحقَّق أنَّنا لن نجد السكينة بعنف الجري وراء المال، الذي يتفلت كالزئبق من بين أصابعه المتشبثة، بل لم نجد السكينة على نحوٍ وطيدٍ في الحبِّ الإنساني وجلال تبادله، وإن كانت هذه العاطفة أقوى ما يُوهم الإنسان أنَّه فاز بالسعادة التَّامة.

إذن أين تلتمسها؟ إنَّ مفتاح هذه المسألة يُوجدُ في بيتين للشَّاعر ماتيو أرنولد: «إنَّنا خليقون أن نظفر بالسكينة الباطنة، ولكنَّنا لا نُدبِّرُ عيوننا في أنفسنا» هنا بجملةٍ واحدةٍ، يتبدَّى ركوبنا رأسنا وعنادنا.

وإنَّه لمن السُّخرية الجليَّة أن بعض الأديان، يُؤكِّد واجبات الإنسان لغيره، ولا يكادُ يقولُ شيئًا عن واجبه لنفسه، ومن أعظمِ ما كشف عنه علم النفس الحديث، أنَّ موقفنا حيال أنفسنا أشدُّ تعقيدًا من موقفنا حيال الغير، ومن الممكن أن تُفَسِّرَ الوصية الدينية العظيمة القائلة: «أحبب جارك كما تحب نفسك» على أنَّ معناها «أحبب نفسك حُبًّا صادقًا، وحينئذٍ تحب جارك».

تلقَّى رجلٌ من مشاهير العاملين في الخدمة الاجتماعية، رسالة من سيدةٍ تريدُ أن تنضم إليه في كفاحه لمساعدة الفقراء، وقد تكلَّمت بإسهابٍ عن نقائصها، وختمت رسالتها بقولها، إنها ترجو أن تعوِّض حماستها بمكافحة ما بها من نقائص، فكتب إليها هذا الرد الوجيز: «سيدتي العزيزة، إن نقائصك البديعة حقًّا هي في غاية العظمة، وما من شيءٍ يمنعكِ أن تُصيبي بها ضحايا وداعتك، وأن أنصح لك بأن تزيدي من حبك لنفسك، قبل أن تبعثري حبك على الغير.»

وقد يذهب البعض إلى أنَّ هذا مبدأ خطر، فيقولون: «إن النَّاس مُسرفون فعلًا في حبهم لأنفسهم، والغاية الحقيقية للحياة، هي إنكار الذَّات في خدمة الغير.» وهذا تقدير للطبيعة الإنسانية، لا يخلو من أخطاء، فهل صحيحٌ أنَّنا نحسن إلى أنفسنا عفوًا؟ إنَّ الدلائل تُشير إلى العكس، فكثيرًا ما نعامل أنفسنا معاملة أصرم، وأحفل بروح الانتقام من معاملتنا للغير، ومن الأدلة المُتطرفة على هذا، الانتحار، وغيره من صور تحقير الذَّات، مثل إدمان السكر، أو المخدرات، أو الفجور. وشوارع العالم غاصَّة برجالٍ ونساءٍ يُشوِّهُون أنفسهم تشويهًا روحيًّا بانتقاد النفس، ويسيرون في الحياة مسيرة من ينتحر بعض الانتحار، فيقضون على مواهبهم، ونشاطهم، وملكاتهم الإنشائية الخالقة.

ومثل هذه الأعمال جريمة، لا ضدَّ أنفسنا فحسب، بل ضد الجماعة أيضًا، فإنَّ الذي ليس عنده رعاية صحيحة لكفاياته ومواهبه، لا يمكن أن ينطوي على احترام للغير، ولست أعني بحبِّ النفس، تدليلها، أو الإغراق في تمجيد الذات، ولكنِّي أُصرُّ على وجوب احترام الذات، كشرطٍ لازمٍ لحياةٍ أخلاقيةٍ، حميدةٍ، نافعةٍ.

وثمَّ ما لا يُحصى من الوسائل، التي نُظهر بها ازدراءنا لأنفسنا أكثر مما نُظهر احترامها، فهناك مثلًا إحساساتنا بالنقص، وما أكثر ما نعزو إلى جيراننا التفوُّق، ونُبالغ في كفاياتهم، ونهوي إلى درك العربدة، في النيل من أنفسنا وانتقادها، ووجه الخطأ هنا، هو أننا لا نرى في الغير إلا ظاهر الثقة والاتزان، ولو أنَّنا تعمَّقنا، وأدركنا أنَّ الرجال والنساء جميعًا بهم ندوب من معارك كثيرة خسروها، لكان حكمنا على إخفاقنا أقل قسوة.

ولمن يسير في الحياة، وقد سيطر عليه اعتقاده أنَّ به نقصًا أقول: «إنك في الحقيقة قويٌّ جدًّا، وحكيم، وناجح، ولقد أحسنت إذ استطعت أن تصوغ وجودًا إنسانيًا مُحتملًا من المواد الأولية، التي كانت تحت تصرفك، وهُناك من يحبونك، ويُوقرونك، كما أنت، فانزع هذه النظَّارات السود، واتخذ مكانك، كندٍّ لغيرِكَ من البالغين الراشدين، واعلم أن قوتك كافية لمواجهة مشاكل عالمك هذا.»

وثَمَّ طريقٌ آخر لاحترام الذات، وذلك أن نتقبَّل عيوبنا كما نتقبَّل مزايانا، وأكثر من ترى من الناس، عنده صورتان لنفسين في غرفتين منفصلتين، ففي إحدى الغرفتين تعلق صورة الفضائل بألوان قويةٍ وضاءةٍ، وفي الغرفة الأخرى صورة يتمثَلُ فيها الإنحاء باللوم على الذات، وهي مرسومة كالأخرى رسمًا غير مُطابِقٍ للواقع، بألوانٍ قاتمةٍ سقيمةٍ.

وبدلًا من التفريق بين هاتين الصورتين، ينبغي أن ننظُرَ إليهما معًا، وأن نمزجهما شيئًا فشيئًا، حتى نُخرجَ منهما صورةً واحدةً، ويجب أن نسعى لنعرف أنفسنا ونتقبلها كما هي، مجموعة من وجوه القوة والضعف، وإنَّه ليكون حسبنا إذا نحن تعلَّمنا أن نحترم أنفسنا بكل نقائصنا ومزايانا، وأن نعلم أن الحب الصحيح للنفس، لا يُغالي بفضائلها، ولا يغض من قيمتها.

والمهم أنَّنا ننعم طول حياتنا بمزيَّة النمو، ففي وسعنا أن نستفيد براعاتٍ جديدة، وأن نشتغل بضروب جديدة من العمل، وأن نوجِّه همَّنا إلى قضايا جديدة، وأن نكتسب أصدقاء جديدين.

فإذا سلَّمنا بأن لنا اقتدارًا في بعض النَّواحي، وأنَّنا محددون في نواحٍ أُخرى، وأنَّ العبقرية نادرة، وأن التوسُّط هو حظ الأكثرين منَّا، فلنذكر أيضًا أننا نستطيع، ويجب، أن نغير أنفسنا، فإننا إلى يوم نموت، نستطيع أن نواصل النمو، وأن نُفجِّر ينابيع كامنة في كياننا.

وكل من ينشد سكينة النفس، ينبغي أن يتعلم أن ينبذ كثيرًا من الأشياء؛ ليكون استيلاؤه على غيرها أتم، وقد كانت رغباتنا إذ نحن أطفال صغار، هي التي لها السلطان، ولم يكن علينا إلا أن نبكي، فيُبادر عالم الكبار إلى إجابة كل رغبة لنا، ولم نكن نعرف في تلك المرحلة من مراحل النمو، إلا قليلًا عن إرجاء ما فيه مرضاتنا، أو ضرورة النزول عنه، ولكنَّا نحن نكبر، نتعلم أن كل مرحلة من مراحل النمو، تستدعي أن نقدر أشياء مُتفاوتة، وأن نضحي ببعضها في سبيل البعض الآخر.

وقد بين الفيلسوف «سانتايانا» أنَّ الصعوبة الكبرى في الحياة، ليست في الاختيار بين الخير والشر، بل في الاختيار بين الخير والخير، على أنَّنا في صدر الحياة لا نُدرك أن رغبة ما يمكن أن تكون ملتئمة مع رغبة أخرى، وقد يتردَّد الفتى بين عشر خطط للمستقبل، ولكن الرجل الناضج، يكون عليه أن ينبذ خططًا كثيرة ليمضي في واحدة.

وهذه الحقيقة ذاتها تصدق في عالم العواطف، فإنَّ من المُلائِم لسنِّ المراهق، أن ينقل فؤاده وحبَّه من واحدةٍ إلى أُخرى، ولكنها تكون مأساة إذا قام الكبير بدور المراهق، والرجل الذي يُحاول أن يرتدي ثوب الشباب الخالي من الهموم، والمرأة التي تكسو عواطفها ثياب عروس من عرائس اللعب، هذان مسكينان يستحقَّان الرثاء؛ لأنهما لم يتعلما أنَّ النمو الإنساني معناه إغلاق أبواب عديدة، قبل أن يتسنَّى فتح باب كبير واحد، باب الحب الناضج، والعمل الناضج.

والحقيقة الأساسية الأولى في حياتنا الفردية، هي أنَّه لا غنى لإنسانٍ عن الحبِّ، وأعني «بالحب» العلاقة بشخصٍ يعتزُّ به، أو جماعةٍ يضنُّ بها، والشُّعور بأنَّ الإنسان ينتمي إلى كل أكبر منه، وأنَّ له قيمة عند غيره من الناس.

وحاجة بعضنا إلى بعض، هي أشمل الحقائق الإنسانية، فإنَّ شخصياتنا تُصاغُ بفضل احتكاكنا واتصالنا بالغير، وقد يتلقَّى الغلام عدوى الشجاعة من أبيه، أو شقوة الخوف من أُمِّه، ونحنُ نتمثَّلُ — بالمعنى الرُّوحي — أبطالنا وبطلاتنا، ونجعل أسلوب حياتهم جزءًا من كياننا الوجداني، وهكذا يترك كل قدِّيسٍ، وكلِّ خاطئٍ، أثره فيمن لن يراهم؛ لأن أقوالهم وأعمالهم تنطبعُ على الطين الطري، طين الطبيعة الإنسانية في كل مكان، فهناك إذن واجب على كلِّ واحدٍ منَّا، أن نصبح أحرارًا، مُحبِّين، مُخلصين مُتعاونين، وأن تكون الثقة هي طابع شخصياتنا، فإذا فهمنا هذا الارتباط بالغير، فإن معاشرتنا لأسرتنا، وأصدقائنا، وزملائنا في العمل، ولأنفسنا أيضًا، تصبح خيرًا وأفضل.

والرحمة، هي بعد الخبز، أعظم ما يتلهَّفُ عليه الإنسان الفاني، وهي في أوقات المحنة والكوارث، تجدُ إعرابًا طبيعيًّا عنها، يطيبُ تأمله في أعمال الناس، ولكنَّا نخطئها في أكثر الأحيان في حياتنا كل يوم، وكثيرون منَّا ينزعون إلى التحكُّم والتجبُّر، ويسوء خلقهم مع الغير من الموظفين والباعة والخدم. قال ثورو: «لست أسمِّي إنسانًا ما، خيرًا إذا كان ينسى أنَّ حلاقه، وطباخه، وسائس خيله، مجبولون من الطين البشري مثله.»

ونحن نعصف بسكينة نفوسنا حين نعجز عن أن نكون رحماء بالناس جميعًا، والمحور المرصع الذي يجب أن تدور عليه حياتنا، هو إدراكنا أنَّ كل إنسانٍ نلقاهُ، هو نفس إنسانية كريمة في جوهرها.

والسر الحقيقي للزواج، هو تبادل المحبة البسيطة، وهي في خير مظاهرها، تشجيعٌ مُتبادل، ومتى تقبلنا، ورضي عنَّا، واحتاج إلينا الذين يعرفون عنَّا كل شيءٍ، وأحبونا، فقد فُزنا ببداية السكينة، التي تتجاوز مدى الإدراك.

وحب الجار مؤدَّاهُ، أن تنطوي نفوسنا على تسامح، حيال اختلاف الغير وشذوذه، وأن نُقاوم ما يغرينا بالاستعلاء أو الاستعمار الخاص، ويجب أن نتخلَّى في جُملة ما نتخلَّى عنه، عن الإسراف في التملُّك فيما يتعلَّق بأصدقائنا وأبنائنا، نعم، حتى معاشقنا، والعالم غاص بالنزاعين إلى الاستعمار الخاص، كالأب الذي يكره ابنه ذا المزاج الفنِّي على العمل معه في تجارته، والأم التي تقيِّد ابنتها وتجعلها تبعًا لها، وتلف عليها سلاسل من الشفقة والعطف، وتأبى بذلك أن تدع بنتها تحيا حياتها الخاصة.

ونحن إذ نستمسك بأن تكون آراء غيرنا مُطابقة لآرائنا فيما هو لائقٌ، أو خير، أو مقبول، ندلُّ بهذا على أنَّنا لسنا واثقين من أن صورة باطننا قويمة، فإنَّ الواثق بنفسه يكونُ مُستعدًا أن يدع غيره يكونون كما يشاءون، أمَّا الذي تنقص شخصيته صفة الثبات، فإنَّه يجب أن يُفيد الاطمئنان والثقة، بأن يصب غيره في مثل قالبه، ونحنُ نكشفُ عن حبٍّ صادقٍ، حين نكفُّ عن أن نُطالب من نحبه، بأن يصبح نسخة مُنقَّحة منَّا.

وكل إنسانٍ طبيعيٍّ يُعاني مخاوفَ وهُمومًا لا تُحصى، ولكن من الممكن التغلُّب على هذه، التي هي أعداء للسكينة.

وإنَّه لصحيحٌ، على أحد المعاني، أنَّ الإنسان أُوتي نعمة القُدرة على معرفة الخوف، فإنَّ الخوف كثيرًا ما يكون الباعث على النمو، والحافز إلى الاختراع. ثمَّ إنَّ الخوف الذي يشعر به الإنسانُ عند الخطر الحقيقي مرغوبٌ فيه، ولكن، أليس معظم مخاوفنا لا أساس لها؟ وتدبر هذه الجماعة الكبيرة من المخاوف التي يمكن أن تُوضع تحت عنوان «القلق الشخصي»، فنحن أحيانًا نخشى على صحتنا، نقلقُ على قلوبنا، ورئاتنا، وضغط دمنا، وأرقنا، فنتحسَّس نبضنا؛ لنهتدي إلى دليلٍ على المرض في كلِّ عرض بريء أو لا معنى له، أو يعترينا القلق على شخصيتنا، ونشعر بالتزعزع وعدم الثبات، ونحزن على ما خبنا فيه، ونتوهَّمُ أنَّ الغير يحتقروننا، أو لا يرضون عنَّا.

ويجب أن نُدرك أنَّ مخاوفنا قد تتنكَّر، فيبتدئ مثلًا عدم الثقة بالنفس في صورة خوف من الاماكن المُرتفعة، أو الغرف المُغلقة، وأحيانًا تتخفَّى مخاوفنا في ثيابٍ من الألم الجُثماني. وقد أظهر علم الطب النفساني الجديد، أنَّ سلسلة طويلة من الأمراض، من البرد العادي إلى النقرس، يُمكن في كثيرٍ من الأحوالِ ردِّها إلى متاعب عقلية لا بدنية، وإنَّه لأسهل جدًّا أن يكون المرءُ مريضًا من أن يكون شجاعًا، وليس سوء الصحة الذي يستمتع به كثيرون من الزَّمنى إلا ستارًا لمخاوف عميقة القرار.

وكثيرٌ من مثل هذه الإحساسات بالتزعزع، مُتخلِّفٌ من الطفولة، حين كنَّا غير أكفَاء للحياة، وكنَّا نعرف أنَّ هناك بونًا بعيدًا بين ضعفنا، وقوة عالم الكبار، وهذا البون يزول مع النمو، ولكن طفولتنا تتقاضى مرَّة بعد مرَّةٍ ثمن إخفاقها، أو أغلاطها التي شببنا عنها من زمانٍ طويل.

أترى يُخامرنا الخوف من الموت، أو الخوف من العقاب في الآخرة؟ فإنَّ هذا الخوف ليس إلا امتدادًا لتجرِبةٍ قديمةٍ سابقة حين عاقبنا أحد الوالدين، وأغلق علينا الغرفة، وتركنا وحدنا فيها، أم نحن نُشفق دائمًا من سخط الغير، ويُخيفنا أن لا يتقبلنا المجتمع؟ فلننظر إلى هذه المخاوف بعينِ الرَّجُلِ النَّاضج الرشيد، وأخلق بنا إذن، أن نرى أنَّ جيراننا مثلنا، غير معصومين، وأنَّه لا يحقُّ لنا أن نتوقع أن ندلَّل في عالم الكبار، كما كنا ندلَّل في الطفولة.

ومن بواعث الأمل، أنَّ هذه الحالات لا تلبثُ حتى تزول، وهذا درسٌ صعبٌ، فإنَّا نكونُ مُتعبين، فتصبح وخزة الإبرة مثل طعنة الخنجر، ولكنَّه من الطبيعي والعادي، أن تعتري الإنسان حالات هبوطٍ وانكسار، وعلينا أن نتذكَّر دائمًا، أنَّنا سنخرج منها إلى النور مرة أُخرى، ونحن الآدميين مخلوقات شديدة المنَّة، قادرة على الثبوت لصدمات كثيرة، وإراقة دموع غزار، ومُعاناة مآسٍ عديدة، دُون أن نتحطَّم، فلنتعلَّم ألَّا نعد الانكسار الذي يعرُونا يومًا أو شهرًا، حالة دائمة في حياتنا.

ومن الطبيعي أن نُعاني الخوف على مستقبلنا الاقتصادي والاجتماعي، وما أكثر من تفزعهم البطالة أو تقوض أعمالهم، وهذه المخاوف حقيقية جدًّا، غير أنَّه يتَّصِلُ بها اتصالًا وثيقًا، رواسب عصبيَّة، والأمريكيون على الخصوص مشغولون بسباقٍ بعيد المدى، يشعر فيه العدَّاءون بقلقٍ شديدٍ على الذين يلهثون خلفهم، ويحسدون فيه المتقدمين، وهذا السباق القاسي في سبيل النجاح الاقتصادي، هو علَّة كثير من حالات الإعياء وموت الفجأة.

