نشأة الاتجاهات المحافظة في وطننا العربي الراهن

إنه ليعز على الإنسان حقًّا مصير الثورة العربية في مصر. فقد بدأ الأمل في قلوبنا جميعًا منذ حوالي ربع قرن من الزمان، وتوالت انتصاراتنا، الواحد تلو الآخر، منذ القضاء على المَلَكية، وانسحاب جيوش الاحتلال، وتأميم قناة السويس، واندلاع ثورة العراق في تموز/يوليو، وإنشاء أول محاولة وحدوية في تاريخ العرب الحديث (الجمهورية العربية المتحدة)، ثم قوانين يوليو الاشتراكية في ١٩٦١م، ثم الوقوف أمام الأحلاف الاستعمارية، حلف بغداد قديمًا والحلف الإسلامي حديثًا. ولكن أتت هزيمة حزيران/يونيو كأكبر صدمة في تاريخ العرب الحديث بعد ضياع فلسطين ونشأة إسرائيل في أيار/مايو ١٩٤٨م. وظننا أن شباب الثورة العربية قد عاد بثورة الفاتح من أيلول/سبتمبر ١٩٦٩م في ليبيا. ولكن اختفاء عبد الناصر عن الساحة العربية منذ عشر سنوات تقريبًا جعلها تخوض معركة البقاء دون زعامة قادرة على توحيدها واستمرار نضالها.

ثم بدأت المصائب تتوالى، وذلك ابتداءً من القضاء على اليسار الناصري في مايو ١٩٧١م في الدولة وفي الحرب، ثم الانفصال عن الحليف التقليدي للثورات العربية بطرد الخبراء السوفييت من مصر في ١٩٧٢م، والوقوع في أزمة التسليح، ثم عدم استثمار حرب تشرين الأول/أكتوبر وضياع نتائجها والتلاعب بها على مسرح السياسة الدولية، ثم بداية الانفتاح الاقتصادي وضياع الإنجازات الاشتراكية، ثم تكوين جسور بين مصر وإسرائيل من خلال الاشتراكية الديمقراطية وبمساعدة الاشتراكية الدولية حتى يتم تجاوز التناقض بين القومية العربية والصهيونية من خلال وحدة المذهب السياسي. ثم زيارة القدس، وأخيرًا الصلح مع إسرائيل والاعتراف بوجودها والتسليم بالصهيونية كفكرة وكواقع، والأراضي العربية ما زالت محتلة، والأطماع التوسعية الصهيونية ما زالت قائمة نظرًا وعملًا، وحقوق شعب فلسطين ما زالت شعارًا خافتًا. ومن يدري ماذا يخبئ لنا القدر في السنوات القادمة، وإلى أي مدًى تنحسر إليه الثورات العربية؟

ويبدو أن هناك خطة دولية لمعاقبة المنطقة، وللتكفير عن الناصرية ومعاداتها للاستعمار والرأسمالية والصهيونية والرجعية، ومحاولتها تحقيق مشروع قومي يقوم على الحرية والاشتراكية والوحدة، وكأن المراد هو الإيعاز إلى شعوب المنطقة بأنه خلال الثورات العربية تحت زعامة ناصر، خسر الوطن العربي أكثر مما كسب، واحتُلت أراضيه. ولن يكسِب الوطن العربي وتتحرر أراضيه إلا بعد التخلي عن مشروعه القومي فيصبح مواليًا للاستعمار وحليفًا للصهيونية، وعميلًا للرأسمالية الدولية، تحت زعامة الرجعية العربية. وتبدو لنا الناصرية اليوم التي كنا نعاني أيضًا من مثالبها، وعلى رأسها غياب الحرية والديمقراطية، وكأنها أزهى فترات حياتنا، وكأنها الآن بالنسبة لنا مطلبٌ بعيد المنال، نتمنى تحقيقه من جديد أو الرجوع إليه إذا ما عاد التاريخ إلى الوراء.

وتحت السطح تبدو المأساة أعظم؛ إذ انقلبت هذه الانتكاسات في نُظم الثورة وأهدافها إلى رِدة أعظم في أبنية الناس الذهنية ومكوناتها النفسية. فنشأت اتجاهات محافظة في الحياة العامة، وأصبحت هي المسيطرة على أذهان الناس وسلوك الجماهير، تستغلها السلطات السياسية من أجل تدعيم الانتكاسات الثورية وتنظيرها حتى نتساءل: هل تنقلب الثورات العربية بعد ربع قرن من الزمان وبعد إلهاب الناصرية لمشاعر ملايين العرب من المحيط إلى الخليج إلى عكس ما كانت تهدف إليه؟ صحيح أنه تحدث في الثورات انتكاسات جزئية ورِدة نسبية، ولكن لم تنقلب الثورات إلى نقيضها كما انقلبت ثوراتنا، بل إنها أصبحت رائدة الثورات المضادة في العالم، ومناهضة لجميع حركات التحرر التي تولدت من الثورات العربية في بدايتها.

والسؤال الآن: ما هي أصول الاتجاهات المحافظة السائدة في عالمنا العربي الراهن، خاصة في مصر، وما هي أسبابها ومصادرها؟ ليس السؤال المطروح هو: أيهما أسبق، الانتكاسات الثورية في الواقع العملي أم الاتجاهات المحافظة في الأبنية النظرية؟ أيهما علة وأيهما معلول؟ بل السؤال هو: كيف نشأت هذه الاتجاهات المحافظة في وعينا القومي بالرغم من وجوده في ثورة دامت حوالَي ربع قرن من الزمان؟ وإذا كان لا بد من الإجابة على السؤال التقليدي عن العلة والمعلول فإننا نرى أن وجود القوالب الذهنية والمكونات النفسية الموروثة التي لم تتغير بتغير الأنظمة الاجتماعية الخارجية هي التي دفعت بالاتجاهات المحافظة للظهور في اللحظة التي اختفت فيها الزعامة الثورية، وكأن ثورية القمة تستلزم بالضرورة ثورة القاعدة، وكأن أخطر ما يهدد أية ثورة هو ثورية السلطة وتقليدية الجماهير.

ويمكن تحديد نشأة الاتجاهات المحافظة في الوطن العربي الراهن، وخاصة في مصر، بأربعة مصادر ساهمت جميعها متجمعة في نشأة هذه الاتجاهات في حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وفرضت نفسها علينا في حياتنا الخاصة والعامة.

أولًا: المحافظة الدينية

لا تعني المحافظة الدينية أن الدين يحتوي على المحافظة، بل يعني نشأة المحافظة بسبب وضع الدين الذهني والاجتماعي والسياسي؛ وذلك أن الدين في البلاد النامية هو تراثها الشعبي الذي يمدها بقيمها ويحدد أنماط سلوكها، وهو يقوم بنفس الدور الذي تقوم به الأيديولوجيات في البلاد المتقدمة. فالدين هو موروث نفسي عند الجماهير، يوجهها ويحدد تصوراتها للعالم، ويعطيها بواعث للسلوك. ولقد أتت الثورة منذ ربع قرن بالمبادئ الستة: القضاء على الاستعمار، والقضاء على المَلَكية، والقضاء على الإقطاع، وإقامة جيش قوي، وإقامة عدالة اجتماعية، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة. وظلت هذه المبادئ الستة بلا أساس ديني صريح، تعبيرًا عن الأماني الوطنية لكافة الفئات الاجتماعية. واكتفت مواثيق الثورة، وعلى رأسها «الميثاق»، ببيان أن الدين في جوهره حركة تقدمية تهدف لصالح الإنسان وخير الجماعة دون أن تطور المفاهيم الدينية وتجعلها حاملة لأهداف الثورة، فظل الدين قائمًا في وجدان الناس بلا تحديث من الداخل، وبلا تغيير للقوالب الذهنية التقليدية. فكان من السهل بعد أن يضعف المد الثوري ويبدأ الجزر المضاد للثورة، بعد أن تغيب الزعامة الثورية وتحل محلها زعامة مضادة للثورة، أن تظهر الأعماق التقليدية بعد غياب السطح الثوري، وأن تنطلق القوالب الذهنية والمكونات النفسية الدينية الموروثة في غياب الرقيب الثوري فتظهر المحافظة وتبدو للعِيان. فهي لم تنشأ من عدم، ولم تتخلق بفعل اللحظة، ولكنها كانت موجودة بالفعل كتيار تاريخي أساسي سائد منذ أكثر من ألف عام، منذ انتهاء عصرنا الذهبي القديم واختفاء العقلانية التي مثَّلها الاعتزال منذ القرن الثالث الهجري وضياعه بعد المحنة، وبعد هدم الغزالي للعقل في القرن الخامس والقضاء عليه قضاء مبرمًا. ولم تفلح بارقة ابن رشد في إعادة التيار نظرًا لبعده عن قلب العالم الإسلامي، في الأندلس، ذلك الصقع البعيد، ونظرًا لحصار ابن رشد ذاته من الفقهاء، وتحريم كتبه. ولم تنتج البارقة إلا في الغرب عند الرشديين اللاتين. نشأ المذهب العقلاني الطبيعي في العصر الوسيط المتأخر والذي أصبح فيما بعد أحد روافد النهضة الحديثة في الغرب. لم تنجح الثورة إذن في معالجة هذه المحافظة الكامنة؛ لأنها لم تحاول على الإطلاق وتركتها راسخة في نفوس الناس حتى عادت من جديد وبشكل طبيعي في الظهور بعد انحسار المد الثوري باختفاء الزعامة الثورية وتغييرها بزعامة محافظة، فظهرت المحافظة الكامنة متفقة مع المحافظة الظاهرة، وحدث الوئام بين محافظة القاعدة ومحافظة القمة. وامتدت المصالح بين المحافظة كمكون نفسي عند الناس مع المحافظة في قمة السلطة السياسية. وهو ما يفسر التأييد الشعبي لكل ما تفعله السلطة السياسية بصرف النظر عن نوعية القرار حربًا كان أم سلامًا، اشتراكية كان أم رأسمالية، ثورة كان أم ثورة مضادة.

