المسلمون في آسيا
أولًا: مقدمة
وإن كنا قد انشغلنا كثيرًا بجناحنا الغربي في مواجهتنا الحديثة ضد الاستعمار فإننا قد نسينا جناحنا الشرقي، مع أن به أكثرَ من ستمائة مليون مسلم، أي أكثر من ثلاثة أرباع المسلمين في العالم. وقد كان الاستعمار الغربي أيضًا في جاوة والفلبين وإندونيسيا لا يقل خطورة وعنفًا عن الاستعمار الغربي في المغرب العربي وفي مصر وسوريا والعراق وفلسطين. أما في آسيا فإن الإسلام الصامت هناك، الرابض في قلوب المسلمين، جعلنا غير قادرين على سماعه، وإن كنا نشعر به. لم يكن هناك احتلال مباشر للأراضي ولكن كانت هناك هيمنة وضم للإمارات الإسلامية في أواسط آسيا بعد نشوب ثورة أكتوبر ١٩١٧م تحت لواء الثورة الاشتراكية الكبرى.
وقد آن الأوان أن نعيد إلى وعينا القومي التوازن في اهتماماتنا بين جناحَيْنا الغربي والشرقي، وأن نذكِّر المسلمين في قلب العالم الإسلامي بالمسلمين في آسيا حتى لا نظل فريسةً للاستعمار يجذبنا أمامه، ونتجه بوعينا نحوه، وأن نُغفل توجيه وعينا نحو عالمنا الإسلامي في الشرق.
وقد انتشر الإسلام أول ما انتشر في آسيا. وانطلقت جيوش المسلمين إلى فارس في معارك نهاوند والقادسية. وانتصر المسلمون على الفرس مع انتصارهم على الروم في اليرموك وعلى أسوار حصن بابليون. وتم فتح فارس في نفس الوقت الذي تم فيه فتح مصر والشام في عهد عمر. وخرجت الجيوش الإسلامية في عهد عثمان، ووصلت إلى أواسط آسيا، إلى بلاد ما وراء النهر، خراسان، وأَذْرَبِيجان. وهناك استقر الصحابة الأوائل، واستُشهد التابعون. وما زالوا بقبورهم شاهدِي عِيان على مآثرهم، يزورهم المسلمون ويتحسرون على ما مضى، ويبكون على ما فات.
وفي آسيا، تكونت إمبراطوريات إسلامية، وفيها انتشر الإسلام حتى الصين. وهناك تراث تيمورلنك وآثاره حيث كانت حضارة الإسلام بؤرة ثورية ينتشر منها الإسلام في كل اتجاه؛ الزحف شرقًا إلى الصين، أو غربًا إلى العراق وتركيا، أو جنوبًا إلى الهند وفارس، أو شمالًا إلى سهول آسيا الوسطى. وفي تاريخنا الحديث قام السلطان «محمود الغزنوي» في شمال الهند، وقام السلطان «أكبر» أيضًا بتوحيد الأمة الإسلامية في الهند. فاستمرت فتوحات المسلمين في آسيا دون توقف. ولم تتوقف إلا اهتماماتنا بها.
وقد ارتبطت آسيا بالخلافة الإسلامية، رمزًا لوحدة الأمة. وكانت فجيعة المسلمين هناك، خاصة في الهند، بقضاء كمال أتاتورك عليها. لم يعد لهم مركز جذب في قلب العالم الإسلامي فاجتذبتهم مراكز أخرى خارجه، وبدل أن يكونوا أطرافًا للدولة العثمانية أصبحوا أطرافًا للجمهوريات السوفييتية الاشتراكية المتحدة. أعطتهم تركيا صورة الإسلام بلا مضمون، وأعطتهم الثانية مضمون الإسلام بلا صورة. وتساءل الناس هنا وهناك: مسلمون بلا اسم في تركيا، وإسلام بلا مسلمين في الصين والاتحاد السوفييتي.
وقد رسخت عقيدة أهل السنة في أواسط آسيا بوجود الصحابة مثل «قُثَم بن عباس»، وأئمة مثل «البخاري» و«الترمذي». فآمن المسلمون بالإسلام الواضح الجلي، وتمسكوا بالسنة. وظل الإسلام في قلوبهم حيًّا، يتمسكون بالشعائر، ويحافظون على هُويتهم القومية الإسلامية حتى ولو عصفت بهم حوادث الزمان، وضاعت إماراتهم، وفرَّ أمراؤهم، وتبدلت عليهم النظم السياسية، ونسيهم المسلمون.
وقد كان أهل فارس أهلَ علم. وعلى أيديهم نشأ التراث الإسلامي. وإن كان التعريب لديهم قد تأخر إلى حين، ولم ينتشر قدر انتشاره في المغرب الإسلامي، إلا أن اللغة الفارسية بجوار العربية أصبحت لغة العلم. ألف فيها المسلمون عربًا وعجمًا. ونشأ في تراثنا أنصار الحكمة الفارسية مثل ابن مسكويه في مقابل أنصار الحكمة اليونانية وعلى رأسهم الفلاسفة وإخوان الصفا. ومن ثَم يرجع جزء من تكويننا الذهني إلى آسيا. وألف علماء الفرق الإسلامية في التراث الآسيوي، وتحدثوا عن حضارات الهند والصين وفارس مثل الشَّهْرَسْتاني «الملل والنحل»، كما درس علماء المسلمين ومؤرخوهم حضارات آسيا مثل البيروني في كتابه المشهور «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة».
والتراث الثوري الآسيوي ليس ببعيد عنا. فقد ساهم السلطان جالييف والأفغاني في الدعوة إلى إنشاء جامعة شعوب الشرق، ومن أجل إنشاء جمهوريات إسلامية اشتراكية في آسيا ثم توحيدها كلها في حركة عامة، حركة تحرر شعوب الشرق في مواجهة الاستعمار الغربي. كما ساهمت الثورات العربية الحديثة بزعامة الزعيم جمال عبد الناصر في تأسيس مؤتمر باندونج في ١٩٥٥م ثم حركة دول عدم الانحياز، ثم منظمة تضامن شعوب آسيا وأفريقيا، ثم مؤتمر القارات الثلاث، كل ذلك ليعيد إلى وعينا القومي البعد الآسيوي لتاريخنا، حتى يمكن أن نتحرر من بقايا الاستعمار في وعينا القومي، وأن نتجه شرقًا كما اتجهنا غربًا.
ولا يعني الانفتاح شرقًا مجرد التأييد الاقتصادي والعسكري والدولي في قضايا القومية المصيرية، كما حدث إبَّان الثورات العربية الأخيرة، أو الأثر الأيديولوجي كما حدث في أحزابنا الماركسية، وبالأحرى الدخول في أحلاف المعسكر الشرقي ومعاهدات صداقة، كما حدث في بعض أنظمتنا العربية، ولكن يعني اكتشاف امتدادنا الطبيعي في قارة تزخر بإمكانياتها البشرية والمادية، وإثراء تراثنا القومي الإسلامي في دائرة حضارته الطبيعية، الدائرة الآسيوية الأفريقية.
ولن نقوم بإعطاء مادة إحصائية عن أحوال المسلمين تَعدادًا وإحصاءً للإمكانيات البشرية أو للثروات الطبيعية أو لأحوالهم الاجتماعية، كما يحدث أحيانًا في أجهزة الإعلام الغربية التي تهتم بالتحليل الكمي لمستقبل المنطقة كمنافس لها، أو على أقل تقدير كمسترد لثرواتها وأسواقها وشخصيتها وهويتها واستقلالها. فنحن لا نتعامل مع وقائع بل مع «ماهيات» تعتمد على التجارِب المباشرة ومعايشة الثورة الإسلامية في إيران، والإسلام المنبوذ في أفغانستان، والإسلام المكبوت في الجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا. ليس القصد هو إعطاء معلومات كمية كما يفعل المستشرقون الذين يودون حساب القوى والقدرات، ولكن يهمنا فهم تاريخنا من منظور الأمة الإسلامية من أجل سماع إيحاءات التاريخ وإعطاء توجيهات للمسلمين للمساهمة في حركته.
وهو مجرد تخطيط عام، ولفت نظر للجناح الشرقي للأمة الإسلامية تعقبه تفصيلات عن أوضاع المسلمين في كل دولة من دول آسيا. ومن ثم نوفِّي بعض الدَّيْن لأمتنا كما يفعل الفقهاء، حارسو الشرع والمدافعون عن مصالح الأمة، والذابُّون عن حوض الإسلام.
لقد حاول الاستعمار ضرب قلب العالم الإسلامي بَرًّا في الحروب الصليبية. فلما فشل حاصرها بحرًا عن طريق الالتفاف حول سواحله في أفريقيا وآسيا. وقد نجح هذه المرة. والآن قد يتغير مجرى التاريخ عندما يعاصر جيلنا تحرر بلدان أفريقيا وآسيا، ويعود الاستعمار إلى موطنه الأصلي حين يتقلص الغرب، ويعود إلى حجمه الطبيعي. وفي الوقت الذي تدب فيه الحياة من جديد في أفريقيا وآسيا، تبدأ مرحلة أخرى من مراحل التاريخ كما بدأتها قديمًا عندما كانت أوروبا ما زالت قبائل متنافرة، تحكمها شريعة الغاب.
وإذا كان قلب العالم الإسلامي الآن قد استيقظ بدون أطرافه فإن الأطراف الآن قد بدأت في الحركة، ودبت فيها الحياة بعد أن توقف نبض القلب أو بطؤت سرعته. وربما تؤدي حياة الأطراف إلى إحياء القلب من جديد فينهض الجسم كله، جسم الأمة الإسلامية وتتصدر مكانتها في التاريخ.
وهذه الدراسة ليست موجهة ضد أحد أو في صف أحد. ليست ضد الاتحاد السوفييتي في صف الغرب، أو ضد الغرب في صف الاتحاد السوفييتي، بل تحتوي على وصف لأحوال المسلمين في آسيا، خاصة في إيران وأفغانستان والجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفييتي من وجهة نظر مشاعر المسلمين، والأمة الأم. ليست انحيازًا للشرق ما دامت الأمة الإسلامية بتاريخها الطويل مع الاستعمار معادية للغرب، قدمت له العلم والحضارة أثناء الحروب الصليبية وبعدها، فقابلها بعد ذلك بالغزو والاحتلال والسيطرة. علمتهم الأمة الإسلامية الرماية فلما اشتدت سواعدهم رمَوها.
يهمنا من فقهاء الأمة الإسلامية أن يُكملوا ما بهذه الدراسة من نقص أو يصححوا ما بها من أخطاء، فهي قضية الأمة كلها، والكل مسئول عنها، المؤرخ والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والقانوني والمفكر والأصولي والمتكلم والفيلسوف والأديب، كل علماء الأمة. والحكم في النهاية للجمهور.
ثانيًا: الهوية الإسلامية (إيران)
كانت الثورة الإسلامية الكبرى في إيران المؤشر الحقيقي على يقظة المسلمين، وظهور الإسلام، هذا المارد العملاق، من «القمقم». فقد اندلعت على غير انتظار وتوقع، بعد أن كانت إيران بالنسبة للغرب واحة أمان، وبعد أن كان جيشها ثالث أقوى جيش في العالم بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وبعد أن كانت إيران وإسرائيل تمثلان ركيزتا الدفاع عن الغرب في آسيا، وبعد أن تمت أكبر محاولات «التغريب» في المنطقة واعتبار إيران قطعة من أوروبا، كما حاول إسماعيل ذلك مع مصر في القرن الماضي. أصبحت الثورة أكبر مهدد لمصالح الغرب في المنطقة، وأصبحت قوتها في شعبها المسلح الذي ينزل إلى الشوارع بالملايين دفاعًا عن الثورة ضد أعتى جيوش العالم، وأصبحت أكبر مُعادٍ للاستعمار والصهيونية، تتجاوز في عدائها حتى الأنظمة العربية التي ورثت ثوراتنا العربية الأخيرة. كما أصبحت الثورة أكبر تحدٍّ للغرب، وأكبر مؤكد للهُوية الإسلامية كهُوية قومية، وأكبر مثبت للاستقلال الوطني ضد سياسة الأحلاف الغربية والانحياز للغرب. وليس موضوع الرهائن، في واقع الأمر، إلا أحد مظاهر هذا التحدي، ثورة إسلامية في مواجهة أعتى قوى الطغيان. إيران، التي حاول الغرب أن يجعلها جزءًا منه، في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية التي طالما أذلت الشعوب والتي تقف الآن عاجزة أمام دولة صغيرة من دول العالم الثالث، فالطغيان يقف مسلوب الإرادة أمام الحرية. ثورة تؤكد نفسها بعد أن حاول الاستعمار إلغاء هُويتها. ويتحول الإذلال التاريخي للشعوب المستعمَرة إلى إذلال تاريخي آخر للدول الاستعمارية. ولن تقبل الثورة الإيرانية بأقل من اعتراف رسمي من الولايات المتحدة بجرائمها ضد إيران أثناء حكم الشاه، بل وضد كل الشعوب التي أرادت الولايات المتحدة إذلالها. وسيظل التحدي للغرب أحد العناصر الدائمة في الثورة الإيرانية مهما تغيرت صور الحكم. لقد كشفت الثورة الإيرانية، في موضوع الرهائن، عجز الغرب، وعَرَّته عن إنسانيته المزيفة عندما ضحَّت الولايات المتحدة بحليف الأمس، الشاه، في مقابل القوى الثورية الجديدة من أجل احتوائها، وعندما أرادت تقديمه قربانًا في مقابل خلاص الرهائن لولا أن فر الشاه بجلده إلى حيث الدعة والاستكانة. فالإنسانية الغربية تظهر فقط للغربيين، أما الشرقيون فلا إنسانية معهم حتى ولو كانوا ملوكًا وأباطرة. إن المغزى الحقيقي للثورة الإيرانية في موضوع الرهائن هو تحدي الغرب، وسر عداء الغرب لها هو تحدي الثورة له، وتحجيمه وحصاره وكشف عنصريته الدفينة حيث كان يظن أن العالم كله ميدان مفتوح، يرتع فيه بلا حساب.
كما أظهرت الثورة الإسلامية الكبرى في إيران استقلالها عن الاتحاد السوفييتي الذي كان يعتبر الشاه أيضًا صديقه في المنطقة وحليفًا لها منافسًا الولايات المتحدة في كسب وده وصداقته. والعميل في نهاية الأمر لا يهمه عميل من، هذا أو ذاك. وعداء الاتحاد السوفييتي المكتوم لها طبيعي. إذ إنها يمكن أن تكون محور جذب للمسلمين في الجمهوريات الإسلامية المجاورة في الاتحاد السوفييتي، تحيي فيهم أمل تحويل الحضارة الإسلامية إلى دولة إسلامية مستقلة، والعواطف الدينية المكتومة التي تظهر في الشعائر والطقوس إلى نظم سياسية علنية يجد المسلمون فيها عزتهم وكرامتهم واستقلالهم، والانقطاع الحضاري إلى اتصال تاريخي، وبالتالي تتحقق الوحدة في شخصيتهم الوطنية، ويكون ما في القلب على اللسان، ويصبح ما بالداخل في الخارج، ويتحول التمني إلى واقع. وقد وقفت الثورة الإسلامية في إيران في وجه الغزو السوفييتي لشعب أفغانستان، وتمد الثوار المسلمين بالسلاح، بالرغم مما قد يثيره الاتحاد السوفييتي من قلاقل على الحدود الإيرانية. ولكن الخطر المباشر من الاستعمار الغربي كان له مكان الصدارة على الخطر الملفوف. وفي المَثَل: عدو عاقل خير من صديق جاهل.
وقد استطاعت الثورة الإيرانية إسقاط أعتى نظام دكتاتوري عرفه العالم، وأكثر النظم تسلطًا واعتمادًا على الشرطة السرية ورجال الجيش وأجهزة المخابرات، بعد أن أغدق عليهم الشاه من ثروة إيران كي يضمن ولاءهم له. وما شهدته إيران في ٥ يونيو ١٩٦٣م، يوم الشهداء، باستشهاد عشرات الآلاف تحت جنازير الدبابات، وآلاف المعذَّبين، ومئات الشهداء، ودماء الطلاب والأساتذة على جدران الأروقة في جامعة «قُم» جعل في قلب كل مسلم في إيران وخارجه ثأرًا خاصًّا بينه وبين الشاه، لوطنه ولأمته ولدينه. ومن هنا أصبح الإسلام مرادفًا للحرية، فالإسلام والطغيان لا يلتقيان، وتتحقق قولة عمر الذي يقول كثير من الحكام المسلمين إنهم يسيرون على خطاه، موجهًا إياها لابن الأكرمين: «لماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا.»
- (١)
قيادة حاسمة ممثلة في الأئمة بقيادة الإمام الخميني، لا تقبل المساومة أو أنصاف الحلول، وتقف في مواجهة العروض الحقيقية والزائفة، وتقاوم كافة الإغراءات. تثق الجماهير الإسلامية بها، وتُلهب خيال الشعوب الإسلامية في كل مكان. تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولا تخشى في الله لومة لائم. وهي على اتصال وثيق بالجماهير الإسلامية في الشوارع والأزِقَّة، تقود جحافلها، وتدافع عن مصالحها، وتتكلم باسمها، وتستشهد في سبيلها. تعبر عن مصالح جماهير المسلمين، ولا تتكسب منها أو تعيش على حسابها أو تخون القضية. تقف في وجه التسلط والطغيان، وتنذر الطغاة، وتفضح أفعالهم.
- (٢) الإسلام كهُوية قومية، وشخصية وطنية، وأيديولوجية ثورية للشعوب الإسلامية. فالإسلام يعني تأكيد الأنا ضد الآخر، وإثبات الأصالة ضد الاغتراب، وبلورة الذات ضد ذوبانها في شخصيات الآخرين. لقد استطاع الإسلام أن يُحدث أكبر رد فعل على «التغريب»، وأظهر نفسه وفكره في مقابل أيديولوجيات الغرب من رأسمالية وماركسية وليبرالية وقومية. وفي نفس الوقت يعبر عن تاريخ الأمة وحضارتها وفكرها وقيمها. حتى ولو ظهر الإسلام كلفظ أو شعار أو كهدف بلا مضمون اجتماعي وسياسي واقتصادي واضح فإنه يكون كطوق النجاة بالنسبة للأمة الإسلامية في لحظة انتفاضتها ضد التميُّع والاغتراب. ثم يأتي بعد ذلك دور المفكر المسلم في صياغة الإسلام طبقًا لحاجات الثورة وتحقيقًا لمصالح الأمة، مع الجرأة في التشريع والثقة بالنفس.٤
- (٣)
الشعب باعتباره رصيد الثورة وقوتها ومادتها، صاحب المصلحة الحقيقية في الثورة، والقادر على النزول إلى الشوارع والطرقات ليس فقط لمدة يومين، بعد أن تعجز الشرطة ينزل الجيش، بل لعدة أشهر متتالية حتى استسلم جيش الشاه، وسقطت شرطته السرية، وتداعى ملكه من على عرش الطاووس. والشعب بجميع طبقاته وفئاته وعلى اختلاف مستويات تعليمه، وبجميع اتجاهاته السياسية في جبهة وطنية واحدة تضمنها الثورة الإسلامية المرادفة للثورة الوطنية. والشعب مسلح بقواه، وحناجره، وأبدانه، وسواعده، وكتله المتراصَّة، وبطلقات رصاصه يواجه العنف القهري بالعنف الثوري.