والرَّغبة في النجاح خُلَّة حميدة في الطبيعة الإنسانية، ففي أيِّ شيءٍ إذن نُخطئ؟ إنَّنَا نُخطئ في توجيه نشاط مسرف، لا إلى العمل الحقيقي، بل إلى الصراع العصبي، فقد يكون للرجل بيت ومال وأُسرة جميلة، ويجد أن طعم كل هذه الأشياء مسيخ؛ لأنَّ عدائين آخرين تقدموه في السباق من أجل الماديات، وليست المسألة أنَّه لا يملك الكفاية لحاجاته ومطالبه، وإنما هي أن غيره يملك ما هو أكثر، «فالأكثر» هو الذي يُخامره ويحمله على التقليل من شأن ما أدركه هو.

وقد آن أن يُقالُ: «لست أنوي أن أهتم بما لغيري من قوَّةٍ أو ثروةٍ، ما دمت أستطيع أن أحصل على ما فيه الكفاية لكرامة أسرتي وأمنها، وسأعين غاياتي لنفسي، ولا أستعيرها من غيري، وإنِّي لأرفضُ أن أقضي على سكينة نفسي بالسَّعي وراء المال وحده، وسأزن نفسي أيضًا بميزان الخير والثقافة.»

ونحن نعلم أنَّ العواصف المكظومة تثأر لنفسها آخر الأمر، في صورة مرضٍ عقليٍّ أو بدنيٍّ، وهذه الحقيقة تُضيءُ لنا مسألة الفوز بسكينة النفس في الشكل والحزن.

وقد استطاع الدكتور إريك ليندمان، بما قام به من البحث الإكلينيكي في مستشفى ماساشوستس العام، حيث فحص مئات ممَّن كسر نفوسهم الحزن، أن يكشف عن هذه الحقيقة الأساسية، وهي أن كظم عواطف الحزن قد يُفضي إلى ردِّ الفعل مرضي فيما بعد، وكان بين مرضى الدكتور ليندمان بعض من تفاقمت علتهم، أو اشتدَّ بهم الانكسار، بعد سنوات من فقد عزيزٍ عليهم، وقد كان البُرء مُدهشًا من أدواء عقلية وجسمية، حيث أمكن أن يعرب لمرضي عن الألم أو الحزن، الذي كان ينبغي أن يجد له متنفسًا من قبل.

وما أسخف الرَّأي الذي شاع في المجتمع الحديث، بأنَّ على الرجال والنساء أن يكظموا عواطفهم، ولا يدعوها تتبدَّى، فإنَّ اجتناب الإعراب عن العاطفة — لا إظهارها — هو الذي يشوِّهُ الرُّوح.

فالقاعدة الأولى التي ينبغي اتباعها عند فقد عزيزٍ أو حبيبٍ، هي أن تُرخي العنان لما تحسُّ به فعلًا من الحزن، ولا تخجل من عاطفتك، فإنَّ إطلاقها الآن، هو الذي سيكون وسيلة شفائك فيما بعد.

إنَّ ما كشفت عنه البحوث النفسانية — من أنَّه من الجوهري الإعراب عن الحزن لا كظمه، والتحدث بما أصيب به الإنسان مع الإخوان والرفقاء، والانتقال خطوة خطوة من الفتور إلى النشاط مرَّة أُخرى — يذكرنا بأنَّ المعلمين القدماء كانوا أهل حكمةٍ وبصرٍ بالطبيعة الإنسانية، وهو ما نُسمِّيه عصرنا المتكلف، وإنَّ التاريخ ليسجل كيف كان إبراهيم ويعقوب وداود يُعربون عن حزنهم علانيةً، وفي غير استحياء، وكان القدامى يبكون جهرةً، ويرتدون الخشن من الثياب، ويمزقون ملابسهم ويصومون، وإنَّه لمن سوء الحظ أن يكون الإعراب عن العاطفة الصادقة قد أصبح في زماننا محظورًا، فلنفهم أنَّ الإعراب الصريح بغير كابح عن الألم، من عوامل الشِّفاء، وأنَّ كلَّ لف وتهرُّب من إظهار الحزن الطبيعي لَمُلْقٍ بنا فيما بعد في هاويةٍ من الأسى.

فإذا تسلَّحنا بمثل هذه المعرفة، وأُوتينا الشَّجاعة والعزم، فإنَّ في وُسعنا أن نحيا كما كان الذين فقدناهم يودون أن نحيا، لا فارغين ولا مُنقبضين، أو مُنطوين على نفوسنا التي نرثي لها، بل خُدَّامًا شُجعانًا لحياةٍ أعظم.

وإنَّه لنادر أن نُؤتى الشجاعة اللازمة لمواجهة فكرة فنائنا، غير أنَّ الإنسان لا يُعدُّ حرًّا في الحياة إلا إذا كان أيضًا مُتحرِّرًا من الخوف من الموت.

وأمَّا فيما يتعلق بموتنا، فإنه ينبغي أن نتذكر ما علمناه إيَّاه بالعلم عن الموت وموافاته، فإنَّا نُفزعُ أنفسنا بلا مُوجب بفظائع نتوقعها ولا يقع منها شيء، وقد قال الطبيب الشهير السير وليم أوسلر: «تدلني تجربتي الإكلينيكية الواسعة، على أنَّ مُعظم الآدميين يموتون بغيرِ ألمٍ أو خوفٍ، ويغشى الساعات الأخيرة من الذهول، مثل ما يغشى السَّاعات الأولى — عند الميلاد.»

وقال مونتين كلمة في غاية الإبداع في هذا المعنى: «لما كنت في صحَّةٍ تامَّةٍ، كنتُ أشد خوفًا من المرض مني حين أصابني فعلًا؟ إنَّ الموت لا ينبغي أن يُخشى، فإنه صديق.»

كلا، ليس الموت عدو الحياة، بل صديقها، فإن العلم بأن أيامنا محدودة، هو الذي يجعلها ثمينة، وقد كان أفلاطون على حقٍّ حين قال: إنَّ الحياة التي لا نهاية لها على هذه الأرض ليست مرغوبًا فيها؛ لأنَّ الوجود الذي لا آخر له لا تكون له قمم ولا أعماق، ويخلو من التَّحدي، ومن السعي والإدراك، وإنَّه لحقٌّ أنَّ لذة السَّعي ونشوة الأماني لتنعدمان، إذا كان الخلود على الأرض مقسومًا لنا.

على أنَّنا لا نجرُؤ أن نغفل تلهُّف القلب الإنساني على نوعٍ من الوجود، فيما وراء هذه الحياة الضيِّقة الفسحة، وثم إحساس عام بأنَّ الله تأبى رحمته أن يُوصد الباب إيصادًا، على مواهبنا التي تنمو في بطءٍ، وإنه لابد أن تكون هناك عوالم نستخدم فيها قوانا التي نِلناها هُنَا، وليس ينبغي أن يستخفَّ المرءُ بآراء الفلاسفة، الذين يُصِرُّون على أنَّه ليس ثمَّ ما يجعل من المستحيل، أن تُوجد الحياة في أبعاد لا تتناولها الأحلام، وأنَّه كما أنَّ الأشعة التي تحت الأحمر لا تُرى بالعين، كذلك هناك مُبدع تام، يُخفي تارات لا تخطر على البال فيما وراء ما يتناوله الحس.

ثمَّ إنَّه ينبغي أن نتذكَّر دائمًا، أنَّ هُناك صورًا أخرى للخلود، غير استمرار الوجود الشخصي، ولعلَّ الإنسان يكشف عن أبدع مظاهر عبقريته، وأخلاها من الأثرة، حين يشيح عن فكرة الخلود الفردي، ويستمدُّ الإلهام من خلود الجنس البشري، ومن الغريب أنَّنا كلما حصرنا تفكيرنا في خلود الإنسانية، صارت حياتنا الفردية أغنى.

سر النفس

يتميَّز علم النفس عن سائر العلوم، بأنَّه تأمُّل الإنسان لنفسه، لا لصورته أو جسمه، وهذه الطريقة، هي التي تُعرف باسم «التأمُّل الباطني» على حين أنَّ طريقة البحث في سائر العلوم، هي المشاهدة الخارجية، أو الملاحظة، كما نفعل في الطبيعة والكيمياء وعلوم الحياة.

ويقول الدكتور أحمد فؤاد الأهواني: «إنَّه منذ أقدم العصور، طالب سقراط النَّاس بأن يفعلوا ذلك، عندما قال الحكمة المشهورة «اعرف نفسك بنفسك»، أمَّا أنا فقد تعلمت علم النفس من التأمُّل في نفسي، أكثر من البحث والاطِّلاع في الكتب، ومن النَّظر إلى أحوال الناس.

وإنِّي لأذكر الآن كيف وقد كنت في سنٍّ صغيرةٍ؛ أي في الحادية عشرة من عمري، ولم أكن بارزًا في الدراسة، بل كثير اللعب، مُتخلِّفًا عن غيري، فأنَّبني والدي، وأحسست بكرامتي تُخدش، فعزمتُ على التفوق، خصوصًا لأن أخي يغيظني بقوله أنِّي بليدٌ وغبيٌّ، فشرعت أنظر في نفسي، هل أنا بليد؟ وهل أنا غبي؟ وكيف يصل الإنسان إلى تحصيل العلوم المُختلفة؟ ففكرتُ واهتديتُ، إلى أنَّ العلة في هذا كله هي انحلال العزيمة، وضعف الإرداة والاستجابة إلى كل شهوة نفسية، وأغلب شهوات النفس في تلك السن تنصرف إلى الطعام وإلى اللعب.

فقلتُ في نفسي، أنَّ العزيمة ليست في الجري وراء الشهوات، والاستماع لجميع الرغبات، بل الإرداة الصحيحة، هي كفِّ النفس عن الرغبة، وكبح جماح الهوى، فصمَّمتُ أن أعارض شهوة الطَّاعة، فكنتُ أخصِّصُ يومًا من كلِّ أسبوعٍ أصومُ فيه، ويومًا آخر لا آكل شيئًا من الخضر على الرغم من وجود شهيِّ الطَّعام على المائدة، وظللتُ على هذه الحال أربع سنين، وصلتُ فيها إلى الصَّفاء، وحملتُ معي زادًا أقتاتُ به في رحلة الحياة، وهذا كله شبيه بالتصوف، فعلته دُون أن أقرأ هذا العلم، أو أعرف حتى اسمه، ولكني عرفت نفسي، وعرفت كيف أتأملها.

شعرتُ وأنا رجل في سن الثلاثين، بحالةٍ غريبةٍ كانت تنتابني، حين آوي إلى الفراش استعدادًا للدخول في النوم، كنتُ أشعرُ برغبَةٍ في البكاءِ دون سببٍ، مع أنَّ دُموعي ضعيفة؛ لأنني أعتقد، أو هكذا تعودت، أنَّ الرَّجل لا يبكي، بل ذلك شيمة النساء، فكانت كلَّما تملكتني الرغبة حبست نفسي، ومنعتُ الدَّمع أن يفيض، وقد تنزل قطرات قليلة في بعض الأحيان، فلمَّا تكرَّرت هذه الحالة أخذتُ أبحثُ عن العِلِّة في هذه الظاهرة، وهنا أُحبُّ أن أقول إنَّ علم النفس لا يُمكن أن يكون علمًا، إلا إذا استطاع أن يهتدي إلى أسباب جميع مظاهر السلوك، ومن أقوال «فرويد» العالم النفساني إنَّ هناك حتمية نفسية، بمعنى أنَّ كل عمل من أعمال الإنسان ليس وليد الصدفة، بل يستند إلى علة، وإنَّنا إذا كنَّا نجهل العلَّة، فهذا يرجع إلى جهلنا وعجزنا عن الوصول إلى المعرفة.

وأعودُ إلى نفسي فأقولُ: إنَّني شرعت أتأملُ في الأسباب الخفية الباطنة، التي كانت تدفعني إلى ذلك البكاء، وأطلب النظر، ورجعتُ إلى الوراء؛ لأن من القوانين المعروفة عند مدرسة التحليل النَّفساني أنَّ الأحداث التي تقع في الصغر، تثبت وتظلُّ كامنة، فتُشكِّلُ السلوك في المستقبل، ويقول «أدلر» — تلميذ «فرويد» الذي انفصل عنه وكوَّن مدرسة أُخرى: إنَّ حياة الطفل حتى سنِّ الخامسة، هي التي تُشكل أسلوب حياته في المُستقبل، في صلته بالمجتمع والناس، وفي اختيار المهنة، التي يكسب منها المعاش، وفي الحب والصلات الجنسية. وفي هذه الأمور الثلاثة، تتركَّز نظرية «أدلر»: الصلة بالمجتمع، واختيار المهنة، والحب.

أمَّا «فرويد» أستاذ «أدلر» فيقول: إنَّ التأثيرات التي يتلقَّاها الطفل منذ الولادة، بل قبل الولادة، أي وهو في بطن أمه، تصحبه في المستقبل، وأنَّ بعض هذه التأثيرات، تكبت في النفس بعامل التقاليد والتربية، وما إلى ذلك، ولكنَّها تظلُّ حيَّة تحاول الظهور، وقد تتَّخِذُ سُبلًا مُلتوية للإفصاح عن نفسها، كما يبدو في الأحلام، وأحلام اليقظة، والأمراض العصبية، إلى آخر ذلك.

فرجعتُ إلى نفسي، وحاولتُ أن ألتمس في عهد الطفولة ذلك السر، الذي يدفع إلي الرغبة في البكاء في عهد الرجولة.

فاهتديتُ إلى أنَّ والدتي تُوفيت وأنا صغير، فأبعدني أهلي خارج الدار، عند بعض الناس، إلى أن تمَّ الاحتفال بالمراسم المعتادة، وعدت البيت آخر الليل، ولم أكن قد بكيتُ، ثمَّ قُلتُ في نفسي: والله إنَّ الناس ليبكون عند موت أمهاتهم، فلماذا لا تبكي، ألا تفعل مثلهم؟ فبكيت لحظة ثم سخرت من نفسي: «لماذا تبكي؟» هذا أمرٌ عجيبٌ، فامتنعت عن البكاء.

وجُملة القول: إنَّني شعرتُ في سنِّ الرجولة بنقصٍ في حياتي العاطفية، وشعرتُ بمنزلة الوالدة، واحتجت إلى حبها، فأكملت ذلك الحزن، الذي لم أشعر تمامًا بمقداره وقيمته في الصغر، وشعرت به في الكبر، وعالجتُ نفسي على ذلك الأساس، أي بالبحث عن شخصٍ أحبه، كما يحب الإنسان أمه، ولن يكون ذلك إلا في الزواج، فتزوجت، وليس معنى ذلك أن كل من يبحث عن الزواج وينشده يندفع بمثل هذا السبب، ولكنني أزعم أنَّ أغلب الذين يتزوجون ينشدون في زوجاتهم صورة أمهاتهم؛ لأنَّ الأولى هي أول أنثى يُحبها المرء.»

النفس والجسم

العقل هو القوة المحركة للعالم الإنساني بأسره، أفرادًا وجماعات، والحياة العقلية قسمان: حياة عقلية ظاهرة، وتضمُّ مظاهر التفكير الشعوري أو الإرداي بكامل أنواعه، وحياة عقلية باطنة، وتشملُ جميع الظواهر النفسية اللاشعورية، أو غير الإرداية، التي تجري في أعماق نفوسنا على غير علمٍ منَّا، فتدفعنا إلى القيام بسلوكٍ معيَّنٍ، لا قبل لنا بتجنُّبه، أو رده أحيانًا.

ويُسمَّى القسم الأول اصطلاحًا: «بالعقل الظاهر» أو «الشعور».

ويُسمَّى القسم الثاني: «بالعقل الباطن» أو «اللاشعور».

ومن المعروف أنَّ العقل الظاهر ينطبق على ملكات الشعورية: كالإرادة، والانتباه، وحصر الفكر، والتصميم، والقصد، والتمييز، والإحساسات والمشاعر والوجدانات المُختلفة، وما إلى ذلك من مظاهر الحياة الفكرية الشعورية.

أمَّا العقل الباطن فينطبق على ما نُكِنُّه في أعماق نُفوسنا من غرائز حيوانية، وميول واستعدادات فطرية ورثناها عن السلالات البشرية على مرِّ الأجيال المُتعاقبة، وكذلك يشمل الميول والرغبات والمشتهيات، التي نُكنها في نفوسنا منذ عهد الطفولة، وفي مراحل حياتنا الفردية.

وثمَّة نوعان لجسمنا من الحركة والنشاط: أحدهما إرادي، والآخر لا إرادي. أمَّا الحركات البدنية الإرداية، فهي معروفة لنا، وتشمل مجموعة الأعمال والحركات البدنية، التي في وسع كلٍّ منَّا القيام بها، أو منعها بالإرادة، كتحريك اليدين والقدمين وسائر أعضاء الجسم الظَّاهرة، التي ألفنا استخدامها وتسخيرها في قضاء مآربنا في حياتنا اليومية.

أمَّا الحركات البدنية غير الإرداية، فتشمل حركات الأعضاء والأحشاء الباطنية، التي لا سلطان لنا عليها، ولا تخضع لإرادتنا، كدقَّات القلب، ونبضات الشرايين، وحركات التنفُّس، والمعدة والأمعاء، والغدد الصماء، وبالجملة كل ما تقوم به أجهزة الجسم الباطنية من الأعمال، التي تجري منَّا على غير وعيٍ، مستقِلَّة عن الإرداة، وترمي إجمالًا إلى سلامة حياتنا البدنية، أو العضوية، وحفظها وصيانتها.

فالنفس البشرية تخضع إذن إلى هذا النظام، من حيث انقسامها إلى نفسٍ واعيةٍ أو إرادية، ونفسٍ غير واعيةٍ أو لا إراديةٍ. أما النفس الواعية أو العقل الظاهر؛ فتشمل ملكات النفس الظاهرة، التي مرَّ ذكرها، وهي بمثابة الأعضاء الخارجية أو الظاهرة للجسم المتمتعة بالحركات الإرداية.