لم تفعل الثورة أكثر من أنها استخدمت الدين دفاعًا عن ذاتها. وتثبيتًا لأركانها. فقد ذهب عبد الناصر والضباط الأحرار معه بعد اندلاع الثورة إلى رجال الأزهر طلبًا لتأييدهم طبقًا لتاريخ مصر منذ الحملة الفرنسية، وتعاون رجال الجيش مع علماء الدين في مواجهة الاحتلال الأجنبي. ثم استعمل عبد الناصر تاريخ الإسلام بعد ذلك أيام الوحدة مع سوريا من أجل بيان أن وحدة مصر وسوريا كانت هي الدرع الحامي لحمى الإسلام أثناء الحروب الصليبية، في وقت لم تكن القومية العربية قد تحولت إلى ركن رئيسي في أيديولوجية الثورة المصرية. وأخيرًا استعمل عبد الناصر رجال الدين بعد قوانين يوليو الاشتراكية سنة ١٩٦١م، للدفاع عن الاشتراكية باسم الإسلام بعد أن شنت السعودية حملة شعواء على الناصرية التي تمثل بالنسبة لها خطرًا على العرش وتهديدًا مباشرًا للنظام الملكي وبديلًا أمام الجماهير العربية في السعودية وخارجها عن الإقطاع العائلي. قابل عبد الناصر الهجوم على الاشتراكية باسم الدين من خارج مصر بالدفاع عن الاشتراكية باسم الدين من داخل مصر، وجَنَّدَ لذلك علماء الأزهر وأئمة المساجد وأساتذة الجامعات ورجال الصحافة والإعلام بوجه عام وخرجت عشرات الكتب ومئات المقالات عن الاشتراكية والإسلام. حدث ذلك كله بين ١٩٦١م، و١٩٦٤م. فلما هدأت الهوجة وتمت المصالحة بين السعودية ومصر، وبين فيصل وعبد الناصر، انتهى الجدل. ظلت معركة الإسلام والاشتراكية معركة بين نظامين، وصراعًا بين زعيمين، كل منهما يستأجر عماله، يُصدِرون لهما ما يودان من فتاوى، ومجموع الشعب لا يهمه الأمر في شيء؛ فقد كانت معركة احترافية مهنية من أجل الصراع على السلطة والحفاظ على الزعامة، ولكن لم تتحول الجماهير في مصر إلى إسلامية اشتراكية، ولا في السعودية إلى إسلامية رأسمالية، وظلت الجماهير في كلا البلدين محافِظة تقليدية بنفس القوالب الذهنية القديمة، ونفس المكونات النفسية الموروثة. وهو ما سُمي فيما بعد، بعد اختفاء الزعامة الثورية، الإسلام العقائدي الشعائري الغربي الرأسمالي. والحقيقة أن الأمر ليس كذلك. بل ظهر الإسلام التقليدي في مصر بعد اختفاء الزعامة في مصر التي مثلها عبد الناصر، بانتشار الإسلام السعودي في مصر الثورية، وتَقابُلِه مع الإسلام التقليدي في السعودية، وفي أرجاء أخرى من العالم الإسلامي، قبل اندلاع الثورة الإسلامية التقدمية في إيران.

بل إن الثورة قد اصطدمت مع الاتجاهات الدينية التحديثية مثل الإخوان المسلمين، بسبب الصراع على السلطة وليس بسبب اختلافهما في تفسير الدين. فقد كان هناك اتصال وثيق بين الضباط الأحرار والإخوان المسلمين قبل الثورة، وكان الإخوان على علم بالثورة قبل وقوعها، وكان الاتفاق أن يقوم الإخوان بحراسة المباني والمنشآت العامة والسفارات والمصالح الحكومية ليلة الثورة وبعدها، وأن يقدموا للثورة بعد نجاحها كل عون شعبي ممكن. بل كان نصف مجلس قيادة الثورة الاثني عشر ممن كان له صلة مباشرة أو غير مباشرة بالإخوان. وكان الإخوان يتلقَّون التدريب العسكري على يد الضباط الأحرار، والضباط الأحرار يتلقون المشورة الوطنية من الإخوان. ولكن كان الصراع على السلطة هو المقتل الذي فرقهما وأدى بهما إلى الصراع قبل اندلاع الثورة عندما أراد الإخوان ضم الضباط الأحرار وجعلهم شعبة عسكرية للجماعة. ورفض عبد الناصر ذلك واعتبره وصاية على تنظيمه المستقل. ثم نشأ الصراع بعد الثورة عندما أراد الضباط الأحرار الاستئثار بالحكم والانفراد بالسلطة. فلما قاوم الإخوان معاهدة الجلاء سنة ١٩٥٤م التي كانت تعطي لبريطانيا حق العودة إلى منطقة قناة السويس واستعمال المطارات المصرية في حالة الحرب حدث الصدام. وعاد الصدام في ١٩٦٥م، واستُشهد سيد قطب كما استُشهد من قبل عبد القادر عودة، وكان كلاهما يُناط به التحديث؛ التحديث الفكري والاجتماعي عند سيد قطب، خاصة فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية في الإسلام، والإسلام بين الرأسمالية والاشتراكية، والإسلام والسلام العالمي؛ والتحديث القانوني التشريعي عند عبد القادر عودة، خاصة فيما يتعلق بالتشريع الجنائي في الإسلام. انتهت إمكانية التحديث عند الإخوان بالقضاء على الإمامين المذكورين، واستحالة تطوير الدعوة سواء عند الرائدين أو عند تلاميذهما، ونشأة يسار إسلامي داخل الدعوة. وظلت الدعوة على مدى ربع قرن، وهو عمر الثورة، أسيرة الجدران، ينمو فكرها في ظلمات السجون، فتحجر وتعصب وتصلب وحقد، وانزوى وانطوى وكفَّر كل مخالفيه، وأصبح بينه وبين الناصرية ثأر شخصي تستحيل معه المصالحة أو المغفرة. ومن ثَم قويت المحافظة الدينية بهجوم الثورة عليها، وأصبح بين الدين والثورة عداء مستحكِم وثأر لا يمحوه إلا الثأر بانقضاض الدين على الثورة كما انقضَّت الثورة على الدين.

