مقدمة
بالرغم من وجود أسباب اجتماعية وسياسية واقتصادية لظهور
الجماعات الدينية المعاصرة، خاصة تلك التي تحاول أن تحقق
أهدافها بالقوة،
٢ إلا أن الأسباب الفكرية أو الأسس العقائدية لا
تقل أهمية عن الأسباب الأولى؛ لأنها هي التي تعطي الأسس
النظرية للسلوك، وبالتالي تكون هي المحرك الأول لهذه
الجماعات والدافع لها على الحركة والنشاط، والتي تمدها
بقيمها وأهدافها ووسائل تحقيقها وتنفيذها.
ولما كانت هذه الجماعات إسلامية أي أممية (تنتسب إلى
الأمة الإسلامية) فإن مصادر فكرها تتجاوز حدود مصر بطبيعة
الحال وتمتد إلى باكستان التي نشأت بناء على دعوة إسلامية
من أجل إقامة الدولة الإسلامية التي يجد فيها مسلمو الهند
فلاحهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة. ومفكر الدولة
الإسلامية الأول هو الإمام أبو الأعلى المودودي الذي أنشأ
حركته «الجماعة الإسلامية» بعد الإخوان المسلمين في مصر
بثلاثة عشر عامًا تقريبًا. وقد أثر في فكر الجماعة بعد
استشهاد مؤسسها الإمام الشهيد حسن البنا في فبراير ١٩٤٩م،
عند الإمام الشهيد سيد قطب. فجمع فكرُ الإخوان بين الفكر
الإصلاحي عند آخر ممثليه السيد رشيد رضا (وقد كان حسن البنا
تلميذًا له يفكر في إصدار «جريدة المنار» بعد توقفها في
١٩٣٥م) والفكر الإلهي عند أبي الأعلى المودودي. ولما كان
الفكر الإصلاحي لا ينمو نموًّا طبيعيًّا إلا بالممارسة
العملية لحركة الإصلاح فقد توارى الفكر الإصلاحي في فكر
الجماعة عند سيد قطب وظهر الفكر الإلهي عند المودودي تغذيه
وتقويه جدران السجون. وقد نشأت الجماعات الدينية المعاصرة
داخل حركة الإخوان المسلمين في أروقة المعتقلات وفي نقاش
حول حاضر الحركة الإسلامية ومستقبلها. وقد ظهر الخميني بعد
المودودي وسيد قطب يعطي نفس الطابع ويقويه النجاح المذهل في
إسقاط الشاه.
وستحاول هذه الدراسة وصف البناء الأيديولوجي لفكر أبي
الأعلى المودودي أساسًا في إطار الظروف الاجتماعية
والسياسية التي سهلت تأثير هذا الفكر على الجماعات الدينية
في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة. كما ستحاول هذه الدراسة
إعادة هذا البناء إلى مساره الطبيعي لأن الفكر لا يقف أمامه
إلا فكر، ولا تنفع معه وسائل القمع المضاد.
ويتسم الفكر الديني عند المودودي بطابع خاص يجعله ذا
بناء محدد، يظهر في سلوك هذه الجماعات الدينية المعاصرة.
ويمكن وصف هذا البناء على النحو الآتي:
الحاكمية لله
تعطي الحاكمية لله تصورًا مركزيًّا للعالم. فالله قمة
الكون خلقه ويحكمه ويسيطر عليه: «الأرض كلها لله وهو ربها
والمتصرف في شئونها. فالأمر والحكم والتشريع كلها مختصة
بالله وحده وليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو شعب بل ولا للنوع
البشري كافةً شيءٌ من سلطة الأمر والتشريع. فلا مجال في
حظيرة الإسلام ودائرة نفوذه إلا لدولة يقوم فيها المرء
بوظيفته خليفة لله تباركت أسماؤه. ولا تتأتى هذه الخلافة
بوجه صحيح إلا من جهتين: إما أن يكون ذلك الخليفة رسولًا من
الله أو رجلًا يتبع الرسول فيما جاء به من الشرع والقانون
من عند ربه.»
٣ فالأنبياء هم المعلنون عن هذه الحاكمية، ومعهم
القادرون على السير على هداهم. وتنبع السيطرة على الكون بكل
ما فيه حدًّا لا يستطيع معه أحد الخروج عنه: «ما من حاكم
ولا ولي ولا مليك مقتدر لهذا الكون إلا ذلك الإله الواحد
الفرد الصمد. وأنه هو الحاكم القاهر الذي لا معقب لحكمه ولا
شريك له في الملك، ولا ينفذ في السموات والأرض إلا أمره.
٤ فلا تكن إلا عبد الله ولا تأتمر إلا بأمره ولا
تسجد لأحد من دونه، فإنه ليس هناك من صاحب جلالة فالجلالة
كلها مختصة بذاته جل وعلا، وليس هناك من صاحب قداسة
فالقداسة بأسرها مركَّزة فيه تقدست أسماؤه، وليس هناك من
صاحب سموٍّ، فالسمو لا يستحقه أحد من دونه، تعالى شأنه،
وليس هناك من صاحب سيادة، فالسيادة بأجمعها مقتبسة من شرفه،
جلت قدرته وعظم شأنه، ولا شارع من دونه، فالقانون قانونه،
ولا يليق التشريع إلا بشأنه، ولا يستحقه إلا هو، ولا ملك
ولا رازق ولا ولي إلا هو، وليس من دونه من يسمع دعاء الناس
ويستجيب لهم، وليست مفاتيح الكبرياء والجبروت إلا بيده، ولا
علو لأحد ولا سمو في هذه الدنيا، فكل من في السموات والأرض
عباد أمثالك والرب هو الله وحده. فارفض كل أنواع العبودية
والطاعة والخضوع لأحد من دونه، وكن عبد الله، قانتًا
مستسلمًا لأوامره.»