وهكذا نجحت الثورة الإسلامية الكبرى في إيران كما نجحت الثورة الإسلامية الأولى في مواجهة الروم والفرس، وضد طغيان أشراف مكة ومشايخ القبائل العربية: قيادة مؤمنة وطليعة ثورية ممثلة في الصحابة. والتوحيد كعقيدة ثورية تحرر وجدان الأفراد وتقضي على نظم التسلط والطغيان والمجتمعات الطبقية من أجل تأسيس مجتمع إسلامي جديد يقوم على الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، وجماهير المؤمنين الغازيَة في سبيل الله لتحقيق رسالة التوحيد والتي لا تعرف لها أسرة أو محلًّا أو بقعة للاستشهاد في سبيل الله على أرض الله.
والتحمت الثورة الإسلامية الكبرى في إيران بحركات التحرر الوطني في العالم الثالث وبالاتجاهات الثورية في العالم كله، وأصبحت باسم الإسلام رصيدًا لا ينضب للثورة العالمية. لقد جددت شباب الثورة في كل مكان، خاصة في آسيا وفي العالم الإسلامي كله بعد أن خفَت صوتها باختفاء زعمائها الأوائل: نهرو، وناصر، ونكروما، وسوكارنو، وشوين لاي، ولومومبا، وهوشي منه، وخفتت أصوات من تبقى منهم مثل سيكوتوري وكاوندا، أو انحاز البعض منهم مثل كاسترو وجوموكينياتا. كما أكدت على الإرادة الوطنية المستقلة، وانضمت إلى دول عدم الانحياز، وألهبت مشاعر ملايين المسلمين في آسيا وأفريقيا، كما ألهب ناصر من قبل بتأميم قناة السويس في ١٩٥٦م مشاعر الجماهير في مصر والعالم العربي، وأصبح بعدها رمزًا لحركات التحرر الوطني، وكما ألهبت الوحدة مع سوريا وتكوين أول محاولة وحدوية في تاريخ العرب الحديث (الجمهورية العربية المتحدة في ١٩٥٨م) مشاعر الأمة العربية فتصورت أنها قاب قوسين أو أدنى من الوحدة العربية الشاملة، وكما ألهبت حرب أكتوبر ١٩٧٣م مشاعر الأمة العربية في صراعها الأبدي مع الصهيونية من أجل تحرير الأراضي العربية المحتلة. كانت الثورة الإسلامية الكبرى في إيران تحقيقًا للصورة الوطنية التي بدأها «مصدَّق» في إيران بتأميم البترول في ١٩٥٣م، والخميني ما هو إلا مصدق يُبعث من جديد.
وقد التحمت الثورة الإسلامية الكبرى في إيران بوجه خاص بالثورة الفلسطينية، وأصبح الطريق إلى القدس مارًّا بطهران: «إيران اليوم وغدًا فلسطين». توحدت الثورة الإيرانية بقضية العرب الأولى، وأرسلت متطوعين في صفوف المقاومة، وقضت على جحور الصهيونية بإيران، وصفت معابد البهائية التي كانت صهيونية مقنعة في ثوب إسلامي، وكْرُها الرئيسي في حيفا! وقد تجاوزت الثورة الإيرانية بمراحل مشاريع الأنظمة العربية بالنسبة لقضية فلسطين كلها من الصهيونية وعودة أراضي المسلمين إلى المسلمين، فالصراع بين الإسلام والصهيونية صراع عقائدي مبدئي لا مساومة عليه ولا تفريط فيه.
- (١) ثورة دموية تبغي الانتقام وتقوم أجهزة الإعلام في الغرب بإحصاء القتلى كل يوم بالأرقام على نحو تصاعدي وكأنها مباراة رياضية يحل البشر فيها محل الأهداف. ولم يذكر أحدٌ شهداءَ الشاه الذين بلغوا الآلاف، ولم يذكر أحدٌ معذَّبي «السافاك» لأن ذلك القتل والتعذيب كان للوطنيين المناهضين للغرب يقبله الغرب كجزء من الدفاع عن كيانه، مأساة دموية، قسوة لا يعرفها تسامح الإسلام. وهنا يظهر تسامح الإسلام لأنه في صالح الغرب، ولم يظهر أيام الشاه الذي أمر بقتل المعذَّبين أمام أُسَرهم. بل كانت قسوة الشاه وعنفه محل تأييد من الغرب باسم الإسلام أيضًا المناهض للشيوعية. والقِصاص جزء من الشريعة الإسلامية: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (٢: ١٧٩) وأيضًا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى (٢: ١٧٨).
- (٢) قضاء غير عادل، ومحاكمات سريعة تأخذ بالشبهات، لا تتوفر فيها أدنى حقوق للمتهمين وضمانات المحاكمة العادلة وحق الدفاع عن النفس. وهو تصور غربي خالص لأن جرائم القتل قد تظل في قضاء الغرب عدة سنوات يصدر الحكم بعدها على القتلة بالبراءة نظرًا لظروفهم النفسية أو الاجتماعية أو حالتهم العقلية، أو رأي المحلَّفين، أو أخطاء شكلية في صياغة القضية أو رشوة القضاة. ولكن القِصاص في الإسلام القائم على الشهداء العدول أو الاعتراف الصريح كما كان يحدث في حالة رؤساء «السافاك» في القرى والمدن عندما يتعرف عليهم المعذَّبون أو أقارب الشهداء، أو عندما كانوا يعترفون بما ارتكبوه. القِصاص في الإسلام شريعة وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ (٥: ٤٥). وعقوبة جريمة الإفساد في الأرض منصوص عليها في القرآن، ومن أسس الفقه الجعفري إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٥: ٣٣). ولماذا يكون التعدي على حرمات الله حلالًا والثأر لدين الله وتطبيق شريعته حرامًا؟
- (٣) تخلف وتقهقر، وحجاب للنساء، ورجم للزاني والزانية، وتحريم للخمور، وغلق للملاهي، وتحريم لنوادي القِمار. وهو أيضًا منظور غربي خالص. «فالشادور» لباس وطني مثل قبعة الأوروبي، وطربوش التركي، وطاقية المصري، وعمامة رجل الدين، وقبعة المكسيكي والفيتنامي التي تمثل ثورات الفلاحين هناك. لا يدل «الشادور» إذن على حجاب المرأة بقدر ما يدل على وطنيتها. أما الحدود الإسلامية فليس الهدف منها العقوبة والزجر والكبت والتزمُّت وضيق الأفق، بل الهدف منها في إيران القضاء على مظاهر «التغريب» في الحياة القومية. فقد كان الأوروبيون هم روادَ النوادي الليلية واللاعبين على موائد القِمار، والذين يُرَوِّجون لبضاعة الجنس كما كانت «هافانا» قبل الثورة الكوبية. إن تأكيد الهُوية الإسلامية قد يسهل بالمظاهر والشعائر والحدود ولكن إلى حين. ثم تتحول الحدود إلى حقوق وولايات، وتتحول المظاهر إلى نُظُم وأوضاع اجتماعية ومذاهب اقتصادية.٦
- (٤)
حكم الأئمة، ثيوقراطية، خلط بين الدين والسياسة، حكم رجال الدين، سلطة العمائم، كل ذلك قد عفا عليه الزمن؛ إذ لا يمكن الجمع بين السلطتين الرُّوحية والزمنية. فالدين دين والسياسة سياسة، ورجال الدين للمعابد والكنائس والمساجد، ورجال السياسة للوزارة والحكم والمجالس. وهذا أيضًا إسقاط من تاريخ الغرب على الأمة الإسلامية بعد أن حكمت الكنيسة الغرب فقهرت وتسلطت، ومنحت صكوك الغفران، وأقامت محاكم التفتيش، وأحرقت المفكرين، وأقامت المذابح للفرق المعارضة حتى انتصر المفكرون والعلماء عليها. وقامت الثورات الشعبية تضع نهاية لحكم الكهنوت، وتقيم العلمانية في مقابل الكهنوت. ولكن في الأمة الإسلامية الحكم للشريعة الإسلامية الوضعية وليس لشخص الله أو لمن يتمثله ويدعي أنه ظله في الأرض. والشريعة الإسلامية تقوم على المحافظة على الدين والعقل والنفس والعِرض والمال، أي على أسس وضعية للدفاع عن مقومات الحياة المادية والمعنوية. ويقوم فقهاء الأمة بالأمانة على تنفيذها، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. يعزلون الحاكم إذا خالف الشريعة أو إذا ما تهاون في تطبيقها. ليس في الإسلام حكم للعمائم بل الحكم للشريعة التي ترعى مصالح المسلمين.
- (٥)
تضارب في السلطات، حكومة ضعيفة، إمام يوجه دفة الحكم من وراء ستار، طلبة يسيطرون على الشارع الإيراني، شعب يخرج بالآلاف فلا أحد يعرف من بيده الأمر. أما تعدد الاتجاهات في الغرب، والصراع حول السلطة من الأحزاب، ودور أجهزة الإعلام في النقد والمعارضة، فذاك في رأي الغرب مظهر من مظاهر الديمقراطية الغربية التي ينفرد بها الغرب دون أحد سواه. والحقيقة أن الثورة الإسلامية الكبرى في إيران ما زالت في حالة الثورة ولم تتحول بعد إلى دولة. وفي أعمار الثورات، الفرنسية أو البلشفية، يُعَد عامٌ ونصف منذ نجاح الثورة الإيرانية عمرًا قصيرًا للغاية كي يتم هذا التحول من الوجدان الثوري إلى النظام الثوري. ما زال الشعب الإيراني في حالة ثورة: الطلبة، والجامعة، والجيش، والأئمة، والشارع. وكلهم قد ساهموا في الثورة، فالكل صاحبها، والكل ولي الأمر عليها، والكل يتحدث باسمها؛ لذلك لا توجد سلطة مركزية أو مؤسسات دستورية باستثناء توجيهات قائد الثورة للوجدان الثوري. قد يستمر ذلك إلى حين تتفجر عواطف الجيل المكبوت أيام حكم الشاه. والوجدان الثوري ليس فوضى قانونية بل شرط للخلق والإبداع ولإبقاء الثورة في الحياة اليومية وليس فقط في الزعامة الثورية في بحر ساكن من جماهير مستكينة.
- (٦) ماذا فعلت الثورة لمشاكل البطالة والفقر؟ ماذا قررت لتغيير هيكل النظام الاجتماعي ولإعادة بناء الدولة لصالح الأغلبية؟ ثورة تشغل نفسها بلا شيء باستثناء رذاذ الثورة دون مضمونها، بذاتية الثورة دون موضوعيتها. ومن ثَم لن تأمن خطر الانقلابات والتصفيات، وتفكك الجبهة الوطنية فيها، وانحسار التيارات السياسية عنها. والحقيقة أن الثورة ما زالت تعطي الأولوية لتأكيد الذات، وإثبات الشخصية، وأن الإسلام هو ثورة الفقراء والمظلومين.٧ وما زال هؤلاء يؤكدون ذواتهم سياسيًّا بالسيطرة على الشارع الإيراني قبل أن يثبتوا ذواتهم اقتصاديًّا بتخطيط الاقتصاد القومي لصالحهم. والإشباع السياسي لدى الطبقات المحرومة يسبق الإشباع الاقتصادي. لذلك كانت الأولوية للسياسة في البلاد النامية كما حدث في ثورة الصين. فالحرمان السياسي أشد وأقصى على الشعوب من الحرمان الاقتصادي؛ لذلك تسبق الحرية الخبز. وفي مَثَلِنا العامِّي: «لاقيني ولا تغديني.»
- (٧) وقد زِدنا نحن في أجهزة إعلامنا الحملة على الثورة الإيرانية متكاتفين مع أجهزة الإعلام في الغرب عن علم أو جهل، عن قصد أو غير قصد، بحسن نية أو بسوء نية، وقلنا: كفر الشيعة، ألوهية وإمامة، إمامة ونبوة، انتظار وغيبة. لقد جعل الخميني نفسه المهدي المنتظر، وادَّعى أن النبوة ناقصة، وأن الإمامة تُكملها، ونحن نحب النبي والصلاة على النبي، والرسول خاتم الأنبياء والمرسلين. فتأنف الجماهير من الثورة الإسلامية وتكفر دعاتها. وكان سلاح التكفير دائمًا عند القدماء والمحدثين هو أقوى سلاح ضد الخصوم السياسيين لحصار المعارضة وتجريحها أمام جماهير المسلمين. مع أن فكر الإمام الخميني أقرب إلى فكر أهل السنة. فالأئمة لديه هم فقهاء الأمة وأمناء الرسل، لا يقول بما تقول به غلاة الشيعة، ويعلن ظهور الإمام الآن، ويُنهي الغَيبة كما طالب ابن تيمية. وعقائد الشيعة ليست بالجديدة، قتلها علماء الفرق بحثًا، وموجودة في بطون الكتب كما نقلها علماء أهل السنة. والمَحَكُّ بالنسبة لنا هو قدرة العقائد على تحريك الجماهير ودفعها إلى استرداد حقوقها. وقد تمت صياغة عقائد الشيعة كعقائد للمعارضة في مواجهة عقائد أهل السنة كعقائد للدولة الرسمية. ونحن في عصر تجمع فيه عناصر الأمة وتحقق وحدتها. لا يهمنا «الفَرْق بين الفِرَق» بل «الجَمْع بين الفِرَق». وكل من يبعث الفُرقة في الأمة يلعب لعبة الاستعمار القديمة «فَرِّقْ تَسُدْ». إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٢١: ٩٢).
- (١)
مؤامرات الشرق والغرب والصهيونية على الثورة. فقد أتت الثورة لوضع حد للهيمنة الشرقية وللاستعمار الغربي ولتغلغل الصهيونية في العالم الإسلامي. ولن يتركها هذا الأخطبوط المثلث حتى ينهي الثورة، وعملاؤه بالداخل رهن الإشارة ينتظرون البدء للقضاء على الثورة. لن يسمح الاتحاد السوفييتي أن تكون الثورة الإسلامية في إيران نقطة جذب للمسلمين فيه، ومعاديةً للماركسية بالداخل. ولن يسمح الاستعمار الغربي بهذا التحدي الدائم الذي تمثله الثورة بالنسبة له، خاصة وأنه قائم على أسطورة التفوق العنصري والاقتصادي والحضاري. ولن تسمح الصهيونية بأن تكون الثورة الإيرانية ظهيرًا للثورة العربية تقضي على التغلغل الصهيوني في آسيا، وتبعث الأمل في الأمة الإسلامية لتحرير فلسطين، وتضع كل إمكانياتها البشرية والمادية تحت تصرف منظمة تحرير فلسطين.
- (٢) الاستسلام لمؤامرات الاستعمار للوقيعة بين الثورة الإيرانية والثورة العربية، سواء في معارك الحدود مع العراق، أو في الخلاف في وجهات النظر مع مصر، أو في خوف أنظمة الخليج من أن تكون الثورة الإيرانية مركز جذب للشعوب الإسلامية الإيرانية والعربية في دول الخليج. الثورة الإسلامية واحدة، ونحن مسلمون، وقد أضرت القوميات بنا حتى تنازع المصري والشامي، والعراقي والشامي، والمصري والليبي، والجزائري والمغربي، واليمني والحجازي، حتى تفتتت الوحدة الإسلامية بالعودة إلى الشعوبية القديمة والجاهلية القبلية والطائفية الجديدة حتى تذهب شوكة الأمة الممثلة في وحدتها وقوتها. وكأن الكواكبي في «أم القرى» كان على علم مسبق بما يحدث الآن. فوصفهم جميعًا في مؤتمر لدراسة أسباب ضياع وحدة المسلمين ووسائل استعادة وحدتهم وقوتهم. يريد الاستعمار تحويل المنطقة كلها إلى دويلات طوائف أو إلى قوميات وشعوبيات، وهو يكتل نفسه في أحلاف وشركات ومناطق نفوذ ومعسكرات، وكأن القرآن لم ينبه قائلًا: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ (٨: ٤٦).
- (٣) الصراع على السلطة أو الانفراد بها وضعف المؤسسات، وتضارب قراراتها. فكل فرد صاحب الثورة لأنه شارك فيها وصنعها وبالتالي فهو وريثها. صحيح أن الخلاف بين الأئمة رحمة بينهم، ولكن صحيح أيضًا أن إجماع المسلمين تعبير عن وحدتهم وقوتهم، والانصياع إلى رأي واحد بعد المشورة يعطي الأمة القدرة على أخذ القرار وتنفيذه. ويمكن درء هذا الخطر عن طريق الإسراع في تحويل الثورة إلى دولة، وبناء المؤسسات، وبقاء الأئمة في دور الحارسين للثورة، فقهاء الأمة، القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقوم الدولة أي السلطة التنفيذية بإقامة الشريعة، وتطبيق الحدود، وإعادة تنظيم الدولة، وإقامة النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. إن بناء الدولة في الإسلام هو تحقيق لخلافة الله في الأرض التي عينها الله لآدم: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (٢: ٣٠).
- (٤) لقد استطاع الفكر الإسلامي الثوري الذي مثلته الحركة الثورية الإسلامية في إيران أن يبرز للعالم أجمع الإسلام كثورة. وكان في مقدمة علماء المسلمين الشهيد علي شريعتي وكتاباته حول «بناء الذات الثورية»، ومحاولات الحسن بني صدر في الاقتصاد، بالإضافة إلى مجهودات الأئمة وعلى رأسهم الإمام الخميني.٨ ولكن ما زال الفكر الإسلامي الثوري في حاجة إلى مزيد من الإحكام سواء فيما يتعلق بعقائد الشيعة أو بعقائد السنة. ما زال في حاجة إلى جرأة أكثر على إعادة الصياغة وتخليص العقائد من معاركها القديمة، سواء لدى الشيعة بالتنزيه والتشبيه، أو الحلول والاتحاد، أو الغَيبة والتقية، أو لدى أهل السنة فيما يتعلق بالذات والصفات، والجبر والاختيار، والقدم والحدوث، والنبوة والعصمة. ما زال الفكر الإسلامي الثوري في حاجة إلى الخروج من نطاق الإيمان والانفعال والوجدان إلى نطاق الموضوع والمجتمع والدولة، وإعادة الربط بين الله والأرض كما هو موجود في القرآن الكريم في: لِلهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وبين الإيمان والتقدم لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٧٤: ٣٧)، وإعادة بناء علم العقائد على أنه علم الثورة. فقد انتصر التوحيد كما صاغه القدماء على التشبيه والتجسيم والشرك والكفر، وما زال ينتظر انتصارًا ثانيًا لدى المحدَثين على الظلم والتسلط والطغيان في حياة المسلمين والفساد والاستغلال والاحتكار والسلب والنهب لثروات المسلمين.