وقد سمحت خلافة عبد الناصر بهذا الانقضاض نظرًا لتشابك المصالح بين هذه الخلافة والإخوان، فكلاهما يود محو الناصرية. ومن ثم ظهر الإخوان واستأنفوا نشاطهم العلني، وتغاضت السلطة عن الأمر ما دام في عداء كليهما للناصرية صالح مشترك، بل واستعملت السلطة الدعوة الإسلامية على يد «الجماعة الإسلامية»، الشكل التنظيمي الجديد للإخوان، لضرب الناصرية وجميع الاتجاهات التقدمية. ونجحت في ذلك في الجامعات وبين الشباب، دون أن تعِيَ الجماعة الإسلامية دروس الماضي، ورفض الإخوان الدخول في جبهة وطنية أثناء لجنة الطلبة والعمال في ١٩٤٧م ضد القصر والإنجليز، بل عادى الإخوان هذه الجبهة فتفتتت الوحدة الوطنية. ومع أن محاولات الجبهة قد عادت لفترة قصيرة أثناء أزمة مارس/أذار ١٩٥٤م، ولكن الثورة سارعت بالانقضاض على الفريقين: اليسار الماركسي واليمين الديني، حتى تخلو لها الساحة الوطنية. وقد تم لها ذلك بالفعل حتى انتفاضة اليسار الماركسي من جديد في ١٩٥٩م أثناء معركة عبد الناصر وخروتشوف، وانتفاضة اليمين الديني في ١٩٦٥م. ولما تم للنظام الجديد في مصر بعد عبد الناصر ضربُ اليسار باستعمال الجماعة الإسلامية حتى كادت أن تختفي الناصرية والتقدمية بين الشباب بعد أن كانت مزدهرة في أوائل السبعينيات. وبعد توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، وبعد ثورة إيران، شعرت السلطة بخطورة الجماعة الإسلامية فتوجهت إليها بالتحريم والقمع، وأصبح أصدقاء الأمس أعداء اليوم، وعاد الأمر كما بدأ في أول الثورة، تحريم الاتجاهات الإسلامية المناوئة للنظام القائم.

ونظرًا لعدم رغبة الجماعة الإسلامية في الدخول في معارك مبكرة مع النظام القائم، بعد تعلمها الدرس من حكم عبد الناصر ودخول الإخوان معه في معركة مبكرة أطاحت بالدعوة أكثر من ربع قرن، فقد ركزت الجماعة على الدين الشعائري: الصلاة والصيام والزكاة والحج، والمطالبة بمُصلَّيات بالجامعات وبالزي الإسلامي وإطالة اللحى، وأذان الصلوات، والصلوات الجماعية حتى ولو أثناء المحاضرات، وتحرير مَجلات الحائط واليافطات الإسلامية، وإقامة معارض الكتب الإسلامية أو دعوة بعض المحاضرين من أئمة الإخوان السابقين أو من المشايخ المعاصرين لإلقاء بعض المحاضرات عن الإسلام. فالمحافظة الدينية هنا، وإن كانت هي الأساس الفكري للاتجاهات الإسلامية، أصبحت أيضًا خطة مقصودة من أجل موالاتها للسلطة وموالاة السلطة لها.

هذا بالإضافة إلى أن الإسلام المظهري أكثر جذبًا للأنظار ولجذب الشباب الذي تستهويه المظاهر من أجل الإعلان عن الذات وتأكيدها في غياب أية أيديولوجية أخرى مطروحة بعد حصار الناصرية والتقدمية في الجامعات. وبدت الاتجاهات الإسلامية مسيطرة على الشباب نظرًا لنشاط الصفوة منها ونظرًا لعدم وجود أي بديل آخر مطروح. ومع ذلك ظلت دائرة منعزلة لا تحظى بتأييد جماهيري وإن بدت أكثر مما هي عليه في واقع الأمر.

وفي هذا الجو الذي تغيب فيه الممارسة السياسية السوية للجميع، وتنقصه رُوح الديمقراطية والتعبير عن الرأي الحر، وفي غياب أية أيديولوجية تقدمية، بدأت المزايدة في الإيمان، وظهرت الجماعات الدينية المتطرفة تستعمل نفس السلاح الذي تستعمله السلطة وهو تكفير فِرَق المعارضة، والدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، والتركيز على الإيمان ضد الإلحاد، والإكثار من مظاهر الهوس الديني في أجهزة الإعلام. خرجت جماعة «التكفير والهجرة» كجناح يميني للجماعة الإسلامية التي هي في أصلها الجناح اليميني لجماعة الإخوان، لتقسم المجتمع إلى قسمين: مجتمع الإيمان ومجتمع الكفر، وتطالب بتكوين مجتمع المؤمنين خارج مجتمع الكفار، وتحرِّم تعامل الأول مع الثاني، وتكوِّن جماعة مغلقة تدين بالطاعة المطلقة لأمير الجماعة ولا ترى حرجًا في التصفيات الجسدية للخصوم، وتطبق شريعة المجتمع المغلق، في أحكام المصاهرة والمعاملات المدنية.

توقف التحديث الديني في عمر الثورة على مدى ربع قرن، ولم يستمر الإصلاح الديني أو يتطور منذ مائتي عام، وانقطع ما أراده حسن البنا من استمرار لجريدة المنار بعد وفاة مؤسسها رشيد رضا في سنة ١٩٣٥م. وبعد أن ارتفع قوس الإصلاح الديني على يد الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي هبط من جديد على يد رشيد رضا وحسن البنا والجماعة الإسلامية. بل إننا تراجعنا عن مكتسبات الإصلاح، فعُدْنا أشعريةً في التوحيد والعدل بعد أن استطاع الإصلاح أن يكون معتزليًّا في العدل مثْبِتًا قدرة العقل على الوصول إلى حقائق الأمور، والتمييز بين الحسن والقبيح، ومثبتًا القدرة على الأفعال، والاختيار الحر، ومؤكدًا قانون الاستحقاق. تراجعنا عن ربط الأفغاني العقائد بحياة الشعوب، ومحاولته إعادة بناء العقائد بحيث يستطيع بها مواجهة الاستعمار والتخلف والطغيان وتحقيق رقي الشعوب وتقدمها. وتراجعنا عما بدأه الكواكبي من رفض للفتور عند المسلمين والوقوف أمام الاستبداد والاستعباد. وعادت المرأة متحجبة، وعاد الصراخ إلى الحكم الديني بعد أن قطعنا شوطًا طويلًا من الليبرالية والاتجاهات العقلانية، والدعوة إلى إقامة الدولة الحديثة على الحرية والديمقراطية، والدستور والحياة النيابية. وتركنا الوطنية بعد أن خرجت الوطنية من جبة الأفغاني، فهو الذي وضع شعار «مصر للمصريين»، وبعد أن خرجت أيضًا من عمامة الطهطاوي، وهو واضع شعار «حب الوطن من الإيمان». رجعنا إلى الجماعة الدينية التي تلفظ الوطنية والقومية وتعتبرها هرطقات وكفرًا وتبعية للغرب.

أما المؤسسات الدينية فإنها ظلت على ما هي عليه منذ انتهاء الخلافة الإسلامية وبداية الدولة الأموية، يقطنها رجال الدين ويأتمرون بأمر السلطان رهبة أو رغبة، خوفًا أو طمعًا، حتى تحولوا أيام المماليك إلى موظفين رسميين في الدولة ففقدوا استقلالهم كلية، وفقدوا شروط الاجتهاد والاستفتاء. ولم تنفع المحاولات الفردية لرفض الطاعة للنظام، فما جزاء هؤلاء إلا الفصل أو التعذيب، وبالتالي فقد رجال الدين قدرتهم على التحديث. ولما كان فاقد الشيء لا يعطيه فقد بشروا بالإسلام العقائدي الشعائري، فانتشر الإسلام المظهري لدى الناس، وانحسر الدين عن حركة الشارع. وقد تبنت السلطة أخيرًا هذا الموقف رسميًّا، فأعلنت أنه لا شأن للدين بالسياسة أو للسياسة بالدين، فالدين للعبادة، والسياسة لرجال السياسة، وعلى أكبر تقدير يكون الدين عقيدة، أي فلسفة نظرية لا شأن له بالممارسات العملية. فإذا انحسر الدين عن الحياة مات واندثر، وتحولت المحافظة إلى تخلف وإلى مجرد مأمن متحفي. وجاء التحذير لرجال الدين: إياكم أن يظهر فيكم خُميني! وانتشر خبر في الصحف عن نية الحكومة رفع مرتبات رجال الدين بعد انتصار الثورة الإيرانية في إيران، حتى لو فكر أحدهم في حذو المثل أُعيد شراؤه واستيعابه داخل المؤسسة الدينية. كما تقوم هذه المؤسسة بإدانة كل من يخرج على النظام سواء باسم الدين أو باسم الشعب، وتنتقي من التاريخ الإسلامي الشواهد التي تؤيد قرارات السلطة السياسية، وتستخرج من القرآن والحديث مبررات لكل ما يفعله النظام السياسي، خاصة إذا ما كان في حاجة إلى مثل هذه المبررات حين يبدأ الهجوم عليه من الخارج، كما حدث بعد زيارة القدس، ومعاهدة كامب ديفيد، وأخيرًا معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل. فبالرغم من أن الصلح مع إسرائيل محرم شرعًا نظرًا لاحتلالها أراضي المسلمين إلا أن رجال الدين سرعان ما أخرجوا: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا» دون حتى معرفة بمعنى الشرط، وإسقاطه، وجعل السلم بلا قيد أو شرط. وبالرغم من أن المؤسسة الدينية لا تحظى بأية ثقة شعبية، يتهكم الناس عليها ويتندرون برجالها نفاقًا وتخلفًا وفسادًا، إلا أنها ظلت سلاحًا تستعمله الاتجاهات المحافظة، سواء في السلطة أو خارجها، ضد كل الاتجاهات التقدمية المعارضة.