ولما كانت الحاكمية لله فالاستخلاف لا يكون إلا في
الحاكمية: «فالحاكم الحقيقي في الإسلام إنما هو الله وحده …
فإذا نظرت إلى هذه النظرية الأساسية وبحثت عن موقف الذين
يقومون بتنفيذ القانون الإسلامي في الأرض تبين لك أنه لا
يكون موقفهم إلا كموقف النواب عن الحاكم الحقيقي، فهذا هو
موقف أولي الأمر في الإسلام بعينه.»
٥ الحاكمية لله وحده فهو وحده الحاكم الحقيقي في
واقع الأمر، ولا يستحق أن يكون الحاكم الأصلي إلا هو وحده،
وهي حاكمية قانونية تعني خضوع كل من في الكون له. ولكنها
تبقى فرضًا ما دامت لا تستند إلى حاكمية واقعية، أي سياسية،
أي مالكة للسلطة التي تحقق هذه الحاكمية في الواقع. وهنا
تأتي الخلافة تنفيذًا للحاكمية.
٦
ويعبر المودودي عن الحاكمية والخلافة في «الحكومة
الإسلامية» قائلًا: «إن تصور الإسلام عن الحاكمية واضح لا
تشوبه شائبة. فهو ينص على أن الله وحده خالق الكون وحاكمه
الأعلى، وأن السلطة العليا المطلقة له وحده، أما الإنسان
فهو خليفة هذا الحاكم الأعلى ونائبه. والنظام السياسي لا بد
وأن يكون تابعًا للحاكم الأعلى. ومهمة الخليفة تطبيق قانون
الحاكم الأعلى في كل شيء، وإدارة النظام السياسي طبقًا لأحكامه.»
٧ وقد قرر جميع الأنبياء هذه الحاكمية وهذا
الاستخلاف مؤكدين حقائق ثلاثًا؛ الأولى: أن السلطة العليا
التي على الإنسان أن يخضع لها ويطيعها ويقر بعبوديته لها،
والتي يتأسس على طاعتها النظام الكامل للأخلاق والمجتمع
والحضارة، هي سلطة الله وحده، وينبغي التسليم بها وقبولها
على هذا الأساس. والثانية: حتمية طاعة النبي وحكمه بوصفه
ممثلًا ونائبًا عن السلطان الأعلى والحاكم المطلق.
والثالثة: أن القانون الحَكَم الذي يقرر التحليل والتحريم
في جميع الميادين هو قانون الله وحده الناسخ لكل القوانين
البشرية، وليس للعباد حق المساءلة والنقاش في أحكام الله
فما حرمه الله يكون حرامًا وما حلله يكون حلالًا؛ لأنه مالك
كل شيء ويفعل ما يشاء. وقد بين القرآن طاعة الإنسان لله
وللرسول ولأولي الأمر. كما نص على الحاكمية في:
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ. ويصفهم القرآن
مرة أخرى بالظالمين ومرة ثالثة بالفاسقين. وليس صحيحًا أنها
آيات خاصة نزلت في أهل الكتاب في مناسبات خاصة بل هي أحكام
عامة تتجاوز أسباب النزول وتنطبق على كل أمة بالنسبة
لكتابها في كل زمان ومكان.
٨
وتتضمن الحاكمية رفض حاكمية البشر وضرورة الثورة عليها،
وكأن عصيانها أمر إلهي. لذلك خرجت الجماعات الدينية على
النظم القائمة كما فعلت الخوارج من قبل. ولا تعني الخوارج
هنا ما يقصده رجال الدين والسياسة من شق عصا الطاعة ورفض
سلطة الدولة وبالتالي إدانتهم ومحاكمتهم أمام القانون، بل
تعني رفض الانضواء تحت اللاشرعية الدينية، كما رفض الخوارج
من قبل، وكما رفض آل البيت بقيادة علي والحسين وبقية
الأئمة، الرضوخ لسلطة الدولة الأموية التي اغتصبت الحكم
وأخذته بالقهر والتهديد تارة وبالرشوة والإغراء تارة أخرى.