أما النفس اللاشعورية أو العقل الباطن؛ فهو بمثابة التجويف البطني للنفس، ويضمُّ أحشاء للنفس، وهي الغرائز الحيوانية، والنزاعات والميول الفطرية الخاصة بالجنس البشري، ثم يضم كذلك الميول والرغبات الخاصة بحياة الفرد، التي كبتت في أعماق نفسه، وانفصلت عن وعيه وشعوره، إمَّا لتعارضها مع تعاليم البيئة التي نشأ فيها، وإمَّا لكونها تضمنَّت ذكريات مُؤلمة فوق حدِّ الطَّاقةِ والاحتمال، فنبذها العقل الواعي حين وجد نفسه عاجزًا عن تحمُّلِها أو مواجهتها.٢

وتبعًا للتقسيم المتقدم لعلم النَّفس هناك مدرستان: إحداهما المدرسة القديمة، وهي مدرسة العقل الباطن أو اللاشعور، والتي تُسمَّى أحيانًا بمدرسة علم النفس الجوفي أو القراري، وهي تعني مدرسة المجهول من الطبيعة البشرية.

ولمَّا كان المجهول من أسرار النَّفس هو الشطر الأهم والأقوى من حياتنا الفكرية، وله أبلغ الأثر في تصرفاتنا وأعمالنا وتوجيهنا في الحياة العملية، فقد طغت دراسات العقل الباطن على ما عداها من الدراسات النفسية في الوقت الحاضر، وأصبح لها القدح المعلَّى.٣

والعلامة سجموند فرويد، هو زعيم مدرسة العقل الباطن، وإمامها الأعظم، وإليه يرجع فضل اكتشاف القسط الأوفر من مبادئ ونظريات المدرسة الحديثة لعلم النفس؛ إذ بلغ بجهوده العلمية وتجاربه العملية المتواصلة، التي قام بها زهاء أربعين عامًا مرحلة لم يبلغها أحد من قبله في أعماق اللاشعور وأغواره البعيدة، فكشف النقاب عن كثير من أسرار النفس البشرية عن طريق أسلوبه في التحليل النفسي المعروف باسم أسلوب التداعي المطلق، وهو أسلوب فذٍّ في نوعه، طريف في بابه، لم يسبقه فيه عالم من قبل، وقد وضع فرويد الحجر الأساسي لهذه المدرسة، بمؤلفه المشهور في تفسير الأحلام، الذي طلع به العالم في العام الأول من القرن العشرين، وضمَّنه نظريته المشهورة التي تقوم على أساس أنَّ الأحلام إنما تعبر عن شهوات ورغبات مكبوتة، تعذر تحقيقها في الحياة العملية، وأنَّ هذه الرغبات تتصل غالبًا بالنزعات الجنسية البدائية، التي كبتت في عهد الطفولة، كما ردَّ معظم الأمراض النفسية إلى الكبت الجنسي، مثلها في ذلك مثل الأحلام، فالأحلام في نظره أشبه شيء بهستيريا في النوم، والهستيريا أشبه شيء بأحلامٍ في اليقظة.

وعلى يد فرويد وأعوانه قام صرح بناء مدرسة العقل الباطن، فانتشرت تعاليمها ومبادئها، وعمَّت أرجاء العالم المتمدين، وغمرته ببحوثها واكتشافاتها، فأحدثت تطورًا علميًّا يكاد يكون مُنقطع النظير في حياة العلم، وممَّا هو جدير بالذكر، أنَّ مدرسة فرويد وجهت جُلَّ جهودها وبحوثها إلى ناحيةٍ مُعينة من نواحي الطبيعة البشرية، وهي ناحية غريزة الجنسية، وآثرتها على ما عداها من نواحي البحث، وحتى كادت تبلغ منها القرار.

هذا، وقد تفرَّعت عن مدرسة فرويد مدارس أخرى، وهي وإن كانت تقوم على نظرية العقل الباطن أيضًا، لكنها اتجهت في بحثها وتنقيبها إلى نواحي أُخرى من مجاهل اللاشعور، فظهرت مدرسة العلامة يونج، صاحب نظرية العقل الجمعي المشهورة، التي تعلق أهمية خاصة على اللاشعور الموروث عن السلالات المُتعاقبة للجنس البشري، وقد خصَّ العلامة يونج غريزة حب التَّسلُّط والسيطرة بقسطٍ وافرٍ من دراساته وبحوثه، وآثرها باهتمامه وعنايته على الغريزة الجنسية التي تخصص لها فرويد، ثمَّ مدرسة العلامة أدلر، الذي بزغ على العالم بنظرياته المشهورة في علم النفس الفردي، وقد خصَّ غريزة الذَّات بأوفر قسطٍ من عنايته واهتمامه، فهو يعلِّق أهمية كُبرى على علاقة الفرد ببيئته وصلاته بغيره، وموازنة الفرد بين نفسه ونفس سواه، كما علَّق أهمية كُبرى على الشعور بالنقص، وهو صاحب القانون النفسي المشهور باسم قانون التكافؤ النفسي، الذي يرمي إلى مُحاولة الفرد أن يعوِّض نفسه عمَّا يشعر به من ضعفٍ أو نقصٍ، وكذلك نظريته المعروفة باسم «الاحتجاج الذَّكري» والتي مرجعها التفاوت بين الذكر والأنثى في الصفات الطبيعية «المركز الاجتماعي» ومحاولة الأنثى تغطية حالتها.

النفس الحرة

لعلَّ نعمة الحُريَّة أو شعارها، هي طراز هذا العصر. ولقد طالما نادى الدكتاتوريون أنفسهم بالحريَّة، حريَّة أوطانهم ودولهم من جشع الدول الرأسمالية أو الاستعمارية أو ضغطها، ونادى الفرد بحرياته الشخصية والسياسية والدينية والاجتماعية.

على أنَّ النفس مقيَّدة بالعبادات والتقاليد، ولعلَّ أوَّل هذه القيود الثقيلة: الخوف، ففي كلِّ خطوة يخطوها الإنسان يشعر بثقل قيد الخوف، الخوف من الخيبة، والخوف من الفقر، والخوف من غضب الرئيس، والخوف من المرض، إلى مئات من ضروب الخوف.

إنَّا واجهنا هذا العالم يوم ولدنا بأنواعٍ من المخاطر ملأتنا، ثمَّ زادتها التربية السيئة خطرًا، بتعظيم المخاوف وتجسيمها، فلم نكتفِ بمخاوف الإنس، حتَّى ضممنا إليها مخاوف الجن، وما كفتنا مخاوف الحقائق، حتى ضاعفناها بمخاوف الأوهام.٤

إنَّ أكثر تعاسة النَّاس من هذا الخوف، على اختلاف ألوانه وأنواعه، ولكلِّ نفس ضرب من ضروب الجنون، يبدو في الخوف من شكلٍ خاصٍّ، حتى أصبحت حياتنا مهزلة تتجلَّى في الحرص على المال والشره في جمعه، خوفًا من الفقر مع أنَّ الفقر وهم، ولو حدث فعلًا ما كان صاحبه أتعس من خوفه من الفقر. وهذا الموظف يخاف على منصبه، وعلى أن تفوته العلاوة أو الترقية في ميعادها، فهو يبيع نفسه بهذا الخوف، ويذل للرؤساء وغير الرؤساء، حتى تضيع نفسه في سُبُل حفظه منصبه، وما كان يضيع لو لم يخف، وهكذا وهكذا. قَلَّ أن نجد أحدًا استطاع أن يتحرر من المخاوف، حتى السخيفة.

فإذا نحن تركنا هذا النوع من الخوف جانبًا، وجدنا نوعًا من المخاوف أشد وأقسى، وهو الخوف من الخروج على العادات والتقاليد، مهما تكن سخيفة.

كم ممَّن نسميهم عقلاء أو فلاسفة، وهم يخضعون في المآتم والأفراح والحفلات وما إلى ذلك، لضروبٍ سخيفةٍ من الالتزامات في الملابس والأوضاع والتقاليد، مع إيمانهم بسخافتها، خوفًا من الخروج على المألوف.

وهكذا لو نظرت إلى حياة الناس، لوجدتها سلسلة من المخاوف تسترق نفس الإنسان، وتذله وتضع أنفه في التراب.

ولو تحرَّر إنسان من هذه المخاوف كلها، وخضع للحقائق وحدها، لوجدته إنسانًا غريبًا، خارجًا عن مألوف قومه، حتى لقد يُرمى بالجنون وإن لم نستطع هذا كله، فلا أقل من أن نستطيع بعضه، وإذا لم نستطع أن نفك مائة قيد، فمن الخير أن نفك خمسين قيدًا، ولسنا نستطيع فك القيود إلا بالشجاعة، فتشجَّع ولا تخف من الفقر، وعش باعتدالٍ، ولتكن النتيجة ما تكون، وتشجَّع ولا تخف من ضياع المنصب، واعتز بنفسك في أدب، ولتكن النتيجة ما تكون، ولا شكَّ أنك ستشعر لذَّة من الحرية وكسر القيود، لم تشعر بها وأنت عبد، هو نوع من اللذة التي يشعر بها الحبيس أطلق، والعائش في جوٍّ خانقٍ خرج إلى الهواء الطلق.

ولكن ليست كل شجاعة محمودة، فالشَّجاعة أحيانًا هي التي تسبب إجرام المجرم، وتَعَدِّيه على الأنفس والأموال والأعراض، ليس للشجاعة قيمة مع الجهل، فإذا أردت كسر القيود فادرس نوع هذا القيد، وادرس لم تكسره، وليكن لديك من المبادئ السَّامية، ما ترى معها أنَّ فك القيود والتحرُّر منها يُوصلك إلى غايتك ويحقِّقُ مبادئك.

خير أنواع التحرُّر من القيود، أن تعرف الحقيقة وتعشقها، ويدعوك عشقها إلى العمل بها مُتحرِّرًا من قيود العادات والتقاليد والسلطات.

نفسية الانتحار

حين تغلب على النفس روح اليأس والقنوط، على أثر اضطرابٍ عصبيٍّ، وانفعالٍ ناشئٍ من صراعٍ، أو من خيبة في الحصول على نقود أو منصب أو زوجة، أو هبوط كرامة، قد يعمد صاحب هذه النفس المجهدة المضطربة إلى وضع حدٍّ لحياته، وهو ما نُطلق عليه اسم الانتحار، ومن الدَّوافع الحقيقية، الخوف الممزوج بالضِّيق، أو الشعور بمركب النقص، كما أنَّ للعوامل الطبيعية، والحياة العامة أثرًا كبيرًا في زيادة نسبة الانتحار، وقد أثبت الدكتور م. بروس في بحثه هذا الموضوع، أنَّ الانتحار أكثر شيوعًا في الطبقات المتمدينة والمثقفة، منه في الطبقات المتأخرة أو الجاهلة، كذلك أثبت أنَّ العلم والانتحار صنوان يسيران معًا، فمن المشاهد دائمًا أنَّ حوادث الانتحار نادرة بين الطبقات المتأخِّرة، وبين الحيوانات، وعلى هذا فالانتحار مرض من أمراض المدنية، وقد أثبت عالم آخر، هو الدكتور وليم فار، أن الانتحار يكثر بين من يزاولون أعمالًا ذهنية، أو يدوية في أماكن مُقفلة؛ كالفنانين، والأطباء، وعمال الفنادق، والمصانع، والمكاتب، ويندر بين المشتغلين في الخلاء كالتجار والصيادين والفلاحين، وتزيد نسبة الانتحار بين النساء عنها بين الرجال؛ ذلك أنَّ النساء يملن دائمًا إلى خلق مواقف مُؤثِّرة تثير العاطفة،٥ ولا يقصدن الانتحار في ذاته، فنراهن يستعملن أقل الوسائل الفعالة، كالسموم التي يسهل إسعافها، بينما يلجأ الرِّجال إلى وسائل فعَّالة تُميتُ في الحال، كالأسلحة النارية، والحادة، والشنق.

ويُثير انتحار الأطفال، الكثير من العطف، والعناية، والاهتمام، ولا يرجع مُطلقًا إلى تفكيرٍ سليمٍ أو عقلٍ مُتَّزن، إنَّما هو في الغالب نتيجة سوء التربية، وإهمال تنمية ضبط النفس وقوة الأعصاب عند الطفل، وللوازع الديني أثر كبير في الحدِّ من نسبة الانتحار، ففي بلاد كإيطاليا وإسبانيا وإرلندا، كان الانتحار أقل شيوعًا، بينما كان كثير الانتشار في بلاد كالنمسا وهنجاريا وألمانيا وأمريكا، ويَعُدُّ اليابانيون الانتحار شرفًا دينيًّا، تُحتِّمُهُ المعتقدات في مُناسبات خاصة، وكان الرومان والإغريق القدماء يعدون الانتحار عملًا مجيدًا، وحتى هذا العصر يعدُّ الانتحار في كثير من الأحيان نوعًا من الشجاعة، وخاصة عندما يتعلق بالشرف، أو بضائقةٍ مالية.

وبعض النَّاس شديد الحساسية جدًّا، حتى إنَّ شدة الحرارة، أو الضغط العصبي، يدفع بهم سريعًا إلى الانتحار، وفي نطاق هذه الدوافع تتجمَّع المخاوف والوساوس النفسية، التي تدفع بأصحابها إلى الانتحار، كما أنَّ التطور السريع، والانقلاب الصناعي، والتنافس الوحشي، والكفاح الطويل في الحياة من أدعى الأشياء إلى زيادة نسبة الانتحار بين الشعوب المختلفة، وما من شكٍّ في أنَّ الانتحار مرض من أمراض المدنية، وليس الانتحار في الواقع إلا معركة خاسرة بين رغبات الإنسان المكبوتة، وبين ظروفه الشَّاذة، التي يعتقد تمامًا استحالة التغلب عليها، ولا شكَّ في أن نسبة الانتحار تقلُّ إذا توفَّرت العقول السليمة، في أجسامٍ سليمةٍ، في مجتمعٍ سليمٍ.

لقد لبثت دائرة الدراسات النفسية الحديثة خلال نصف القرن الحالي قائمة وغامرة بنظرياتها واكتشافاتها الجديدة أرجاء العالم المتمدين، وطبَّقت نظريات العقل الباطن على اختلاف صورها، في كثيرٍ من النواحي الاجتماعية، كالتربية، والتعليم، والاقتصاد، والسياسة، والأدب، والتاريخ، والفنون، والخدمة الاجتماعية، والقانون، ومُعالجة الإجرام، وعلاج الأمراض النفسية، وغيرها من مُختلف ميادين الحياة العمرانية، تطبيقًا اختلف أثره ومداه؛ إذ يقولون: إن دراسات العقل الباطن، قد كشفت لنا النقاب عن الكثير من أسرار الحياة، وفسَّرت لنا الغامض من بعض مظاهرها، مما استعصى علينا فهمه من قبل، وهنا نسوقُ الحادث الواقعي التالي لمحمد بك فتحي؛ إذ يقول:

بينما كنت برأس في الصيف، خرجتُ للنُّزهة على شاطئ البحر، وكان الوقت قبيل الظهر، والشاطئ غاص بالرَّائحين والغادين من المصيفين، إذ التقيت بأحد معارفي، فسِرنا معًا في اتجاه واحد نتجاذب أطراف الحديث، فأقبل علينا أثناء ذلك صديق لرفيق قادمًا من الجهة المُقابلة، وبعد تبادل التحيَّة، سأله رفيقي عن وجهته، فعلم منه أنَّه ذاهبٌ إلى عُشته، ولمَّا كان سيمر بطبيعة الحال على عشة رفيقي، فقد مدَّ إليه رفيقي يده، وبها ربطة صغيرة بها مُعدَّات استحمامه، ورجاه في أن يتركها بعشته عند مروره بها، وأن يخبر آل العشة بعدم انتظاره في «الغداء»، فبدت على الفور أمارات الغضب على وجه ذلك الصديق، وانقبضت أساريره، ورفض المهمَّة بشيءٍ من الجفاء، وانصرف مُهروِلًا دُون أن ينبس بكلمة اعتذارٍ أو تحيَّةِ وداعٍ، فكان لهذا السُّلوك الشَّاذ وقعٌ مُؤلمٌ في نفس صاحبي، أوقعه في شبه حيرة، وممَّا زاد في ارتباكه، وقوع هذا الأمر على مرأى منِّي مع حداثة تعارفنا، وقد صارحني على أثر متابعتنا السير بما أحسَّ به من ألم، وما ساور نفسه من ظنونٍ، فسألت صاحبي عما إذا كان قد وقع بينه وبين صديقه المذكور شيء من قبل، من شأنه تعكير صفاء العلاقة بينهما، أو يدعو إلى مثل هذا الجفاء، فأجابني سلبًا، بيد أنَّ ملاحظة عابرة مرَّت بخاطري، وهي أنَّ ذلك الصديق كان أسمر البشرة، لدرجة قد يلتبس معها الأمر على من لا يعرفه من قبل، بأنَّه من طبقة الخدم، فرجَّحتُ على الفور أنه يُعاني في قرارة نفسه شعورًا بالنَّقص، بسبب هذا العيب الواضح في بشرته، ولا سيما إذا ما رُوعي التسامح المألوف في الزِّي والهندام أثناء المصيف، ولذا رفض أن يُلبِّي طلب صديقه على تفاهته من الكبرياء والأنفة؛ لتغطية شعوره بهذا العيب، وليشعرني بحقيقة أمره، فلمَّا أبديتُ لصاحبي هذا التفسير استراح إليه وانشرح صدره، وتبدَّل حنقه وغيظه من صديقه إلى إشفاقٍ وعطفٍ.

عقدة أوديب ونتائجها في الجرائم

تعدُّ العقدة النفسية المعروفة باسم «عقدة أديب»، أقوى وأظهر عقدة من عقد الطفولة، التي تنشأ عن موقف الطفل من والديه بين الحب الجنسي، أو العشق من جانب، والكراهية، أو الغيرة من الجانب الآخر، ولمَّا كان لهذه العقدة أثر عظيم في سلوك الطفل حين يكبر، فإنها إذا لم تُحلُّ حلًّا مُوفقًا في مرحلة تربيته وتنشئته، فقد تدفعه إلى التورط في بعض الجرائم، ومن بينها جرائم القتل، وبخاصَّة القتل السياسي، لما بين المركز الذي يشغله الزعيم، أو صاحب السُّلطة المقصود بالقتل، وبين مركز الوالد في عهد الطفولة من تشابه، على أنَّ أثر هذه العقدة، قد لا يقف عند الجريمة السياسية، بل يتعدَّاه إلى جرائم أخرى غير سياسية، تكون مسوغاتها ومبرراتها الظاهرة، بعيدة البعد كله عن العوامل والدوافع النفسية الحقيقية، التي دفعت إلى القتل.