ثانيًا: المحافظة العلمانية

تعني المحافظة العلمانية المحافظة التي نشأت بسبب انتشار العلمانية في ثقافتنا المعاصرة وعدم استجابة وعينا القومي لها استجابة كاملة، في نفس الوقت الذي تحاصرها فيه أجهزة الإعلام، وتندد بها السلطة، وتتهمها بالكفر والإلحاد، وتعتبرها أفكارًا مستوردة لا تعبر عن قيمنا وترابنا وأرضنا وتاريخنا وتراثنا. فقد حدث أن انتشرت أفكار الحرية والديمقراطية والاشتراكية منذ بداية التيار العلماني الغربي في فكرنا الحديث على يد شِبلي شُميِّل وفَرَح أَنطُون وأديب إسحق ونِقولا حدَّاد ويعقوب صَرُّوف وولي الدين يَكَن وإسماعيل مظهر وسلامة موسى. ومن الأحياء د. زكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وجميع ممثلي روافد الفكر الغربي في حياتنا المعاصرة الذين استطاعوا الانتشار خارج الجامعات وإحداث تأثير على الشعوب والترويج لهذه التيارات الغربية باعتبارها تمثل حركات إصلاحية تحديثية مثل العلمية (د. فؤاد زكريا) والوضعية المنطقية (د. زكي نجيب محمود) والوضعية الاجتماعية (عبد العزيز عزت) والماركسية (د. الطيب تيزيني، د. صادق جلال العظم) والوجودية (د. عبد الرحمن بدوي وزكريا إبراهيم) والشخصانية (د. الأحبابي، حبشي) وفلسفة الظواهر (أدونيس) … إلخ. لم تستطع كلها أن تؤثر على الجماهير بنفس الدرجة، ولم تستطع كلها أن تتحول إلى فكر شعبي بنفس القوة، وظل أشهر التيارات: العلمية الوضعية والماركسية، أما المثالية الغربية فلم يحدث رد فعل عليها نظرًا لأنها تقوم على الدين والإيمان وتؤمن بما وراء الطبيعة وخلود النفس، وتنحو نحوًا صوفيًّا حدسيًّا إشراقيًّا بما يتفق وعقائد الجماهير وتراثهم الشعبي. ولكن الإشكال كان مع التيار العلمي الوضعي. والتيار الماركسي.

يبدو إذن أن التحديث من الخارج عن طريق مذاهب منقولة عن الغرب يسبب سرعة حصارها وتشويهها والقضاء عليها بعد تحديد أثرها واتهامها بالكفر والإلحاد أو الشيوعية. صحيح أن الحضارات تتفاعل فيما بينها. وقد أخذنا قديمًا وأعطينا من الحضارات المعاصرة لنا وإليها. بل إن الأخذ هو شرط العطاء. فلولا الصياغات العقلية اليونانية لعقليتنا الإسلامية القديمة ما استطعنا أن نعطي للغرب عقلانيتنا المتميزة فينهض ويتحرر من عصره الوسيط الإيماني. ولولا أخذنا من الهند الحساب والأعداد لما استطعنا أن نعطي للغرب الجبر وحساب المعادلات. ولولا أخذنا من الهند الحساب والأعداد لما استطعنا أن نعطي للغرب الجبر وحساب المعادلات. ولولا أخذنا من أبقراط وجالينوس الطب لما استطاع أن يعطي ابن سينا وابن رشد للغرب الطب العربي. ولكن القدماء كانوا يعيشون في مجتمع متقدم، وكانوا على ثقة بحضارتهم وبأنفسهم وبانتصارهم، فلم يتورعوا عن الانفتاح الثقافي على الحضارات الأخرى، وتمثلوا، وخلقوا. ولكن الأمر يختلف اليوم، فنحن نعيش في مجتمع متخلف مهزوم، فاقد الثقة بنفسه، يأخذ أكثر مما يعطي، وينقل أكثر مما يخلق، فكان من الطبيعي أن تقوم المحافظة الأساسية في وجدان الشعب المستمرة منذ أكثر من ألف عام بلفظ هذه الأجسام الغربية المنقولة قسرًا، دفاعًا عن الأرحام، وحرصًا على الأصالة، وتأكيدًا على النقاء والشمول. وكلما زاد المنقول وظهر أثره اشتدت حركة الرفض له، وزادت المحافظة قوة وعمقًا.

ولما كانت هذه المذاهب المنقولة محصورة في فئات المثقفين فإنها لم تتحول إلى تيارات شعبية وحركات جماهيرية واتجاهات وطنية. وقد قوَّى من هذا الحصار عزلة المثقفين الطبيعية، وعدم وجود ثقة مشتركة بينهم وبين الجماهير، سواء فيما يتعلق بالألفاظ مثل: المادية الجدلية، وقوانين الكيف والكم، وقوانين الحركة والطاقة؛ أو فيما يتعلق بالمصادر التاريخية مثل: هيجل وماركس أو نيوتن وبيكون وأينشتين. وقد قوَّى من ذلك أيضًا نظرة الجماهير إلى طبقة الأفندية الذين يمثلون بالنسبة لها الطبقة الحاكمة المسيطرة على أجهزة الإعلام، أو على الأقل القريبة من الحكام، والتي تستعمل لغتهم، والتي تستفيد أيضًا من اتصالها بالسلطة فيما يتعلق باللباس المهندم، والمسكن النظيف، والمرتب المرتفع، وربما العربة الكبيرة وكل مظاهر الوجاهة الاجتماعية. قد تشعر الجماهير بالنسبة لطبقة الأفندية بعقدة نقص لا شعورية تمنع من أن تستمع إليها، حتى ولو كان فيما تقول صالحها. كما قد يعطي المثقفون الجماهير سواء عن قصد أو غير قصد إحساسًا بمركب العظمة، فهم أصحاب الياقات البيضاء، وأهل العلم، وأصحاب الحظوة لدى السلطات، وعن طريقهم تُقضى المصالح، وتتحقق الوسائط، ويُبلغ المراد. وبالتالي نشأت أزمة ثقة بين الأفندية والجماهير حتى إنه لَيصعب أن تنشأ الزعامة بينها. فأصبح الأفندية زعماء بلا جمهور، والجماهير شعبًا بلا زعامة.

فإذا ما أحست السلطة بخطر البعض الذين استطاعوا إحداث أثر على أنصاف المتعلمين أو على طبقات العمال، وبالتالي اتسعت دائرة المثقفين خاصة في الجامعات التي ما زالت محور الحركة الوطنية في البلاد النامية، سَهُل استئصالهم بالقبض عليهم، وزجهم بالسجون واتهامهم بالكفر والإلحاد والترويج للمبادئ الهدامة المخالفة لتقاليد البلاد وميراثها التاريخي، فلا تتحرك الجماهير، وكأن الأمر كان صراعًا على السلطة بين الزمرة الحاكمة والأفندية الذين يودون مشاركتهم في الغنيمة. وبعد مدة من الزمن يدرك المثقفون أنه لا حيلة لهم أمام السلطة القائمة بشروطها إلا العمل من داخل النظام مما يؤكد للجماهير أن المثقفين والحكومة شيء واحد وإن اختلفا مؤقتًا على اقتسام الغنيمة. أو الهجرة والعمل من الخارج ضد النظام، مما يؤكد انعدام الأثر على الجماهير التي لا تقرأ الصحف الأجنبية، إما لعدم معرفتها بالقراءة، أو لمصادرتها، أو لصعوبة الحصول عليها. وما أسهل حصار هؤلاء أيضا واتهامهم بالعمل ضد الوطن بالتعاون مع جهات أجنبية معادية، فيتم عزلهم تمامًا عن الجماهير. أو العيش في صمت، يكتب المرء ويعود إلى أكاديميته الأولى التي لا يتجاوز أثرها أفرادًا معدودين، أو العيش في سلام داخل البلاد وخارجها يعيش ويدخر، ويترك النضال للشبان، ويكتفي هو باجترار الذكريات أو إعطاء النصح لهم إذا ما طُلب منه ذلك.