ويتمثل هذا الرفض لحاكمية البشر في قول المسلم: «لا إله إلا
الله معلنًا السيادة لله ضد سيادة البشر. فنظرية التوحيد
هذه ليست بعقيدة دينية فحسب … بل إنما تقضي هذه النظرية على
نظام الحياة الاجتماعية المبني على أساس استقلال الإنسان
بأمره أو حاكمية غير الله وألوهيته، وتنقطع بها هذه الشجرة
الملعونة من جذورها، وينهدم هذا البنيان من أساسه، ويقوم
وينهض بنيان جديد على أساس غير هذا الأساس … المنادي يقول
أن لا مَلِك لي إلا الله ولا حاكم إلا الله، ولا أخضع
لحكومة، ولا أعترف بدستور، ولا أنقاد لقانون، ولا سلطان
عليَّ لمحكمة من المحاكم الدنيوية، ولا أطيع أمرًا غير
أمره، ولا أتقيد بشيء من العادات والتقاليد الجاهلية
المتوارثة ولا أسلم شيئًا من الامتيازات الخاصة، ولا أَدين
لسيادة أو قداسة، ولا أستخزِي لسلطة من السلطات المتكبرة في
الأرض المتمردة على الحق. وإنما أنا مؤمن بالله، مسلم له،
كافر بالطواغيت والآلهة الكاذبة من دونه …»
٩ فالنظرية السياسية في الإسلام تقوم على مبدأ
أساسي وهو: «أن تُنزع جميع سلطات الأمر والتشريع من أيدي
البشر منفردين ومجتمعين، ولا يُؤذَن لأحد منهم أن ينفذ أمره
في بشر مثله فيطيعوه، أو ليسُنَّ قانونًا لهم فينقادوا له
ويتبعوه، فإن ذلك أمر مختص بالله وحده لا يشاركه فيه أحد غيره.»
١٠ لذلك تتميز الدولة الإسلامية بثلاث خصائص؛
الأولى: أنه ليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو حزب أي نصيب من
الحاكمية، فإن الحاكم الحقيقي هو الله. والثانية: أنه ليس
لأحد من دون الله شيء من أمر التشريع. والثالثة: أن الدولة
الإسلامية لا يؤسَّس بنيانها إلا على ذلك القانون المشرع
الذي جاء به النبي من عند الله مهما تغيرت الظروف والأحوال.
وأن الدولة لا تستحق الطاعة إلا من حيث إنها تحكم بما أنزل
الله وتنفذ أوامره في خلقه.
١١
وتتمثل حاكمية البشر في ثلاثة نظم: العلمانية،
والقومية، والديمقراطية. وهي النظم التي سيطرت على الحياة
السياسية في الغرب. فالعلمانية تعني عزل الدين عن الحياة
الاجتماعية للأفراد وقصره فقط بين العبد وربه. أما القومية
فإنها تقوم على مصلحة الأمة ورغباتها بصرف النظر عن مصالح
الأمم الأخرى، ومن ثَم نَشِبت الحروب بين القوميات، والويل
للمغلوب فلا مكان للضعيف. أما الديمقراطية فقد نشأت في
بداية أمرها ثورة على الإقطاع ولكنها انتهت إلى سيادة
الأكثرية على الأقلية. فالدولة العلمانية القومية
الديمقراطية هي الدولة الحديثة التي تتمثل فيها حاكمية
البشر في الغرب، والتي يرغب المسلمون في تقليدها. وهي نظم
كلها ترفض الحاكمية لله، وبالتالي تجعل الفرد خاضعًا
لشهواته ورغباته، وتجعل المجتمع خاضعًا لأهوائه ومصالحه.
وفي غياب حاكمية الله لا يوجد مكان إلا للشيطان الذي يبشر
بالإلحاد والعنف. أما القومية فإنها «تضع ذاتها ومصالحها
ورغباتها الخاصة فوق جميع الناس ومصالحهم ورغباتهم، والحق
عندها هو ما كان محققًا لمطالبها واتجاهاتها ورفعة شأنها،
ولو كان ذلك بظلم الآخرين وإذلال نفوسهم.»
١٢
الدولة الإسلامية إذن ليست دولة ثيوقراطية؛ لأنها ليست
دولة رجال الدين، وليست دولة ديمقراطية؛ لأن الحكم ليس
للشعب، ولكنها دولة «ثيوديمقراطية» الحاكمية فيها لله طبقًا
لاختيار الشعب، فالله هو المشرع والمسلمون هم المنفذون.
١٣ هي دولة لا تقوم على جنس أو عنصر أو مصلحة أو
حدود جغرافية، بل دولة فكرية، أي دولة مبادئ وغايات.
١٤ الدولة الإسلامية تقوم على الديمقراطية
الإسلامية، وفيها يكون كل عضو في المجتمع خليفة، لا فوارق
في النسل أو في المهنة، وليس فيها استبداد طائفة بأخرى، بل
على الانتخاب بناء على التقوى، ويحكمها قضاء ليس من صنع
أهواء البشر.