- (٥)
استمرار الوجدان الثوري أطول من اللازم واستغراقه زمنًا أطول قبل أن يتحول إلى نظام ثوري يجعل الناس في انتظار الإنجازات الثورية، فإذا لم تحدث انصرفوا عن الثورة بعد طول انتظار. ولذلك كان السؤال: ماذا حدث بعد الثورة؟ وهل يكفي تأميم للبنوك؟ أين قوانين الإصلاح الزراعي؟ أين ملكية الأرض للفلاحين، والمصانع للعمال؟ أين سياسة الأجور بحيث يكون العمل وحده مصدر القيمة؟ أين المجتمع الإسلامي اللاطبقي، حيث يعيش فيه الناس جميعًا سواءً أمام إله واحد؟ أين إعادة توزيع الثروات؟ إن التحدي الأعظم أمام الثورة الإيرانية هو أن يتحول الوجدان الثوري إلى واقع ثوري في الأرض وفي المجتمع: القضاء على الفقر والتخلف والبطالة والأمية، وتعبيد الطرق، وشق القنوات، وبناء المصانع والمستشفيات والمدارس، أي تحويل الثورة إلى دولة كما فعل لينين وعمر بن الخطاب وماوتسي تونج. إن معوقات الثورة لا ينبغي لها أن تُوقف الثورة أو أن تمنعها عن التقدم. فطريق الثورة ليس إلى الخلف بل إلى الأمام.
- (٦) مواجهة قضية القوميات بالعنف والقهر وباستعمال القوة المسلحة والصراع بين القومية الكبرى والقوميات الصغرى. وقد حل الإسلام مشكلة القوميات بأن جعل كل شعب أمة داخل الأمة الإسلامية. فلكل قومية لغتها وآدابها وعاداتها وتقاليدها داخل الأمة الإسلامية الواحدة التي تحكمها شريعة إسلامية واحدة. وقد كان ميثاق المدينة النموذج الأول لهذه الأمة. اليهود أمة، والنصارى أمة، والمجوس أمة عند فقهاء المسلمين، لكل منهم كتابهم، يحكمون به، ويعيشون في أمن الأمة الإسلامية. يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٤٩: ١٣). وإذا ظل المسلمون ضحية الاستعمار الثقافي والنفسي والحضاري الغربي، ولم يتخلَّوا عن أثر النعرات القومية الغربية فستظل الأمة الإسلامية في شعورهم الباطن دون أن تخرج لتكسر حصار الطوق.
- (٧) تأخير العفو العام، والاستمرار في العقاب. صحيح أن الله أمرنا بألا تأخذنا رأفة في دين الله وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ (٢٤: ٢). إلا أن حكم الشاه والثورة الإسلامية مثل الجاهلية والإسلام. فالإسلام يجُبُّ ما قبله عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ (٥: ٩٥). ولقد عفا الرسول عن قريش بعد عام الفتح بقوله المشهور: «اذهبوا فأنتم الطلقاء.» ومن ثَم آن الأوان للثورة الإيرانية بإعلان نهاية القِصاص والعفو العام، بالإضافة إلى الحذر الشديد حتى لا تتجمع الجاهلية من جديد. وعلى هذا النحو يمكن للثورة أن تتوجه بقواها نحو البناء وأن يتحول أعداء الأمس إلى أصدقاء اليوم. فنحن في نهاية الأمر جميعًا مسلمون فرَّقنا الاستعمار وأوقع بيننا العداوة والبغضاء. وعلى هذا النحو أيضًا يَخِف من أعداء الثورة غُلواؤهم، ولا يجدون ما ينالون منها، وتجلو صورة الثورة في الرأي العام العالمي وتصبح براقة كما كانت بعد انتصارها، نموذجًا للثورات الإسلامية التقدمية، تجذب المسلمين من بقاع الأرض ولا يرهبها الناس، وتنال احترام الأمم كلها، وتكون عنوانًا للإسلام الكامل، وتحقيقًا لمثلنا المشهور «العفو عند المقدرة». وتتجه قوى الثورة للتشييد والبناء وإلى تحقيق مطالب الأمة في القضاء على جميع مظاهر التسلط والتخلف والطغيان وإعادة توزيع ثروات الأمة، وتحرير أراضي المسلمين، وفي مقدمتها فلسطين.
ثالثًا: النخبة الثورية (أفغانستان)
لقد فرح المسلمون جميعًا منذ عدة سنوات عندما انقلب داود على ابن عمه الملك؛ فالملكية نظام لا إسلامي، ولكن سرعان ما طغى وتكبَّر وأصبح أكثر ملكية من الملك السابق. اضطهد الثوار، وقتل زعماءهم، وأرسخ الإقطاع، ودعم الفقر، واشتد البلاء بالناس.
وفرح الناس المسلمون مرة أخرى عندما سمعوا بأخبار الثورة ضد داود والانقلاب عليه بعد عودته من مصر بأيام، وسمعوا عن نور الدين تراقي ثائرًا مسلمًا في نفس الوقت الذي بدأ العالم أجمع يشعر بنهضة الإسلام وبثورة المسلمين، وكأن دعوة الأفغاني لتثوير العالم الإسلامي آتت أكلها بعد مائة عام. ثم سرعان ما تواردت الأنباء عن الثوار المسلمين في الجبال يقاومون النظام الماركسي الجديد في كابول. وماذا كان الثوار الأوائل إذن الذين انقلبوا على داود؟ ألم يكونوا ثوارًا مسلمين؟ واشتدت المعارك، وتناقلت الأنباء أخبار القتال، ولم يَدْرِ المسلمون مَن الثوار ومَن المسلمون ومَن الثوار المسلمون ومَن المسلمون الثوار؟
وفرح المسلمون مرة ثالثة عندما علموا بانقلاب النظام الماركسي بكابول، وظنوا أن الثوار المسلمين بالجبال قد استطاعوا القضاء على نظام نور الدين تراقي، ولكنهم أُصيبوا بخيبة أمل بعد ذلك عندما علموا أنها كانت ثورة قصر، وأن جَناحًا ماركسيًّا بقيادة حفيظ الله أمين قد قام بانقلاب ضد الجناح الماركسي القائم، وأنها نخبة ثورية قد قامت ضد نخبة ثورية أخرى، وأن حزب «خلق»، أي حزب الشعب، استأثر بالغنيمة كلها وتخلى عن الوحدة الوطنية للثوار التي كان يريدها تراقي، فكان جزاؤه الخنق باليدين في انقلاب القصر.
وأخيرًا فهم المسلمون كل شيء، أو كادوا، بعد الإطاحة بحفيظ الله أمين، بعد أن رُشق بالرصاص جسدُه متدحرجًا على سُلم «قصر الشعب» فانتهى الرفيق، وتنصيب بابراك كارميل بديلًا عنه، وإحلال حزب برشام (الراية) محل حزب «خلق» على أسنة الرماح السوفييتية، وعلى صوت جنازير دباباتهم، قادمًا من تشيكوسلوفاكيا، من سفير إلى رئيس جمهورية. وبدأت حرب الإبادة ضد الثوار المسلمين، وبدأ الحكم السوفييتي المباشر لأفغانستان أمام العالم الإسلامي أجمع بين مؤيد للتدخل، وهي الأقلية التي تنسى وحدة الأمة الإسلامية تاريخًا وحضارة أمام عالمية المذهب السياسي بلا جذور أو تاريخ، وبين معارض، وهي الأغلبية التي تقع أيضًا في صف المعسكر الغربي وتنسق معه كي تقبض الثمن أو حتى لا تصل إليها الثورات الاشتراكية. وتتم مناهضة التدخل بالفعل عن طريق المساعدات العسكرية للثوار (مصر، باكستان، إيران)، أو عن طريق مجرد الكلمات والنوايا الطيبة والدعاء بالنصر مثل معظم الدول الإسلامية.
وليس الأمر قضية شكلية: هل وقع التدخل السوفييتي بناءً على الدعوة الرسمية من الحكومة الشرعية القائمة، حكومة حفيظ الله أمين، أو أن تلك هي الحجة المقدمة دائمًا لتبرير التدخل؟ وكيف تدعو حكومة تدخلًا ينقلب عليها ويكون رئيسه أول الضحايا؟ وكيف تنقلب قوات الغزو على حكومة بدل أن تناصرها؟ وكيف يتم الانقلاب على رئيس دولة حليف لقوات الغزو ولا يتصور أنه قادر على إدارة دفة البلاد في غيبة السفير السوفييتي مدة خمسة عشر يومًا فترة انتقال بين السفير السابق والسفير اللاحق؟ وماذا نفعل إذا دعت النظم العميلة للغرب في عالمنا الإسلامي الدول الغربية للتدخل ضد الثورة الوطنية لشعبها؟ أكان شمعون إذن على حق في دعوته القوات الأمريكية للتدخل إنقاذًا له من الثورة الوطنية في لبنان؟ أكان حاكم الأردن إذن على حق في دعوته القوات البريطانية للتدخل في الأردن إثر ثورة تموز في العراق في ١٩٥٨م؟ أكانت القوات الأمريكية على حق إذن في تدخلها في فيتنام وسان دومنجو، وتصبح سياسة الأساطيل عبر البحار، والقواعد العسكرية حينئذٍ سياسة مشروعة في انتظار إشارة الحكومات بالتدخل، لا فرق في ذلك بين شرق وغرب؟ وفي كلتا الحالتين تكون الأنظمة قد فقدت شرعيتها الداخلية وتأييدها الشعبي، وتكون عميلة للأجنبي موالية له ضد مصالح الشعوب.
وإذا كانت عناصر النجاح في الثورة الإيرانية ثلاثة: قيادة الأئمة، الإسلام كأيديولوجية ثورية شعبية، وجماهير مجندة ومسلحة، فإن غياب هذه العناصر الثلاثة بعينها هي سبب تعثر الثورة الأفغانية.
فقد درست النخبة الثورية في الغرب، وتعلمت الماركسية في أمريكا. وما أسهل أن يتم ذلك في الغرب نظرًا لشيوع الكتابات الماركسية، ووجود الحلقات والأحزاب والدوائر الماركسية، فأصبحت ثورية على الطريقة الماركسية الغربية. وأعادت إلى البلاد تنظيم صفوف المعارضة. ولما كان الخلاف العقائدي أهم ما يميز الماركسية الغربية أو الشرقية، كما هو الحال في النزاع الصيني السوفييتي، أو النزاع اليوغسلافي السوفييتي، أو في الخلاف بين ماركسيات القرن العشرين، الإيطالية والفرنسية والألمانية. ونظرًا للتطلع إلى الزعامة في البلاد النامية فقد ظهر هذا الخلاف في النخبة الثورية في أفغانستان بين حزبَي «خلق» (الشعب) و«برشام» (الراية)، نظرًا لغياب أية وحدة وطنية بينهما وأي اتفاق على حدٍّ أدنى من البرامج الوطنية وانتخاب القيادات انتخابًا مباشرًا من الشعب. فوقعت الحرب بينهما كما وقعت أيام الجاهلية الأولى بين القبائل والعشائر، كلٌّ منها يرى أنه أحق بالقيادة الثورية، وكأن الثورة ملك لأحد، وكأنها لصالح إحدى فصائل القيادة وليست لصالح مجموع الشعب. فما كان أسهل من انقلابات القصور! مات الملك يحيا الملك. إذ يكفي عشر دبابات: اثنتان منها تحيطان بقصر الشعب في كابول، واثنتان منها في حي الوزارات، واثنتان على مدخل العاصمة، واثنتان على مداخل جلال أباد، حتى يمكن بها السيطرة على المدن الكبرى.
وكانت الأيديولوجية السائدة الماركسية اللينينية. وكانت الشعارات كلها مستمدة منها تؤكد انتصار البروليتاريا الدولية في بلد أمي لم يسمع عن البروليتاريا، ومنعزل لا يعرف عن العالم الخارجي شيئًا. وكانت الشعارات تؤكد ضرورة الصراع الطبقي لدى شعب لا يوجد لديه وعي طبقي. كانت الماركسية لدى القادة بسيطة سطحية مدرسية ساذجة، مثل القرآن المحفوظ بلا فهم، بحيث طغى التخلف على الماركسية وابتلعها، فاستمر التخلف في ثوب ماركسي. فالماركسية لديهم ثلاثة أشياء: المادية الجدلية، والصراع الطبقي، ودكتاتورية البروليتاريا، ولا يكون الإنسان ماركسيًّا إلا إذا آمن بهذه العناصر الثلاثة! وكيف يتم الإيمان بالمادية الجدلية في مجتمع توجهه الأسطورة والرمز، ويسوده السحر والخرافة، ويوجه الدين تصوراته للعالم؟ وكيف يتم الإيمان بالصراع الطبقي في مجتمع تغلب عليه فكرة وحدة الأمة والعروة الوثقى؟ وكيف يتم الإيمان بدكتاتورية البروليتاريا والبروليتاريا نفسها لا وجود لها، والموجود هو فقط دكتاتورية النخبة الثورية، أو بالأحرى أحد أجنحتها؟ ولا يدخل الحزب إلا من كان ماركسيًّا، وبالتالي تم استبعاد كل الوطنيين من العمل السياسي والمشاركة في بناء الدولة والحفاظ على الثورة. حتى أبسط الأمور كانت مستمدة من ماركس ولينين. فإذا ما دعت النخبة الثورية الشعب إلى العمل استشهدت بأقوال «لينين العظيم» وكأن وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ (٩: ١٠٥) ليست في وجدان الناس.
-
(١)
إن الدين تربية شخصية في الأسرة، ينشأ عليها الفرد، شاهدًا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، مصليًا، صائمًا، مزكيًا، حاجًّا لو استطاع إلى ذلك سبيلًا. ومن ثم فالنخبة الثورية مسلمة بهذا المعنى، ولا حرج بعد ذلك من أن يتبنى الماركسية الغربية كإطار نظري أو كبرنامج للعمل الثوري، فهو مسلم بالشريعة، وماركسي بالتكوين. وفي نهاية الأمر الدين لله والوطن للحزب! وفي ذلك مقتل للإسلام وتحويله إلى مسيحية وكهنوت، وطقوس وشعائر. والإسلام دين ودولة، له نظامه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والقانوني. والمسلم الماركسي بهذا المعنى ماركسي المضمون مسلم الشكل.
-
(٢)
إن الدين بأفغانستان بخير. هناك قرآن في الصباح وقرآن في المساء، في إذاعة كابول، والبرامج الدينية منتشرة، والمساجد تم طلاؤها، ورُفعت مرتبات رجال الدين، وكأن الدين سلعة تجارية أو متاحف أو طقوس. ولا حرج في أن تبقى الشعوب فقيرة جاهلة، وأن يكون نظام الدولة علمانيًّا، ماركسيًّا غربيًّا. فالدين مؤسسة ترعاها الدولة، وفي ذلك أيضًا مقتل للإسلام، فالإسلام ليس متحفًا للإسلام بل هو حياة الناس ونظامهم ومجتمعهم ودولتهم.
-
(٣)
وأكثر من ذلك، يكون الدين في رأي النخبة الثورية «أفيون الشعب» كما هو في النظرية المحفوظة، مخدرًا للجماهير، يتم به خداع الناس. والنخبة الثورية لا تريد خداع الشعب بعد الآن. أما الإسلام كثورة ضد العبودية والاضطهاد، وكنظام اجتماعي يقوم على المساواة والعدالة الاجتماعية، فذاك غير معروف، ولم يتبادر إلى الأذهان، ولم تسمع به النخبة الثورية قبل ذلك، ولم تَدْرِ أن الماركسية اللينينية قد حركت صفوة المجتمع وعزلتهم عن غالبية الشعب الذي ظل تحت أثر الأفيون، وأن الأَولى كان تحويل الأفيون إلى منبه حتى تستيقظ الجماهير وتأخذ مصائرها بأيديها دون وصاية عليها من النخبة الثورية.
-
(٤)
إن الدين أيديولوجية غير علمية لا تستطيع أن تصمد في مواجهة التحليل العلمي للواقع والتحليل الاجتماعي لحياة الناس. وهو موقف الماركسية الوضعية في القرن التاسع عشر الأوروبي، والذي تجاوزته ماركسية القرن العشرين ذاتها التي تعتبر الدين حركة ثورية للشعوب المضطهدة وصرخة المضطهدين للطبقات المحرومة. وقد استطاع الدين أن يُكوِّن حركات تحرر وطني في جنوب أفريقيا وفي فيتنام وفي الصين وفي الجزائر وفي أمريكا اللاتينية.١١ وماذا عن عقلانية الإسلام التي بدت في الفلسفة وفي الاعتزال وواقعيته التي بدت في علم أصول الفقه؟ إن الإسلام في حقيقة الأمر دين بمعنًى خاص، وليس بالمعنى الغربي، أي مجموعة من الأساطير والخرافات والعقائد التي يرفضها العلم وتعوق التقدم. الإسلام دين يقوم على العقل ويعتمد على البرهان، ويعترف بحتمية قوانين الطبيعة، ويجعل الحس والمشاهدة والتجرِبة مصادر للمعرفة بالإضافة إلى العقل كمقياس لصدق الوحي. ويؤسس حياة الناس في نظام اجتماعي محدد على ما هو معروف في كتب الفقه الإسلامي وفي النظم الإسلامية.
-
(٥)
لذلك هناك فصل بين الدين والدولة. الدين ميدانه المسجد، والدولة ميدانها النظم السياسية. الدين حياة شخصية للأفراد، والدولة حياة عامة للمجتمعات. وعلى هذا النحو يتم القضاء على الإسلام ويتحول إلى مسيحية أو بوذية، في حين أنه لا رهبانية في الإسلام. يتحول الإسلام إلى عبادات فقط دون معاملات، وإلى عَلاقة ميتة بين الإنسان وربه وليس عَلاقة حية بين الإنسان ومجتمعه. وهو التصور الغربي الذي حدث نتيجة للصراع بين الكنيسة والدولة في الغرب عندما تسلطت الكنيسة فقضت على حرية الفكر، وأرسخت نظام الإقطاع فاندفع المفكرون والعلماء والثوار للدفاع عن حرية الفكر والعدالة الاجتماعية، وتم حصار الدين في زاوية العبادات.