وبعد فشل التحديث من الخارج أمام الجماهير تبقى الساحة الفكرية خالية أمام المخزون النفسي الكامن عند الجماهير. فتظهر المحافظة الكامنة على السطح، ويبدأ رفض كل هذه المحاولات إما تلقائيًّا أو بتحريك من السلطة. ولكن يتفجر الغضب الشعبي ضدها وبالتالي يستحيل على المثقفين التأثير أو القيادة، وتصبح المحافظة التقليدية هي الاختيار الوحيد أمام الجماهير، الصامد أمام جميع المذاهب الوافدة، حتى ولو استغلت السلطة هذا المخزون القديم، وبالتالي تتقرب السلطة للشعب ويتقرب الشعب للسلطة ضد التحديث من الخارج أولًا وضد التحديث ككل ثانيًا، فالتناقض بين الشعب والسلطة تناقض ثانوي، في حين أن التناقض بين الشعب والسلطة من ناحية وبين المثقفين من ناحية أخرى تناقض أساسي.

إن السبب في سيادة المحافظة هنا يرجع إلى فشل التحديث العلماني، حيث إنه كان مجتث الجذور عن تراث الشعب، وإن كان ما يحمل من أهداف مثل العلمية والاشتراكية يعبر بصدق عن مطالب الأمة واحتياجاتها. ولكن هناك فرقًا بين أن تأتي هذه الأهداف من الخارج وبين أن تنبع من الداخل. فمثلًا إذا أردنا أن ندعو شعوبنا إلى تمثل النظرة العلمية في الحياة العامة، وتفسير الظواهر تفسيرًا موضوعيًّا للقضاء على نظرتنا الأسطورية للعالم التي تعتمد على الوهم والخرافة، فإنه يصعب الدعوة لذلك عن طريق نيوتن وبيكون وأينشتين؛ وذلك لأن هؤلاء لا يقبعون في المخزون النفسي عند الجماهير، ولكن يسهل ذلك عن طريق إحياء التيارات المماثلة في تراثنا القديم مثل التيار العقلاني عند المعتزلة، والتيار الطبيعي عند أصحاب الطبائع، كما يمكن بعث نظرات علمائنا القدامى في الرياضة والطبيعة وتحليل رؤيتهم للعالم. كما يمكن اللجوء إلى القرآن مباشرة باعتباره المصدر الأول لوعينا القومي في دعوته إلى العقل والنظر في الطبيعة وتسخيرها للإنسان. بذلك يتم التحديث، وتتحول المحافظة الكامنة في نفوس الناس والموروثة منذ أكثر من ألف عام إلى تحقيق طبيعي لمطالب الجماهير، فتتطور من تلقاء نفسها، ومن داخلها، فتتبخر، وتتحول إلى تقدمية في العلم وفي المجتمع، وتصبح المحافظة المتطورة أساس النظرة العلمية ودعامة البناء الاشتراكي. وبالتالي تتحقق أهداف العلميين والماركسيين ولكن بوسائل مختلفة. فبدل أن يتم التحديث عن طريق نقل المذاهب الغربية يتم عن طريق إحياء هذه المذاهب الكامنة في شعورنا القومي فتصبح بديلًا آخر عن المحافظة الموروثة، فتتصارع البدائل حتى ينتصر البديل الجديد باعتباره أكثر تحقيقًا لمطالب الأمة وأكثر دفاعًا عن مصالحها.

إن خطورة التحديث العلماني من الخارج هو إنكار المرحلة التاريخية التي تمر بها مجتمعاتنا وإسقاط المذاهب الغربية عليها طبقًا للمِزاج والهوى الشخصي للأفراد أو للفئات حتى أصبح واقعنا الثقافي ساحة متضاربة لجميع أنواع المذاهب الأدبية والفنية والسياسية والاجتماعية، وجعلنا من مثقفينا وأدبائنا وفنانينا وكلاء حضاريين لغيرنا. ويظن المحدَثون أن الترويج لآخر المذاهب وأحدث الصيحات يجعلهم أكثر تحديثًا من غيرهم، فينشأ لدينا الفن التجريدي والموسيقى الإلكترونية، كما تُروَّج لدينا البنائية ومسرح العبث … إلخ. ويصبح كل مثقف لدينا متخصصًا في مذهب، يُدعى إلى أجهزة الإعلام كمرجع متخصص، ويكون كمن يفتتح دكانًا ويرفض أية منافسة أخرى من دكان يريد أن يبيع نفس الصنف. قد تكون مجتمعاتنا في حاجة إلى عصر إحياء كالذي مر به الوعي الأوروبي في القرن الرابع عشر، والذي مررنا به نحن في القرن الماضي. قد تكون مجتمعاتنا في حاجة إلى إصلاح ديني مرت به أوروبا في القرن الخامس عشر، والذي بدأناه نحن في القرن الماضي دون أن نكمل الشوط إلى نهايته ودون أن نستثمر الإصلاح إلى أقصى حدوده. قد نكون في حاجة إلى عصر نهضة مرت به أوروبا في القرن السادس عشر من أجل التأكيد على حرية الإنسان في البحث وحقه في نقد الموروث وعدم التسليم بسلطة القدماء والاعتزاز بجسد الإنسان وبتحليل الطبيعة، وهو ما لم نجربه حتى الآن، مع أننا حاولنا على استحياء منذ القرن الماضي واختفت المحاولة إثر المد المحافظ في الآونة الأخيرة. لذلك يستبق البعض التاريخ عندما يُروِّجون للمذاهب العقلية المثالية الدينية في القرن السابع عشر الأوروبي، خاصة الديكارتية التي إن هي إلا حصيلة جهد طويل قبلها استغرق أكثر من ثلاثمائة عام. كما يستبق البعض الأحداث عندما يريدون تأسيس فلسفة تنوير شاملة كتلك التي حدثت في القرن الثامن عشر في الغرب. وذلك لأنها أيضًا حصيلة جهد طويل وصراع من أجل حرية الفكر دام أكثر من أربعة قرون. وقد يحاول البعض أن يستبق التاريخ ويروج إلى المادية التاريخية والجدلية والاشتراكية العلمية التي ظهرت فقط في القرن التاسع عشر الأوروبي، والتي كانت نهاية المطاف بالنسبة لتطور الوعي الأوروبي على مدى أكثر من خمسة قرون. إن فشل التحديث العلماني إنما يرجع إلى عدم الوعي بالمراحل التاريخية ونقل المذاهب الغربية وكأنها نشأت في فراغ وإعادة زرعها في تربة قد تكون غير صالحة المناخ والطين.

وأخيرًا، إن عملية التحديث لا يمكن أن تتم على نحو انتقائي جزئي نسبي، بل هي عملية تطوير شامل في حياة المجتمعات. قد يُحدِث التحديث الانتقائي الخارجي بعض الأثر في بعض نواحي الحياة، مثل إقامة معركة عسكرية على أساس من التخطيط العلمي السليم، ولكنه لا يحدث أثرًا مشابهًا في كل نواحي الحياة الاجتماعية. هذا التحديث الشامل لا يتأتى إلا عن طريق تطوير المخزون النفسي عند الجماهير الذي يمدها بالمحافظة كتيار تاريخي مستمر، ومَعِين لا ينضب. إن التحديث الجزئي سرعان ما تعصف به المحافظة الكامنة فتمحو أثره أو تسيء تأويله، كما حدث في تفسير عبور القناة بالمعجزات أو بمساعدة الملائكة من السماء. كذلك ستظل المحافظة كامنة في النفوس ما دامت لا تتحول برمتها في عملية التحديث إلى شيء آخر حتى تتخارج وتعيش في ميدان الوعي اليقظ فتتطور تطورًا طبيعيًّا، ومن ثم نَأمن من الرِّدَّة، ولا نقع من جديد في هُوَّة الماضي السحيق.