ومن أمثلة هذا، قضية شاب قتل جاره لمجرَّد رؤيته الجار وهو يُسيء مُعاملة زوجته، أي زوجة الجار، ويضربها ويهينها، في حين أنه لا تجمعه بالجار أو الزوجة أية صلة أو معرفة.

وثمَّة وقائع قضية أُخرى لعب فيها «المركب الوالدي» دورًا مماثلًا، حدثت وقائعها في برلين، وكان محامي المتهم فيها لدى محكمة الجنايات الأستاذ هوجو استوب المحامي ببرلين، وهو أيضًا من كبار المحللين النفسيين العالميين، وقد روى وقائعها في المؤلف الذي وضعه بالاشتراك مع محلل عالمي آخر؛ وهو الدكتور فرانز ألكسندر، وهو المؤلَّف المعروف باسم «المجرم وقضاته» والذي ترجم إلى اللغة الإنجليزية باسم «المجرم والقاضي والمجتمع» صفحة ١٧٣ وما بعدها تحت عنوان «شروع في قتل نتيجة الاضطراب العصبي»، وهذه هي وقائع القضية المذكورة، وظروفها، ملخَّصة بالقدر الذي يسمح به المجال:

كان كارل شابًّا في منتصف العقد الثالث من عمره، وقد لبث وقتًا غير يسير بلا عمل، كانت صحيفته بيضاء، وفي أحد الأُمسيات وفد على فندق مُتواضع من فنادق برلين المتنقلة ومعه خليلته، ونزل معها بإحدى غرف الفندق، وحال خلوته بها أطلق النَّار عليها من مسدس صوبه نحو صدغها، وعلى أثر ذلك نزلت به نوبة إغماء ظلَّت فترة قصيرة، ولمَّا أفاق من غشيته، اتصل تلفونيًّا بأحد الأطباء ودعاه لإسعافها، كما أبلغ الشرطة بالحادث مُعترفًا بجريمته، فأُلقي القبض عليه رهن التحقيق، وقد تبيَّن من التحقيقات أنَّ كارل وعشيقته كانا قد اتفقا على الانتحار، وذلك بأن يطلق كارل النار على الفتاة ثمَّ يطلقها بعد ذلك على نفسه، وقد وضعا خطتهما وصمَّما على تنفيذها في مساء اليوم الذي ظهرت فيه الحادثة، وقبل التنفيذ زارا عدَّة من أماكن اللهو والخلاعة، فلمَّا أفرغا ما في جَعْبَتِهما من رغبات وشهوات جلسا في إحدى الحانات لتحرير خطابات الوداع، ثم قصدا إلى غرفتهما في الفندق لتنفيذ خطَّة الانتحار، التي تمت على الصورة المتقدمة، وكان المسدس الذي استخدمه كارل في الحادث قد اشترته له خليلته من مالها، وذكر المحقق أنَّه بعد أن أطلق النار خانته شجاعته، فخرَّ مغشيًّا عليه، ولمَّا أفاق لم يقوَ على إطلاق النار على نفسه، وآثر أن يُسلِّم نفسه للقضاء.

لم تكن إصابة الفتاة قاتلة، ولكنَّها أفقدتها إبصار إحدى العينين، وقد تعذَّر في بدء التحقيق كشف أسباب أو بواعث معقولة تبرِّر الانتحار المزدوج، فإنَّ كارل فتى عامر البدن، ممتلأ صحَّةً ونشاطًا، لا يُعاني ضيقًا من الوجهة المالية يستحق الذكر، وإنما كان ضعيف الإرداة من ناحية الخمر والنساء، ماتت أمه مذ كان طفلًا صغيرًا، وكان والده ضابطًا في الجيش في خلال الحرب — الحرب العالمية الأولى — ولكن بعد انتهاء الحرب اشتغل مهندسًا، وكان بحكم عمله يغيبُ عن منزله دائمًا، فنشأ كارل نشأة ينقصها الإشراف الوالدي والرعاية الأبوية، وفي أولى سِني شبابه تطوَّع كارل في الجيش، وجنَّد في القسم العامل، ثمَّ أُلحق بحرس الجبهة، ولمَّا انتهت الحرب وسُرِّحت فرقته، لم يجد كارل عملًا مُنظَّمًا بسبب ضعف مُؤهلاته العلمية، بل كان عمله مُتقطِّعًا، تتخلَّله فترات طويلة من البطالة، ومع هذا فإنَّ كارل لم يُعانِ ضيقًا ماليًّا شديدًا؛ إذ كان يعتمد في معيشته على إعانة البطالة التي كان يتقاضاها من الدولة، وعلى ما كان يحصل عليه من مُرتَّب وقتي أو مكافأة عن الأعمال التي كان يقوم بها من آنٍ لآخر.٦

أمَّا الفتاة فإنَّها من أُسرة فقيرة، من الطبقة الوُسطى في الأقاليم، وكانت تشتغل كخادم لدى إحدى العائلات الكبيرة، التي تقطن المنطقة الغربية من برلين، وقد تعرَّفت بكارل من بضعة أشهر قبل وقوع المأساة الآنفة الذكر، وعلى أثر تعارفهما، نشأت بينهما علاقات غرامية، فأحبَّ كارل الفتاة كما أنها أحبته، على الرغم من كونها كانت مخطوبة من قَبْل لشخصٍ اختاره لها أهلها، وظلَّت خطيبته إلى ما بعد تعارفها بكارل وتعلُّقها به، مع أنَّها لم تستطع أن تفسخ الخطبة نزولًا على رغبة أهلها، كما أنَّها لم تُخْفِ عن كارل ظُروفها، وحقيقة موقفها من خطيبها، وقد عرض عليها كارل ذات يوم أن يتزوجها، فأبت استعدادها لاتخاذه بعلًا لها، إلا اذا ما أصبح ذا عملٍ مستقرٍ، ومرتَّبٍ ثابتٍ يعينه على القيام بأود الحياة الزوجية، وأقلع عن شرب الخمر ومُخالطة النساء، ولكن لم يحقق كارل هذه الشروط، ومع ذلك فإنَّ ظروفه الحاضرة لم تحُل دون استمرار علاقتهما.

وكانت الفتاة تنفق من مالها في أغلب الأحيان؛ لسدِّ ما يحتاجانه من نفقات في محال اللهو والتسلية، التي كانا يرتاديانها، رضي كارل لنفسه بهذا الوضع الشَّاذ بأن وهب قلبه لفتاة مخطوبة لرجلٍ آخر وسوف تتزوجه، إن لم يكن عاجلًا فآجلًا، ولكنَّه كان يُعزِّي نفسه بأنَّ الفتاة أظهرت استعدادها لاتخاذه زوجًا لها لو أصبح في مقدوره أن يفتح لها بيتًا، وأنها إنما رضيت الزواج من خطيبها خشية غضب والديها، اللذين يلحفان عليها في الزواج، ويهدِّدانها بالتبرُّؤ منها إذا ما رفضت الإذعان لمشيئتهما.

كانت علاقات العاشقين يتخلَّلها من آنٍ إلى آخر وجدانات مُضطربة، ونوبات انفعال وثورات نفسية، فكان غضب أحد الطرفين يُؤدِّي إلى تخاذُل نفسي، وانهيار معنوي لدى الطرف الآخر، وكانت هذه الموجات من الانفعالات المضطربة، والوجدانات المتلاطمة مبعثها حيرة الفتاة، وتشتُّت أفكارها بين خطيبها وعشيقها، فهي تُعاني في قرارة نفسها معركة حامية الوطيس بين عقلها وقلبها، وفي ذات يوم صارحت فتاها برغبتها في أن تظل معشوقته إلى ما بعد زواجها خطيبها، ولكن هذه المصارحة التي لا جديد فيها من الوجهة العملية، والتي هي الحل الطبيعي لموقفها الحاضر، وقعت في نفس كارل موقع الصاعقة، وهزَّت أرجاء نفسه المضعضعة هزًّا عنيفًا، فكانت صدمة قوية تصدَّع من أجلها بناء شخصيته المفكَّكة الأوصال، وأعقبه انهيار عصبي لم يفقه الفتى مغزاه من الوجهة النفسية، عدا كونه شعر للمرَّة الأولى بأنَّ موقفه سيكون بغيضًا إلى حدٍّ بعيدٍ في نظرِ ضميره، فأظلمت الدُّنيا في عينيه، ولم يجد له مخرجًا من المأزق الذي وقع فيه، وعلى الأثر لاح له وميض من خلال عقله الباطن يهديه إلى فكرة الانتحار، فهي الحلِّ الوحيد، فصارح على الفور فتاته بِمَا جال بِخاطِرِه، مُبرِّرًا فكرته بأنَّ حياته أصبحت لا قيمة لها ما دام أنَّه لا يستطيع أن يكون رب أسرة، وأنَّ الانتحار هو الوسيلة الوحيدة، للتخلُّص من متاعب الحياة وآلامها، فأجابته الفتاة على الفور بأنها ترجو أن يصحبها معه إلى العالم الآخر، فإنَّها كذلك قد أصبحت مهدَّمة الأعصاب، لا تقوى على تحمُّل أعباء الحياة، وما يكتنفها من بؤسٍ وشقاءٍ وآلامٍ جسامٍ، فهي لا تُحِبُّ خطيبها، وإنَّ أهلها يكرهونها على التزوُّج منه رغم إرادتها؛ إذ إنَّ أقرب النَّاس إليها أصبحوا يمقتونها، ويُسيئون الظُّنون بها، ويكيلون لها التُّهم الباطلة جزافًا، فإن أختها الكبرى اتهمتها بالسرقة ظلمًا وعدوانًا، فهي تُريدُ من قرارة نفسها أن تلحق بكارل وتُرافقه في رحيله إلى العالم الآخر.

اطمأنَّ كارل لفكرة الانتحار المتبادل، وقد برَّر الانتحار في نظره أنَّه سوف ينقذ بذلك معشوقته من حياة مملوءة بالبُؤسِ والشَّقاء، ومستقبل محفوف بالآلام والمتاعب، ومن ثم وضعا الخطة لتنفيذ الفكرة.

وقد عقب الأستاذ هوجو استوب على الوقائع المتقدِّمة قائلًا: أراني من الوجهة التحليلية، في غنى عن الإعراب بأنَّ الأسباب التي دعت كارل وعشيقته إلى اتِّخاذ مثل هذا القرار القاسي، ليست الأسباب الحقيقية، ولا هي بالبواعث الوجيهة، التي تبعث في النفس الرغبة في التخلص من الحياة، فإنَّ الاعتبارات التي حدثنا عنها كارل لقتل معشوقته، ما هي إلا مبررات ظاهرية دبَّرها عقله الباطن، لتغطية بواعث نفسية، وعوامل باطنية، أبعد غورًا في قراراة نفسه من تلك المسوغات، كما أنَّ الظروف الفجائية، التي نشأت عنها فكرة الانتحار، لمما تسترعي النظر والدهشة، فإنَّ كارل كان يعلم منذُ زمنٍ بعيدٍ أنَّ فتاته مشبوكة لرجلٍ آخر، وأنها سوف تقترن به، ومع هذا لم يرَ في موقفه منها على هذا الوضع أيَّة غضاضةٍ على نفسه، فصاحبها طوال المُدَّة السَّابقة للحادث، على هذا الاعتبار، دُون أن يُبدي اعتراضًا أو تبرُّمًا، فما الذي أهاجه على حينِ غرةٍ وأدَّى بوجداناته المضغوطة إلى الانفجار، فدفعه ذلك إلى فكرة الانتحار؟ إنَّ اقتراح الفتاة عليه أن يظل عشيقها إلى ما بعد الزواج، دليلٌ على وفائها له، وإخلاصها إليه، فهي تضحية من جانبها لا ينبني عليها مثل هذه الثورة النفسية، كما أنَّ زواجها من خطيبها لا يُغير ماديًّا من الوضع الحالي لموقفه منها، ما دامت أنها ستظل مُقيمة على عهدها السابق نحوه، فإذن كان مُجرَّد مُجاهرتها برغبتها، في المحافظة على الودِّ بعد زواجها من خطيبها، لا يُغني بذاته في تبرير تصرُّف الفتى الإجرامي نحو خليلته.

ثم استطرد الأستاذ هوجو يقول: إنَّ خبرتنا بالتحليل النفسي، تُنبئنا أنَّ عشق الشخص لامرأة مُتزوجة، له في لاشعور العاشق معنى، وإن كان في الظاهر محجوبًا عن وعيه شعوره، ولكن له في الباطن دلالته من الوجهة التحليلية؛ إذ هو ينطوي على تحقيق رغبة جنسية باطنية، كانت في يوم من الأيَّام مُوجَّهة نحو الأم في عهد الطفولة، ثمَّ كبتت في أعماق اللاشعور، أعني أنَّ «موقف أُوديب الطفلي» The Oedipus Infantile Tituation أخذ يستيقظ، ويُبعث من مرقده من جديد في الحياة العملية، بصورةٍ أُخرى، فإنَّ شخصًا ثالثًا أصبح مُغتصبًا لامرأة، هي شرعًا من حقِّ رجل آخر، فاقتراح خليلة كارل الذي سلف ذكره، لم يكن له أدنى مغزى بالنسبة إليه، إلا مجرد كونه كان باعثًا لاشعوريًا لإيقاظ موقف أوديب وإثارته من مضجعه.

دراسة الجريمة نفسيًّا

ثمَّة ناحية أُخرى يهدف إليها علم النفس الحديث في ميدان الجريمة، وهي استخدام أساليب التحليل النفسي، والوسائل النفسية في مُعالجة الإجرام أو الوقاية منه، فقد أصبح يستخدم في علاج النَّزعات والميول الإجرامية، كمرض لا يختلف في طبيعته عن الأمراض العصبية، إلا من حيث كون المجرم ينفس عن ظواهره العصبية بطريقةٍ عمليَّةٍ تصطدمُ مع القانون، ورمى التحليل النفسي إلى تحليل نفسية الفرد، للوقوف على ما يكنه في جَعْبَة عقله الباطن من ميول ونزعات إجرامية مكظومة، أو عقد نفسية مكبوتة في أعماق اللاشعور، من شأنها إذا بقيت بغير حلٍّ، أن تدفعه عاجلًا أو آجلًا إلى التورُّط في الجريمة، وقد يكون سلطانها قويًّا على ذاته لدرجة يتعذَّر معها مُقاومتها أو تفاديها.

تقومُ من حياة الإنسان على نوعين من النشاط؛ أحدهما: نشاط بدني، والثاني: عقلي. أمَّا مصدر هذا النشاط بنوعيه فهو النفس، أو مجموعة القوى الفكرية المُسيطرة على الجسم المادي، واذا تأمَّلنا النشاط البدني ألفيناه على نوعين؛ أحدهما: نشاط إرادي، وهو البادي على أعضاء الجسم الظاهرة بالحركة الإرداية، كاليدين والسَّاقين وسائر الأعضاء الخارجية، التي في وسع الإنسان تحريكها، أو وقف حركتها بالإدارة، وهذه تستمد حركتها من الجهاز العصبي الإرداي. وثانيهما: نشاط غير إرادي، وهو الذي تقوم به الأعضاء الباطنية، أو الأجهزة المكوَّنة في التجويف الباطني، كضربات القلب ونبضات الشرايين، وحركات الجهاز التنفسي، والجهاز الهضمي، والغُدد الصَّمَّاء، وسائر الأعضاء والأحشاء، المتمتعة بحركة ذاتية مُستقِلَّة عن الإرداة، مصدرها الجهاز العصبي غير الإرداي، فقياسًا على هذا، هُناك نوعان من النشاط النفساني؛ أحدهما: إرادي، ويسمَّى العقل الظاهر أو الشعور، ويشمل جميع ملكات العقل الواعي، ومظاهر التفكير الإرداي، وجميع المشاعر والوجدانات، التي نكابدها في حياتنا الشعورية ونحسُّ وجودها. وثانيهما: غير إرادي ويسمَّى اصطلاحًا بالعقل الباطن، أو اللاشعور، ويشمل الغرائز الحيوانية والميول، والنزاعات الفطرية الموروثة عن السلالات، التي انحدر منها الجنس البشري، كما يشمل الأفكار، والخواطر، والذكريات، والوجدانات التي كابدها الفرد في مراحل تطوُّر حياة الفردية منذ ولادته، ولكنه نسيها أو أكبتها في قرارة نفسه، إمَّا لطول عهده بها، وإمَّا لكونها تنطوي على ذكريات مُؤلمة، أو حوادث مُخيفة أو مروعة — كالتي يتعرَّض لها الجنود في ساحات القتال — وإمَّا لكونها تنطوي على مُشَهِّيات، ونزعات مُحرَّمة، ومُناقضة للتقاليد الاجتماعية والآداب العامة.

ويُفترض علماء النفس أنَّ كلَّ ما يُكابده الإنسان من محن وتجارب وممارسات عقلية، وبخاصَّة في عهد الطفولة، لا تمحوه يد الزَّمان من صفحة نفسه، بل يطويه في أعماق قلبه، فما ينساه الإنسان من ذكريات الماضي لا يتبخَّر، بل يرسب في جوف اللاشعور، وقد تطفو بعض الذكريات القديمة التي مارسها في عهد الطفولة بعد عشرات السنين، على سطح الشعور، فتُبعث من مرقدها في مناسبات أو ظروف خاصَّة، فيذكر حوادث أو خواطر كابدها في ذلك العهد وكُنَّا ظنَّنا أنَّها أصبحت نسيًا منسيًا، وعلى سبيل المثال أذكر أنَّ سيدة في مُنتصف الحلقة السادسة من عمرها، أُصيبت بحمَّى جعلتها تهذي من فرط ارتفاع درجة الحرارة، وبينما هي في بحران المرض أخذت تتكلَّم بلغة أجنبية غريبة عنها، تبيَّن فيما بعد أنها اللغة الإسبانية، التي كانت تعلَّمتها في طفولتها حين أقامت في إسبانيا مع والدتها، ثم غادرتها وهي في الرَّابعة من عمرها، ولم تعد تستعملها فيما بعد، حتى نسيتها النسيان كله، فالعقل الباطن أشبه شيء بالسجل، الذي يُحصي كل كبيرة وكل صغيرة تمرُّ بحياة الإنسان، وحسبنا أن نذكر من هذا، ظواهر الأحلام؛ فقد كشفت أساليب التحليل النَّفسي، عن أنَّ القسط الأوفر من الأحلام إن هي إلَّا وسيلة العقل الباطن، في التعبير عن أمانيه، ورغباته، ومشتهياته المكظومة أو المكبوتة في أعماق نفسه، فالأحلام لغة اللاشعور، ولكنها لغة وسائل التعبير فيها تقوم على الصُّور والرُّموز، فهي لغة العقل البشري القديم، وهي أشبه شيء بالهيروغلوفية، فمن أمكنه حل رموزها وطلاسمها، استطاع قراءتها، وقد نجح رجال التحليل النَّفسي في ذلك نجاحًا كبيرًا.