-
(٦)
إن تاريخ أفغانستان هو تاريخ البوذية! وإن المتحف الوطني هو المتحف البوذي، كما أن المتحف الوطني بالخرطوم في السودان هو تاريخ المسيحية في النوبة ووادي النيل، فتتصدر المدخل صورة السيد المسيح مادًّا ذراعيه محتويًا البلاد كلها يرعاها ويحميها، وكأن الشعوب الإسلامية لا تجد تاريخًا في الإسلام الذي انتشر منذ الصحابة، وكأن الإسلام لا يتمثل في تاريخ الأمة ويصبح رافدها الأساسي كما حدث في إيران ومصر. وهو تصور غربي للمتاحف كتاريخ للنقوش بصرف النظر عن التراث الحي في قلوب الناس وتراكم التراث الإنساني حتى يكتمل في حضارة التوحيد.
-
(٧)
إن الثورة الإسلامية الكبرى في إيران لم تفعل شيئًا! بل إنها استبدلت شاهًا بآخر دون أن يحدث تغيير في البناء الطبقي للمجتمع. ما زالت أدوات الإنتاج في أيدي الطبقة الغنية القديمة، وبالتالي فهي ليست ثورة بل انقلاب! وكأن الانتقال من التسلط إلى الحرية، ومن التغريب إلى الهُوية الإسلامية كهُوية قومية، كل ذلك ليس شيئًا. فالثورة الماركسية الغربية تغيير لنظم المجتمع ولكن بنقل المجتمع كله إلى ثقافة غربية تدَّعي الشمول والعالمية، وتنكر خصوصية الثقافات المحلية للشعوب. مع أن الثورة الأفغانية كان بإمكانها أن تكون امتدادًا للثورة الإسلامية بإيران، وأن تكون الثورة الإسلامية بإيران ظهيرًا للثورة الأفغانية كما أنها ظهير للثورة العربية. فنحن جميعًا مسلمون، نجد تأييدنا بين ظَهرانَينا وليس عند الغرباء الأغيار.
-
(٨)
إن أفغانستان دولة مستقلة ذات سيادة لها حدود دولية لا شأن لها بباكستان أو إيران إذا ما تم احترام الحدود. ومن ثم يمكن التعاون بين أفغانستان والدولتين المجاورتين من منطلق الاحترام والسيادة المتبادلَين، وكأن الأمة الإسلامية لا وجود لها، وكأن هذه الحدود المصطنعة في أواسط آسيا، مثل تلك التي في المنطقة العربية، ليست من صنع الاستعمار، وكأن السيادة في الأمة الإسلامية ليست للشرع الإسلامي والنظام الإسلامي! إن الثورة الأفغانية ليست ثورة داخل حدود صنعها الاستعمار، بل هي ثورة جزء من الأمة الإسلامية، عليها واجب بالنسبة لأجزاء أخرى، ولو كانت ثورة إسلامية تهدف إلى تحرير الأمة الإسلامية من الاستعمار والإقطاع والرأسمالية والتسلط والطغيان، وإلى تحقيق الوحدة الإسلامية. وبدلًا من أن يستوطن الاستعمار في باكستان لماذا لا تنتشر الثورة الإسلامية في باكستان من إيران أو أفغانستان؟ وأيهما أولى بباكستان الاستعمار أم الإسلام؟ أمريكا أم إيران وأفغانستان؟ الصليبيون الجدد أم المسلمون الثوار؟
-
(٩)
لقد قامت النخبة الثورية بعدة إصلاحات في ميدان الدين. فألغت المهور المرتفعة، وقررت ألا تتعدى المهور خمسة وعشرين قرشًا. وقد كانت المهور المرتفعة مانعًا من زواج الشبان. وبالرغم من أهمية هذا الإصلاح فإنه لا يتم بقرارٍ بل بتغيير عادات الناس وبوعيهم الإسلامي الصحيح. هذا الإصلاح ليس فقط جلبًا للمنفعة ودفعًا للضرر ولكنه أيضًا عَودٌ للإسلام الأول إلى قلوب المسلمين. بالإضافة إلى أن الإصلاح في ميدان الأحوال الشخصية، وهو ميدان المباراة الأول في مصر بين المتنطعين، لا يكفي. الإصلاح يتم أيضًا في النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية: لمن الأرض، ولمن المصنع، ولمن المتجر، ولمن الجامعة؟
-
(١٠)
أما الثوار المسلمون فهم في رأي النخبة الثورية رجال دين، رؤساء طرق صوفية، ملاك الأرض، إقطاعيون، مشعوذون دجالون لصوص، هربوا بعد قانون الإصلاح الزراعي خوفًا من اكتشاف استيلائهم على أراضي الفلاحين بلا عقود، وبلا حق وبغير سند. خافوا النخبة الثورية، وهربوا إلى باكستان فتلقفهم الاستعمار الغربي والإقطاع الباكستاني وأمدهم بالرجال والأموال من أجل استعادة أراضيهم التي وزعها الإصلاح الزراعي على صغار الفلاحين حتى تعود الأرض إلى أصحابها الشرعيين. فهي حرب مصلحة شخصية وليست حربًا وطنية. ولا تكاد النخبة الثورية تذكره علنًا بالرغم من اشتداد المعارك على الجبال وعلى حدود باكستان. وبصرف النظر عن صدق هذا التصوير أو كذبه فإنه مما لا ريب فيه أن فريقًا من رجال الدين ترك البلاد لينظم المقاومة الشعبية للنظام الماركسي من خارجها، مما سمح للاستعمار وللإقطاع باستخدام لعبة الدين ضد الإلحاد، والإسلام ضد الماركسية.
-
(١١)
أما رجال الدين، مَن بقي منهم في كابول، هيئة كبار العلماء، فإنهم يقرءون البخاري ومسلم، ويبحثون في الكتب القديمة، ولهم دار في الوزارات تم طلاؤها، ولقياداتهم عربات حكومية فارهة، يتحدثون العربية، وينظرون إلى الأزهر. منهم أعضاء في الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور لا يتكلمون فيها، ويشعرون بالنقص أمام العلمانية والعلم الغربي، يخفون في قلوبهم ما لا يعبرون عنه بألسنتهم، والرءوس خاوية. إذا سألتهم كيف برروا حكم الملك المظفر، ثم حكم داود، ثم كيف يبررون النظام الماركسي الآن؟ وأين استقلالهم بالنسبة للدولة، ودورهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيادتهم للأمة الإسلامية، وتصديهم للقضايا المصيرية التي تعم بها البلوى؟ قالوا: وماذا عن علماء الأزهر، وتبريرهم للنظم السياسية، مرة اشتراكية ومرة رأسمالية؟ وماذا عن عَلاقاتهم بالدولة؟ فنحن منهم وهم منا، وكلنا في الهوى سواء! إذا أبديتَ لهم بعض الانتقادات لِمَا يحدث في أفغانستان سلَّموا بها ولكنهم لا يبدءون الكلام ولا يأخذون المبادرة. يسيرون في الخلف ولا يسيرون في المقدمة. علماء الشيعة أكثر جراءة في النقاش في اللجنة التحضيرية لصياغة الدستور. وأمام صمت أهل السنة أو تأييدهم للحكام يصر علماء الشيعة على أن يُذكر في الدستور حماية الفقراء. ولم يكن من السهل الاتصال برجال الدين. فهم وحدهم في البلاد الإسلامية أساس المعارضة ورصيدها الأول. ولا يمكن الاتصال بهم إلا من خلال الدولة وبعلمها وتحت إشرافها، حتى لا يتوحد عالم الدين مع ذاته ويعبر عما في قلبه ويكسر نطاق الخوف ويخرج عن الحصار. تَمَنَّعَ رجال الدين في البداية من الحديث والدولة تسمع وترى. ومهما تم تشجعيهم يظلون منزوين في ثقافتهم التحتية في البلاد وفي الأمة الإسلامية.
أما جامعة كابول فهي على العكس من جامعة طهران، مهد الثورة وكعبتها، خواء تام باستثناء شعارات الماركسية اللينينية التي يرفعها الحزب في كل مكان والتي لا يلتف حولها أحد، وطلاب الحزب الذين يملئُون مدرجًا، يجمعهم الحزب في المناسبات الرسمية، أشبه بما كان يتم في الثورة المصرية في هيئة التحرير والاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي. وعندما تغيرت القيادة الثورية لم يجد أحدٌ هذه التنظيمات لحماية الثورة ومكتسباتها. والعجيب أن النخبة الثورية كانت تشعر بقيمة ناصر، وتقدر حسه الشعبي بمشاكل الجماهير، الفقر والخبز اليومي، وكانت تتمثله في مرحلة إعدادها النضالي. ولكنها كانت تفتقر إلى شعبيته كما كانت تشارك معه في افتقار كليهما إلى الاعتماد على ثقافة الأمة وتراثها لتثوير الجماهير. فلا الماركسية اللينينية ولا الاشتراكية العربية تمسان شغاف قلوب الجماهير كما يفعل القرآن والسنة.
كان الشعب في وادٍ والنخبة الثورية في وادٍ آخر. إذ يسكن الشعب في المدن الكبرى وفي سفوح الجبال وجحورها وفي الوديان والسهول، لا يعرف حدودًا في الجبال بين أفغانستان وإيران وباكستان. معظمه من الرعاة والفلاحين، تنقصه المياه والكهرباء، تسوده الأمية، ويعمه الفقر. ليس به طبقة عاملة تكون حليفة البروليتاريا الدولية! ليس لديه مصانع تتكون فيها الطبقة العاملة إلا من مصنع تصليح للسيارات وآخر لحلج القطن واستخراج الزيت من البذرة، وصنع الصابون من الزيت، واستخراج العلف من الكُسْب، وكلها كانت موجودة قبل «انقلاب ثور» الابنة الشرعية لثورة أكتوبر العظمى. هناك «ميليشيا» الحزب، تهتف بشعارات الحزب كما كانت تفعل منظمات الشباب لدينا، وتمسك بالمدافع الرشاشة، تعمل للنخبة الثورية، والشعب طَيِّع تاركٌ الأمر لأولي الأمر، ويذهب إلى المساجد، ويقوم بالفرائض الثورية، ويتهجد على نور السراج الزيتي، يبيع العنب والتفاح على الأرصفة. نخبة ثورية وشعب مستكين! نخبة بيدها السلطة، وشعب لا سلطة له.
فماذا كانت النتيجة لذلك كله؟ غزو أجنبي من الاتحاد السوفييتي ما دام النظام مواليًا له، وقلب لعميل وإحلال لعميل آخر، وتنكر للشعب الأفغاني المسلم وقتل له، وقضاء على الاستقلال الوطني للبلاد، وتحول بعض علماء الأفغان إلى صفوف المعارضة، وانضمام فرق من الجيش الأفغاني إلى صف الشعب ضد النظام، وبداية المقاومة الشعبية الفعلية ضد النخبة الثورية التي تجد سندها في جيش الاتحاد السوفييتي وليس لدى الشعب الأفغاني. كما يجد الاتحاد السوفييتي نفسه وكأنه أمام مَجَر أو تشيكوسلوفاكيا أخرى. ويكون حظ أفغانستان لديه أقل من حظ بولندا بعد إضرابات العمال. وهكذا تبدو روسيا القيصرية من جديد، تجذب أطرافها وتحتل أراضي جيرانها بدعوى المحافظة على النظام. وأي نظام لا يستطيع المحافظة على نفسه يكون غير جدير بالبقاء. وبدعوى التدخل الاستعماري في شئون أفغانستان من حدود باكستان يتم التدخل السوفييتي المباشر، وكأن الاتحاد السوفييتي ينصِّب نفسه حاميًا للنظم الماركسية في العالم كما نصَّبت أمريكا نفسها حامية للنظم الغربية في العالم، هيمنة هنا، استعمار هنا واستعمار هناك، لا فرق بين ذلك وذاك.
إن الاستقلال الوطني للشعوب يسبق نوعية نظامها السياسي وإلا وقعنا في الأحلاف والهيمنة وسياسة المعسكرات ومناطق النفوذ. ودخلت جميع الشعوب تحت وَصايا النظم الشمولية، غربية كانت أم شرقية. والمصالحة الوطنية داخل أفغانستان بين فصائل النخبة الثورية أو بين النخبة الثورية الماركسية اللينينية وبين المعارضة الوطنية إسلامية كانت أو ليبرالية تسبق نوعية النظام. وإن نظامًا ليبراليًّا قادرًا على تحقيق الوحدة الوطنية لَخيرٌ من نظام ماركسي يقوم على التجزئة والتفتيت لوحدة الشعب. كما أن وحدة الشعبَيْن المسلمَيْن في أفغانستان وباكستان تسبق تأييد الأغيار للنخبة الثورية في أفغانستان. وكما هو في مثلنا الشعبي: «أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب.»
لقد كانت الثورات الكبرى ثورات وطنية، وكان الحزب الماركسي اللينيني عصبها ومحورها وبؤرتها وأكثر الأحزاب فاعلية وقدرة على التحليل واتخاذ القرار. حدث ذلك في الثورة الصينية العظمى، والثورة الفيتنامية، والثورة الكوبية، والثورة الجزائرية، ويحدث نفس الأمر في الثورة الفلسطينية. بل إنه في بعض من الأحيان كان الحزب الماركسي اللينيني تطورًا طبيعيًّا للأحزاب الوطنية، تاليًا عليها وليس سابقًا لها. ولكن يبدو أن النخبة الثورية تضع العربة أمام الحصان.
والعجيب أن تؤيد بعض الأنظمة التقدمية في العالم العربي الغزو السوفييتي لأفغانستان، وكأن وحدة المذهب السياسي تجُبُّ الاستقلال الوطني للشعوب المستقلة وتتجاوز وحدة الأمة الإسلامية ومصيرها المشترك. وأن تقف منه بعض الأحزاب التقدمية في مصر موقفًا غامضًا، وكأن الاستقلال الوطني لأي شعب موضوع مساومة وجزءٌ من اللعبة على مسرح السياسة في الساحة الدولية وتوازن القوى العالمية. وقد أدى هذا الوضع إلى أن تنبري كل القوى الرجعية في العالم الإسلامي إلى أخذ مواقف أكثر تقدمًا من الأحزاب التقدمية والأنظمة الثورية في العالم العربي. بل إن الاستعمار الغربي نفسه بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية قد نصَّب نفسه مدافعًا عن الاستقلال الوطني للشعوب وأدان التدخل السوفييتي في أفغانستان، فأصبح الأصدقاء هم الأعداء، والأعداء هم الأصدقاء. وعدو عاقل خير من صديق جاهل.
رابعًا: الثقافة التحتية (الاتحاد السوفييتي)
ولا يهمنا أيضًا نبش الماضي كما تفعل الدراسات المعادية، وإعادة تذكير الناس بما فعله القيصر للقضاء على الإمارات الإسلامية المستقلة وضمها إلى روسيا القيصرية، ومدى ما كان يعانيه المسلمون من اضطهاد وقهر، وكأن الاستعمار الغربي لم يفعل نفس الشيء في الجزائر ولا يزال يفعل في الفلبين، فكل القوى الكبرى تجاه المسلمين سواء. ولا يهمنا أيضًا وجهة نظر الاتحاد السوفييتي ذاته من رفع لينين لشتى أنواع الاضطهاد الديني والقهر والتسلط عن المسلمين تدعيمًا للثورة الاشتراكية الكبرى التي تريد تثبيت قواها وترسيخ قواعدها. كما لا يهمنا أيضًا الإحصائيات الحديثة التي تبين مدى تقدم المسلمين في التعليم والزراعة والصناعة والدخل الفردي، ومدى ما يتمتعون به من حرية لإقامة الشعائر الدينية. فتلك إحصائيات رسمية الهدف منها الدِّعاية والإعلان. إنما يهمنا حال الإسلام في قلوب المسلمين ومدى توقفه أو امتداده، انعزاله أو انتشاره، تحوله إلى ذاتية ضامرة أو موضوعية قائمة. ولا يهمنا ثالثًا الشهادات الواقعية التي يرجع بها الزوار الأجانب من مشايخ الأزهر والعلماء والمفكرين والسياح شاكرين لحسن الضيافة حامدين الله على كل شيء. ولكن الذي يهمنا هو تقديم هذه الحقائق من منظور تاريخي، وبنظرة مستقبلية في قلوب المسلمين وكيفية تحويلها إلى حركة طبيعية بصرف النظر عن مصالح الدول الكبرى، هذه أو تلك.
كانت الأوضاع في البلاد الإسلامية في آسيا قبل ثورة أكتوبر مثل الأوضاع الغالبة على جميع الشعوب الإسلامية: تسلط الأمراء، طغيان الحكام، نهب ثروات المسلمين. ويسهل أن يرى الإنسان القصر الصيفي والقصر الشتوي لآخر أمراء بخارى الذي هرب من وجه الثورة الاشتراكية. كان أمراء المسلمين يعيشون كالملوك، وينظرون إلى المسلمين كقطيع الأغنام يسوقونه ويحلبونه ويجزرونه كيفما شاءوا. قهروا الفلاحين ونهبوا محصولهم، وأثقلوا كواهلهم بالضرائب لدفع الجزية لقيصر روسيا ولخزانة الأمير. قمعوا الثوار المسلمين، وقتلوهم وشردوهم، هؤلاء الثوار الذين كان بإمكانهم، لو انتصروا، تغيير وجه الإسلام في آسيا. كانوا ثوارًا باسم الإسلام حتى قبل أن تندلع ثورة أكتوبر ١٩١٧م، وكانوا جزءًا من الحركة الإصلاحية الثورية الكبرى التي بدأها الأفغاني. شاع اضطهاد العلماء والمفكرين، ومن بينهم «أُلُوغ بك» أكبر عالم فلك أنجبته آسيا الوسطى. حولت الثورة الاشتراكية مرصده إلى متحف، وعلى حائطه لوحة تمثل مقتل أُلُوغ بك وسكين الأمير على رقبته، والمناظر المكبرة إلى جواره، وعلى الحائط الآخر لوحة جداوله التي فيها حساب دورات الأفلاك والتي لا تبعد عن الحسابات الحالية إلا بضع ثوان! وتفخر الثورة الاشتراكية بأنها حولت هذه الشعوب من الجهل إلى العلم، ومن الإرهاب إلى الحرية، وكأن العلوم التي أقامها المسلمون لم تنشأ في ظل الإسلام وبدافع منه. كانت المرافق العامة لا وجود لها. فالمدن القديمة ببخارى وطشقند وسمرقند حوارٍ وأزقة، وسكان يغلب عليهم الفقر والجوع، وأمية بلغت أكثر من ٩٠٪ من مجموع السكان. مثل هذا النظام والذي كان له ما يشابهه في أنحاء العالم الإسلامي كان لا يمكن أن يدوم، وكان لا بد لقوًى جديدة أن تزحف وتقضي عليه أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (٢١: ٤٤).