ثالثًا: المحافظة السياسية

تعني المحافظة السياسية المحافظة التي نشأت بسبب فشل التحديث السياسي إبان الثورات العربية الأخيرة. لم تنشأ المحافظة من السياسة مباشرة بل نشأت كرد فعل على عملية التحديث السياسي التي لم تَمَس جذور الشعب ووجدانه التاريخي. فلم تتجاوز المبادئ الستة في ١٩٥٢م، التي قامت الثورة لإعلانها، مستوى الخطابة السياسية. كما كانت الاشتراكية الديمقراطية التعاونية في ١٩٥٧م كلمات فَضفاضة لم ترتبط بجذورها في وجدان الشعب وتراثه الطويل. ثم جاءت الاشتراكية في ١٩٦١م، وكأنها أيديولوجية الحكومة، تحدد الملكية، وتحدد ساعات العمل، وتحدد الحد الأدنى للأجرة، وترسي قواعد القطاع العام. ولكن كل ذلك كان تلبيات لحاجات الجماهير الوقتية دون أن تتأصل في وجدانهم ودون أن تتحول إلى أيديولوجية سياسية للجماهير. صحيح حاولت منظمات الشباب، والمعاهد الاشتراكية، والصحافة الحزبية، وأمانات الدعوة والفكر، وترجمات أمهات الكتب عن الاشتراكية، عرضَ المذاهب الاشتراكية عرضًا مفصلًا، ولكنها لم تتجاوز بعض المبادئ التي يتلقاها الشباب ويكررها، والتي تقف فيها جماهير الشعب على الحياد التام. لذلك لم تدافع الجماهير عن أيديولوجية الثورة، أي عن الاشتراكية العربية، في الوقت الذي اختفت فيه الزعامة الثورية وحلت محلها زعامة الثورة المضادة، وكأن الأمر لا يعنيها. لم تتحول أيديولوجية الثورة إلى عقيدة ثورية عند الجماهير متصلة بحياتها ومتأصلة جذورها في تاريخها، فظلت الجماهير مسلمة من جانب تسمع خطبًا في الاشتراكية من جانب آخر دون أن يحدث تأويل لعقيدتها الدينية بحيث تكون الاشتراكية مضمونًا لها ودون أن تتحول الاشتراكية إلى مضمون لعقيدتها. بقي التوحيد فارغًا بلا مضمون إلا من تشخيص الله الحي الرزاق، وبقيت الاشتراكية خطبة حماسية تلهب مشاعر الناس وتنتظرها بين الحين والآخر فتخفف بسلواها أحزانها حتى موعد الخطبة القادم، أو بقيت أيديولوجية الطبقة الحاكمة توزع مكاسب الاشتراكية فيما بين أفرادها، أو اشتراكية القول والكلام دون الفعل والممارسة.

لقد حاولت الثورة تطوير الدين من الناحية الشرعية، ولكنها لم تُعِدْ تفسيره على نحو جماهيري بحيث تتحول عقيدة الجماهير إلى أيديولوجية ثورية. ألغت المحاكم الشرعية، وحاولت إعادة صياغة قانون للأحوال الشخصية عدة مرات، وألغت الوقف، ونظمت الطرق الصوفية، وأصدرت قانون تطوير الأزهر، وأنشأت المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وركزت على أهمية التربية الدينية في المدارس، وأقامت برامج دينية جديدة في أجهزة الإعلام، ومحطة مستقلة للقرآن الكريم، وأكثرت من بناء المساجد والمعاهد الدينية لتحفيظ القرآن الكريم. ولكن كل ذلك لم يَمَس قضية إعادة ربط العقيدة بالمساواة والله بالأرض، ولم يستثمر كل طاقات العقيدة الدينية كحامل أو مد لمشروع الثورة القومي في معاداة الاستعمار والصهيونية والرأسمالية والرجعية. كانت كل هذه الإصلاحات التشريعية تهدف إلى تحقيق مصلحة عامة، فكانت تحديثًا للقانون الديني، ولكنها لم تمس العقيدة الدينية ذاتها التي ظلت على ما هي عليه تقليديةً سنية أشعرية صوفية تقوم على سلطوية التصور، وحرفية التفسير، وإطلاق الإرادة الإلهية، وفناء العالم، وتبعية الجسد. وما إن اختفت الزعامة الثورية حتى بقيت المحافظة الدينية الأساسية. ولم تستطع الخطب الحماسية والأقوال والشعارات الإبقاء على شيء من المكاسب الاشتراكية. بل إنه حتى بعد السلام مع إسرائيل والاعتراف بالدولة الصهيونية لم تتحرك الجماهير ولم تعارض؛ وذلك لأن العداء للصهيونية كان عداء سياسيًّا خالصًا ولم يرتبط بالعقيدة الدينية التي ظلت على تقليديتها مضافًا إليها خطابة سياسية لا ثقل لها.

كانت هناك زعامة ثورية ولكن لم تكن هناك عقيدة ثورية أو جماهير ثورية، وهو ما حاولت الثورة الإيرانية تلافيه فيما بعد. مما دعا البعض إلى القول بأن الثورات العربية ذاتها لم تكن جادة في تحقيق مشروعها القومي في معاداة الاستعمار والصهيونية والرأسمالية والرجعية. فمعاداة الاستعمار تقتضي ربط الله بالأرض، والعقيدة بالتحرر، والإيمان بالمقاومة، وتبرز الجهاد كأول واجب على المسلم. ومعاداة الصهيونية تقضي رفض عقيدة شعب الله المختار، والوقوف أمام التوسع والعنصرية، وتقتضي أيضًا الكشف عن تغلغل الفكر الرأسمالي في تصورنا للعالم، بل وفي إيماننا بعقائدنا على النحو الموروث، والربط بين التوحيد والمساواة في المجتمع الإسلامي اللاطبقي، وإظهار المالكية لله، واستخلاف الإنسان، وحق الدولة في التأميم والمصادرة، وملكية الوسائل العامة للإنتاج، ونقد تكدس المال بين حفنة من الأغنياء، ونقد المجتمع الرأسمالي بوجه عام. كما تقتضي تفنيد النظم الرجعية المتخلفة والكشف عن وضع رجال الدين فيها وكيف يأتمرون بأوامر الحكام، وكيف يفسَّر الدين لتثبيت الوضع القائم، وكيف تتم في مثل هذه المجتمعات ممارسة الشعائر الدينية نفاقًا وتسترًا على مظاهر السرقة والنهب والتسلط والطغيان. ولكن ترك هذا التحديث الجوهري للعقيدة الدينية والاكتفاء بالتحديث السياسي ساهم في غياب النقص النظري في الثورات العربية وجعلها متعثرة ذات طابع تجريبي خالص، تسير وَفقًا للظروف وتصدر قرارتها طبقًا للأحداث، مما جعلها تسير من اليمين إلى اليسار مرة ومن اليسار إلى اليمين مرة أخرى، وكل ذلك بدعوى الوسط.

وكان من جَرَّاء ذلك التحديث السياسي دون المساس بعقائد الجماهير، عدم تأصيل التجرِبة الثورية على المستوى النظري. والقَدْر النظري الذي وُجد غلَب عليه طابع النقل والتجميع. ولكن الذي كان غالبًا على مستوى تصورات العالم ورؤى القيادات والجماهير للكون هو التصور الغربي للعالم الناتج عن الرأسمالية الغربية، والتي سرعان ما تفجرت وظهرت بعد اختفاء زعامة عبد الناصر الثورية. لم يحدث نقد للثقافة الغربية يمكنه تحرير أذهاننا منها. فأدرنا القطاع العام بعقلية القطاع الخاص، وطبقنا الاشتراكية بعقلية الرأسمالية. وكما قيل في نكاتنا الشعبية: أعطينا الإشارة يسارًا واتجهنا يمينًا.