هذه الدعوة لحاكمية الله ورفض حاكمية البشر هي التي
تدفع الجماعات الدينية المتطهرة إلى إقامة مجتمع مغلق داخل
المجتمع الكبير، وتجعل هدفها إقامة الدولة الإسلامية، وشق
عصا الطاعة على النظم القائمة، وعدم التعاون مع الدولة
اللادينية الذي يظهر في الطعن في شرعية دساتيرها، ورفض
الطاعة لمن يحكم بغير ما أنزل الله، وتحريم الصلاة في
مساجدها، وتحريم الخدمة في قواتها المسلحة، وتحريم العمل في
وظائفها الحكومية، وجعل موضوع «الخلافة» أهم مؤلف لأمير
الجماعة الدينية. ويقويها ضعف نظمها السياسية، وتضارب
قوانينها، وقيامها على مصلحة البعض دون البعض الآخر، وسن
القوانين لعقاب المعارضة، والرغبة في تغيير الأمر الواقع
وتكوين نظام أفضل. ولما غاب التنظيم الأم، أعني «جماعة
الإخوان المسلمين» التي كان يمكن أن تمتص عاطفة هؤلاء
الشباب، كما كانت تفعل في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات،
ولما غاب أيضًا أي نشاط إسلامي علني، ظهرت هذه الدعوة في
هذا الأسلوب المغلق السري. وستظل الحاكمية لله مصدر قوة
لهذه الجماعات ومصدر قلق للنظم القائمة ما لم تستند إلى أسس
إنسانية وشعبية. فبالرغم من أن الحاكمية لله تعبير عن
الإرادة الإلهية إلا أنها أيضًا تظهر في خلافة الرسول
والأئمة من بعده. وهؤلاء من اختيار البشر طبقًا للبيعة،
وتحقيقًا للشورى، وكما تم إعلان ذلك في حضارة أخرى من أن
«صوت الله هو صوت الشعب»
vox Dei vox
populi ولكننا لم نصل إلى هذه المرحلة
بعد، وما زالت حضارتنا مركزة حول الله
Theocentric ولم تصبح بعد
مركزة حول الإنسان، ويقوي هذا الوضع الإلهي ويغذيه ما عليه
نظمنا الاجتماعية من أنها أيضًا تعبير عن إرادة الحاكم
المطلقة يفعل ما يشاء دون أي وجود لمؤسسات دستورية تراجعه،
أو لتنظيمات شعبية تقره، أو لأجهزة جماهيرية تراقبه. فكل
قوانيننا ودساتيرنا تعبير عن هذا الحاكم المطلق. فإذا وُضع
الشباب المؤمن في الاختيار بين حاكمية الله وحاكمية البشر،
فما أسهل الاختيار بالنسبة له. وقد عبر عن ذلك أحد قضاة
الإخوان عندما رأى التعارض الصارخ بين القانون الإلهي
والقانون البشري بقوله: «أنا قاضٍ ولكني مسلم.»
١٥
التنزيل والنص
يبدو التنزيل الإلهي في اعتبارنا الأوامر الإلهية
للتنفيذ ومعرفتها من الوحي مباشرة بقراءة النصوص الدينية
وفهمها فهمًا حرفيًّا بالاعتماد على سلطة النص وحده المتمثل
في «قال الله» و«قال الرسول». لذلك تسود الحجج النقلية وتقل
الحجج العقلية. ولما كانت الحجج النقلية قاطعة لا تحتمل
وجهين كانت الأوامر الإلهية كلها محكمات وليس بها من
المتشابهات شيء. لذلك كان أهم كتاب للمودودي هو «ترجمان
القرآن» الذي يشابه «في ظلال القرآن» لسيد قطب، وهو تفسير
شامل للقرآن سورة سورة وآية آية، حتى يتم الكشف عن التنزيل
دون تأويل، أو جمع للموضوعات المتفرقة وعرضها في نسق محكم.
١٦
وخطورة منهج التنزيل، أي استنباط الأحكام الإلهية
مباشرة من القرآن دون اعتماد على العقل أو المشاهدة، هو
أولًا: إخراج الكلم عن مواضعه واستعماله في غير ما أُنزل
فيه، وتأويله على غير معناه، ومن ثم تنتهي الحَرْفية إلى
عكسها، أي التأويل بلا شاهد حسي أو دليل عقلي. ثانيًا: أخذ
بعض الكلام وترك البعض الآخر، وانتقاء الآيات التي تشير إلى
الحاكمية لله وترك الآيات الأخرى التي تشير إلى وضعية
الشريعة حتى تتفق الحاكمية مع التنزيل. ثالثًا: عدم إعمال
العقل والإثبات بالبرهان والاعتماد على سلطة النص وحدها،
وبالتالي استحالت مخاطبة غير المؤمنين كما استحال الحوار
بالعقل حول معاني النصوص. فالنصوص ليست موضوعًا للحوار بل
موضوع للتنفيذ. رابعًا: استحالة المعارضة العقلية لسلطة
النص وإيجاد التفسيرات المغايرة التي تقوم على الدليل
العقلي والشاهد الحسي. خامسًا: تحويل الشاهد إلى تعصب وقوة
واقتناع لا يتزحزح عنه حتى ولو كانت أمامه عشرات البراهين
العقلية المضادة، حتى تحول الحوار إلى جدل انفعالي يقوم على
مقدمات نفسية مسبقة.
ويقوي ذلك في مجتمعاتنا أننا ما زلنا نعيش مرحلة النقل،
والاعتماد على سلطة الموروث، واستمرار علمنا من الكتب
والنصوص، واستشهادنا في حياتنا العامة بأقوال القادة
والحكام وكتابات أولي الأمر وخطبهم. ولكن عند الشباب المؤمن
أيُّ الكتب أولى بالاستشهاد: كتاب الله أم كتاب الأمير؟
لذلك يرفض المودودي وضعية الشريعة، بمعنى أن لها أسسًا
وضعية تقوم عليها. فيُنفَّذ قانون تحريم الخمر في أمريكا
لأنه من وضع البشر بعد أن عرَفوا أنها «ضارة بالصحة ومُفسدة
للقوى الفكرية، وهدَّامة لبناء المدنية الإنسانية»
١٧ مع أن أهم ما يميز الشريعة الإسلامية هو
وضعيتها. فبالرغم من أن القانون الإسلامي تعبير عن الإرادة
الإلهية إلا أنه يقوم أيضًا على الدفاع عن مصالح البشر. فهو
قانون وضعي يقوم على أسس موضوعية في الدفاع عن المصالح
العامة، والتي أطلق عليها الأصوليون القدماء الكليات الخمس:
الدين، والحياة، والعِرض، والعقل، والمال. وإن كل أبحاثهم
في العلل وأنواعها وطرق معرفتها لَترمي أساسًا إلى البحث عن
وضعية الشريعة وقيامها على جلب المنفعة ودفع المضرة.