لقد حدث التوسع أيام القيصر منذ القرن الماضي. فاحتل الإمارات الإسلامية في آسيا الوسطى. وكان يكتفي بأن يدفع له الأمراء الجزية السنوية. وكان هناك اتفاق في النظام بين طغيان القيصر وطغيان الأمراء على حساب الشعبين الروسي والإسلامي في آسيا. فلما اندلعت الثورة الاشتراكية في روسيا أراد لينين أن يحول الثورة إلى دولة. أراد أيضًا الإبقاء على روسيا القيصرية كأراضي دون الانتقاص منها. وساعده على ذلك ابتداء الثورة في الإمارات الإسلامية تحت أثر الثورة الاشتراكية في روسيا. وسواء طلب الثوار المسلمون مساعدة لينين أم لم يطلبوا فقد كانت حجة التدخل الأجنبي باستمرار أنه أتى بناء على دعوة رسمية من الحكومة الشرعية للبلاد! انضمت القوات الثورية الاشتراكية الروسية الحديثة إلى الثوار المسلمين وأنهَوا حكم الطغيان.
وبالإضافة إلى هذا النشاط الديني الواسع، هناك أيضا الرقي المادي للجمهوريات الإسلامية، في الزراعة والصناعة والتجارة. فأوزبكستان الإسلامية أولى الجمهوريات السوفييتية في إنتاج القطن. أنشأت المساكن وعبَّدت الطرقات، وتم محو الأمية التي كانت أكثر من ٩٥٪ قبل الثورة والتي تم القضاء عليها بتاتًا بعد الثورة.
أما بالنسبة إلى سياسة الدولة، فإنها تتصور الجمهوريات الإسلامية على أنها كانت إمارات متخلفة أيام القيصر، نقلتها الثورة الاشتراكية إلى جمهوريات متقدمة، فالثورة الاشتراكية وريثة لروسيا القيصرية ولممتلكاتها. كانت تحت القيصر، يذيقها شتى ألوان الاضطهاد الديني والعنصري، فأصبحت جمهوريات مستقلة متساوية في الحقوق مع بقية الجمهوريات السوفييتية في حرية العبادة، لها مجلس شورى مستقل، ورئيس منتخب، ولها ممثل في مجلس السوفييت الأعلى. للمسلمين حرية إقامة الشعائر الدينية وممارسة الطقوس وإقامة الصلاة، وجمع أموال الزكاة، وتنظيم وفود الحج، والاحتفالات بالأعياد الدينية، وإعداد الأئمة في المدارس الدينية الأهلية، ولكن دون تدخل في سياسة الدولة، فالدين دين، والسياسة سياسة. وهذا هو الموت البطيء للإسلام بحصاره وضموره وانعزاله عن الحياة العامة. فالإسلام في نظر الدولة باعتباره دينًا أحد أسباب التأخر. فالدين أفيون الشعب حسب النظرية المبتسرة المشهورة، وبالتالي تحل محله الماركسية اللينينية، وتوضع لافتات الحزب الشيوعي على حوائط المساجد، وخلاياه داخل الأزقة القديمة وفي غرف المنازل الأثرية. فالجديد يرث القديم. والتعليم الديني محرم في مدارس الدولة لأن الدولة لا دينية. لذلك اقتصر على المدارس الأهلية بتمويل أهلي والدولة تُقطِع الأرض فحسب. أما التراث الإسلامي فإنه تراث في تاريخ العلم والفن والأدب. فمؤلفات ابن سينا والبيروني والخوارزمي تراث علمي وطني من تاريخ الاتحاد السوفييتي، تُنشر وتُترجم إلى الروسية وتُدرس وتؤثر في تاريخ العلم أكثر مما هي عند المسلمين خارج الاتحاد السوفييتي. ومدرسة أُلُوغ بك ومدافن شاه زنده في سمرقند، ولب حوض ومئذنة كلان ببخارى وطشقند كلها تراث فني من تاريخ الاتحاد السوفييتي وشعوبه وثقافاته المتنوعة. بل إن الأبنية الحديثة في الجمهوريات الإسلامية تستلهم الفن القديم، مثل متحف لينين ومترو طشقند. أما المسلمون أنفسهم فهم مرتبطون بالاتحاد السوفييتي كأحد شعوبه أو قومياته أكثر من ارتباطهم بجيرانهم في تركيا وأفغانستان وإيران وباكستان، ومثل الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس في الاتحاد السوفييتي، مع أن الإسلام أمة والمسلمين أمة سواء في المركز أو الأطراف، ومهما تم ضم الأطراف إلى مركز آخر فإنها تكون أشبه بزرع أعضاء في جسد غريب، ولا تصح على نحو طبيعي إلا في جسدها الطبيعي.
- (١)
الجيل القديم من العجائز الذين تتراوح أعمارهم ما بين السبعين وما فوق المائة، وبهم أكثر المعمَّرين. كثير منهم مقعَدون، يُحملون على الكراسيِّ أو يتوكَّئون على العِصِيِّ إلى المساجد، خاصة أيام الجمعة والعيدين، يبكون ما فات، تنهمر من أعينهم الدموع إذا ما رأوا أحدًا منا، من قلب الأمة العربية والإسلامية، من القاهرة مدينة الأزهر الشريف، يذكِّرهم بالإسلام أيام وحدة الأمة الإسلامية منذ كان المسلم يجوب أنحاء العالم الإسلامي من المغرب غربًا حتى الصين شرقًا لا يسأله شرطي عن جواز السفر أو تأشيرة الدخول، ولا يقوم أحد بتفتيش حقائبه أو يطالبه بتحويل عملة. أو يذكرهم بحال الصحابة الأوائل الذين ذهبوا غازِين في سبيل الله، خاصة وأنهم أهل سنة، انتشر الإسلام لديهم بفضل الصحابة الأوائل. مشكلة هؤلاء المسلمين هو الحفاظ على ما ضاع، ويرون بصيص أمل في الزوار المسلمين عندما يذكِّرونهم بعزة الإسلام. هم الجيل المخضرم الذي عاصر الإمارات الإسلامية المستقلة، ثم عاصر غزو القيصر، وأخيرًا عاصر انتصار الثورة الاشتراكية. كان عزيزًا أولًا ثم أصبح مقهورًا تحت أمراء المسلمين الطغاة ثم ذليلًا بائسًا مغتربًا مهيض الجناح بالرغم مما لديه من تأمينات ومعاشات ومسكن وملبس ومشرب. عزاؤه المسجد كل يوم ورؤيته للزوار المسلمين بين الحين والآخر، يبكي حاله ويرثي نفسه. وفي الحالات الثلاث كان إيمانه قويًّا ولكن مبتور الصلة بواقعه، فتتحول قوة إيمانه إلى الداخل وتنحسر عن الخارج، سواء أيام الإمارات الإقطاعية حيث كان مسلمًا في نظم تدعى الإسلام كما هو حالنا الآن، أو في نظم يفرض عليها القيصر حمايته، أي مسلمًا مستعمَرًا كما كنا منذ عشرات السنوات، أو في أقليات إسلامية محاصرة انزوى الإسلام في قلوبها، تشعر بغربة عن عالمها، وتعيش بأرواحها خارج أجسادها، وترنو ببصرها باستمرار إلى ما وراء الحدود، أو تعيش بوجدانها سالف الزمان.
- (٢)
جيل شاب، تمثَّل الثورة الاشتراكية، وأصبح علمانيًّا، ينتسب البعض منه إلى الحزب الشيوعي. لا يحتفظ من الإسلام إلا باسمه العربي محمد وعليٍّ أو الفارسي جُلَّنار. تمثَّلوا الحضارة الغربية الجديدة، ونظروا إلى الإسلام على أنه تاريخ متحفي، أثارٌ قديمة تركها المسلمون الأغيار الذين لا يتحد معهم ولا يجد هويته فيهم. يرى الإسلام على أنه أحد أسباب التخلف والجهل والطغيان. الأمور واضحة بالنسبة إليه، والتضاد بين الماضي والحاضر، والدين والعلم، والتأخر والتقدم، والجهل والمعرفة، والنوم واليقظة، تضاد لا سبيل إلى حله بالمساومة أو المصالحة أو التوسط. وهم سعيدون بنجاحهم المهني وبنتاجهم وبحاضرهم. ومنهم من له باع طويل في الصناعة أو الزراعة أو الاختراع. ومع ذلك يتزوجون في الإدارة الدينية حرصًا على تقاليد الأسرة بعد زواجهم المدني في مراكز الدولة. لا صلة لحياتهم المدنية بالدين، ولا صلة للدين بحياتهم المدنية، فلا الإسلام تحول إلى أسس للتقدم ولا التقدم كان تطورًا طبيعيًّا للإسلام. وهذا هو الجيل الوسط، أبناء المسنين أو أبناء أبنائهم. فما بال الجيل الثالث والرابع الذي قد لا يسمع عن الإسلام شيئًا؟
- (٣)
أئمة المساجد، ومعلمو المدارس، وطلبة العلم الديني الذين يجمعون بين القديم والجديد، ولكنهم أقرب إلى القديم. يعيشون في العالم الجديد بحكم مواطنتهم ولا ينتقلون إليه. ولكنهم أقرب إلى القدماء يقرءون الكتب الصفراء، ويحفظون المتون القديمة، ويشرحون شرحها، ويهمِّشون على الشروح. يعيشون في المدارس الدينية عيشة إسلامية كاملة: حياة داخلية، صلاة ودراسة، نوم وطعام، تهجد وعبادة. وهم مستقبل المسلمين هناك. ولكنهم محدودون يُعدون بالعشرات، «ولأَنْ يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير من الدنيا وما فيها». لم يحدث فيهم توحيد عضوي داخلي بين الإسلام والتقدم، وبين الدين والثورة، وبين التراث والتجديد، نظرًا لأنهم يعيشون في غربة عن عالمهم. الحضارة مفروضة عليهم، ولم تنبع منهم، لا يمكنهم تمثُّل الجديد لأنهم ليسوا أصحابه، ولا تطوير القديم لأن العالم ليس ملكًا لهم، وهم محاصرون فيه.
والإسلام في قلوب الناس قوي للغاية، وكلما زاد الحصار الخارجي قويت الرُّوح الداخلية، وكلما زادت الغربة الخارجية قويت الألفة مع النفس. فالمسلم في الاتحاد السوفييتي يشعر بأنه مسلم أوزبكي أو مسلم تركماني أو مسلم تتري أو مسلم طاجيكستاني، ولا يشعر على الإطلاق بأنه مسلم روسي ينتسب إلى الاتحاد السوفييتي. دينه الإسلام، ولغته وموسيقاه وتراثه الأوزبكية أو التركمانية أو التترية. ولكن لما كانت روسيا هي القوة المركزية، وكبرى دول الاتحاد والتي عليها تجميع الأطراف، ظهرت اللغة الروسية والثقافة الروسية في أجهزة الإعلام وفي مؤسسات الدولة على أنها اللغة والثقافة الموحِّدة للشعوب والقوميات والأجناس التي يتكون منها الاتحاد السوفييتي. ظهرت الثقافة الروسية والموسيقى الروسية كحضارة الدولة الكبرى المسيطرة على بقية الدول الصغرى للاتحاد، الثقافة الرئيسية في مقابل الثقافات الفرعية، أو الثقافة الرسمية في مقابل الثقافات المحلية، أو الثقافة الشمولية في مقابل الثقافات الخاصة النوعية للشعوب.
ولسوء الحظ كانت الثقافة الرسمية هي ثقافة الرجل الأبيض، ثقافة الغرب. فروسيا جزء من أوروبا، وثقافتها ثقافة أوروبية، ومن ثَم ظهرت سيادة ثقافة الغرب على شعوب الشرق، كما ظهرت سيادة ثقافة الرجل الأبيض على الشعوب الملونة. وكان المسلمون يديرون أجهزة «التليفزيون» ليسمعوا تشايكوفسكي، أو لِيَرَوا فيلمًا عن كاترين قيصرة روسيا، ولا يسمعون ولا يرون شيئًا. كانوا أقرب إليَّ من الروس، وكان الروس غرباء بالنسبة لهم. وكنت أنا المثقف المطلع على ثقافات الغرب أكثر أدراكًا لما أسمع ولما أشاهد.
ولا يقتصر الأمر على الثقافة وحدها بل يمتد أيضًا إلى شئون الحياة العامة. فروسيا هي المسيطرة في دولة الاتحاد على مراكز الدولة الكبرى، في الجيش والشرطة والإدارة العليا، وفي المطارات وعلى الحدود، وفي مراكز الأمن والحزب، وكأن الرجل الأبيض هو المسيطر، والمسلمون بسمار بشرتهم تحت سيادة الرجل الأبيض. وفي الفنادق الكبرى، الإدارة من الروس البيض، والأعمال اليدوية للشعوب الأخرى مما يذكرني بالمستعمر الأوروبي الأبيض، بالفرنسيين في الجزائر أو بالجزائريين في فرنسا. بل كانت عادات الشعوب الملونة وتقاليدهم وعيوبهم أقرب إليَّ من عادات الروس البيض وتقاليدهم وعيوبهم. يبصقون في الطرقات مثلنا. يتزاورون ويتحابون ويفيض بعضهم على بعض مثلنا. أما الجمود والصرامة فللروس البيض. ويذكرنا ذلك بالألماني عندما يعبر برلين الغربية ويقابل صدفة ألمانيًّا شرقيًّا على الحدود، صديق طفولته ورفيق صباه ولا يستطيع الحديث معه أو الهمس إليه لأن «النظام» لا يسمح. إن سيطرة روسيا على بقية دول الاتحاد، وهي تمثل حوالي نصف مجموع السكان، تجعل المساواة بين شعوب الجمهوريات في مناصب الدولة العليا وفي الحياة العامة تتوارى أمام لون البشرة، الداء الدفين للحضارة الغربية. ويكون السؤال: هل استطاعت شمولية المذهب أن تقضي على خصوصيات الشعوب؟
- (١)
ازدواجية الشخصية بين المسلم القابع بينه وبين نفسه، الصادق مع نفسه وجيرانه، وبين الموطن الروسي في الخارج، بينه وبين الدولة ومؤسساتها وثقافتها وحزبها ونُظمها وقوانينها. وهو وضع مشابه لوضع اليهود في أوروبا باستثناء أن المسلمين هم أصحاب الأرض وغرباء عليها في حين أن الروس والألمان والفرنسيين وقوميات أوروبا الشرقية كانوا هم أصحاب الأرض واليهود يعيشون بينهم.
- (٢)
العكوف على الصلوات في المساجد، والاحتفالات الدينية في الأعياد حيث يتجمع آلاف المسلمين في المساجد المنتشرة في المدن الإسلامية الرئيسية: بخارى، وسمرقند، وطشقند، وخيوة، وعشق أباد، وأوفا، وباكو، ودوشنبه وغيرها. ولا شأن لهم باحتفالات أكتوبر أو بمراكز الحزب الشيوعي أو بأعياد العمال والجيش أو بعروض ساحة الكرملين في الميدان الأحمر. يزورون قبر البخاري أكثر من زياراتهم لقبر لينين، ويقرءون «الفاتحة» أكثر مما يقرءون «البيان الشيوعي».
- (٣)
تتم مراسم الزواج والطلاق طبقًا للشريعة الإسلامية في الإدارات الدينية. فما زال قانون الأحوال الشخصية هو الحصن المنيع ضد العلمانية والتغريب، حتى يصبح الزواج مقبولًا من المجتمع الإسلامي؛ لأن الزواج المدني في أجهزة الدولة لا يجعل الزواج مقبولًا «شعوريًّا» لدى المسلمين الشبان، حتى العلمانيين منهم. والزواج في الإدارة الدينية يعادل زيارة العروسين لمقبرة لينين لدى الروس الأرثوذكس.
- (٤)
قراءة القرآن في الأفراح والمواسم، وإعطاء الدروس الدينية في الحفلات الخاصة. فأصبحت الحياة الاجتماعية وسيلة للتعليم الديني، وخروج الثقافة التحتية في المجتمع المحلي واستبعاد جميع ألوان الثقافة الرسمية، الثقافة الروسية، من رقص أو غناء أو شعر «أفتشنكو» الذي لا يعلم عنه المسلمون شيئًا، والذي تروج له أجهزة الإعلام في النظم التقدمية العربية.
- (٥)
الإدارات الدينية الأربعة مراكز تجمع للمسلمين، ومحور نشاطهم، بها يرتبطون، ومنها يأخذون توجيهاتهم، وتصدر نشراتهم، وتُنظم بعثاتهم إلى الأزهر، ووفودَ حَجِّهم. تستقبل الزوار المسلمين، وتعقد أواصر الصلة بينهم. تجمع تبرعات المسلمين في الاتحاد السوفييتي، وتجمع أموال الزكاة. تُشرف على المدارس الدينية، وتجمع الكتب. ولها في حياة المسلمين مكانة الدولة أكثر مما للدولة سواء المحلية أو المركزية. ولكن ليس لها سلطة على الدولة كما لمؤسسات الحزب ولمنظمات الصداقة، مثل منظمة تضامن الشعوب الآسيوية والأفريقية، أو التنظيمات التابعة للحزب، مثل تنظيمات الشباب أو المرأة.
- (٦)
يقوى الإسلام في حياة المسلمين الظاهرة والباطنة حتى في المسكن والمأكل والمشرب. يتَّبعون السُّنة، ويقرءون الأوراد. ويختمون الصلاة، ويقرءون القرآن قبلها وبعدها. يعيشون حياة الصحابة الأوائل وحياة أهل العلم والحديث. وبالرغم من وجودهم في أواسط آسيا على حدود أفغانستان وإيران وباكستان، فإن الإسلام لديهم صافٍ رائق خالٍ من الأساطير والخزعبلات وتطرف العقائد عند فرق الشيعة، أو المغالاة لدى الطرق الصوفية. في حين تغيب لديهم كل الثقافة الرسمية والأيديولوجيات السياسية والعقائد الحزبية ومراسيم الدولة وشعاراتها.