كذلك الظَّواهر النفسية المرضية؛ إذ دلَّ التحليل النفسي على أنَّها وسيلة من وسائل، تقيِّد العقل الباطن عن رغباته ومُشتهياته المكبوتة، لكنها تقومُ على التعبير الرمزي بالأعراض البدنية، أو النفسية، مثلها في ذلك مثل الأحلام.

وثمَّة ظواهر التنويم المغناطيسي، وما يقومُ به النائم، وهو فاقد وعيه وشعوره من الأعمال والتصرُّفات، التي تدلُّ على وُجود العقل الباطن، وبخاصَّة الظَّاهرة المعروفة باليقظة النومية.

هذا وقد كشفت إجراءات التحليل النفسي، عمَّا تكنه النفس البشرية من ظواهر تفكير باطني، مستقل عن وعي الإنسان وإرادته.

أمَّا العناصر التي يتألَّف منها العقل الباطن فهي نوعان: نوع منها موروث، ويشمل الميول والاستعدادات الفطرية، التي ورثها الإنسان عن السلالات البشرية، التي انحدر منها، وهو ما يُسمَّى باللاشعور الجمعي؛ لأنَّه يمثِّل الحياة الفكرية للنوع الإنساني بأسره، ونوع منها مُكتسب، ويشمل ذكريات الفرد، وخواطره، وتأثُّراته النفسية، وما مرَّ به من محن وتجارب كابدها في ماضي حياته.

ويعلق علماء التحليل النَّفسي أهمية كبرى على مرحلة الطفولة، وما لها من الأثر في مُستقبل حياة الإنسان، ذلك أنَّ العلَّامة سجموند فرويد — وهو مُؤسِّس المدرسة الحديثة لعلم النفس — يعتقد أنَّ السنين السبع الأولى من حياة الطفل هي التي تُحدِّد مُستقبله.

فالطفل يلج باب هذا العالم، مُعتمدًا على غرائزه الحيوانية، ونزعاته الفطرية، التي كان يعتمد عليها الإنسان الهمجي في العصور الأولى، فتسود حياته مجموعة من الميول والنزعات، التي لا تتَّفِقُ ونُظُمِ المجتمع المتمدين، فهو إباحي إلى أقصى حدود الإباحة، لا يعترف بالآداب، ولا بالحقوق، ولا يعرف القوانين، ويُوجِّه نزعاته الجنسية الطفلية إلى أقرب النَّاس إليه، من الأهل والمحارم، كما أنَّه يستبيحُ الاعتداء على متاع الغير، وتلذُّ له القسوة، فيعذب الحيوانات الأضعف منه حولًا، ويفرح بالأذى، ويسرُّ برؤية الدَّم المسفوك، كما يشاهد على الأطفال حين يجتمعون حول ذبيحه الضحيَّة، فالطفل نَزَّاعٌ بفطرته إلى القسوة، وولعه بها لا يخفى على أحدٍ، وإن كانت هذه النزعة، قد تكون مستورة في بعض الأحيان؛ إذ تبدو مُقنعة، فلا يكشفها غير خبير بنفسية الطفل ودخائل عقله، ولكن قد تكون مظاهر القسوة بارزة في بعض الحالات، بروزًا يسترعي النَّظر، ويدعو إلى الغرابة والدهشة.

وحسبنا شاهدًا على هذا، حادثًا روته المديرة السَّابقة لمكتب الخدمة الاجتماعية بمحكمة أحداث القاهرة، وهو يتلخص في أنَّ إحدى الأسر الأجنبية غادرت منزلها ذات يومٍ، تاركة أبناءها الصغار يلعبون في المنزل، وكان لهم أخٌّ رضيعٌ تركته أمه في مخدعه، فانتهز باقي أخوته فرصة خلوتهم، وحملوا أخاهم الصغير من مهده إلى ردهة الدَّار، ووضعوه في طشتٍ كبيرٍ، وسكبوا عليه بترولًا، وأشعلوا به النار، ثم أخذوا يُصفِّقُون طربًا ويهلِّلُون، وهم يدورون حول موقد الضحيَّة الصغيرة وهي تحترق، غير مُبالين بما كانت تُبديه من صيحات الألم، وأنَّات الاحتضار حتى التهمتها النَّار، وهكذا مثل هؤلاء الأطفال عن غير وعي حفلة من حفلات الهمج الرَّاقصة، التي كانوا يُقيمونها في العصور الغابرة حول الضحيَّة المُقدمة للنار قربانًا للإله.

إنَّ حياة الطفل النفسية، مثلٌ مُصغَّرٌ يلخِّص لنا حياة الجنس البشري بأسره، وما مرَّ به من تطورات، وهو ما يسمى بنظرية التلخيص.

نفسية المال

يبحث علم النفس الاجتماعي، في تأثير ما يرثه الفرد عن أسلافه من غرائز وميول طبيعية، وتأثير البيئة التي يعيش فيها في شخصيته، وفي مُقدمة هذا، تأثير المال في النَّفس، وتأثير النَّفس في المال، فالمال هو عصب الحياة، وهو الشُّغلُ الشَّاغل لنا، ونحنُ نسعى وراءه، ونشقَى للحصول عليه، ونأمل أن نمتلك منه الكثير، ولكن لنا أن نتساءل، هل كان كل هذا السعي وكذلك الشقاء وذاك الأمل، وراء المال؛ لأنه هو الغاية العُظمى والهدف الأسمى للإنسان؟ حين صار من العسير مُبادلة السلع بعضها ببعض في التجارة؛ بسبب اتساع الأسواق، وتعدد الحاجات، واختلاف البضائع في النُّوع والصنف، تبعًا لتطوُّر البشرية، أصبح لزامًا على الإنسان أن يقوِّم السلع بقيم ثابتة، فهداه التفكير إلى النقود، فصكَّ منها العدد الكثير الوفير المتنوع المتلوِّن، والنقود في ذاتها ليست بذات قيمة، كالورقة المطبوعة من فئة الجنيه والخمسة والمائة، ولكنها تحمل في طيَّاتها الرمز الأبدي، الذي يميِّز بين الغنى والفقر، بين الرَّغد والفاقة، بين السعادة والبؤس، فنحن إذ نَكِدُّ ونسعى ونشقى ونأمل في الحصول على المال، لا نفعل ذلك من أجل تلك الوريقات، أو القطع الفضيَّة، أو الذهبية ذاتها، إنَّما لكي نحصل على حاجاتنا الماديَّة كالغذاء والكساء، والمعنوية كحبِّ التملُّك والشعور بالعظمة والمُحافظة على النفس بواسطتها، قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

ولنتساءل الآن ما هي الثروة؟

وجواب ذلك السُّؤال يختلفُ باختلافِ الزَّمان والمكان، فقديمًا كانت تُقاسُ ثروة الفرد بما يملكه من رءوس الأنعام، وما زالت حتَّى الآن تُقاس ثروات الأفراد في مراعي أمريكا وأستراليا بمقدار ما يملكون من الرءوس.

وإلى وقتٍ ليس ببعيدٍ كان العقار والأرض، ممَّا يوزن به ثروة الفرد وسعة رزقه، أمَّا الآن فإنَّ الثروة عُمومًا تقدَّر بالمليم والقرش والجنيه؛ أي بالنقود.

ولكلٍّ منَّا نظرته الخاصَّة نحو المال، فمنَّا من ينظُرُ إليه كوسيلَةٍ، أو أداة يسعه بها تحقيق رغباته المُتعدِّدة المُتباينة، كرجال الاقتصاد، ومِنَّا من يرى أنَّه الدعامة التي بها تطمئن نفسه إلى الحياة؛ أي إنه ينظر إلى المال كهدف نهائي، أو غاية عظمى، كأولئك الذين ننعتهم بأنهم بخلاء، ومع أنَّ الخلاف في وجهة النظر نحو المال، يبدو مُتباينًا مُتضاربًا بين المرءِ وأخيه، إلَّا أنَّ النَّاس كلها لا تختلف في حبها للمال، وفي ذلك يقول تعالى: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا، غير أنَّ أخصَّائي علم النَّفس، ينظرُ إلى المال كأساسٍ يقومُ عليه صرحُ الحياةِ، وهو لا يهتمُّ إلَّا بالطريقةِ التي يستخدم الأفراد بها أموالهم، وتأثير تلك الطريقة في نفوسهم.

لقد قلنا إنَّ للغريزة تأثيرًا في شخصية الإنسان، وسلوكه في الحياة، وأهم الغرائز الذي تؤثِّر في سلوك الإنسان، ونظرته نحو المال، فتجعله يكتنز منه الكميات الوفيرة، هي غريزة التملك، تلك الغريزة التي تُشعرنا أنَّنا أكثر اطمئنانًا، وأهدأ بالًا في الحياة ما دمنا نمتلك الكثير من المال.

وأمَّا أُولئك الذين ينظرون إلى المال كأنه سبب الحياة، المُعين على الكوارث، فيتملكهم شعور عميق بعدم الاطمئنان إلى الحياة، وينظرون إلى المستقبل نظرة قاتمة معتمة، ما داموا لا يمتلكون بغيتهم منه، فإذا ما أصابهم منه شيء ادخروه، وقبضوا عليه بالأيدي، بغيُّر تدبير أو تفكير، وحتَّى إذا نزلت بهم نازلة، لم يشعروا بها؛ لأنهم ينتظرون ما هو أسوأ منها.

وهناك أيضًا غريزة السيطرة، والشعور بالعظمة، التي تدفع صاحبها إلى إغفال تقدير قيمة الشيء، بالنسبة لجودته ومنفعته، ولكن بالنسبة لقيمته المالية، أعني ثمنه، والدليل على ذلك أنَّه كلَّما ارتفعت أتعاب الطبيب، زادت ثقتنا به، ودليل آخر، هو احتقار تملُّكِهم تلك الغريزة للمتاجر المتواضعة، وازدراؤهم لذلك الرجل الحكيم، الذي يشتري الشيء، الذي يشترونه هم من محلٍّ فاخرٍ، ولكن بنصف الثَّمن.

ولمَّا كُنَّا نعشق الظهور، ونرنو إلى السمو، والعظمة، والشعور بالسيطرة، فإن لم نُفلح في إظهار ذاتنا بأنفسنا، لجأنا إلى إظهارها بطريقةٍ غير مُباشرةٍ، أعني بمشاهدة الحفلات الفخمة، واقتناء السيارات الفاخرة، والإسراف الممقوت، ولا يمكننا أن ننكر أنَّه إن لم يحب أغلبنا الظُّهور الآن فسيحبه يومًا ما، والواقع أنَّنَا عندما نتظاهر أحيانًا باستنكار إسراف الآخرين وتبذيرهم، نحسدهم في أعماق نُفوسنا على ما هُم فيه من العظمة والأُبَّهة، ونتمنَّى لو نكون مثلهم.

وإنَّ موازنة المصروف مع الإيراد، هي إحدى الضرورات القاسية، التي لا ينعم بثمرتها إلا نفرٌ قليلٌ منَّا، وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ ضبط النَّفس والإمساك عن بسط اليد أمرٍ مُؤلمٍ للغاية، ومع أنَّ هناك ما يُعوِّض هذا الألم، بما في العالم من أنواعٍ شتَّى وألوان مُتعدِّدة من المتع البسيطة القليلة التكاليف، إلا أنَّنا لا نكف عن التطلع إلى أحسن المتع وأغلاها ثمنًا، ولا ننفكُّ عن التفكير في أنَّ غاية سعادتنا، وأسمى مكانتنا، لا تتحقَّقُ إلا بالحصولِ على أكبر شطرٍ من الثروة.

ولمَّا كان من العسير التخلُّص من تلك الفكرة المتسلِّطَةِ على عقولنا، وهي أنَّ كياننا في الحياة، ومركزنا في المجتمع، يتوقفان على نوعِ الحياةِ التي نحياها، والتي تتطلَّب أشياء كثيرة، وحاجات متنوعة، لا بدَّ من اقتنائها، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا إذا كان لدينا شطرٌ من المال يكفي لشرائها، فإذا لم يتيسَّر وجود ذلك القدر، شعرنا بأنَّنا أقل من أصدقائنا قدرًا، وأنَّنا دُون من حولنا، وعلى نقيض القدر اللازم من المال، فإنَّنا سننفق أكثر منهم، وبالتالي سنقتني أشياء أكثر أو أجود ممَّا عندهم، فنشعر بتفوُّقِنا وسمونا عليهم.

إنَّ العلاقة بين الطفل وأبيه علاقة مُعقَّدة، فالطفل يحب والده ويكرهه، ويحترمه ويحتقره، ويغارُ ويخاف منه، كلُّ هذه المشاعر المُتباينة المضطربة، تكوِّنُ عقدته النفسية نحو أبيه، وحين يحبُّ الولد والده ويحترمه يتمنَّى لو يصير مثله، وحين يكرهه ويحقد عليه، يشعر بأنَّه دُون أبيه، وأقلُّ منه مركزًا، وجاهًا، ومقدرةً، فيتوق إلى التقليل من العظمة، والقدرة، والسيطرة، والنيل منه، وازدرائه، فيندفع لجمع الثروة مُمثَّلة في النقود، لعلَّه بحيازتها يسمو ويتفوق على أبيه.

والرجلُ البخيلُ، الذي يكدِّسُ المال ويجمعه، ويربِّيه في شراهة، إن هو إلا ضحيَّة الظروف والأحوال، التي نشأ فيها قديمًا، فربَّما فقد أبوه عمله، أو أنَّه مات، أو قد أصابته كارثة، من تلك التي تُودي بثروات الأسر، وتلقي بها في أحضان البؤس والفاقة، نقولُ: إنَّه ربما كان ذلك الرجل البخيل، ضحيَّة لمثل تلك البيئة القاسية، التي كشفت له في أوضح الدروس وأقوى المثل، قيمة المال، وقوة تأثيرها في الحياة، فنشأ مُتكالبًا حريصًا عليه، وخاصَّةً في تلك الفترات، التي يراوِدُ مُخيِّلته ذكر مهانته ودونيته، هو وأسرته أمام المحنة والحاجة إلى المال.

وليس الشعور بالدونية فحسب هو ما يجعلنا مُتكالبين على المال، حريصين عليه، بل إنَّ الشعور بعدم حبِّ الغير لنا، يُثير فينا تلك الصفات المرذولة في حبِّ المال، ومثل ذلك تلك المرأة العانس تحرم نفسها ضرورات الحياة، وتنبُذُ متعها، مستجيبة لذلك الشعور الدفين الذي يصوِّرُ لها وحدتها، وعزلتها، وعدم اهتمام الغير بها، فتدَّخِرُ مالها الذي تنظر إليه كخير صديقٍ ومُعينٍ وقت شِدَّتِهَا، وقديمًا عبَّرَ الشَّاعر عن هذا الشعور، فأجاد التعبير بقوله:

كلُّ النِّداء إذا ناديتُ يخذلني
إلا ندائي إذا ناديت يا مالي

ولن تجد يومًا ما طفلًا لا يعرف قيمة النقود، من حيثُ هي الوسيلة اللازمة للحصول على حاجاته، وهذه المعرفة صحيحة في ذاتها، غير أنَّ الكثيرين من الأطفال لا يعرفون وجوه إنفاقها، أو استغلالها في حكمَةٍ، ولا شكَّ في أنَّ ذلك يَعودُ إلى آبائهم الذين يُفرطون في السَّخاء عليهم، فتكونُ النتيجة أن يتعوَّد الطفل الحصول على كلِّ ما يُريدُ دائمًا، دُون عناءٍ متأثرين بمبدأ إشباع رغبات الطِّفل إشباعًا كاملًا، والحقيقة أنَّ في هذا المبدأ خطأً كبيرًا، فلو أنَّنَا أنفقنا كل ما معنا من نقود، مثلًا على الحلوى، فإنَّنَا لن نجد ما نشتري به لُعبة غالية، قد تكون ذات فائدةٍ عُظمى له، فمن الخطأ أن نمنح الطِّفل كلَّ ما يُريدُ، وأن نُفرط له في العطاء، فيشب لا يستطيع التمييز بين الصديق المخلص وصديق السوء، ويمضي في الحياة، آملًا أن يكون العالم الخارجي كريمًا معه كرم والده، ولكن سُرعان ما تصدمه الحقيقة المُرَّة، فيكشف خطأه، ومن ثمَّ يتطرَّق القلق إلى نفسه، وتنتابه الشَّكوى الدَّائمة من قسوة المُحيط الذي يغشاهُ.

وعلى نقيضِ هؤلاء أبناء البخلاء، فهم يشبون مُسرفين مُبذِّرين، ويحتمل أن ينتهي بهم استمرار التفكير في المال، وقيمته، وشدة حاجتهم إليه، إلى جعله الهدف الأسمى لهم في الحياة، فيسعون إلى جمعه، ويكثرون من كنزه.