وبالتالي يمكن الدخول في نقاش مع الجماعات الإسلامية عن
الأسس الوضعية للتنزيل والاشتراك معهم في تحديد مصالح
المسلمين. وقد يصعب ذلك لسببين؛ الأول: تحجر فكر الجماعات
وعدم استطاعتها التفكير في الأسس الوضعية للتنزيل. والثاني:
تحرج النظم القائمة من الدخول في نقاش عام حول «مصالح
المسلمين» نظرًا للأوضاع المخالفة للشرع التي نعيش فيها مثل
الفقر والتسلط والخوف. فلا يمكن النقاش حول الدين وقد تحول
إلى شعائر وطقوس ومظاهر خارجية، وبعد أن قامت الدعوات لفصله
عن الدولة. كذلك لا يمكن النقاش حول الحياة والنظام السياسي
يدعو إلى الفصل بين الدين والدولة، ويجعل الدين لدور
العبادة والدنيا للمؤسسات السياسية. ولا يمكن الحوار حول
المال نظرًا لوجود الأقلية المترفة بيدها المال في مقابل
الأغلبية الفقيرة المعدِمة التي تكِدُّ من أجل سد رمقها.
ولا يمكن المناقشة حول العقل نظرًا لما تبثه السلطة القائمة
من دعوات إيمانية واحتفالات دينية وابتهالات صوفية ورؤية
للمعجزات تجعل العاطفة هي وسيلة التخاطب، وتُفسح المجال
للتعصب الديني. ولا يمكن الحديث عن العِرض نظرًا لما تسمح
به الدولة من مظاهر للخلاعة والفجور في حياتنا العامة وفي
أجهزة الإعلام.
ويمكن التخفيف من حِدة التنزيل بعدة طرق؛ أولًا:
استعمال النص المعارض. ومقاومة النص بالنص حتى لا تكون
شرعية النص أحادية الطرف. ثانيًا: نقل المجتمع كله من مرحلة
المنقول إلى مرحلة المعقول من أجل الاعتماد على العقل حتى
ينشأ الحوار، وتتم البرهنة على الشيء بالدليل فتخف حدة
التعصب والانفعال. ثالثًا: الاعتماد على الواقع المرئي
والعِيان المباشر وإدخال الواقع في بطن النص حتى يتحول
الشكل إلى مضمون وحتى يمكن رؤية المنفعة والضرر كأساس
للتحليل والتحريم.
الثنائية المتصارعة
تكشف هذه الثنائية المتصارعة عن جدل الكل أو لا شيء،
كما تكشف عن ثنائية متعارضة متصارعة بين النقيضين: الخير
والشر، الحق والباطل، الصواب والخطأ، الهداية والضلال،
الإيمان والكفر، الإسلام والجاهلية، الإسلام والغرب. أو عن
عدة صور فنية مثل: الملاك والشيطان، الجنة والنار. ولا سبيل
إلى إيجاد حلٍّ وسطٍ بين هذين الطرفين المتصارعين، أو
الانتقال من أحدهما إلى الآخر عن طريق التوسط والتدرج.
الخير مطلق، والشر مطلق، والحق مطلق، والباطل مطلق، ولا
مكان للمواقف النسبية أو الشك أو الظن أو التردد. وهي
ثنائية تحدد العَلاقة من جديد بين حاكمية الله وحاكمية
البشر، بين الحكومة الدينية والحكومة اللادينية على مستوى
العمل والممارسة.
والعَلاقة الطبيعية بين الطرفين هي عَلاقة التضاد دون
واسطة أو مصالحة. فبقاء أحدهما مرهون بالقضاء على الآخر.
وإن بقاء الباطل في غيبة الحق عنه. ومن ثم ينشأ الصراع بين
الجماعات الدينية والسلطة القائمة، كل طرف ينتهز الفرصة
للانقضاض على الطرف الآخر، ويتشكك في نواياه. ولما كانت
سلطة الدولة هي الأقوى كان القهر دائمًا من جانبها، وكان رد
الجماعات عفويًّا، جزئيًّا، إعلاميًّا، لإثبات الحق من حيث
المبدأ فينال أعضاء الجماعة الشهادة ويكونون علامة على
الطريق.
فهناك صراع بين الإسلام والجاهلية. ففي المعرفة تكون
الجاهلية طريق الحس والمشاهدة وطريق الحدس والتخمين.