- (٧)
يشعرون بالأمة الإسلامية القريبة منهم مثل إيران وباكستان وأفغانستان وتركيا، أو البعيدة عنهم مثل مصر وتونس والمغرب والحجاز. يعيشون بأرواحهم مكة والمدينة والحرم النبوي، ويتطلعون إلى مصر، كعبة الإسلام، وكنانة الله في أرضه، وموطن الأزهر الشريف. مسلمون بقلوبهم وأرواحهم، ومواطنون روس بأبدانهم وبطاقاتهم. أهلي وعشيرتي وأقربائي وإخوتي، وفي نفس الوقت يعيشون في دولة أخرى وتحت نظام آخر، تجذبهم خارج المركز الإسلامي قوًى أخرى تجعلهم يدورون في محيطها.
ومع ذلك، فالمستقبل لهم لأن التاريخ في مَدٍّ وجذر، والأطراف تتبادلها المراكز حسب قوتها وضعفها، وحسب قوة صمود الأطراف وصلابتها. ومما يوحي بالثقة في هذا المستقبل الآتي:
-
(١)
بالرغم من عدم وجود إحصائيات رسمية دقيقة عن تَعداد المسلمين في الاتحاد السوفييتي، بدعوى عدم جواز إجراء إحصائيات طبقًا للدين، نظرًا لما ينص عليه الدستور من حرية الاعتقاد وحرية الدِّعاية للدين أو صفة الدين، مع أنه لا يجوز الدِّعاية ضد الماركسية اللينينية المذهب الرسمي للدولة، فإن الأرقام الواردة في التقديرات الرسمية أقل بكثير من تقديرات المسلمين. فقد تصل في الإحصائيات الرسمية ثلاثة ملايين، وعند المسلمين خمسين مليونًا، وعند المحايدين أربعين مليونًا، أي مثل شعب مصر. ولما كان متوسط الأسرة لديهم عشرة أشخاص، ولا يوجد لديهم أي إجراءات لتحديد النسل، فالأولاد خير وبركة من نعم الله. ويتزوجون صغار السن منعًا للفتنة وسهولة العيش فإن تعدادهم سيبلغ في نهاية القرن مثل تعداد الروس البيض الآن الذين لا يتكاثرون ولا يزيدون، أي حوالَي ١٢٠ مليونًا، وبالتالي يتحول الاتحاد السوفييتى كله إلى أغلبية مسلمة، ويصبح دولة مسلمة، والإسلام الآن هو الدين الثاني بعد الأرثوذكسية، وهو ما سيحدث للدولة العبرية أيضًا في نهاية القرن عندما يفوق تَعداد العرب تَعداد اليهود. وفي هذه الحالة لا يصبح الإسلام ثقافة الأقلية بل ثقافة الأغلبية، وربما يتحول أيضًا من ثقافة تحتية إلى ثقافة فوقية.
-
(٢)
قوة الإسلام في قلوب المسلمين تجعله قابلًا للانتشار شيئًا فشيئًا خارج الأبدان، واكتساب أرضية اجتماعية وسياسية واقتصادية خارج قانون الأحوال الشخصية في المواريث وتحريم الربا وأحكام السوق، وربما يمتد ذلك إلى أسس النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للمجتمع كله الذي يغلب عليه المسلمون. وهنا يصح الإسلام ويكتمل، ويخرج من الحواري والأزقة والزوايا والخانقاه إلى المدن الكبيرة والعواصم ويتمثل في النُّظم والدساتير.
-
(٣)
زيادة ارتباط المسلمين بالعالم الإسلامي، واستثمار هذه الرغبة في النفوس من خلال وفود الحج، وإرسال البعثات الدينية إلى الأزهر الشريف وإلى جامعات العالم الإسلامي، وإعادة ربط الأطراف بالمركز في مصر وما حولها، والتغلب على الصعوبات القائمة من حيث عدد الحجاج المسموح بهم أو عدد الطلاب في البعثات بصرف النظر عن حاجة المدارس الدينية في الجمهوريات الإسلامية، وطلب الكتب والمراجع، والأموال، والمساعدات بكافة أنواعها من إخوتهم في الإسلام في شتى أنحاء العالم الإسلامي. ودعوة أئمة المسلمين ومفكريهم وعلمائهم حتى يزيد وعيهم بالجناح الشرقي للإسلام.
-
(٤)
استعمال المسلمين لكافة حقوقهم التي يكفلها لهم الدستور، ومنها حق الانفصال عن الاتحاد السوفييتي في أي وقت شاءوا. ولقد ثبت هذا الحق عند توحيد الجمهوريات في الاتحاد السوفييتي في ١٩٢٢م. كما أن لكل جمهورية الحق في إقامة عَلاقات مع الدول الأجنبية وإبرام معاهدات معها، وتبادل التمثيل الدبلوماسي والقنصلي، وكذلك المشاركة في نشاط الهيئات والمنظمات الدولية.١٩ وأخذ ذلك في الاعتبار دائمًا. ليس الآن ولكن في المستقبل بعدما يتغير ميزان القوى الدولية، وتأخذ دورات التاريخ مجراها، وتنشأ مراكز جذب جديدة في قلب العالم الإسلامي.
-
(٥)
نقد المجتمع الروسي وبيان عيوب النظام الشمولي بالرغم من إنجازاته العظيمة في مجال الاقتصاد والإنتاج والخدمات. والمشاركة في الدعوة للحريات، وزيادة أصوات المعارضة، والدفاع عن حق الاجتهاد، ومناصرة حركة المنشَقِّين السوفْيِت مناصرة لمبدأ حرية الرأي. وبالتالي يتحول الإسلام إلى حركة إصلاحية داخل الاتحاد السوفييتي ويُكمل أوجه نقصه.
-
(٦)
ظهور الآداب الوطنية، مثل الشاعر نوائي في أوزبكستان، وأهمية اللغات القومية، وتشجيع الإبداع المحلي للشعوب الإسلامية مقتفية آثار البيروني والخوارزمي وغيرهم، وتحوُّل التراث المتحفي إلى تراث حي في قلوب الناس، وإرجاع الحقوق التاريخية لأصحابها. فبخارى وسمرقند وتِرمذ كلها تنتسب إلى إبداع الحضارة الإسلامية وليس إلى الثقافة الروسية.
-
(٧)
دخول الإسلام في معارك الاشتراكية والتقدم، ودخوله في المعارك الوطنية لمناهضة الاستعمار والاستغلال والاحتكار، ودخوله في معارك المسلمين الكبرى مثل تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني والتحرر من بقايا الاستعمار في العالم الإسلامي، والدعوة إلى الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. فالثورة الاشتراكية الكبرى ثورة إسلامية في أهدافها، تخرج من الإسلام ولا تكون ضده أو بديلًا عنه، وبالتالي تتحقق وحدة الشخصية القومية عند المسلمين، فلا يكونون مسلمين في جانب يعيشون في مجتمع اشتراكي تقدمي مناهض للاستعمار والرأسمالية وفي جانب آخر لا يعلمون عنه شيئًا.
- (١)
انفتاح المركز على الأطراف عن طريق ازدياد وعينا بهم وإرسال الأساتذة والمعلمين لهم في اللغة العربية والعلوم الدينية، والذَّهاب إليهم لزيارة الأقارب والجيران، والأهل والأصدقاء. فبدل أن ترسل الإدارات الدينية طلابًا لدينا لا يزيدون على أصابع اليد الواحدة نرسل إليهم بالمنح المالية لإرسال المئات حتى يرجع كل منهم داعيًا للإسلام وجاذبًا الأطراف نحو المركز من جديد، ومدهم بالكتب والمراجع القديمة والحديثة حتى يظل الرباط الفكري قائمًا وإن استحال رباط الجسد والمصاهرة.
- (٢)
الاستفادة بالخبراء المسلمين في الزراعة والصناعة. وقد كان لدينا في مصر ١٧٠٠٠ خبيرًا روسيًّا، فلماذا لم يكونوا كلهم من الجمهوريات الإسلامية؟ يُحضر كل منهم عائلته وأطفاله العشر فنُرجع إلى الاتحاد السوفييتي ١٧٠٠٠٠ مسلم كامل، يتحدثون العربية التي تعلموها في مدارسنا. لماذا يكون الخبراء السوفييت من الروس البيض؟ ولماذا لا نطالب بمن يفهموننا ونفهمهم ويكونون بيننا إخوة، قلوبهم معنا، ينفعوننا ولا يضروننا. وقد طالبت سوريا بنفس المطلب وتم لها تحقيق ما أرادت في الزراعة. لماذا لا نطالب بنفس الشيء في الجيش والتدريب العسكري؟
- (٣)
فتح الحدود بين الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفييتي وجاراتها من الدول الإسلامية باكستان وإيران وأفغانستان وتركيا ما دامت جمهوريات مستقلة في قدرتها اتخاذ قرارها الخاص. وهنا يزداد ارتباط الأطراف بمناطق أقرب إلى المركز والمحور وأكثر تفاهمًا معها داخل الإسلام الآسيوي، خاصة وأن اللغات الفارسية أو الأوردية أو التركية من اللغات القومية المشتركة. فاللغة الأوزبكية نفسها، لغة أكبر جمهورية إسلامية في الاتحاد السوفييتي، هي إحدى اللهجات التركية تجمع بين التركية والفارسية، كما تجمع الأورديةُ بين العربية والفارسية.
- (٤)
ولماذا نظل نحن على علمنا بالعربية فحسب، والفارسية والأوردية والتركية من لغات الأمة الإسلامية؟ لقد كنا ضحية الاستعمار إذ علمنا لغاته الفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية والإسبانية حتى يربطنا به لغة وثقافة إلى الأبد، وأنسانا جناحنا الشرقي. وقد كان علماؤنا يعلمون الفارسية والأوردية والتركية والسنسكريتية، ومن ثَم على علمائنا إتقان اللغات الآسيوية حتى لا يتكلم علماء الروس البيض لغات الشعوب الإسلامية ونظل نحن العرب ننتظر من يترجم لنا منهم كي نفهم قومنا وأهلينا!
- (٥)
أن يقول علماؤنا قول الحق، وألا يقعوا تحت تأثير حسن الضيافة وكرم المثوى، أو تحت تأثير الدِّعاية والإعلان، أو تحت تأثير التغريب والإعجاب بالتقدم المادي والرُّوح خاوية. فكثيرًا ما عاد الزوار من علمائنا يُشيدون بما رأوا ناسين الإسلام في القلوب، والحق أحق أن يُتبع. وليس أفضل عند الله من شاهد الحق، وليس أضل لديه من شاهد الزور. إن أسماء بخارى وسمرقند وترمذ لَتثير في نفوس المسلمين أكثر مما تثيره في نفوس الروس البيض، تثير في نفوسنا إسلام ألف وأربعمائة عام وتثير في نفوسهم مائة عام من القيصرية.
- (٦)
لقد آن الأوان للأمة العربية، قلبِ العالم الإسلامي، أن تأخذ دورها في التاريخ كمحور جذب واستقطاب لأطراف الأمة الإسلامية، والأمة في الأطراف تبحث عن هذا الدور فلا تجده. فالعراق جسر للأمة الإسلامية في آسيا خلال إيران وأفغانستان وليس نقيضًا لهما. كما أن ثورة إيران رصيد للمسلمين في كل آسيا خاصة في أفغانستان وباكستان. والمغرب بحفاظه على التراث الإسلامي في الأندلس مَحَطُّ أنظار المسلمين في آسيا. وتونس وجامعة الزيتونة أيضًا تشخص إليها أبصار المسلمين هناك. وثورة ليبيا، وثورة الجزائر، كلها تبعث الأمل في قلوبهم. والحجاز له إجلال وإكبار في نفوس المسلمين. ومصر كعبة الإسلام، وقلب المحور، وبؤرة المركز تشخص إليها الأنظار، ويدعون لها بالنهوض بعد الكبوة. وكيف تلتئم الأطراف نحو مركز العالم الإسلامي، والمركز مغلق على نفسه يحتاج إلى من يدق الأبواب؟
- (٧)
فإذا كان مشروع لينين الذي صاغه إبان الثورة الاشتراكية حفاظًا على وحدة الدولة القيصرية يتمثل في احتواء الشعوب الإسلامية المجزأة داخل الاتحاد السوفييتي وحصارها حفظًا لها من العدوان الخارجي الغربي، وتمثل ثقافاتها داخل الثقافة السياسية الواحدة، فإن مشروع المسلمين اليوم، بعد أن ثبَّتت الثورة الاشتراكية أقدامها، وتأسست الدولة، وأصبحت قوة عظمى ترهب غيرها وتمنعهم من العدوان عليها، هو توحيد هذه الشعوب الإسلامية نظرًا لما بينها من إرث حضاري مشترك، وربطها كأطراف بجسد الأمة الإسلامية وبمحاورها الأساسية ومركزها في قلب العالم الإسلامي، وإحياء تراثها ودينها وثقافتها المحلية، وتحويلها من ثقافة تحتية إلى ثقافة قومية توجه حياة الناس الخاصة والعامة. وإن أمةً إسلاميةً واحدةً مستقلةً جناحها الشرقي في آسيا وجناحها الغربي في أفريقيا وقلبها في العالم العربي لَخيرُ ضمان لحرية شعوب المنطقة واستقلالها وحفظ لها من غزوات الاستعمار واستغلال الرأسمالية واحتكارها وأطماع الصهيونية. ولا يَضير الالتقاء على الأهداف الاختلاف في الوسائل. ولا خير في أصدقاء لا ينفع بعضهم بعضًا.
خامسًا: التجزئة والحصار (الهند وباكستان)
لقد كان دور الهند في نشر الإسلام وحمل تراثه دورًا بارزًا بعد العرب والفرس. فقد انتشر الإسلام من فارس إلى الهند بَرًّا، ومن الجزيرة العربية إلى شبه القارة الهندية بحرًا. كما انتشر عبر غزوات التتار والمغول من الشمال إلى الجنوب حتى أصبح الإسلام الدين الثاني في الهند بعد ديانات الهند التقليدية، الهندوكية والبرهمانية والبوذية. وقد قام السلطان «أكبر»، والسلطان «محمود الغزنوي» بنشر الإسلام وتوحيد الأمة الهندية داخل الهند وخارجها، وتوحيد شبه القارة الهندية حول التوحيد حتى أصبحت الهند الرصيد البشري للمسلمين في أفريقيا وآسيا.
ثم أتى الاستعمار وهو يحاصر الإسلام من البحار. فحاصر شبه القارة الهندية من الجنوب، وأراد أن يقضي على وحدة شعوب الهند التي أقامها الإسلام فاتبع سياسة «فَرِّقْ تَسُدْ»، وأشعل حروب الطوائف والديانات التي جلبها معه من الغرب بين البروتستانت والكاثوليك. فبدأت مذابح المسلمين على أيدي الهندوس، وأذكى التعصب الديني وجعله مرادفًا للوطنية عند «السيخ»، وجعل تسامح الإسلام وشموليته مرادفًا للغزو الحضاري وثقافة العرب الأغيار.
لم يجد المسلمون مخرجًا من هذه المذابح التي أذكاها الاستعمار إلا تجميع كتلهم البشرية والبحث عن رقعة متجانسة من الأرض وإقامة دولة تحميهم. وهكذا نشأت باكستان أملًا في قلوب المسلمين في الهند، ورأى فيها المسلمون تكوين أول دولة إسلامية نشأت على الإسلام، ربما تكون عزاء لهم عن ضياع الخلافة في تركيا. وارتبطت بها كل الاتجاهات التحديثية والحركات الإصلاحية في العالم الإسلامي، خاصة بعد نضال محمد علي جناح، وصياغة أيديولوجية إسلامية لنهضة المسلمين عند محمد إقبال. ولم يكن المسلمون حينئذٍ على وعي بما يخطِّط لهم الاستعمار، في الظاهر دفاعًا عن المسلمين بإنشاء دولة باكستان، وفي الباطن عزل الإسلام وتجزئته وحصاره وإبعاده عن شبه القارة الهندية. فما ظنَّه المسلمون خيرًا هو في حقيقة الأمر شر مستطير.
وكانت النتيجة أن أصبح المسلمون أقلية في الهند لا أثر لهم، وبالتالي تم حصار المد الإسلامي في شبه القارة، والإسلام بلا انتشار ضمور وانحسار، فقوة الإسلام في انتشاره الطبيعي. كما هاجرت الأقلية المسلمة من الهند إلى مناطق تجميع المسلمين في باكستان، فانتهت مراكز التجميع الإسلامية داخل شبه القارة، وقُضِيَ على هذه البؤر الإسلامية التي كانت مركز إشعاع حضاري داخل الهند. وتم تجزئة المسلمين بين باكستان الشرقية وباكستان الغربية (يبعدان عن بعضهما البعض مئات الأميال)، مع ثقة الاستعمار بأن التخلف قادر على إذكاء رُوح الفرقة بين جناحَيِ الدولة الجديدة، وإثارة النعرات القبلية واللغوية. وكيف يعيش جناحان بلا قلب نابض أو بلا قلب على الإطلاق؟ لقد ظل الاستعمار يغذي رُوح الانفصال بين المنطقتين، وكانت الهند فيما بعد أداة تحقيق هذا الانفصال بالفعل حتى لا تنشأ بجوارها دولة قوية تكون محور جذب للمسلمين في شبه القارة على حدودها الشمالية. وكانت الهند على ثقة من أن سياسة عدم الانحياز، وما تمثله بالنسبة للحركات الوطنية في آسيا وأفريقيا ستكون عونًا لها وكسبًا للتأييد الدولي ضد باكستان المتحالفة مع الغرب والتي تمثل نظامًا رأسماليًّا رجعيًّا تعمل كل الشعوب المتحررة حديثًا على التخلص منه.
- (١)
تركيز الإقطاع كنظام دائم للدولة الجديدة حتى يظل المسلمون تحت لواء الإقطاع، وحتى يعم الفقر الأغلبية، ويظل المال بأيدي الأقلية، خشية من المساواة والعدالة الاجتماعية في الإسلام والثورة الاشتراكية الإسلامية، دون أن يعلم أنه بهذا المخطط يرسِّخ جذور الثورة، ويولِّد حركات المعارضة الإسلامية، وكأن الاستعمار لا يريد إلا الحاضر، ويرى فيه أمانًا من غائلات المستقبل. والحاضر الإسلامي في حقيقة الأمر هو «كمون» للمستقبل الإسلامي قد يظهر «طفرة» كما حدث في الثورة الإيرانية.
- (٢)
الإبقاء على النظام الرأسمالي، وذلك من أجل استنزاف أموال أمراء الإقطاع وتوظيفها لصالح الغرب، كما هو حادث في عائدات البترول في العالم الآن. وتكوين حزب إسلامي من أمراء الإقطاع وكبار الرأسماليِّين موالٍ للرأسمالية الغربية في مقابل حزب المؤتمر الهندي. فالرأسمالية لا وطن لها، ورأس المال لا يبغي إلا صالحه الخاص. وبالتالي تخرج باكستان عن نموذج «الطريق اللارأسمالي للتنمية» الذي حاوله العالم الثالث.