ويبدو أنَّ تحقيق رغباتنا، والحصول على حاجاتنا، هو ما نطلق عليه لفظ السَّعادة، ذلك الأمل الذي ننشده ونسعى وراءه ونتلهَّفُ عليه، فلكي نحيا حياة سعيدة، أو لكي ننعم بالسعادة في الدنيا، يجب أن نحيا حياة مُعتدلة مُتَّزِنَة، وذلك لن يتأتى إلا إذا نظرنا إلى الأشياء بمنظار الحكمة، ووضع كل أمرٍ في موضِعِهِ الصَّحيح، وهُنَا يتقدَّمُ رجال علم النفس بالنُّصح للعالم الإنساني، بأن يزجر ميله المتواصل المتزايد إلى المال، الذي لا يعدو أن يكون واسطة للحصول على حاجاتنا الأساسية ثم الكمالية.

فالغنى والثروة لن يُهذِّبَا شخصياتنا، ولن يسموَا بنفوسنا، ومع اعترافنا بأنَّ المال شيء هام، إلا أنَّ هُناك شيئًا لا يسعنا تحقيقه، ذلك هو حل مشكلاتنا النفسية، التي تتحكَّمُ في كياننا في المجتمع الإنساني، فلو أمكننا أن نتحكَّم في حلِّ هذه المشكلات النفسية، وكانت مُرتباتنا ضئيلة لعشنا حياة أسعد وأهنأُ من تلك الفئة ذات الطبائع العصبية، حتَّى ولو كان دخلها يبلُغُ الخمسة الأرقام «المصري».

أمثلة من عقدة أوديب

ممَّا رواه الأستاذ هوجو استوب، المحلِّل النفسي العالمي المعروف، والمحامي ببرلين، عن حادث اتِّفاق شاب يُدعى «كارل» مع معشوقته على الانتحار، بأن يطلق النار عليها أولًا من مسدس اشترته عشيقته لهذا الغرض، ثم يُطلقها على نفسه، ولكن بعد أن أطلق كارل الرصاص على رأس معشوقته، في غرفة الفندق، خانته قواه، ولم يستطع إطلاق النار على نفسه، بل دعا طبيبًا لإسعاف الفتاة، ثمَّ سلَّمَ نفسه للشُّرطة، وقام استوب بالدراسة التحليلية، دراسة العوامل اللاشعورية التي دفعت «كارل» إلى الرَّغبة في قتلِ معشوقته، موضحًا أنَّ كارل إنَّما رمى بعمله هذا إلى تحقيق «موقف أُوديب» بِشِقَّيه وهما: حرمان الأب من الزوجة، التي اتخذ من المجني عليها رمزًا لاشعوريًّا لها، ثم الاتحاد بها عن طريقِ الاتِّفاقِ على الموت معًا. ثمَّ قال الأستاذ «استوب» في مُؤلَّفِهِ «المجرم وقضاته» ص١٨٣ وما بعدها — كما أوضحنا هذا قبلًا في فصلٍ سابِقٍ ما يلي:

لئن كُنَّا قد استطعنا إلى حدٍّ مَا أن نكشف الدَّوافع اللاشعورية التي دفعت كارل إلى اقتراف جريمته، فإنَّ المُعضلة الأساسية، وهي كيف أنَّ كارل بدا بعد وقوع الجريمة مرتاح الضمير، لا يُعاني في نفسه شعورًا بالإثم أو الندم، لا تزال باقية أمامنا بغير حلٍّ، فإنَّ مُحاولته قتل الفتاة التي هام بها حبًّا حتى اللحظة الأخيرة، لا بد وأن تكون ذا مغزى لاشعوري أو معنى باطني، يرمي إلى الخفض من حدَّةِ ضميره القاسي، الشديد الحساسية، ويُهدِّئ من روعه، ولولا هذا الفرض، لاستحال علينا أن نُدرك مغزى هدوء نفسه، وانعدم تأثُّرِهِ وشعوره بالنَّدَم، على الرَّغم من كونه أحدث بمحبوبته عاهة مستديمة يستحيل برؤها، شوهت وجهها، وفي الوقت نفسه نجا بنفسه من الموت، إنَّ الانسجام الملحوظ بين نزعته الإجرامية، وبين صوت ضميره الحسَّاس، أمر له وزنه وأهميته الخاصَّة من الوجهة النفسية، فإنَّ هناك بعض العوامل اللاشعورية، والنزعات الباطنية، التي ولَّدت هذا الانسجام والوئام، بين نزوات النفس ذات الشهوة وبين الضمير، ذلك أنَّ دراسة هذه العوامل لما يهيئ لنا فرصة لحلِّ ذلك اللغز، الذي كثيرًا ما حيَّر الأفهام، وهو كيف يتَّفِقُ لبعض النَّاس من ذوي الضَّمائر الحسَّاسة، والشعور الرقيق، أن يُقدِمُوا على ارتكاب جرائم خطيرة، دُون أن يُساور نفوسهم أي شعورٍ بالخطأ، أو تأنيب الضمير.

لقد عاش كارل طوال حياته تحت ضغط ضميره، ممَّا كان له أثر واضح في سلوكه، فإنَّ شعوره الباطني بالخطيئة والإثم، والذي هو نتيجة لعشق المحرم — وهي الأم — كان لا يفتأ يُلازمه، وأورث لديه القلق الدائم، وولَّد في نفسه وجدانات حائرة، وشعورًا مُلازمًا بعدم الاطمئنان والاستقرار، وهو الشعور الذي دفعه إلى هجر منزل أبيه، كما جعله قلقًا في حبه لمعشوقته، غير مطمئن النفس؛ لأنَّ حبه إيَّاها كان ممزوجًا في الباطن بشهوة الاتِّصالِ بمحرم، التي ملأت أرجاء اللاشعور، وكان كارل إذا ما سئل عن البواعث التي دفعته إلى التصميم على قتل معشوقته وقتل نفسه، يُجيبُ دائمًا بذلك الجواب النَّمطي الصورة، وهو أنَّه إنَّما أراد أن يُنقذ حبيبة قلبه من متاعب الحياة الزوجية، وآلامها المنتظرة، مُستشهدًا على ذلك — على حد قوله — بما يُعانيه أخوه الأكبر — وكارل أصغر أخوةٍ ثلاثة — من بُؤسٍ وشقاءٍ في حياته الزَّوجية، فهو يشغل مركزًا رفيعًا، وذو دخلٍ كبيرٍ، يمضي نهاره مُكِدًّا مُكبًّا على العمل، ولكن زوجته المستهترة تسهر آناء الليل خارج المنزل، تبدِّد أموال زوجها ذات اليمين وذات الشمال على ملذاتها وشهوتها، وتنام أطراف النهار، فهي حياة زوجية يراها كارل أقصى درجات الشقاء، وإنَّ حياة أخيه أصبحت جحيمًا، ولهذا أراد كارل بجريمته أن يُنقذ معشوقته من حياةٍ مُماثلة.

فالتأمُّل فيما يقوله «كارل»، يكفي للحكم ببطلان حجَّته وفساد زعمه، ذلك أنَّه منطقٌ مقلوبٌ، فإنَّ المثل الذي جاء به لتبرير عمله، واضح الدلالة على أنَّ ضحية الحياة الزوجية، كان الزوج وليست الزوجة، فالزوجة هي الآثمة، وهي التي كانت تخدع زوجها وتجني عليه، في حين أنَّ المرأة التي حاول كارل أن يقتلها، لم ترتكب في حقِّه خيانة أو جريمة، ولم تقترف ما يدلُّ على عدم الوفاء، أو الإخلاص، فلو كانت معشوقة كارل خانت حبيبها لكان لجريمته سببٌ مفهوم، ولموقفه من الفتاة سند معقول، أما والحال على النقيض من ذلك، فإنَّ ورود مثل هذه الحجَّة على لسان كارل، له مغزى لا يغيب عن فطنة من أوتي خبرة بفن التحليل، فهو يفضح ما انطوت عليه نفسه من نزعةٍ لاشُعوريَّةٍ، نحو قتل امرأةٍ خَائِنَةٍ.

ولكن من عساها تكون هذه المرأة التي عناها «كارل» بعقله الباطن؟ إنَّنا إذا نظرنا إلى معشوقة كارل، نجدها بالنسبة إليه بريئة من وصمة الخيانة، ولكن إذا نظرنا إليها من ناحية خطيبها الذي سيصبح عمَّا قريبٍ زوجًا شرعيًّا لها، فإنَّها تمثل في نظر كارل دور المرأة المُخادعة الخائنة، فهي تخدعُ خطيبها، وتبغي أن تستمر في خداعه كزوج، وتُنفق من أمواله على شخصٍ آخر — وهو كارل — لأنَّه طبقًا لما وَرَدَ في الوقائع التي ذكرناها في فصلٍ سابقٍ، كانت معشوقة كارل تُنفق عليه من مالها، فكانت له بمثابة الأم التي ترعى طفلها؛ أي إن معشوقة كارل كانت تُعامله بما كان يشتهي في قرارة نفسه أن تُعامله به زوجة أبيه، وهو ما أيقظ من نفس كارل الشعور الباطني بالإثم وتأنيب الضمير؛ «لأنه اتخذ منها رمزًا لعشق المحرم».

أما وقد اعتزم كارل قتل معشوقته، فمن الواضح أنَّه تقمَّص في شخصية الرَّجل، الذي كان ضحية الخيانة الزوجية، وهو في الأصل والده، ثمَّ نصب نفسه في موضع المقتص لهذه الخيانة بقتله المرأة الخائنة، لقد ألبس كارل معشوقته ثوب زوجة أبيه، وأدمج المرأتين في شخصٍ واحدٍ، فكان اندماجهما في نظر عقله الباطن شديدًا، فلم يستطع أن يُفرِّق بينهما، وبذلك تسنَّى له أن يقتل زوجة أبيه في شخص معشوقته، كما لو كانت المعشوقة هي التي خانت والده، ثم أدمج في الوقت نفسه شخصيته في شخصية أبيه، وهكذا قام بتمثيل دور الأب المنتقم لشرفه.

في وسعنا أن ندرك كيف استطاع كارل أن يتحرَّر من تأنيب الضمير، الذي كان يملأ أرجاء عقله الباطن، والذي كان من المفروض إيقاظه، كنتيجة طبيعية لإشباع شهوة جنسية موجَّهة نحو محرم، ولكن بالتجائه إلى ظاهرة التقمُّص في شخص والده، ذلك الوالد الذي خدعته امرأته، استطاع أن يخدع ضميره ويمالئ شهواته الباطنية، فبدت له مبرِّرات القتل الموهومة ومسوغاته المزعومة، ومن ثمَّ استطاع أن يبدِّد عن نفسه الشعور بالإثم، ووخذ الضمير.

على أنَّ موقف كارل من جريمته، يعدُّ مثلًا من خير الأمثلة المُطبَّقة لظاهرة الانعكاس، وهو انعكاس الشعور بالإثم على مرآة الغير، فإنَّ نزعته الجنسية، التي كان يُكنُّها في سويداء قلبه نحو زوجة أبيه، انعكست صورتها على شخصية معشوقته، التي اتَّخذ منها بديلًا لزوجة أبيه، فألبسها ثوب خطيئته، واتهمها بما في نفسه، فأصبح يرى معصيته معكوسة على مرآة سواه، وممَّا سهَّل له عملية الانعكاس، أنَّ معشوقته من ناحيتها كانت تخدع خطيبها وتخونه، ولم يقم وزنًا لكونها تفعل ذلك مرضاةً لخاطره، فباتخاذ كارل موقف الوالد، وتقمُّصه في شخصيته، تولَّدت لديه الرَّغبة في قتل الزوجة الخائنة، ومن ثمَّ أمكنه التخلُّص من نزعته الباطنة الخاصة «بعشق المحرم».

إنَّ ممَّا يستحق الذكر، أنَّ الفتاة استطاعت أن تُدرك بوجدانها طبيعة عمل كارل، وتحسَّست ما ينطوي عليه من معنى الانتقام، فعلى أثر وقوع الحادث انقلبت على كارل انقلابًا شديدًا، وحلَّ بينهما الجفاء والخصام محل المحبة والوئام، فتزوَّجت من خطيبها عند أوَّل فُرصةٍ، ثم أخذت تكيد لكارل أثناء التحقيق، وتسبب له المتاعب والمضايقات، وتحرجه ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، وقد أكَّدَت في التحقيق أنَّها لم تقبل الموت طوعًا، ولكن كارل هو الذي أثَّر عليها، وساقها إلى فكرة الانتحار سوقًا، بعد أن غرَّر بها وخدعها؛ لأنه يريد التخلص منها بقتلها، ولم تشأ الفتاة التخلِّي عن موقفها العدائي نحو كارل في جميع أدوار التحقيق، حتى اضطرت في النهاية تحت ضغط شهادة بعض الشهود، ومواجهتها بما تضمنته خطابات الوداع التي كتبتها بيدها، أن تغيِّر موقفها من كارل أمام المحكمة.

إنَّ هذا الموقف الذي وقفته الفتاة خلال التحقيق لممَّا يتعذَّرُ تفسيره أو فهمه، إلا إذا افترضنا أنَّه استجابةً لاشعوريَّةً، لعملٍ عدائِيٍّ لاشعوري أيضًا، فكأنَّ الفتاة أدركت بإحساسها الباطن، حقيقة قصد كارل الكامن في أعماق نفسه.٧

إنَّ العوامل اللاشعورية، التي سيطرت على عقل كارل، وملكت مشاعره، ما كان لها أن تجد وسيلة عملية للإعراب عن وجودها، أو تخرج إلى حيِّزِ التَّنفيذ، لو لم تجد المبرِّرات الظاهرية، التي تُبرِّر في نظر كارل موقفه من جريمته، فقد ظنَّ أنه بقتله الفتاة، إنَّما يفعل ذلك لإنقاذها من حياةٍ مليئةٍ بالمتاعِبِ، والمحن وصنوف العذاب.

أمَّا من حيثُ اعتزام كارل الانتحار وقتل النفس، فإنَّه يُحقِّقُ له مجموعة من الأغراض منها، أنه يُهيِّئ له فرصة الاتحاد بمعشوقته، التي هي رمز لوالدته، عن طريق الموت، ومن ثمَّ يتسنَّى له إشباع رغباته الأوديبية «نسبة إلى عقدة أوديب»، كما أنَّه بذلك استطاع أن يتقمَّص في شخصية والده المنتقم لعرضه، وبدأ يتم له التخلُّص من الشعور بالإثم وتأنيب الضمير، بأن يقتل في نفسه الابن، الذي ارتكب خطيئة الوصال بمحرم، وهناك عامل آخر من أهم العوامل النفسية، تضمنته نزعة كارل إلى الانتحار؛ ألا وهو أنَّ الانتحار يحقِّقُ له «رغبة أوديبية» أخرى، وهي قتل والده الذي تقمَّص فيه أو دمجه في شخصيته، وهو اندماج أتاحه له الدور الذي مثله لا شعوريًّا في علاقته بمعشوقته، كما لو كان لسان حاله يقول: إنَّ الرجل الذي استحوذ على أمي، يجب أن أقتله في نفسي عن طريق الانتحار. ومن هنا كان للانتحار له مغزى التخلُّص من ضميره وإخماد صوته إلى الأبد، ويقول العلامة سجموند فرويد: إنَّ كل حادث انتحار ينطوي على فكرة قتل شخصٍ آخر، يكنه المنتحر بين حنايا ضلوعه.

بقي علينا أن نُبَيِّن الأسباب، التي منعت كارل من تنفيذ فكرة الانتحار، فقد وضح أنَّه على أثر إطلاقه النَّار على الفتاة، لم يبدُ عليه أيَّة مِسحة من التأثُّر أو الشعور بالندم، بل على النقيض من ذلك، بدا مستريح الضَّمير، مُطمئنًّا إلى عمله، فكان يُدافع عن موقفه في حرارةٍ مُبَرِّرًا تصرُّفه في صلابةٍ وعنادٍ، أمَّا شعوره نحو والده فقد انقلب إلى شعور وديٍّ جدًّا.

إنَّ قتل كارل معشوقته معناه الباطني لديه: أنه انتقم لشرف أبيه، فقد ألبسها ثوب الزوجة الخائنة، أو أنَّه فعل ما فعل ابتغاء مرضاة أبيه، وفوق ذلك فإنَّه عاقب نفسه، بأن ضحَّى بحبيبة فؤاده، وبذلك تضاءل لديه تأنيب الضمير، إلى حدٍّ أفسح المجال لغريزة الحياة، ويسَّر لها سبيل الانتصار، ألم ترتضِ الفتاة الموت، وطلبت منه أن يُطلق النَّار عليها بمحض اختيارها؟ فموقفه حيالها أضحى مُبررًا، لا غُبار عليه في نظره، كما هيأ له قتل الفتاة بقصد التخلُّص منها فرصة التقمُّص في شخص أبيه بفاجعةٍ محزنةٍ.

لقد فقد والد كارل زوجته الأولى — والدة كارل — فكان على كارل أن يُضحِّي بحبيبة فؤاده، وهي تضحية تكفل في الوقت نفسه معنى القصاص الذَّاتي، وعلى أثر تمثيل كارل هذه المأساة المؤلَّفة أصبح نِدًّا لأبيه، وسرَّى عن نفسه الشعور بالإثم والخطيئة، فطريق الوئام والوفاق بينه ووالده أصبحت مُعبَّدة، لا يعيقها عائق.

إنَّ أقوى الوجدانات، التي انطوت عليها نفسية كارل وجدانان؛ أحدهما: شعور مجسَّم بالإثم تجاه والده. وثانيهما: نزعة ميل جنسي شديد، سبيله المظهر، مركزه لا شعور في شخص أبيه، فاقت كل نزعة لديه نحو الجنس المضاد، فكان حبه الجنسي لوالده أقوى الوجدانات النفسية، التي لازمته حتى آخر لحظة، والأدلة على ذلك موفورة، من الشواهد النفسية المستفادة من جريمته، والتي ذهبت خطيبته ضحيتها، فإنَّ كارل أراد أن يتخلص من أمه — معشوقته — التي فرَّقت بينه وبين والده، أملًا في أن تخلو له الحياة مع أبيه في وئامٍ وسلامٍ، أي حب كارل لأبيه، كان أشد العوامل اللاشعورية التي دفعته إلى قتل معشوقته والتخلُّص منها، فإنَّ عقله الباطن قد رمى إلى الفصل بين أبيه وأُمِّه.