فالطريق الأول يقود إلى الفكر الطبيعي الذي يجعل العالم
مصدر المعرفة، والذي يؤدي على مستوى السياسية والاجتماع إلى
الحاكمية البشرية، حاكمية الطبقة أو الأسرة أو الجمهور، وحب
الذات والشهوات، والخلاعة والفحشاء، وإلى الانتقال من
الإقطاع إلى الرأسمالية في دكتاتورية العمال، وأخيرًا إلى
التعليم العملي المهني وليس إلى التعليم الديني العقائدي.
وهو الفكر الذي أنتج كل المذاهب السياسية الغربية من قومية
وتسلطية (استعمار).
١٨ والطريق الثاني طريق الحدس والتخمين يؤدي إلى
الشرك الذي يجعل الحياة مرتعًا للأوهام والطقوس والخرافات
أو إلى الرهبانية التي لا تتجاوز الفردية والأنانية
والسلبية والتكفير عن الذنب أو إلى وحدة الوجود التي يمحى
فيها التمييز بين الخالق والمخلوق.
١٩ أما طريق الإسلام فهو طريق النبوة ونظرة
الأنبياء للإنسان وللكون التي تجعل الله مسيطرًا على كل شيء
وحاكمًا وآمرًا وقاضيًا. ولا سبيل إلى المصالحة أو إلى
التوفيق بين الطريقين، طريق الجاهلية وطريق الإسلام.
٢٠ ولا يذكر المودودي أن الحس والمشاهدة مصدران من
مصادر المعرفة عند الأصوليين، وأن الحدس يعطي البديهيات وهي
أيضًا مادة للمعرفة في علم أصول الدين. كما أن المودودي لا
يذكر الآثار العملية التي تنتج عن كل طريق، وكيف أن الغرب
تقدم بالفكر الطبيعي، وأننا قد تأخرنا بالفكر
الإلهي.
وأحيانًا تكون الثنائية المتصارعة بين الإسلام والغرب،
الرُّوحانية والمادية، الدينية واللادينية. فالمذاهب
الأوروبية كلها فلسفية أم سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية
مذاهب جاهلية: المادية، مذهب المنفعة (فلسفة الذرائع)،
القومية، الديمقراطية، العلمانية، الرأسمالية، الاشتراكية،
الفاشية، النازية، الفوضوية. فالغرب بعد أن ترك الدين نظرًا
لظروف الكنيسة في العصر الوسيط، لم يبقَ له إلا الدنيا.
ولما كان غنى الأمم بالأفكار ورقيُّها بالآراء فإن الغرب قد
بدأت نهايته بعد إفلاسه على مستوى المذاهب والعقائد
والنظريات! العلم، والإلحاد، والمذهب العقلي، والمذهب
الطبيعي، والمذهب الاجتماعي كلها مذاهب تقوم على الخداع
والتضليل، وجاء المسلمون فأصبحوا عبيدًا لها! ولقد انهارت
حضارة الإسلام في الهند بسبب عبودية المسلمين للغرب. لذلك
يجب أن يتحرز المسلمون في بقية الأقطار الإسلامية من هذا
الداء. وهنا يرد المودودي على الدهريين كما رد الأفغاني من
قبل. وإذا كانت الحضارة الغربية قد انتحرت فإن الإسلام ما
زال حيًّا في قلوب الناس وفي تراثهم المجيد. وإذا كانت
تركيا قد سارت مع الهند في التقليد والانهيار فإن بقية
العالم الإسلامي ما زال يرغب في الإسلام دينًا ودنيا. لقد
تأسست الثقافة الغربية في هيجل وفلسفته التاريخية، ودارون
ونظريته في التطور الإنساني، وماركس وتفسيره المادي
للتاريخ. وقد تجاوب معها المسلمون إيجابًا أم سلبًا فأصبحوا
عابدين لها أو رافضين إياها. والإسلام يرفضها وينقدها
٢١ لأن الإسلام قد بدأ حضارته ويعاود نهضته
الجديدة. ويعطينا المودودي فلسفة للتاريخ ذات أربع مراحل
مثلما أعطانا ابن خلدون من قبل: مرحلة البداية، مرحلة
الاكتمال، مرحلة الانهيار ثم مرحلة النهضة. تأسست الدولة
الإسلامية أولًا، وحققت أكبر ثورة في التاريخ في بضع سنين
بعد تربية بضعة أفراد. ثم أتت مرحلة المَلَكية عندما تحولت
الخلافة إلى ملك عضوض يقوم على الشعوبية وانقسام القيادة
إلى رجال الحكم ورجال الدين. ثم جاءت مرحلة الانهيار عندما
تحول التعليم إلى علماني وديني، وتكوين رجال دنيا أو رجال
دين. وأخيرًا يعاصر المسلمون مرحلة النهضة. تود الشعوب
الإسلام وتود الحكومات العلمانية. ومن هنا وجب أن تقف
الشعوب ضد الحكومات.
٢٢
وتقوى هذه الثنائية المتصارعة في مجتمعاتنا نظرًا
لسيادة هذا النوع من التفكير في حياتنا وقسمة تصوراتنا
أيضًا بين الحق المطلق والباطل المطلق وهو ما يميز
أيديولوجيات المجتمعات المتخلفة بوجه عام. وتقوم أجهزة
الإعلام برفض أحد الطرفين، وهو الباطل في نظرها والحق في
نظر الجماعات الدينية فتكفر المعارضة وتجعل السلطة صاحبة
الحق المطلق. فنسبة النظام القائم إلى المعارضة نسبة الخير
إلى الشر، والحق إلى الباطل، والصواب إلى الخطأ. ثم تقلب
الجماعات الدينية العَلاقة بين الطرفين فتجعل نسبتها إلى
السلطة القائمة نسبة الخير إلى الشر، والحق إلى الباطل،
والصواب إلى الخطأ، والإيمان إلى الكفر، والإسلام إلى
الجاهلية.