وكان من شأن الطابع الأوتوقراطي للنظام القضاء على كل محاولة لتأصيل الاشتراكية وتطويرها وأخذ المشروع القومي العربي مأخذًا أكثر جدية، وذلك بتجنيد الجماهير له. ولما كانت القيادات كلها من تكوين ثقافي غربي فإن معظم القرارات قد صدرت لترسيخ البناء الرأسمالي للمجتمع، خاصة في أولويات الخطة. وعندما يقوم البناء الرأسمالي في مجتمع متخلف فإنه يصبح أشبه بالإقطاع الطبقي منه بالرأسمالية المستنيرة التي تقوم على التراث الليبرالي. ومن ثم تتأكد المحافظة على الرغم من التحديث السياسي، بل وتتأصل المحافظة نظرًا لقوتها الكامنة وقدرتها على التأثير في الجماهير وتقديمها تبريرًا للنظم القائمة. وأصبح الوضع هو تحديث على السطح ومحافظة في الأعماق، وما أسهل أن يتبدل السطح وتبقى الأعماق. وكأن ثوراتنا العربية الأخيرة، بالرغم من كل إنجازاتها الخارجية كرست المحافظة التقليدية حتى بدت مجتمعاتنا قبل الثورة أكثر تقدمًا، نظرًا للتراث الليبرالي الذي كان ثابتًا فيها منذ القرن الماضي. وقد كان لغياب حرية الفكر، وعدم مساهمة المثقفين في عملية التحديث بعد أن تركوا دورهم لأجهزة الإعلام، ونقص الجدية في تحقيق مشروعنا القومي نظرًا لاتساع الهُوَّة بين الأهداف المعلنة والقرارات الصادرة، كان لذلك كله أثر في ترسيخ المحافظة نتيجةً لعملية التحديث في النظم الخارجية وترك القوالب الذهنية والمكونات النفسية الموروثة إبان الألف عام الأخيرة دون تغيير أو تبديل.

رابعًا: المحافظة الاجتماعية

تعني المحافظة الاجتماعية تلك التي نشأت بسبب البناء الاجتماعي الذي تكون إبان الثورات العربية الأخيرة. فبعد ضرب طبقة الإقطاع وكبار الملاك في الريف، انتقلت القيادة السياسية من الطبقة العليا إلى الطبقة المتوسطة. وقد ورثت هذه الطبقة بعض امتيازات الطبقة العليا، وذلك لحاجة رجال الثورة للتعاون مع بعض الفئات يحكمون من خلالها ويعتمدون على خبرتها. حدث صعود اجتماعي سريع للطبقة المتوسطة إبان الثورة حتى أصبحت تُسمى في منتصف الستينيات «الطبقة الجديدة» وفي أوائل السبعينيات «القطط السِّمان» أو «مليونيرات مصر الجدد» أو «الإقطاع الجديد في الريف» أو «الرأسمالية الوطنية»، بالرغم من التفرقة فيما بعدُ بين غير المستغِلة، والمستغِلة منها. ولما كانت لكل طبقة قيمها، فقد ساعدت قيم الطبقة المسيطرة، بتحالفها مع الطبقة المتوسطة وقيمها، على الدفاع عن الوضع القائم وترسيخ قيم الطبقة الدنيا والدفاع عنها. ولا تعني الطبقة هنا معناها الضيق الدقيق، أعني المعنى الاقتصادي فحسب، بل تعني أساسًا المعنى السياسي، أي نسبة كل طبقة من الحكم، ومدى مساهمتها في صنع القرار السياسي، وموقعها من السلطة. وحتى إذا كانت السياسة تعبيرًا عن الوضع الاقتصادي فإن الحكم تعبير عن البناء الاجتماعي. وقد ظهرت المحافظة الاجتماعية ابتداء من السبعينيات وبعد اختفاء زعامة عبد الناصر الثورية وظهور تحكم البناء الاجتماعي والاقتصادي في إصدار القرارات السياسية، وسيطرة الطبقة الجديدة على الحكم بعد أن بانت مخاطرها. وكانت هناك محاولات لتحديدها إثر هزيمة حزيران، وفي برنامج ٣٠ مارس ١٩٦٨م، وفي دراسات مؤتمر المبعوثين المقدمة من وفد الدارسين بفرنسا في أغسطس ١٩٦٦م بالإسكندرية، ولكن أحدًا لم ينتبه إليها إلا بعد تجسيم مخاطرها بعد الهزيمة.

وتتمثل قيم الطبقة الحاكمة في عدة قيم يجمعها مفهوم «كبير العائلة» أو «رب الأسرة» الذي وجب له الاحترام، وعدم مناقشته أو الاعتراض عليه، وتقبل قراراته الأبوية باعتبارها خيرًا للجميع، حتى وإن بدت في الظاهر مضرة بهم، ويبرر رجال الدين قائلين إن مرارة الدواء ضرورية للشفاء. وإن ما يراه القادة الحكماء المبصرون على المدى الطويل أنفع للناس مما يراه المحكومون الذين يتحركون بدافع الجوع والحاجة في اللحظة الحاضرة. هذه الصورة الأبوية التي تقررها الطبقة الحاكمة في وعي الجماهير تثبت الوضع القائم، وتمنع من أي حراك اجتماعي أو معارضة سياسية، وذلك لأنه كبير العائلة، تجب له الطاعة المطلقة، والاحترام والتبجيل، وهو أشبه برجل الدين المقدس، أو بزعماء القبائل، أو ببطريرك العبرانيين. ويساعد على ذلك «عصا المارشالية» و«الوشاح الأخضر»، وكأنهما عصا موسى ووشاح الولي، ويظهر في أجهزة الإعلام وهو يصلي في مساجد القرية أو بالجلباب البلدي أو يتمتم بشفتيه، ويسبل عينيه، وبيده سُبحة يذكر بها أسماء الله الحسنى. ينادي الجنود بأولادي، والمذيعة بابنتي، والطلبة بأبنائي، وهو الأب الكبير. وتُذاع الأغاني عن كبير العائلة الذي يفيض حكمة وبصيرة. وأفضل الأفلام التي يجب أن يتم الإكثار منها هو «وبالوالدين أحسانًا» التي يرجع فيها الابن الضالُّ، تائبًا عن ثورته إلى الاعتراف بالسلطة الأبوية. وعندما يتم تنظيم حزب يتم إحضار وجهاء القوم، وكبار الموظفين، ورؤساء الجامعات وينثر حولهم الشباب حتى تتأكد صورة رؤساء القبائل والعشائر. ويلجأ إلى السلطة الدينية لتأكيد الصورة الأبوية، فيبدأ باسم الله ويختم بآية المغفرة والتوبة أو بدعاء صوفي، فيتحد الرجل السياسي مع الرجل الديني. ويكون أخطر زعيم هو الخميني، وأخطر ثورة ثورة إيران، الأول يجعل من الدين ثورة، ومن الزعامة تعبيرًا عن مصالح الشعب ضد التسلط والظلم والطغيان. ويكون أخطر أستاذ هو الذي يدعو الطلبة إلى التفكير والنقد ونبذ سلطة الموروث، وتكون أخطر صحافة هي التي تنقد السلطة، فكل نقد تشكيك أو عمالة، ويصبح أخطر حزب هو الحزب المعارض الذي لا يأتمر بأوامر السلطة، ويحرك الناس. وفي مقابل السلطة الحاكمة التي تمثل الطبقة العليا تأتي جماهير الشعب المحكومة والتي تمثل الطبقة الدنيا. ونظرًا لجهل هذه الطبقة وتغيب وعيها فإن الطبقة الحاكمة تفرز لهذه الطبقة قيمًا تناسبها وتؤكد على طاعتها لأولي الأمر مثل: الطاعة، والإيمان، والصبر، والحب، والسلام. وهي كلها قيم سلبية تدعو إلى الاستكانة وعدم الحركة، أو تفسر قيمًا أخرى إيجابية مثل الأصالة والصلابة على نحو سلبي.