- (٣)
الإبقاء على فقر الأغلبية، وعدم الإسهام في أية مشاريع جادة للتنمية الاقتصادية في الصناعة أو الزراعة، فظل الفيضان يحصد الآلاف سنويًّا دون أية مشاريع للسيطرة على المياه وتخزينها كما حدث في مصر، بالإضافة إلى انتشار الأمية حتى تظل باكستان لعدة أجيال نموذجًا للنظم المستقرة في العالم.
- (٤)
ربط الدولة الجديدة بالأحلاف العسكرية، ووضعها تحت مناطق النفوذ الغربي في حلف جنوب شرق آسيا، حلف بغداد أو الحلف المركزي. والهدف منها ليس الدفاع عن باكستان، فقد تركها الغرب فريسة للغزو الهندي لجناحها الشرقي في ١٩٧١م، ولكن للدفاع عن مصالح الغرب في آسيا، وتهديد الاتحاد السوفييتي، وإخراجها من القارة الآسيوية، بعيدًا عن جذب مراكزها وبؤرها الثورية في الاتحاد السوفييتي أو الصين أو فيتنام.
- (٥)
خلق طبقة من العسكريين وجنرالات الجيش موالين للغرب، يستعملهم لتدبير انقلابات لصالحه إذا ما حانت لحظة الثورة الشعبية كما يفعل في أمريكا اللاتينية، واحتواء العسكريين خشية أن تتحول إلى قوًى وطنية تعبر عن مصالح الشعوب كما حدث في الثورات العربية الأخيرة، على الأقل في بداياتها، وخلق التنافس بين الجنرالات حتى يَدين الجميع بالطاعة ويتسابقوا على الولاء للغرب.
- (٦)
الإغراء بالسلاح النووي لاستنزاف ثروات البلاد واستثمارها في صالح الغرب، واستعمال هذا السلاح كما يشاء الغرب كجزء من دفاعاته ضد الاتحاد السوفييتي وليس ضد الهند أو في صالح الشعوب العربية والإسلامية في مقابل تسليح إسرائيل النووي، وحتى يظل تسليح الجيش في يد الغرب وتحت سمعه وبصره.
- (٧)
حصار العالم العربي الذي بدأت فيه الثورات الوطنية مناهضة للاستعمار الغربي، تقاوم الأحلاف العسكرية، وتدعو إلى ثورة اشتراكية مناهضة للرأسمالية والإقطاع، وتدافع عن الاستقلال الوطني للشعوب، وتكوين اقتصاد وطني مستقل، ومناهضته للصهيونية، ركيزة الغرب في المنطقة وجسر الاستعمار فيه، وتوحيد المنطقة كلها تحت لواء القومية العربية بقيادة الناصرية التي ترى الدائرة الإسلامية إحدى دوائرها.
- (٨)
شق الأمة الإسلامية إلى شِقَّين: أعجمي وعربي، الناطق بالإنجليزية (الأوردية أو التركية) والناطق بالعربية، حتى يظهر نموذجان للمسلمين تحتار بينهما كوريث للنموذج القديم: شيعة وسنة. ثم يدب الخلاف بين شقي الأمة كما فعل الغرب بنفسه بين البروتستانت والكاثوليك. ويتساءل الغرب أي إسلام؟ ما دام هناك إسلامان فإذا ذُكر الإسلام الثوري ذُكر الإسلام الغربي، واحد بواحد، وشاهد بشاهد.
- (٩)
ربط الدولة الجديدة، كما ارتبطت الهند من قبل، من خلال اللغة الإنجليزية بثقافة الغرب، واعتبار بريطانيا نموذج التحديث. وأسلوب الحياة البريطاني أسلوب الرجل المهذب، حتى يتم القضاء على الرُّوح الإسلامية في الثقافة وفي السلوك اليومي. وقد حاول الاستعمار البريطاني نفس الشيء مع مصر والعراق والأردن، وحاول الاستعمار الفرنسي ذلك أيضًا مع تونس والجزائر والمغرب.
- (١٠)
إخراج دعوات دينية إصلاحية موالية للغرب مثل القاديانية والبهائية والأحمدية، وتقوية المذاهب التقليدية واحتواؤها والدفاع عنها والدعوة لها، مثل الإسماعيلية، حتى ينفر المسلمون المستنيرون من الإسلام، وتربية مسلمين موالين للغرب مثل السيد أحمد خان.
- (١١)
تغذية القوميتين الهندية والباكستانية حتى لا يجمع الهند وباكستان أي رباط آخر فكري أو ديني أو تاريخي أو حضاري أو ثقافي. وتحويل معركة باكستان من الغرب مع الاستعمار إلى الشرق مع جارتها الهند. ولما كانت الهند بمواقفها الوطنية ومعاداتها للاستعمار، وتأسيسها حركة عدم الانحياز، تحظى بتأييد شعوب العالم الثالث، نفرت هذه الأخيرة من باكستان، الدولة المسلمة، وعادت الإسلامَ في شخص باكستان.
- (١٢) تفتيت دولة باكستان ذاتها في أقرب فرصة حتى يسهل ابتلاعها كلية من الاستعمار، خشية أن تصحو الدولة يومًا بإمكانياتها البشرية وباستقطابها المسلمين في آسيا، وبعد نشأة تيارات إصلاحية أثرت في العالم العربي مثل تيار «الجماعة الإسلامية» التي أسسها الإمام أبو الأعلى المودودي وأثره على الجماعات الإسلامية في العالم العربي خاصة في مصر عند جماعة «الإخوان المسلمين».٢١
- (١)
ازدياد الفقر ومشاكله التي لا تنتهي حتى أصبح يُضرب بالمسلمين المثل في الفقر في العالم. فالمسلمون يموتون جوعًا في وقتٍ تتكدس فيه عائدات البترول من بقية المسلمين في الحجاز والعراق وشمال أفريقيا. بالإضافة إلى الأمية والتخلف وعدم وجود فنيين وطنيين قادرين على التخطيط والتنمية.
- (٢)
العجز أمام الفيضانات التي تُودي بحياة الآلاف من المسلمين سنويًّا، وكأن الله لم يسخر الطبيعة للإنسان. وبالتالي يموت المسلمون في العالم الإسلامي إما من الفيضان في بنجلاديش أو من القحط في تشاد بسبب عجز المسلمين عن السيطرة على قوانين الطبيعة، وكأن الآلاف من الجثث الآدمية التي تعرضها أجهزة الإعلام الغربية يجرفها التيار لا إنسانية لها.
- (٣)
سيادة الرُّوح القبلية العشائرية، وتفتيت الأمة الإسلامية أكثر فأكثر طبقًا للُّغة والقبيلة والعادات والعرف والتقاليد، بل ولون البشرة، مما يهدد بقايا الوحدة، ويهدد الأمة كلها بتحويلها إلى وحدات صغيرة يسهل على الاستعمار ابتلاعها، كما يحدث الآن في لبنان والشام في إنشاء دويلات الطوائف، وكما حدث في الأندلس أيام ملوك الطوائف.
- (٤)
نظرًا لضعف الدولة وعدم وجود مقومات للحياة الاقتصادية فإنها تعتمد في حياتها على الغرب، فلا تخرج عن النفوذ الغربي، تمامًا مثل إسرائيل، مع فارق أن إسرائيل في عَلاقتها مع الغرب هي السيد، في حين أن الغرب في عَلاقته مع بنجلاديش هو السيد.
- (٥)
ثم تأتي المعونات الاقتصادية والأغذية والأدوية والأغطية من الجمعيات الخيرية المسيحية والكنائس العالمية، وبالتالي تبدو المسيحية أكثر رحمة بالبشر من الإسلام خاصة إذا نهب أمراء المسلمين وحكام المقاطعات الدقيق، وجددوا البيوت والأثاث من المعونات، وبنَوا القصور بالأموال والهبات. والغرب مسرور لإقناع المسلمين بمزايا المسيحية على الإسلام. هكذا يفعل الإسلام بهم وهكذا تفعل المسيحية بهم، فيتم تحويل المسلمين الفقراء إلى المسيحية أو تربية الأطفال والأيتام في دور الكنائس، وعلى هذا النحو أصبحت بنجلاديش مرتعًا للتبشير، والتبشير مقدمة للاستعمار ومرسِّخ له.
- (١)
طقوس وشعائر ورسوم لا تغير من الواقع الاجتماعي والسياسي شيئًا، وبالتالي شارك الإسلام في باكستان الإسلام في السعودية، ومن هنا نشأ الاتفاق في المزاج والرؤية والوظيفة للدين بين النظامين.
- (٢)
إقامة الدولة الإسلامية، وصياغة الدستور الإسلامي، وتأسيس النظام الإسلامي أصبحت كلها شعارات كما هو الحال في الحجاز ومصر، وكأن الإعلان عن الهدف يكفي لأن تكون الدولة كلها إسلامية كما حدث بعد الدعوة الوهَّابية في الحجاز، والدعوة الحالية في مصر بعد انحسار الثورة وحاجة المجتمع إلى شرعية جديدة. وهي دعوات في حقيقة الأمر يخفي ظاهرُها غيرَ باطنها وتهدف إلى التستر على ما يدور في الواقع من نظم لا إسلامية، مثل: الإقطاع، والرأسمالية، والدكتاتورية. وطالما استشهد الغرب بالدول الإسلامية في السعودية وباكستان حتى يشوه الإسلام في ذهن الناس وينفِّر منه المسلمين المستنيرين.
- (٣)
تحويل الإسلام إلى مناقشات فكرية ونظرية نظرًا لتغلغل التراث الغربي في الهند. خرجت مناقشات نظرية عن الإسلام والغرب، والإسلام والتحديث، والنظام الإسلامي، وأصبح الفكر الإسلامي في باكستان، من الناحية النظرية، أكثر تقدمًا من حيث مجابهته لمشاكل العصر من الفكر الإسلامي في العالم العربي. وفي نفس الوقت كثرت الدعوات المشبوهة التي يختلط فيها الإسلام كستار بالأهداف الغربية كحقيقة وواقع.
- (١)
مناصرة الثورة الإيرانية من الجماهير الإسلامية، بالرغم من تخوف نظم الحكم فيها خاصة في الصراع بين الثورة الإسلامية في إيران والاستعمار الأمريكي، وبداية الشعور الشعبي المعادي للغرب ولأمريكا بوجه خاص.
- (٢)
مناصرة الثوار المسلمين في أفغانستان بصرف النظر عن التقاء المصالح في الدفاع عن الاستقلال الوطني لأفغانستان بين الأمة الإسلامية والغرب، وفتح حدود باكستان لمساعدة الثوار المسلمين بصرف النظر عن استغلال الغرب والنظم الرجعية في المنطقة هذه المعارضة لصالحه الخاص.
- (٣)
بداية خروج باكستان من الأحلاف العسكرية الغربية، وحرصها على الاستقلال الوطني، واقترابها من الهند، ورجوعها إلى دول عدم الانحياز، مما يجعلها إحدى دول آسيا وأفريقيا وليست نموذجًا ممسوخًا للغرب في آسيا.
- (٤)
ازدياد الارتباط بالوطن العربي، وضمها إلى مركز العالم الإسلامي، ومناصرتها لشعب فلسطين، والنزول بثقلها العسكري في القضايا العربية بصرف النظر عن النظم القائمة فيها، وتجاوز الشعور الإسلامي فيها الهوى الغربي.
- (٥)
ظهور دعوات إسلامية مثل «الجماعة الإسلامية» تعرض الإسلام ككل، وتُدين الواقع بأكمله، وتريد البداية من جديد كما بدأ الصحابة الأوائل، وأثر هذه الجماعة على الجماعات المشابهة في الوطن العربي وامتدادها في جماعة «الإخوان المسلمين».
أما عن إمكانيات المستقبل فإننا نرصدها على النحو التالي:
- (٦)
أن تتحول مفاهيم إقبال حول الذاتية، والأمة، والعمل، والطاقة، والحركة، إلى أيديولوجية ثورية لإعداد المسلم لبناء الأمة الإسلامية.
- (٧)
أن يتم التعريب حتى تقترب أطراف العالم الإسلامي من مركزه أكثر وأكثر، وأن تتم لدينا أيضًا «أسلمة» لغاتنا الأجنبية حتى نرتبط بجناحنا الشرقي الإسلامي في آسيا أكثر من ارتباطنا بالغرب.
- (٨)
أن تبدأ فيها الثورة الإسلامية بعد أن تم حصارها بالثورة الإسلامية في إيران وبالثوار المسلمين في أفغانستان، وأن يولِّد وجود الثورتين فيها قوًى إسلامية ثورية وطنية، كما حدث من وجود المقاومة الفلسطينية في لبنان، وتفجير الصراع الاجتماعي والوطني.
- (٩)
أن تبدأ وحدة المسلمين في قلب آسيا بباكستان وإيران وأفغانستان كمحور جذب لبقية الأطراف في آسيا وللمسلمين في الهند والصين. وإمبراطورية المغول وآثار تيمور لنك ليست بالبعيد.
- (١٠)
أن تكون مركز جذب آخر للمسلمين في الاتحاد السوفييتي حتى يشعر المسلمون هناك بأن الإسلام قد عاد من جديد في إيران وأفغانستان وباكستان، ولا ريب أنه عائد في أذربيجان وتركمانستان وبلاد ما وراء النهر.
- (١١)
أن نبدأ بنقد الحضارة الغربية نظرًا للاطلاع الواسع على الثقافة العربية فتنشأ لديهم بدايات علم «الاستغراب» في مقابل «الاستشراق» حتى تتخلص من «التغريب» وتبدأ في اكتشاف أصالتها وبعدها التاريخي.
سادسًا: التبشير والاستعمار (إندونيسيا، الملايو، الفلبين)
عَلاقة التبشير والاستعمار عَلاقة مزدوِجة ومتبادلة، إما أن يبدأ الاستعمار أولًا كي يمهد الطريق للمبشرين لتدعيم الاستعمار عن طريق الدين واللغة والثقافة والعادات والتقاليد، وإما أن يبدأ التبشير ليمهد الطريق بعد ذلك أمام الاستعمار بعد استئناس الناس وتغريب وعيهم وجعلهم لُقمة سهلة في فم الاستعمار. وكلما ابتعدنا عن مركز العالم الإسلامي إلى أطرافه وأصبح المسلمون أقلية وسط الديانات الأخرى في آسيا تبدأ حملات التبشير بين المسلمين وجميع الديانات غير المسيحية الغربية. فالمبشرون يرون الإسلام كالبوذية والبرهمانية والكونفوشيوسية ديانات غير متطورة أقرب إلى الوثنية منها إلى الدين الحق الذي تمثله المسيحية.
وتشتد حملات التبشير عندما يكون النظام القائم في دول جنوب شرقي آسيا رجعيًّا مواليًا للغرب فيفسح المجال للنشاط الغربي في البلاد، وعلى رأسه حملات التبشير والأحلاف العسكرية والشركات الاقتصادية المتعددة الجنسيات. وقد حدث ذلك في إندونيسيا عندما اشتد نشاط الكنائس في الآونة الأخيرة مما اضطر السلطات لوضع قانون (١٩٧٨م) يحد من هذا النشاط بعد حركات المعارضة الإسلامية له.
ولكن الإسلام الشعبي يظهر في حركتين: الثقافة الوطنية، والاتجاهات التقدمية الاشتراكية. فبالرغم من محاولة الغرب دفع شعوب شرقي آسيا إلى العلمانية وتعدد الأديان إلا أن الإسلام ظل متوحدًا بالثقافة الوطنية عند الشعوب. أراد باسم العلمانية أن يقضي على الثقافات المحلية وزرع الثقافة الغربية باسم المدنية والعلم والحضارة العالمية التي يشارك فيها الناس جميعًا. كما أراد باسم تعدد الأديان القضاء على الإسلام باعتباره دينًا طبيعيًّا متوحدًا مع الثقافات المحلية وإفساح المجال لزرع ديانات غربية مثل المسيحية الغربية. ويتضح ذلك في جاوة أكبر جزر إندونيسيا عندما توحد الإسلام مع الثقافة الوطنية في جاوة حتى إنه لَيصعب التمييز بين الاثنين. لذلك ظهر الإسلام في إندونيسيا ثقافيًّا محليًّا وليس شعائريًّا طقوسيًّا، إسلام حضارة وليس إسلام عبادة. وكما يتضح ذلك في الحزبين الإسلاميين الكبيرين: المحمدية، ونهضة العلماء. يغلب على الأول الدعوة الإسلامية وانتشارها بين الوطنيين، ويغلب على الثاني النهضة الحضارية الإسلامية.
أما بالنسبة للاتجاهات التقدمية الاشتراكية فقد كان المسلمون يكونون جزءًا من الجبهة الوطنية التي أسسها سوكارنو، والتي استطاع بها تحرير إندونيسيا من الاستعمار الهولندي. كان المسلمون والماركسيون والوطنيون يكونون جبهة واحدة مناهضة للاستعمار، تقدمية اشتراكية. كان الماركسيون مسلمين من حيث المضمون دون الشكل، وكان المسلمون مسلمين مضمونًا وشكلًا. وقد تكرر ذلك من جديد في الجبهة المتحدة التي شكلها حزب «سرقة إسلام»، والحزب الشيوعي الإندونيسي. وكما اتحد الإسلام من قبل بالثقافات الوطنية فإنه اتحد أيضًا بالحركات الوطنية التقدمية والاشتراكية، والتي ساهمت جميعًا في صياغة المبادئ الخمسة التي يقوم عليها الدستور: الإيمان بالله، احترام الإنسان، الوحدة الوطنية، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية. كما توحد الإسلام مع حركات المعارضة للتسلط الداخلي والاستغلال الخارجي، كما هو واضح في «الحركة الطلابية الإسلامية». وقد وضح لدى الجماهير المسلمة في إندونيسيا أصل الجهاد في الإسلام فنشأت حركة «جهاد» من أجل التعبير عن الإسلام الملتزم بالقضايا الوطنية. فالإسلام في إندونيسيا إذن حركة ثقافية وحركة سياسية يمثل ثقافة وطنية وحركة تحرر وطني لشعب إندونيسيا.
وقبع الإسلام الشعائري الشكلي، وانزوى عند بقايا أمراء الإقطاع أو رجالات الجيش. فاصطادهم الاستعمار، وكانوا فريسة سهلة له، فقام الانقلاب الغربي الرجعي ضد الحكم الوطني، وعاد الإسلام الشكلي الغربي التقليدي إلى الظهور، وظهرت نغمة الغرب الدائمة عند المسلمين: «الإسلام في مواجهة الإلحاد».