ويمكن التخفيف من حدة هذه الثنائية المتصارعة عن طريق
الحوار بين الطرفين، والاعتراف بالجماعات الإسلامية كتيار
أصيل في البلاد، وإعطائها كافة الحقوق للتعبير عن نفسها،
والإعلان عن دعوتها، وقبول السلطة القائمة المراجعة والنقد.
فالجماعات الإسلامية على حق من حيث المبدأ. فإذا ما أُعطي
لها حق التعبير الحر قامت بالموعظة الحسنة وتخلت عن العنف
الذي لا يتولد إلا تحت الكبت السياسي والحرمان من وسائل
التعبير.
ولقد ظلت حياتنا الوطنية خِلوًا من هذه الوَحدة بين
الشكل والمضمون، الشكل الديني والمضمون السياسي. فالحاكمية
لله تُشرع من حيث المبدأ، وهو ما تفعله الجماعات الإسلامية،
ولكنها لا تتحقق إلا في مضمون سياسي واجتماعي وهو ما تفعله
النظم السياسية القائمة على اختلاف مذاهبها. وتصبح المسألة
هي: الحاكمية لصالح مَن؟ والقرارات السياسية لصالح مَن؟ فلو
أمكن تفسير الحاكمية لصالح جماهير المسلمين، ولو أمكن قيام
نظم سياسية تعطي الأولوية لصالح الأغلبية على امتيازات
الأقلية لما حدث الصدام بين الجماعات الدينية وبين
الدولة.
ولا يقتصر الأمر على الحوار بين الشكل والمضمون في
حياتنا السياسية، بين الدين والتنمية، بل يتجاوز ذلك إلى
الوحدة الوطنية ذاتها التي يجد فيها كل تيار ذاته متفقًا
على برنامج للعمل الوطني مع بقية التيارات، وإن كان مختلفًا
معها في بقية منطلقاتها النظرية. إذ لا يقتصر الخروج على
الجماعات الدينية وحدها بل يشمل أيضًا الجماعات اليسارية
التي دأبت في الأربعينيات أيضًا على إظهار نشاطها باستعمال
القوة ثم أمكن امتصاصها أخيرًا داخل الثورات العربية،
واستطاعت التعبير عن نفسها على نحو طبيعي على عكس ما حدث
لجماعة الإخوان المسلمين ابتداءً من أزمة مارس ١٩٥٤م حتى
اليوم. ويثبت تاريخنا الحديث أنه في لحظات الوحدة الوطنية،
عندما يتم تجنيد الشعب كله في أهداف قومية واحدة تخف حدة
الجماعات الدينية أو التنظيمات اليسارية النشطة الخارجة على
النظام القائم كما حدث في مقاومة عدوان ١٩٥٦م، وكما ظهر في
أوائل الستينيات، في مرحلة التحول الاشتراكي.
منهج الانقلاب
ويتم حسم الصراع بين الثنائية المتعارضة عن طريق منهج
الانقلاب. وفي اللغة الفارسية يعني لفظ «انقلاب» ثورة، وكأن
الثورة لا تكون إلا انقلابًا وكأن الانقلاب هو طريق الثورة.
وهو المنهج السائد أيضًا في التراث الآسيوي، هذا الذي عبر
عنه الأفغاني بالتغيير الاجتماعي عن طريق انقلاب السلطة
السياسية، وهو الغالب أيضًا على التراث الشيعي، على عكس
محمد عبده وأهل السنة بوجه عام، وهو التيار الذي يرمي إلى
إحداث التغيير الشامل في الأمة عن طريق التربية وعلى مدى
عدة أجيال.
يرفض المودودي طريق التدرج والإصلاح والنهج الديمقراطي
لإحداث الانقلاب: «يزعمون أنه إذا تم لهم تأسيس دولة قومية
يمكن تحويلها تدريجيًّا فيما بعد إلى دولة إسلامية بوسائل
التعليم والتربية وبفضل الإصلاح الخلقي والاجتماعي، ولكن
شهادات التاريخ والسياسة وعلوم العمران تفند مثل هذه
المزاعم وتعدها من قبيل المستحيلات. وإن نجح مشروعهم كما
يزعمون فلا شك أنه يكون معجزة، فإن نظام الحكومة له أصل
ثابت في الحياة الاجتماعية … فلا يمكن أن يحدث انقلاب ثابت
في نظامها بطريق من الطرق إلا إذا سبقه تبدل في الحياة الاجتماعية.»
٢٣ فكل محاولات الإصلاح عن طريق التدرج وبالنهج
الديمقراطي وهم وخداع وأماني معسولة لخداع الشعوب سواء من
العلمانيين أو المسلمين الخطابيين.