إنَّ شعور كارل العدواني؛ أولًا: نحو النساء وموقفه العدواني منهن، ذلك الشعور الذي التمس له مخرجًا بحملاته القاسية على زوجة أخيه الأكبر، وشدة حقده عليها. ثانيًا: عدم اكتراثه — إجمالًا — بمن تعرف بهن من قبل من النساء. ثالثًا: محاولته قتل معشوقته. رابعًا: التجاؤه إلى مُصالحة والده، كلها من البراهين النَّفسية القاطعة في الدِّلالة على ما توافر لدى كارل من ميل لاشعوري لذات الجنس.

لقد كان في وُسع كارل أن يُرضي نزعته الجنسية نحو المحرم، بأن يلتحق بالفتاة في العالم الآخر، بمجرد إطلاق النار عليها، ولكنه آثر التخلُّص من هذه النَّزعة بالتجائه إلى نزعة الجنسية «السلبية» الموجَّهة نحو أبيه، فعلاقته بأبيه كانت تَرمي إلى تحقيق رغبات «عقدة أوديب المقلوبة» أعني رغبة الاتحاد بالأب، أي عشق الأب بدلًا من عشق الأم.

ومن ثمَّ يرى لماذا انتصرت غريزة الحياة في النهاية على ما عداها، وظلَّ كارل على قيد الحياة حيًّا يُرزق.

وقد أضاف الأستاذ استوب إلى ما تقدَّم التعليق الآتي:

لقد تسنَّى لنا أن نُعالج هنا عملًا إجراميًّا، ولكن ليس الباعث إليه نزعة إجرامية، فإنَّ الدفاع الأساسي لهذه الجريمة، كان مصدر شعور قويٌّ بالإثم والمعصية، كان ماثلًا في العقل الباطن، أو قل: إنَّ الجريمة قد وقعت بتأثير عوامل واعتبارات أخلاقية، فكارل يُعدُّ خير مِثال «للمجرم العصبي» فإنَّ ذاته الشعورية قد تعذَّر عليها أن تُوافينا بتعليلٍ صادِقٍ لجريمته، فهو عاجزٌ عن فهم حقيقة موقعه من نزعاته الباطنية، وكلُّ عقابٍ أو كل تعذيب يحل به في مثل هذه الظروف يكون عقيم الأثر، لا يرمي إلى تحقيق غاية معينة؛ إذ إن كارل مريض نفسيًّا، فهو ليس أهلًا لعقوبة السجن، بل خير وسيلة لإصلاحه هو مُعالجته بالتحليل النَّفسي، بغية حل «عقدة أوديب» الرَّابضة في جوف اللاشعور، ومن هُنَا يتمُّ له الشِّفاء، وتتهيَّأ له سبل العودة إلى الحياة الاجتماعية الصالحة.

أمَّا الوضع الشَّاذ لقضية كارل من الوجهة القانونية، فإنَّه وفقًا لقانون العقوبات الألماني — وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ غيره من القوانين ليس خلوًا من المتناقضات — يُعدُّ الفعل التام في جريمة القتل التي تقع بناء على طلب المجني عليه، مُعاقبًا عليه بعقوبة السجن المخففة نسبيًّا، وأنَّ الشروع في مثل هذه الجريمة لا عقاب عليه أصلًا، وإنما إذا خاب أثر الجريمة من حيث القتل، ولكن نشأت عنها عاهة مُستديمة كفقد إبصار إحدى العينين — كما حدث في قضية كارل — فإنَّ العقوبة تكون وفقًا لنص المادة ٢٢٥ من قانون العقوبات الألماني، أشد كثيرًا من عقوبة الفعل التام.

والمقصود بالمجرم العصبي، هو ذلك الفريق من المجرمين، الذين يرتكبون الجرم سعيًا وراء القصاص، للتخلُّص من عذاب الضمير؛ لأنَّ المُجرم في هذه الحالة يُعاني في قرارة نفسه، منذ عهد طفولته شُعورًا مجسمًا بالخطيئة والإثم، مُقترنًا بتأنيب ضمير شديد، لا يفقه معناه ولا يعرف مصدره، فالقصاص الذي يسعى إليه من شأنه أن يهدِّئ حدة هذا الشعور، ويسكن من آلام وخز الضمير، وهو يختلف عن المجرم العادي، الذي لا يشعر بتأنيب ضمير؛ إذ بين نزعاته الإجرامية وبين ضميره سلام ووئام.

عشق المظاهر ومركب النقص

إذا رأيت القربة مملوءة بالماء، منفوخة نفخًا صادقًا، فهي نفخة صادقة، ولكن إذا رأيتها مملوءة بالهواء، فتلك نفخة كاذبة.

وإذا رأيت جلد بقرةٍ على بقرةٍ حيَّةٍ فتلك نفخة صادقة، ولكن إذا نزع من البقرة جلدها، وحشي تبنًا ليكون الشكل شكل بقرة، فهذه نفخة كاذبة.

وعندنا أنواع وأنواع من النَّفخة الكذابة، فالموظف يرى أنه لابد له طقمٌ من العظمَةِ والكبرياء يلبسه أثناء قيامه بوظيفته، كما يلبس بذلته، ويخلعه إذا فرغ من عمله في الوظيفة، كما يخلع بذلته أيضًا، فإذا لبس الطقم انتفخت أوداجه، وعلا صدره، وأمر ونهى في عنف، وتصنَّع الكبرياء والعظمة، فهو لا يتكلَّم كما يتكلَّم الناس، ولكن كما يُكلِّم السَّيِّدُ عَبْدَهُ، وإذا تصرَّف فليس كما يتصرف الناس، ولكن كما يتصرف الآلهة … نجد هذا في الموظف الصَّغير أمام الجمهور، والموظف الكبير نحو الموظفين الصغار، طبقات بعضها فوق بعضٍ، وفي دور الموظفين أمام زوجاتهم، وأبنائهم وبناتهم، فزوجة الموظف الكبير أيضًا تشمخ بأنفها، وتتكبَّر على من دُونها، وتتكلَّم من طرف لسانها، وتتصنَّعُ العظمَةَ في حركاتها وسكناتها، وكذلك تفعل زوجة الموظف المتوسط مع زوجة الموظف الصغير.٨

ومن لوازم النَّفخة الكذابة، حرص الموظف على الحجر الفخمة، والمكاتب الضخمة، وعدد الحُجَّاب والسعاة على الباب، والسجاجيد تفرش بها الحجرة، والتليفون على مكتبه، وكثر الكتبة الصغار تحت أمره، وتعدُّد الزَّائرين لسعادته، وصعوبة وصول أصحاب الحاجات إليه، وترفُّعه عن أن يُصغي لمطلب، أو يُناقشه موظف.

بينما في حُجرة مدير جامعة أجنبية، ليس بها إلا مكتب مُتواضع، وستَّة كراسي مُعتادة، إذا طلب ابنه منه ما يُساوي قروشًا، دفعها ثمن تذكرة لسينما تُقامُ في جامعته، فقلت: لو أن الموظف الإداري كان عندنا لما صح أن يدفع ثمن سينما ولا تمثيل، ولا شيئًا من هذا القبيل، إذا أُقيم في دائرة اختصاصه، لا هو ولا أحد أقاربه وأتباعه وكل هذا نفخة كذَّابة.

والغني الكبير مظهر غناه سيَّارة فخمة، وسراي فسيحة، وخدم وحشم، وعصا مذهَّبة، وساعة ذهبية في جيبه، وخاتم ماسي كبير في أصبعه، وصوت ضخم، ونداء للخدم في عظمة، ثم لا شيء وراء ذلك من تبرُّعات، ولا أعمال خيرية، ولا شيء نافع، فهذه نفخة كذابة … قاعة كبيرة يحجز في السكة الحديدية للموظَّفِ الكبير، وللعُظماء في قاعة المحاضرات والاجتماعات المقاعد والموائد، بجانبها موائد مُتواضعة لعامَّة المدعوين في الولائم، وموظف كبير يتبعه حاجب يحمل شنطته، ويفسح الطريق أمامه، ونشرات في الجرائد، بأنَّ فلانًا رُزق مولودًا سعيدًا، وأنَّه سافر إلى عزبته استراحة من عناء الأعمال.

يرجع عشق المظهر إلى مركب النقص، فالعالم الكبير يُغنيه علمه عن مظهره، والموظف الذي يعرف حقوقه وواجبه لا يُعنى بالتوافه، والوزير الذي يشعر باحترام نفسه واحترام الناس له لقيمته الذاتية لا يعبأ بالمظاهر العرضية، والسنبلة الفارغة من سنابل القمح أكثرها شموخًا، والمملوءة بالحب أكثرها تواضعًا، والطبل الأجوف أعلى صوتًا، والجبان عند النزال أكثر تهديدًا ووعيدًا.

مقياس الأطفال والعقول الساذجة تقويم الأشياء بمظاهرها، ومقياس العقول الرَّاقية تقديم الأشياء بحقائقها، وهذه المظاهر كلها تسبِّبُ ضغطًا؛ لأنَّ مصادره لا عداد لها، فنفخة رجال الإدارة على العمد والأعيان، ونفخة الأعيان ومشايخ البلاد على الفلَّاحين، ونفخة رءوس الأموال على العمال، ونفخة الموظفين بعضهم على بعض، ونفخة الموظفين على الجمهور، كل هذه النفخات وهذه الضغوط تسبِّبُ جوًّا راكدًا بغيضًا غير صالحٍ للتَّنفُّس، يشعر كل من فيه بنوعٍ من الكابوس ثقيلٍ كريهٍ.

علينا أن ندع المظاهر ونُعنى بالحقائق.

نفسية الزوجة الغنية

لئن كانت الزوجة غنية، أسعدت الرَّجل أحيانًا بمالها، لكنها قد تُشقيه بمالها، وكذلك الفقيرة تستطيع، إذا كانت سيئة التربية أن يشقى الرجل بفقرها، وأن تسعده إذا كانت قانعة غير جشعة.

كان اللغوي الإنجليزي «الدكتور جونسون» بارعًا في فنِّ الحديث؛ إذ يصغي إليه الناس في شغف ونشوة، مُعجبين لما كان له من قوَّة الإطراب، والإطراف، والإعجاز الفن «الجميل».

وقد نقل «اللورد بوزويل» في كتابه المشهور عن «جونسون» من حديثه:

ثمَّ تكلمنا عن زواج الرجال بالنساء الغنيات، فقلت: إنَّ من الملاحظات الشائعة، أن الرجل يمكن أن يكون أغنى إذا تزوج امرأة فقيرة؛ لأن الزوجة الغنية تتطلب نفقات باهظة لا تترك للرجل من دخله شيئًا يدخره وينمِّيه، على نقيض المرأة الفقيرة، فإنها تكون معتدلة مقتصدة في نفقاتها.

فقال الدكتور جونسون:

لا يا سيدي! فالمرأة الغنية قد تعودت منذ صغرها، أن يكون في يدها مال … وهي لهذا تعرف كيف تتصرَّفُ في إنفاقه تصرفًا حسنًا، أما المرأة الفقيرة فإنها تدخل بيت زوجها متشوِّقة متلهفة على المال، فلا يكاد يضع في يدها شيئًا منه، حتى تسرع إلى تبذيره وتبديده؛ ولهذا فإنِّي أنصحُ الفقراء أن يتزوَّجوا نساء غنيات، لا ليستفيدوا من أموالهن؛ بل لأنهن أدرى بتدبير المال من النساء الفقيرات اللاتي لم يعرفن في بيوت آبائهن ما هو المال!

عوامل النقص في الرجال

في الرجال كما في النساء عوامل نقص، يدعوها النساء بأنَّ «الرجل كسر» أي ليس عددًا صحيحًا، أعني ليس كامل الصفات المرغوب فيها، قائلات:

إنَّ المجتمع مزدحم بكسور الرجال، ذلك أنَّ المرأة تبحث دائمًا عن الواحد الصحيح! عندهن أن الفنان «كسر» لا يكمله إلا الخيال! ومن هنا كانت الفتاة التي تتزوج فنانًا تشقى؛ لأنها لا تجد حياة الاستقرار، وكذلك الفتاة التي تتزوَّجُ من رجلٍ واقعيٍّ تشقى؛ لأنها لا تجد فيه الفتى الأول الذي قرأت عنه في روايات الحب والغرام، ومن ثم أصبح المجتمع من الكسور، التي تحاول النساء أن يُكملنها ويخلقن منها أعدادًا صحيحة.

تقول جون إليسون: إنَّ المرأة تستطيع أن تكيف أخلاق الرجل وطباعه بالثناء عليه! والرجل المغرور يفقد اتزانه، ويصبح أُلعوبة في يد المرأة، تحركه كيف شاءت وتخلق منه رجلًا جديدًا!

وتقول ريتا هايورث: إنَّ كل رجل يتألَّف من شخصين مُختلفين، الدكتور جيكل الطيب، ومستر هايد الفاخر. وإنَّ المرأة الذكية هي التي تمتدح النصف الطيب في كل مناسبة، والرجل يحبُّ الثناء؛ ولذلك فإن غريزته ستدفعه إلى التخلص من النصف الفاخر في نفسه؛ حتى يتضاعف الثناء!

ولكن هل نجحت هذه النظرية عند تطبيقها؟

تقول ريتا هايورث: إنها تزوَّجت كسرًا، ثم انفصلت عنه، ثم ذهبت معه في رحلة خلوية استطاعت بعدها أن تخلق من الكسر عددًا صحيحًا! وهذا هو سرُّ سعادتها.

نقائص الاشخاص

نحنُ نُنادي بأنَّ هناك نقصًا في مُقوِّمات الحياة وفي الأشخاص، ونُطالب بالمثل العليا، ونضطرب بين المذاهب، ونتعارك، ونتقدم ونتأخر، وعندنا أنَّ الحياة هي هي، وأن النقص والكمال نسبي بالنسبة للبيئة والأشخاص.

يقول بندتو كروتشة؛ الفيلسوف الإيطالي «في رياضة الحياة»: إنَّ الناس يكثرون من نقد أعمال الحكومة، ويرمونها بالإهمال والتواني، ويرمونها بالغش والسرقة، وينعتون رؤساءها بالعجز والتقصير، وهذا جميعه من قبيل النقد الرخيص، وسببه هو التفكير في حكومة مثالية، يقترن فيها الذكاء الكامل والقدرة الفائقة، بالأمانة التَّامة والنزاهة الخالصة، وهذا ضربٌ من التجريد لا نظير له في عالم الواقع.

أما الواقع فهو: أنَّ الحكومة نزاعٌ مستمرٌّ بين قوة التحلُّل والانطلاق وقوة التماسك والتركيب، أو قل: إنَّها صراعٌ بين قوَّةِ الفوضى وقوة النظام، أمَّا قوة التحلل، فهي قوة تلقائية مصدرها الدوافع الحية، التي تجيش بها الأمم.

وفي قوة التحلل، مجموعة أفراد يعملون على تحقيق أغراضهم الطبيعية، وحاجات نفوسهم، ويميلون إلى مساعدة أصدقائهم، واللائذين بهم، وإيثار أبنائهم وأقاربهم، ويحرصون على إشباع رغبة الجسد والعقل، وموجز القول أنهم يحرصون على أن يعيشوا.

وفي حياة الرجال البارزين ما هو جديرٌ بالتسامح معهم، والترفُّق في نقدهم وعدم التحامل عليهم.

على أنَّ السياسي المحنَّك، لا تُضايقه العيوب والنقائص والشرور، بل يرى في مناهضتها وسيلة لإظهار كفايته، أمَّا الذين تُؤلمهم مُتناقضات المجتمع وحماقاته وسخافاته وجرائمه ومنكراته، ويروعهم ما فيه من ظلم وغبن وقسوة وفظاعة، فهم من أصحاب الخيال الشعري، أو النزعة التأملية.٩

ويقع هذا المشهد في نفوسهم أسوأ وقع؛ لأنَّ الحكومة في رأيهم هي القيِّمة على الأخلاق، والمحافظة على الفضائل، فتقصيرها في واجبها واستهانتها بتبعتها وخرقها حُرمة القوانين، يزعزع إيمانهم بالخير والحق والفضيلة.

وتقتضي المصلحة العامَّة إعانة الفقراء، وغوث منكودي الحظ، وتدبير الأعمال لهم، ولكننا نكشف بعد ذلك أننا قد خدعنا، وأنَّ العناية بالمصلحة العامَّة قد اتخذت ستارًا للمآرب المتهمة، وإغداق الخيرات، ونبدأ نُسائل أنفسنا: هل الحكومة شيءٌ آخر غير التقلُّب، الذي يحجب وراءه الباطل والغبن والاضطهاد؟

وتتعاقب الأحزاب فلا تتبدَّل الأحوال، بل تزدادُ سوءًا، حتى يخالجنا الأسف على الأيام السيئة السالفة، ويعجز المشاهدون عن الإصلاح، فيتجاهلون السياسة.

وكما أن الأمانة السياسية هي الكفاية السياسية، فإنَّ أمانة الجرَّاح أو الطبيب، هي كفايته من حيث هو جرَّاح أو طبيب، ونحن حين نمرض نلجأ إلى أقدر جرَّاحٍ أو أبرع طبيبٍ، لا إلى الجرَّاح أو الطبيب الذي اشتهر بالطيبة والصلاح.

أمَّا النقص في أخلاق السياسي، فقد يجعله مُقصِّرًا في ميادين أخرى غير ميدان السياسة، وكذلك الشاعر قد ننعى عليه سلوكه، وسوء خلقه ومجونه، ولكنَّا مع ذلك نقبل شعره إذا كان من جيِّد الشعر.

ويروى أنَّ شارل جيمس فوكس السياسي الإنجليزي الشهير، حين اشتهر خطيبًا في مجلس النواب، وزعيمًا سياسيًّا حاول تقويم خلقه، وكبح جماح نفسه، فسرعان ما شعر بأن وحي الخطابة سيخذله، وفقد حماسته في النضال السياسي، ولم يستردَّها إلا حين عاد إلى سابق عاداته.

وقد نندب حظ الرجل الذي جعله تركيبه العضوي، وبناؤه النفسي، يشعر بحاجته الماسة إلى الأحاسيس غير العادية، وضروب الملاهي؛ ليقوم بعمله على خير الوجوه، ولا يجب أن يمسُّ هذا سمعته من ناحية السياسة.