وفي الفلبين حيث بدأ الاستعمار الإسباني بعد سقوط غرناطة في ١٤٩٣م الالتفاف حول العالم الإسلامي من البحار واحتل جزر الفلبين وسماها في ذلك الوقت «الأمة المورية» نسبة للمسلمين في إسبانيا «المور». وقد بدأت حركة التحرر الوطني لديهم ممثلة في «الجبهة الوطنية للتحرير الموري» منذ عشرات السنوات للتأكيد على هُوية المسلمين الذين يتجمعون أساسًا في الجنوب في «مندناو» مدافعين عن استقلالهم الذاتي ضد صنوف الإرهاب من الحكومة التي ورثت الطغيان الإسباني ثم الياباني ثم الأمريكي في النهاية. وقد كلف ذلك المسلمين حتى الآن ٥٠٠٠٠ قتيل بالإضافة إلى ٥٠٠٠٠٠ لاجئ. اتحد الإسلام أيضًا بالثقافات المحلية، وأصبحت اللغة العربية هي لغة الثقافة. ويمثل المسلمون هناك، وهم حوالَي مليونين ونصف، أكبر تجمع إسلام في جنوب شرق آسيا خارج إندونيسيا والملايو. ويتركز المسيحيون في الشمال. ويحاول النظام الرجعي الغربي في الشمال القضاء على النزعات الوطنية الاستقلالية عند المسلمين في الجنوب. ففي كل مكان في آسيا يصبح الإسلام مرادفًا لحركة الاستقلال الوطني وتأكيد الهُوية القومية.
وفي تايلاند يكثر المسلمون على حدود ماليزيا، حوالي المليون، ويصبحون أقلية. يُطردون بالآلاف من البلاد وكأنهم عنصر دخيل على الديانات القائمة لأن الإسلام يمثل التحدي الحقيقي للنظم السياسية القائمة الموالية للغرب بما للمسلمين من قدرة على الصمود، ومواصلة النضال والجهاد في سبيل الله، والانصهار بالأجناس، وتمثل الثقافات المحلية.
وفي بورما يبلغ المسلمون أيضًا حوالَي المليون على حدود بنجلاديش، قامت ضدهم أكبر حملة إرهاب في ١٩٧٨م، فهربوا وهلكوا بالآلاف لأنهم يمثلون عنصر جذب للوطنيين، وبؤرة انتشار وتكاثر. وفي سنغافورة يبلغون حوالي نصف المليون من الملاويين محاصرين بأغلبية من الصينين. والمسلمون في كمبوديا وفيتنام أقلية داخل البوذية قد يخرقون الحصار يومًا ما.
سابعًا: نهاية العلمانية والتغريب (تركيا)
ظهرت بوادر النهضة الإسلامية الجديدة في تركيا، وكأن الرجل المريض الذي كان يُضرب به المثل منذ أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن قد دبت فيه الحياة من جديد من خلال أحفاد أصحاء، يبعثون الأمل والحياة في سلالة الأسرة من جديد.
كانت الثورة الكمالية في ١٩٢٣م نتيجة طبيعية لما وصل إليه حال الخلافة الإسلامية ومركزها في إستانبول: قهر وطغيان وتسلط، فقر وتخلف، جهل وخرافة، هزائم عسكرية متوالية، دسائس ومؤامرات، أطماع شخصية … إلخ. وكان من الطبيعي أمام النموذج الغربي الناجح أن ينشأ «الضباط الأحرار» أو جماعة «الاتحاد والترقي» من أجل القيام بانقلاب لتغيير الأوضاع وتبني النموذج الغربي العلماني في شتى مظاهر الحياة، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتشريع، بل حتى في اللغة وأسلوب الحياة من لباس وسكن. فوضع التقدم ضد التخلف، والحرية في مقابل التسلط، والغرب في مواجهة الإسلام، والعصرية على النقيض من التراث.
- (١)
موالاة تركيا في نظامها الجديد للغرب، والدخول معه في أحلاف عسكرية، حلف بغداد، الحلف المركزي، وجعل أرضها مرتعًا للقواعد الأجنبية. ففقدت استقلالها الوطني، وتغير الحال منذ الخلافة. فبعد أن كانت جيوش تركيا في كل مكان في العالم الإسلامي، تدافع عن وحدته واستقلاله ضد الحركات الانفصالية والأطماع الغربية أصبحت قوات الجيش الأمريكي على أرضها تدافع عن المسكن الغربي الذي كان يطمع في تمزيقها بالأمس القريب.
- (٢)
اقتصاد غربي رأسمالي منهار، يعيش على معونات أجنبية بعد أن كانت تركيا البلد الزراعي الصناعي الأول، وتحويلها إلى مجرد تجميع لصناعات الغرب أو أسواق لتصريف منتجاته أو أيدي عاملة في دولة صناعية. عم الفقر في البلاد، وتفاوتت الدخول بين الأغنياء والفقراء، وزاد الفقراء فقرًا والأغنياء غِنًى حتى أصبح يُضرب به المثل أيضًا كنموذج للبلاد المتخلفة.
- (٣)
«التغريب»: في الحياة العامة، وغربة الأجيال عن ماضيها، وانقطاع حاضرها عن ماضيها، حتى ساد الغربُ الشرقَ بعد أن كان الشرق يشع على الغرب. أصبحت تركيا «قطعة من أوروبا» كما حاول الاستعمار مع مصر أيام إسماعيل، وأصبح مضيق «البوسفور» معبرًا من الغرب إلى الشرق بعد أن كان معبرًا من الشرق إلى الغرب.
- (٤)
نشأة التيارات السياسية الجذرية مثل الماركسية وجماعات المعارضة واتحادات الطلاب والتنظيمات السرية التي ترفض كل ما هو موجود من تغريب ورأسمالية حتى أصبحت خطرًا يهدد النظام القائم، مما دفع أمريكا بالإسراع بتدبير الانقلاب لاستيلاء الجيش على السلطة خوفًا من اليسار الوطني أو من الثورة الإسلامية.
- (٥)
إذكاء رُوح القومية التركية، وانفصالها عن الإسلام كوحدة سياسية شاملة، والثناء على الثورة الكمالية وتأييدها وتشجيعها. والمشاركة في تصدير النموذج الغربي في القوميات المتصارعة، وتحديد القومية بالأرض والأنهار والجبال والوديان والبحار فتنشأ الخلافات على الحدود.
- (٦)
معاداة القومية العربية، وقطع لواءي الإسكندرونة وقطنة من سوريا، وإذكاء التعارض بين القوميتين التركية والعربية، بل وإقامة معارك على الحدود، ووصف الأتراك بالمستعمرين، وحكم الأتراك بالاستعمار التركي، والإيهام بوقوف الغرب، إنجلترا خاصة، بجانب العرب ضد الأتراك، إثر الحرب العالمية الأولى حتى ينقلب العرب على الأتراك، ويُقضى على وحدة الأمة الإسلامية.
- (٧)
الاعتراف بإسرائيل، وضرب العرب في أعز أمانيهم القومية، بل ووضع القواعد العسكرية الأمريكية على أراضيها تحت تصرف قوات الغزو على الأمة العربية، فأصبحت تركيا والاستعمار وإسرائيل جبهة واحدة ضد الأمة العربية عامة وشعب فلسطين خاصة.
- (٨)
وكَرَدِّ فعل لمعاداة الأتراك للعرب، عادى العرب الأتراك وكأنهم ليسوا مسلمين، فناصر العرب اليونان على الأتراك في قبرص. كما أيدت اليونان العرب ضد الأتراك في فلسطين. ونسي الجميع أنهم كانوا أمة واحدة لمئات السنين حتى الأمس القريب.
- (١)
حفاظ السلطان عبد الحميد على وحدة الأمة، ومقاومة الحركات الانفصالية للقوميات بالرغم من إدانتهم لوسائل القمع والاضطهاد المتبعة لتحقيق هذا الهدف. فالأمة الإسلامية الواحدة لا تنفي تعدد القوميات داخلها على قدم المساواة.
- (٢)
الحفاظ على فلسطين، ورفض كل العروض لشرائها أو استئجارها أو استعمالها أو أخذها رهنًا مقابل مبلغ من المال كانت الدولة في أشد الحاجة إليه. كما رفض بدايات الهجرة اليهودية إلى فلسطين وحددها، وبالتالي لم تضِع فلسطين.
- (٣)
فتوحات الجيش التركي في أوروبا، وانتشاره في دول البلقان، بالرغم من إدانتهم لوسائل الاحتلال والقمع والسيطرة التي قام بها الجيش لشعوب البلقان، والتي تخصصت أجهزة الإعلام الغربية في تصويرها. فالإسلام يفتح البلاد، وينشر الحرية والعدالة والمساواة، ويصاهر المسلمون الشعوب وتختلط دماؤهم بدمائهم، ويتوحدون بتاريخهم، ويصبحون جزءًا منهم إلى أن يتحولوا إلى تاريخ البلاد الطبيعي.
- (٤)
مقاومة شتى أنواع الاستعمار الغربي في شمال أفريقيا. والصمود أمام القوى الغربية فترة طويلة بالرغم من ضعف الدولة وقوة الغرب. بل ظهرت بطولات الجيش التركي في المقاومة وركوب البحار وقيادة الأساطيل. كما استطاعت الوقوف أمام مؤامرات الغرب لتفتيت عُرى الوحدة والدفاع عن أطراف الإمبراطورية العثمانية.
- (٥)
الحفاظ على التراث الإسلامي، وجمعه وتصنيفه، وشرحه وتمثُّله، حتى أصبحت «الكُتُبخانة» العثمانية وريثة «خزانات» العراق والشام ومصر والمغرب. وأصبحت مساجد تركيا دُورًا لحفظ المخطوطات مثل مسجد أحمد الثالث. والحفاظ على التراث لا يقل أهمية عن الحفاظ على الأرض والأمة. وما تاريخ بني إسرائيل ببعيد.
- (٦)
بدايات التحديث والإصلاح داخل الإمبراطورية العثمانية من داخل الإسلام وليس من خارجه، فقد ظهر المصلحون، مثل الأفغاني، يريدون نهضة تركيا حفاظًا على الخلافة ودفاعًا عنها ضد أطماع الاستعمار الغربي والهيمنة الشرقية والحركات الانفصالية. والتغيير من الداخل مع الاتصال أكثر بقاء ودوامًا من التغيير من الخارج مع الانقطاع.
- (١)
حنين إلى الماضي، وظهور الإسلام السلفي، ونفور من الثورة الكمالية، وكأن الأجداد كانوا على حق أكثر من الأحفاد، ينشرون التراث ويبعثون الدراسات الإسلامية، وينتسبون إلى الإسلام كحضارة وإن استحال انتسابهم إليه اليوم كدولة. ويظهر ذلك في الازدحام على المساجد وعلى الحج وعلى التمسك بشعائر الإسلام والحرص على الهُوية الإسلامية والاعتزاز بكونهم مسلمين أكثر من اعتزازهم بكونهم أتراك.
- (٢)
ظهور تيارات الإصلاح، وحركات الإسلام المستنير التي ورثت الحركات والتيارات الإصلاحية التي وُجدت أثناء الخلافة. وظهور بوادر جديدة للتغيير الاجتماعي من الداخل بتطوير القديم ونقده، والعودة إلى طبائع الأشياء بدلًا من التقدم المزروع من خارج الجسد القائم على أساس من التقليدية والمحافظة، كما هو الحال في بولندا بين المسيحية كأساس والماركسية كغطاء فوقي.
- (٣)
ظهور التيارات الوطنية التركية التي تدافع عن الوطن ضد الاستعمار الأمريكي، وهي الوطنية الأصلية، في مقابل القومية على النموذج الغربي. وما أيسر أن تتحد هذه الوطنية بتراث الأمة، وهو التقليد الشائع في مصر والمغرب والشام، وعند الأفغاني واضع شعار «مصر للمصريين»، والحزب الوطني عند مصطفى كامل، والطهطاوي والكواكبي وكل زعماء الإصلاح.
- (٤)
بدايات الإسلام الثوري والنهضة الإسلامية النشطة، وظهور الإسلام السياسي كتيار أساسي، خاصة بعد الثورة الإسلامية في إيران، وإمكانية هذا التيار في الجمع بين التيارات الإسلامية الإصلاحية والاتجاهات اليسارية الجذرية والاتجاهات الوطنية، وبالتالي تتحقق وحدة الأمة في الإسلام والثورة وفي التراث والتجديد.
- (٥)
رفض التغريب والإحساس المتزايد بسلبيات الثورة التركية، واكتشاف مخاطر القومية التي مزقت الدولة وقضت على وحدة الأمة. والدفاع عن صورة تركيا الإسلامية التي طالما شوهها الغرب فجعلها مرادفة للتعصب والجهل والخرافة والجنس والحريم والدسائس والمؤامرات والقسوة.
- (٦)
العودة إلى وحدة الأمة الإسلامية والتقارب مع العرب، وقطع العَلاقات مع إسرائيل، وتفهم العرب لقضية قبرص التي فتحها المسلمون أيام عمر بن خطاب والتي كانت إسلامية مئات السنين. وما زالت لتركيا في قلوب العرب مكانة خاصة في حياة الناس اليومية.
ثامنًا: خاتمة
إن الإسلام في مطلع القرن الخامس عشر الهجري في قلوب المسلمين لَيستأنف دورة جديدة بدأت في الإصلاح الديني في القرن الماضي على يد الأفغاني، دورة بعث جديدة يتحول فيها الإسلام من مشاعر تربط الأمة إلى طاقة مولِّدة لحركة الجماهير الإسلامية، فتتغير نظمها القائمة بعد أن ظهرت حدود الأيديولوجية الغربية العلمانية والقومية الليبرالية. لقد انتشر الإسلام في أوله بين قوتين كبيرتين: الفرس والروم، وانتصر عليهما واحتواهما، وافترش أرضهما، وتمثَّل ثقافتيهما، وعرَّب شعوبهما كقانون للتاريخ. فقد كان الإسلام تحمله طليعة ثورية استطاعت تجنيد الجماهير الإسلامية والتحرك نحو تحقيق رسالة التوحيد، بينما كان الفساد والتفكك يدب في عُرى القوتين الكبيرتين في ذلك الوقت بقيادة تتمتع بمظاهر الحكم والبذخ تحكم أغلبية مطحونة وبتوجيه من عقائد عنصرية وقومية.
إن إمكانيات الأمة الإسلامية لا حدود لها، سواء في الفكر أو في الواقع. فلديها «التوحيد» كعنصر جامع وعامل موحد، ينبثق عنه نظام يكفي المسلمين في تنظيم حياتهم. كما أن لديها ثروات في باطن الأرض، ومواقع جغرافية، وإمكانيات بشرية، وتاريخًا طويلًا، يؤهلها إلى أن تُبعث من جديد في دورة ثانية للتاريخ أمام قوتين عظميين: الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، حيث بدأت في الأولى أصوات المعارضة، والاضطرابات، والتخلي عن الأيديولوجية الثورية الأولى، وتحكُّم مصلحة الدولة دون مقتضيات الثورة. وبدأت في الثانية أزمة الرأسمالية في الإنتاج والموارد الأولية والتسويق والطاقة وفي المشروعات القومية والاستراتيجيات الحضارية والمبادئ العامة والقيم. وبدأ المفكرون يحذرون من انهيار الغرب، وانتحار الغرب، وأزمة المجتمع الصناعي المتقدم، ونهاية المجتمع الاستهلاكي. فعاصر المسلمون اليوم بوادر انهيار القوتين العظميَيْن في نفس الوقت الذي بدت فيه بوادر نهضة المسلمين الثانية. فأصبح المسلمون اليوم في نقطة تحول في تاريخ البشرية كلها.
ولكن التاريخ لا يتحرك من تلقاء نفسه، ولا يتحرك إلا بتدخل العنصر البشري فيه، من خلال عمل الأفراد وحركة الجماهير، وإلا أصبحت قوانين حركة التاريخ فارغة بلا مضمون. وقد بدأ المسلمون في أجيالنا هذه تحويل إمكانياتهم الحضارية والمادية إلى عمل وحركة ونشاط وممارسة، يدفعون حركة التاريخ ويجعلون أنفسهم مادة قانونه ومضمون صراعاته.
إن الإسلام قادر على أن يعطي المسلمين الهُوية السياسية، وأن يُمدهم بنظام اجتماعي يجدون فيه خلاصهم مما هم فيه من ضنك وبؤس وفقر، ونظام عقائدي يبدلهم من بعد خوفهم أمنًا، وينقلهم من التخلف إلى التقدم، ومن الثبات إلى الحركة، ومن الوراء إلى الأمام، ومن الخلود إلى التاريخ.
ولقد كانت آسيا بالنسبة إلى الإسلام رصيده البشري في بداياته الأولى. وهي أيضًا كذلك في بداياته الثانية. ففي آسيا يسود التوحيد الطبيعي، وتنتشر فكرة «الوحدة» في جميع دياناتها، وحيث توجد الدولة في شعور الجماهير، فالمواطن يؤمن بالله، وينتسب إلى دولة، ويظهر الزعماء والقادة من أجل تحويل فكرة الواحد إلى دولة على الأرض بفعل الجماهير. لذلك كان تراث تيمور وجنكيزخان وهولاكو تراثًا وطنيًّا في آسيا الوسطى، ممثلةً في «أوزبكستان»، أي الواحد الذي يحرك الجماهير مرة إلى الشرق إلى حدود الصين، ومرة إلى الغرب، المشرق العربي. كل ذلك يجعل من آسيا ومما تمثله من رُوح وطبيعة وثقافة وحضارة وتاريخ وتراث قومي، في مقابل أوروبا التي طالما غزت المسلمين في تاريخها الحديث.
يستطيع المسلمون في مطلع القرن الخامس عشر أن ينهض طائرهم من جديد بجناحهم الآسيوي في الشرق وجناحهم الأفريقي في الغرب وجسده في العالم العربي، وقلبه في مركزه. فلربما نهض العالم كله معه، فيصبح المسلمون كما كانوا صُنَّاعًا لبشرية جديدة.
أُلقيت خلاصة هذا البحث كمحاضرة في النشاط الثقافي لمنظمة تضامن الشعوب الآسيوية والأفريقية يوم الأربعاء ٩/ ١ /١٩٨٠م في دار كتاب آسيا وأفريقيا «جمعية الأدباء»، وإثر زيارتي لأفغانستان وللجمهوريات الإسلامية بالاتحاد السوفييتي في نوفمبر ١٩٧٩م.