فالطاعة واجبة لأولي الأمر. وكل ثورة على السلطة خروج ومروق وفتنة وعمالة للخارج، أو حقد من شخص موتور، أو تعصب وجهل ديني. وبالتالي أصبح الثبات الاجتماعي هو نموذج التحديث وليس الحَراك الاجتماعي، ومن ثم كثرت قوى الأمن المركزي، وعظم دور وزارة الداخلية، وكثر أمناء الشرطة، ونُظِّم الحرس الجامعي، وطُلب من مؤسسة أو نقابة أو هيئة تطهير صفوفها من المشاغبين والملحدين والعملاء والمشككين والحاقدين والمتعصبين. والإيمان أخص ما يميز هذا الشعب، الإيمان بالله وكتبه وملائكته ورسله واليوم الآخر، الإيمان بالغيبيات وبالموضوعات المفارقة للعالم. وليس من مضمون الإيمان حق الفقراء في أموال الأغنياء، أو ضرورة تحرير الأرض، أو معاداة العنصرية والأطماع التوسعية، أو الوقوف في مواجهة الاستعمار والرجعية. الإيمان مفتوح نحو الماضي ونحو الأعلى وليس نحو الحاضر ونحو الأسفل، فهو إيمان بالتراث والعقائد وليس إيمانًا بالتجديد وبحاجات الناس. والصبر صفة أخرى للشعب تجعله يرضى بالوضع القائم، وأنه لا خلاص في الحاضر على يد أحد من البشر بل الخلاص في الآخرة. حيث يطعم الجياع، ويلبس العراة، ويسكن الذين بلا مأوى، ويتحرر المستعبَدون. فالصبر مفتاح الفرج كما يُقال في أمثالنا العامية. ويُؤوِّل رجال الدين آيات الصبر في القرآن لإثبات الصبر ناسين الآيات التي تحث على ترك الصبر مثل: «فما أصبرهم على النار». والحب وسيلة الترابط الاجتماعي، وسيعطي الغني الفقير بالحب، ويعطي صاحب رأس المال حقوق العامل بالحب، ويتنازل الطاغية عن سلطته للشعب بالحب. فالحب مهرجان بين القائد والشعب، يظهر في الاستقبالات والاحتفالات الشعبية التي تنظمها الحكومة لنفسها باسم الشعب. والحب يقضي على الصراع، ويلغي المتناقضات، ويجُبُّ التفكير والتحليل. أما السلام فإنه يعبر عن طبيعة الشعب الذي يتسامح مع المسيء.

ويقوم التبرير الديني بإعلان أن الحرب لم تُشرع لذاتها، وإن العدو محب للسلام فيجب أن نقابل سلامًا بسلام، إذا سار نحونا خطوة سرنا خطوتين. وهكذا يكون التعامل من شعبين متحضرين يعيشان في جزيرة منعزلة وسط دول همجية متخلفة! أما الأصالة فلا تعني تطوير الجديد، وبالتالي تكون قيمة إيجابية، بل تعني المحافظة على القديم والتعصب له، والتصلب في الدفاع عنه، فالموروث القديم خير دعامة للمحافظة على الوضع القائم. تعني الأصالة رفض الأفكار المستوردة، والوقوف أمام المذاهب الهدامة المعارضة لتراث البلاد. والحقيقة أن الهدف منها هو الدفاع عن الوضع القائم، ومنع أي عناصر حركة فيه، وعلى رأسها الفكر الثوري والمذاهب الداعية إلى التغيير الاجتماعي. أما الصلابة فتعني رفض التغيير، والوقوف أمام كل المحاولات لتغيير النظام الاجتماعي، فهي صلابة المحافظة على القديم، وتصلب ضد قوى التغيير، وعدوانية ضد جميع مراكز التفكير والخلق، ودوائر النقد والمعارضة. لا تعني الصلابة الثبات في الجهاد، والمثابرة على المقاومة، ولكن تعني الثبات على القديم، والعض بالنواجذ على الموروث.

أما الطبقة المتوسطة التي تحكم الطبقة العليا من خلالها، والتي تفرز من خلالها قيم السيطرة لها والخضوع لغيرها، فإنها أيضًا تفرز قيمها بمساعدة الطبقة الحاكمة التي تخدم مصالحها، وهي نفس مصالح الطبقة الحاكمة، مثل: الشرعية الدستورية، سيادة القانون، النظام والأمن، دولة المؤسسات. فالشرعية الدستورية تعني حكم النظام والدولة وليس حكم التغيير والثورة. والانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية هو في حقيقة الأمر إلغاء للثورة من أجل الدولة، وقضاء على التغيير من أجل الثبات. هذا بالإضافة إلى أن الدستور يتغير من أجل الثبات، وتتغير بنوده من أجل إطالة حكم الرؤساء إلى مدى الحياة أو لاستعمال بنوده الاستثنائية التي تعطي الحكام الحق المطلق في إصدار القوانين وإصدار الأحكام العرفية، والمحاكم الاستثنائية، وتنظيم الاستفتاءات الشعبية لتأييد الحكام، أو لأخذ رأي الشعب في الموافقة على إسقاط حريته، وقبول احتلال العدو لأرضه. أما دولة المؤسسات فتعني إعطاء كل رِدَّة رجعية صيغة قانونية. فمجلس الشعب مؤسسة لا يمكن تجاوزها ما دامت في يد الحكام. ولا يُطلَق فيها صوت معارض حتى ولو كان واحدًا، ويكون جزاؤه الفصل أو التجاهل أو السجن أو المحاكمة والإدانة سلفًا. والصحافة مؤسسة ما دام رؤساؤها معيَّنون من السلطة ينفذون أوامرها، ويكون جزاء المخالفين الطرد أو المنع أو التجاهل أو التخوين. والقضاء مؤسسة ما دام يشرع القوانين الاستثنائية، ويصادر صحف المعارضة، ويُدين المتظاهرين بالشيوعية ويحكم عليهم بالسجن والفصل. والجامعة مؤسسة ما دامت تراقب الأساتذة، وتمنع الطلاب من نشاطهم الجامعي، وتحرِّم مَجلات الحائط، وتوقف نشاط الأسر والجمعيات.

وهكذا تعني المؤسسة أولوية الحكومة أو السلطة، وسيطرتها على مضمونها، وشل حركتها، حتى توقفت حركة المجتمع ونشاط هيئاته بالمرة. أما سيادة القانون فتعني أيضًا خضوع كل معارض لقانون العقاب. فالقانون ليس موضوعيًّا يقوم على الصالح العام، بل يعبر عن هوى الحكام ومصالحهم واستحواذهم على كل السلطات. فكل يوم يصدر قانون لتكبيل الحريات، ومنع نشاط الأفراد والهيئات، ومنع الحديث في الموضوعات الوطنية الكبرى أو مس القضايا السياسية العليا، حتى أثناء المعركة الانتخابية حتى تكون المعركة نزيهة شريفة. تعني سيادة القانون تحريم الثورة، وقهر المعارضة، ومنع حرية التعبير، والخضوع التام لإرادة السلطة. أما النظام والأمن فيعني الإعلان الصريح بضرب كل تجمهر بحجة إثارة الفوضى وخرق النظام. فالمحافظة على الوضع القائم لا تكون بإفراز قيم الطبقات بحيث تخدم الطبقة العليا فحسب، بل تعني الإبقاء على هذا الوضع القائم بالفعل عن طريق أجهزة الأمن المركزية والمحلية، عصب السلطة، ودعامتها الرئيسية. فيدعو الحاكم: «اقتلوهم حيث ثقفتموهم» ويعني المعارضة، ويقول وزير الداخلية: «سأنزل وراءهم إلى الشوارع وأطاردهم بمدفعي الرشاش»، ويقول السلطان: «سأصدر أوامري بإطلاق النار على كل المارقين.» وهكذا تكون قيم الطبقة المتوسطة في تحالف مع قيم الطبقة العليا من أجل السيطرة على الطبقات الدنيا بعد أن يفرز لها قيمها التي تدعو إلى السكينة والخضوع. وبالتالي تنشأ المحافظة هنا من البناء الاجتماعي الذي يقوم على قيم الطبقات في نظام سياسي تسلطي يبغي الإبقاء على الأوضاع القائمة.

إن البحث عن أسباب سيادة الاتجاهات المحافظة في حياتنا الراهنة لَواجب وطني على كل المثقفين الثوريين والباحثين الاجتماعيين، والتي قد يسميها البعض الانتكاسية الثورية أو الهجمة التترية أو الرِّدة المعاصرة. ويمكن لمختلِف المناهج التحليلية المساعدة على الكشف عن هذه الأسباب. والمنهج الفكري الخالص الذي يعتمد على تحليل الموروث باعتباره موضوعًا مستقلًّا في الشعور قد لا يكون هو المنهج الوحيد لدراسة هذه الظاهرة التي نراها جميعًا ونقف منها موقف الدهشة والتعجب. ولكن على الأقل يستطيع المنهج الظاهري (الفينومينولوجي) الكشف عن نشأة الظاهرة وتتبعها في الوعي الحضاري. ومن يدري، فقد نكون أشبه بهذا الطائر «فِينِكس» الذي تُبعث فيه الحياة من خلال الرماد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