ولا يغيبنَّ عن بالنا أن العبقري الموهوب، قد يتسامح في كل شيءٍ ويُرخي لنفسه العنان إلا في الناحية التي هي مناط فخره، ومعقد أمله، ومنزل حبه، وأساس كيانه، فالشَّاعر قد يشذُّ عن سنن الآداب، ولكنه مع ذلك لا يقبل المُساومة في فنه، إذا كان شاعرًا صادق الشاعرية، وكذلك السياسي ورجل الدولة.

عند الاقتصاديين أنَّ العمل هو مصدر الألم، بل إنَّه ألمٌ واصبٌ وتعبٌ ناصبٌ، ولكنَّنا نرى أن العمل منبع سرور لا ينضب، وليس فرح الحياة سوى العمل، وإذا أمسكنا عن العمل احتوانا الملل والسأم، وكذلك الأطفال يعملون؛ لأن لعب الأطفال ضربٌ من العمل.

وهناك نوعٌ من العمل يُضنينا ويملنا؛ لأنه لا يتجاوب مع ميولنا وطموحنا، ولا يملأ كياننا، وهذا العمل ينتزعنا انتزاعًا من العمل الذي نحبه ونؤثره، وهو يؤلمنا ويضايقنا بمقادر ما يفرض علينا من واجبات، وما يحملنا من أعباء، من قبيل ذلك العمل الذي يحملنا على أن نترك الأهل والمنزل في مطلع الشمس، ونمضي سحابة اليوم في كد الوظيفة أو بين جدران العمل.

أمَّا الشَّاعر فهو يعلمُ أنَّ ساعات الوحي والتجلِّي قليلة قصيرة المدى، وكذلك كل عملٍ نُباشره ساعات وحيه معدودة، نترقبُّها من الحين إلى الحين، وبرغم إرادتنا في غضون ذلك، يضاف إلى ذلك أنه لا فائدة من الثورة على الضرورة، بل إن هذه الثورة تضرُّ المجتمع، ومن هذا الذي يرفض عملًا يرى المجتمع نفعه؟ إنَّ الذين يجترئون على ذلك حرصًا على حريتهم يفقدون القدرة على الانتفاع بتلك الحرية واستثمارها.

لو حرمت الفضيلة، لأثبت الناس جميعهم أنهم فضلاء؛ لأننا نحب ما يحرَّمُ علينا، وعند الكثيرين أنَّ في الشرِّ لذَّة، ويستدلُّون على ذلك بميل الإنسان إلى ما يحرم عليه، وقد علَّمتنا التجربة أن تحريم الشيء، يجعله موضع الرغبة، ومطمح النظر، وفي بعض الأوقات نيأسُ من التغلُّب على الرغبة، أو نحاول تجنب الصراع الشديد الذي كثيرًا ما يقوم بيننا، وبين قوة الرغبة، فنستبيح التورط في الخطأ، لكي تذهب حدَّة الرغبة ويبطل سحرها وفتنتها، أو قل: هو ينتزع منها قوتها، ولو أنَّنا نعرف أنَّ هذه المهادنة قد تزيد الرغبة قوة.

واللذة هنا ليست لذة في الشر، وإنِّما هي لذة في التغلُّب على العقبات والموانع، كما نتغلب على صعوبة مسألة رياضية، وذوو العقول القوية يكرهون المعضلات اليسيرة، كما أنَّ أصحاب الإرداة القوية يشعرون بلذِّة في المجازفات، والتعرُّض للأخطار.

والحياة العادية الراكدة تقتل روح البطولة، لانقطاع الأمل في فاخر الجزاء، وهو وحده الذي يحرِّك الهمم ويبعث الرَّجاء.

في بعض الأوقات، وبخاصَّة حين تكون حياتنا تسير مُتهادنة في تؤدة ورتابة، ونشعر أننا نقوم بالواجب ونفعل ما يمليه علينا الضمير، في بعض تلك الأوقات يسطو على النفس شكٌّ قويٌّ، ونبدأ نتساءل: هل نحن من أفاضل الناس؟ أليست فضيلتنا نتيجة لظروف حسنة مواتية، وهي من أجل ذلك لا تدلُّ على قوة الإرداة ومتانة الخلق؟

في مثل تلك الأوقات نقدِّرُ قول الشعراء: إنَّ الإنسانية من نسل فابين. ونتساءل: هل كنا نستطيع أن نحتفظ بنظرتنا العالية إلى نفوسنا، ونتجنب أن نصير مثل هؤلاء الذين نترفع عليهم ونزوي عنهم وجوهنا، إذا وضعتنا الظروف في مواقف أخرى، وتعرَّضنا لإغراءات لا قبل لنا بها؟ في هذه الحيرة اللاذعة يستولي علينا ميلٌ شديدٌ إلى اختبار قوتنا ومدى ثباتنا، ومن بواعث السرور لا تبخل علينا الظروف بإتاحة الفرصة المناسبة، وتنعم علينا بأن تُرينا مقدار غرورنا بفضيلتنا، وعظم تقديرنا لأنفسنا.

أينما نتَّجِه يُقابلنا الحظ الأخلاقي المتشدِّد، ممَّا يُثيرُ النُّفوس الرفيقة، ومهما تريثنا في اتباع آرائه، فهو متحفز على الدوام ليقيم لنا الدليل، على أنَّ القصة التي نُعجب بها مشكوكٌ في صحتها، وهذا حديثٌ عن قومٍ عُرفوا بالقوة والإقدام، ولكن هذا النَّاقد لا يتردَّدُ في الكشف عن مواطن ضعفهم، وهذا عملٌ نعزوه إلى الشجاعة، ولكنه يوجِّهُ نظرنا إلى المخاوف التي دفعت الإنسان إليه، وهو ما هو في الكشف عن الأثرة والحرص والضعة والإسفاف، حيث كنَّا لا نرى سوى النبل والفضيلة.

وأسوأ ما في الأمر أنَّ أمثال هذه النقدات صادقة، ولكن الصدق الذي تقوله لنا، بدلًا من أن يسمو بنفوسنا ويزيد في سرورنا، يحمل إلى نفوسنا الفوضى والحزن، فنراه حقًّا وباطلًا معًا.

وإلى ماذا يسوقنا مثل هذا الظن؟ إلى إنكار الخير؟ إنَّ الروح الإنسانية في كل نهضة من نهضاتها تُؤكِّدُ وجود الخير، واقعيته، ولكن الخير المحض أشبه بالعمل الآني، فهو جميل في تجريده، ولكنه قبيح في واقعيته، والحياة ليس من صفاتها الكمال؛ لأنها رقي مستمرٌّ وتطوُّر، ومعركة وتغير، والكامل التام هو الميت الذي لا حركة له، وليس هناك غرابة في أن يتطلب الجندي العقوبة التي ترغمه على أن يكون شجاعًا، فإنَّ الرجل المشغوف بالفن كثيرًا ما يلجأ إلى طرق مُختلفة لاستثارة مواهبه، واستنزال وحيه.

ويظنُّ الأخلاقيون أنَّهم بعيدو النظر، في حين أنهم يفقدون رؤية العمل في غبار الحوادث، ويغيب عن نظرهم الشيء الجليل، عنايتهم بالنظر إلى الشيء التَّافه الحقير.

معنى البراءة هو أنَّ الإنسان لم يجرِّب الشر في نفسه، ولا في الغير، وبما أنَّ الشر موجود في الإنسان، وفي الغير، وفي الأشياء كلها، فالبراءة إذن مرادفة للجهل والغرارة، وهي تدلُّ على عجزنا عن فهم أنفسنا، وفهم غيرنا، وفهم الدنيا، وهي تدلُّ كذلك على قصورنا عن فهم صور الفنِّ وتصورات العلم؛ لأن العلم والفن قائمان على تجارب الحياة، وإذا كانت الحياة خيرًا فهي كذلك شر، ولقد نهوى البراءة الكاملة، كما نهوى السلام والجنة، ولكن معرفة الشر والخير، تمكِّننا من أن نَسْبُرَ الأعماق، ونتغلغل إلى أبعد أسرار الميول البشرية وأخفاها.

يجب أن تعلم أنَّ الحياة مزيج من الأمل واليأس، وهما عنصران من أهم عناصر الحياة، يعينان على احتمال العيش والصبر على لأوائه، ولكنهما يفقدان قوتيهما ويصيران مصدر ضعف وحيرة حين يصبحان عادة ملازمة، وموقفًا خاصًّا ونقطة انتهاء، فالهمُّ إذا ألحَّ على الإنسان شلَّ قدرته وجعله عاجزًا، وفرط الثقة بالنفس والدنيا تثلم الفطنة.

الأعمال التاريخية تفسر وتفهم، ولكنها لا تمدح ولا تذم، وهي لا تُعزى إلى الأفراد وإنما تُعزى إلى التقدم التاريخي، والأفراد مظهرٌ من مظاهره، ويبدو صدق هذا الرأي في تواضع العظماء، الذين يشعرون بأنهم كانوا مسخَّرين بيد قوةٍ خفيَّةٍ تدفعهم عنها، ويبدو كذلك في إجرام بعض كبار المجرمين، الذين يقولون إنهم فعلوا ما فعلوا؛ لأنهم كانوا لا يستطيعون غير ذلك، ونحن غير مسئولين، ولكن المسئولية تفرض علينا، والذي يفرض علينا المسئولية هو المجتمع؛ لأنَّه يقول لنا: إذا فعلت كذا كوفئت، واذا فعلت كذا عوقبت، وأنت تعرف ما أطلب وتدري ما تفعل، ولذا أعدك مسئولًا عمَّا تفعل، ولك عذر في مُسايرة أهوائك، ولكن هذا لا يُفيدك؛ لأني لا أعبأ بذلك، وما يهمني هو تحقيقُ الغايات التي أرمي إليها، ولست أبغى الأعذار، ولا يهمني سوى إصابة الأهداف، ولهذا أضغط عليك وأحفزُّك حفزًا، وكما أن الندم يفيد الإنسان، كذلك العقوبة تفيد المجرم.

المجاهدون يحلمون بالسلام والصفاء، وأهل المجون والدعارة يحلمون بالنقاء والطهارة، وهم قوم ممن تأبى لهم أخلاقهم أن يحل الذم ساحتهم.

شذوذ الرجل: يتبنَّى قردًا

يقول الأستاذ بارول: قبل مائة عام كانت الفكرة السائدة في العالم المتمدِّن، أنَّ حضارة الجنس الأبيض، ترجعُ إلى الرُّقي العقلي والخلقي بالنسبة للشعوب الملونة، ومنذ ألفي عام نادى الرومان بمثل هذه الدعوة، فقالوا: إنهم أرقى جميع الشعوب بالفطرة.

ومع ذلكن فإنَّ التقدم الذي بلغته الشعوب المتوحشة منذ القرن الماضي، فارتفعت من أكل لحوم البشر إلى الحضارة، جعل الشك يحوم حول نظرية الاستعدادات الموروثة، وكتب دارون عام ١٨٣٦ عن قبيلة «المايورس» في زيلندا الجديدة، أنَّ أهلها متوحشون، بالِغو القذارة، شديدو الميل إلى العدوان، وفي عام ١٩٤٦ وصل واحد من نسل هذه القبيلة إلى منصب أستاذ في علم الأجناس البشرية في جامعة بيل، وكُوفئ نظير خدماته العلمية، وارتقى آخر من قبيلة المايورس منصب رئيس وزارة نيوزيلند.

وفي ضوء هذه الظواهر أصبح علماء النفس، وعلماء الاجتماع يميلون إلى القول «بالوراثة الاجتماعية» أي العادات، والمعتقدات، والتقاليد، والصناعات، واللغة، مما يكتسبه الفرد بدون شعور، من المجتمع الذي يُولد فيه، بل لقد ذهب العلماء الآن إلى أبعد من ذلك، فأصبحوا لا يتمسَّكُون بنظرية الوراثة، فيما يختص بمواهب الفرد العقلية من مختلف الأجناس، ولا ريب في أنَّ الاختبارات العقلية لم تستطع إثبات أي نوع من الخلافات بين الأجناس.

ومن الوسائل التي يلجئون إليها في بحث أهمية الوراثة والبيئة، أن يأخذوا شمبانزي في سنِّ الرضاعة، ثم يُربُّونه في البيئة التي ينشأ فيها الطفل الإنساني، والشمبانزي هو أقرب أنواع القردة إلى الإنسان من حيثُ تكوين الجسم، والجهاز العصبي، وتركيب المخ، ولقد أجرى البروفسور كيلوج وزوجته هذه التجربة عام ١٩٣١-١٩٣٢، وهذا البروفسور من علماء النفس في أمريكا، فقد أحضر البروفسور وزوجته شمبانزي أنثى، فبلغت من العمر سبعة أشهر ونصفًا، وربياها لمدَّة تسعة شهور مع ابنهما الذي يكبرها بمقدار سنتين ونصف شهر، كانا يُطعمان الحيوان من زجاجة اللبن — بزازة — ويكسوانه، ويغسلانه ويعنيان به عنايتهما بأي طفل إنساني آناء الليل وأطراف النهار، ثم عقدا العزم على وضعها في «مشاية» ذات عجل، حتى يتسنَّى لها الوقت المناسب أن تمشي مُنتصبة كما يفعل أطفال الإنسان، ثمَّ أخذا يعلمانها كيف تأكل بالملعقة، عندما بلغت السن التي تطعم فيها نفسها بنفسها، وفي خلال هذه التربية كانا يُعالجان أخطاءها في رفقٍ، كما تعالج الأطفال، وجُملة القول أنهما اتخذا منها عضوًا في أسرتهما الإنسانية، وجعلا من أنفسهما أبًا وأمًّا لها، ولم يعاملاها قط مُعاملة حيوان مدلَّل، بل مُعاملة إنسان، ثم أجريا عليها وعلى ابنهما بين حين وآخر الاختبارات النفسية، لبيان مقدار النمو العقلي.

وفي بدء التجربة كان طول الشمبانزي أقل من الطفل بمقدار أربع بوصات، وكان وزنها عشرة أرطال ووزن الطفل تسعة عشر رطلًا، كانت رجلاها أقصر، ولكن ذراعاها أطول من ذراعي الطفل، ولمَّا بلغت من العمر اثني عشر شهرًا كانت قواها العقلية تُوازي طفلًا عمره سنة، وخفَّة حركتها تُماثل طفلًا في سنِّ الرَّابعة، وقوتها قد تزيدُ على قوَّةِ طفلٍ في الثَّامنة، وعلى الرغم من قوتها الشديدة، لم تكن تستعملها إلا إذا حلَّ بها الخوف، فكانت تهرب من مصدر الخوف إلى كنف الذين قاموا بتربيتها.

وكان القرد أكثر حركة من الطفل، غير أنَّ تنوع حركات القرد كان قليلًا، أمَّا الطفل كان يلجأ في بعض الأحيان إلى الإتيان بحركاتٍ فجائية، تتبعها فترات من السكون، على حين أنَّ القرد لا يستقرُّ، وعندما يحلُّ التعب بالطفل، يبدي قبل النوم مظاهر الهياج، أمَّا القرد فإذا أحسَّ بالتعب، فإنَّه يستلقي على أرض الغرفة، أو يذهب إلى حجر سيدته، ويستعيد القرد عاجلًا نشاطه بعد التعب أكثر مما يفعل الطفل، ويميلُ القرد إلى النَّوم بعد كل أكلة، وكان ينام كلما صحبوه في العربة للنُّزهة، حتى إذا اشتدَّ ساعده وكبر شيئًا ما، كان يمشي إلى جانب العربة ويحدِّق النظر في المارَّة.

وكانت أصابعه عاجزة عن القبض على الأشياء، وهذا يرجع إلى عدم قدرته على تنسيق حركة أصابعه، حتى ليسهل عليه التقاط شيء بفمه من أرض الغرفة أكثر من إمساكه بيديه، وإذا مشى على أربع، فإنه يحمل الأشياء في فمه. وفيما بعد كان يلتقط بعض الأشياء بفمه ثم يضعها في يده.

أما تعلم المشي على رجليه كالإنسان فشيءٌ طريفٌ حقًّا، لقد تعلَّم المشي على أربع في سنِّ سبعة شهور ونصف، وأتقن ذلك النوع من المشي خلال شهر.

ولمَّا بلغ من العمر عامًا استطاع الوقوف والمشي مُنتصبًا، وبعد شهر كان يجري ويقفز، وهنا يبدو أثر الوراثة والبيئة، فلو أنَّ هذا الشمبانزي عاش مع جماعته الحيوانية ما تعلَّم المشي على رجلين أبدًا.

ولعب القرد كان يُشبه من جميع الوجوه لعب الطفل، ولم يكن ذلك تقليدًا للطفل؛ لأن القرد كان متفوقًا نظرًا لقوته وخفَّته، لهذا كان يتزعم الطفل على وجه العموم.

وممَّا كان يبعث السرور إلى نفسه، إلقاء الأشياء على الأرض، عندما يجلس على كرسي، ويزيد سروره أن يعيده أحدهم إليه، ومن دواعي سروره أن يجر وراءه ملاءة أو نحو ذلك، وإذا بلل زفيره زجاج الشباك، كان يعبث به بأصبعه ويرسم خطوطًا، كما يفعل الأطفال تمامًا في كتاباتهم المتعثرة.

١  ص٨١ وما بعدها من كتاب بين البحر والصحراء للأستاذ شفيق جبري.
٢  علم النفس والحياة اليومية: المستشار محمد فتحي بك، في «المجتمع الجديد».
٣  خالفنا المنادين «بالعقل الباطن» وقُلنا: إنَّ نظريته أكذوبة، وإنَّ الأصح أن يُقال إن للعقل حالتين: حالة الحركة، وهي الحالة المادية، وحالة السكون مثل فترة الراحة والنوم مثلًا، وحين خالفنا هذه النظرية قلنا إنَّ نظريتنا هي «الإنسانية الحيوانية» وإن الجوع والشبع هما المؤثران الأولان، ومنهما تتفرع القوة الجنسية، وعلى هذا كان العقل الباطن أكذوبة.
٤  مقال أحمد بك أمين العادات والتقاليد والسلطات.
٥  الانتحار مشكلة اجتماعية «المجتمع الجديد».
٦  مقال المستشار الدكتور محمد فتحي بك «المصري».
٧  رسالة الأستاذ الدكتور محمد فتحي بك المصري.
٨  مقال أحمد أمين بك «الاثنين».
٩  مقال الأستاذ علي أدهم «الثقافة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