وهذا الانقلاب هو الجهاد، وهو «السعي المتواصل والكفاح
المستمر في سبيل إقامة نظام الحق»،
٢٤ وهو الركن السادس من أركان الإسلام دون الإعلان
عنه، وإن لم يكن ركنًا عند البعض فهو فريضة من أجل حماية الإسلام.
٢٥ والجهاد ليس هو ما أطلق عليه الأوروبيون الحرب
المقدسة بل هو فكرة انقلابية: «الإسلام فكرة انقلابية يريد
أن يهدم نظام العالم الاجتماعي بأسره ويأتي بنيانَه من
القواعد ويؤسس بنيانه من جديد حسب فكرته ومنهاجه العملي.
ومن هناك تعرف أن لفظ «المسلم» وصف للحزب الانقلابي العالمي
الذي يكونه الإسلام وينظم صفوفه ليكون أداة في إحداث ذلك
البرنامج الانقلابي الذي يرمي إليه الإسلام ويطمح إليه
ببصره. والجهاد عبارة عن الكفاح الانقلابي عن تلك الحركة
الدائبة المستمرة التي يُقام بها للوصول إلى هذه الغاية
وإدراك هذا المبتغى.»
٢٦ ودعوة الإسلام الانقلابية ليست موجهة للعمال
والفلاحين أو المُلَّاك أو أصحاب رءوس الأموال، بل موجهة
إلى البشر كافة، دعوة إلى انقلاب عالمي شامل من أجل رفض
سلطة الطواغيت مبعث الفساد في الأرض من الأمراء والملوك
والحكام من أجل الانضواء تحت سلطة الله وحده حتى لا يقع
المسلمون في الشرك بين الله والحكام. «فإن أبيتم عبودية
الله الواحد الفرد الصمد دانت رقابكم للطواغيت الذين علَوا
في الأرض وتمادى بهم الطغيان فاتخذوا من أنفسهم آلهة
وأربابًا من دون الله. ولن تتخلصوا من نِير عبوديتهم أبدًا،
فإنهم لا محالة يمتلكون ناصية أمركم يعيثون في الأرض فسادًا.»
٢٧ وتمتاز دعوة الإسلام الانقلابية بأنها دعوة
الرسل لتجديد النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية
وتغييرها تغييرًا شاملًا. ومن هنا أتت الحاجة إلى الجهاد،
فالإسلام ليس مجموعة من المناسك والشعائر، بل هو «نظام كلي
شامل يريد أن يقضي على سائر النظم الباطلة الجائرة الجارية
في العالم ويقطع دابرها، ويستبدل بها نظامًا صالحًا
ومنهاجًا معتدلًا يرى أنه خير للإنسانية من النظم الأخرى
وأن فيه نجاةً للجنس البشري من أدواء الشر والطغيان،
وسعادةً له وفلاحًا في العاجلة والآجلة معًا.»
٢٨
وحزب الانقلاب هو حزب الله، حزب الحق والعدل ليكون
شهيدًا على الناس. ومهمته «أن يقضي على منابع الشر والعدوان
ويقطع دابر الجور والفساد في الأرض والاستغلال الممقوت، وأن
يكبح جماح الآلهة الكاذبة الذين تكبروا في الأرض الله بغير
الحق وجعلوا أنفسهم أربابًا من دون الله، ويستأصل شأفة
ألوهيتهم ويقيم نظامًا للحكم والعمران.»
٢٩ إن حزب الانقلاب هو الوحيد المرشح لأخذ السلطة
من أجل القضاء على الفساد. يقول المودودي: «إن هذا الحزب لا
بد له من امتلاك ناصية الأمر، ولا مندوحة له عن القبض على
زمام الحكم؛ لأن نظام العمران الفاسد لا يقوم إلا على أساس
حكومة مؤسسة على قواعد العدوان والفساد في الأرض.»
٣٠ لذلك لا يمكن تقسيم الجهاد إلى هجومي ودفاعي؛
لأن هذين اللفظين يصدقان فقط على الحروب الوطنية، وليس
الجهاد في الإسلام كذلك؛ لأنه هجومي ودفاعي معًا: «هجومي
لأن الحزب الإسلامي يضاد ويعارض الممالك القائمة على
المبادئ المناقضة للإسلام ويريد قطع دابرها، ولا يتحرج في
استخدام القوة الحربية لذلك.»
٣١ هذا الحزب هو الذي يقوم بتنفيذ برنامج الجماعة
وهو «أن تستأصل شأفة كل نظام للحياة أُسس بنيانه ووُضعت
قواعده على الانسلاخ من عبودية الله وعدم المبالاة
بالمسئولية الأخروية والاستغناء عن تعاليم الأنبياء
وإرشاداتهم، فإنه مبيد للإنسانية مقوض لدعائمها، وأن تقيم
مكانه نظامًا للحياة مبناه على طاعة الله عز وجل والإيمان
بالآخرة واتباع الرسل والأنبياء، فإنه لا سعادة للإنسانية
ولا فلاح إلا فيه.»
٣٢ ويفصِّل المودودي هذا البرنامج في نقاط أربع؛
الأولى: تطهير الأفكار وتعهدها بالغرس والتنمية، ومن هنا
كان اهتمام المودودي بالتعليم والتربية وتطهير الثقافة.
الثانية: استخلاص الأفراد الصالحين وجمعهم في نظام واحد
وتربيتهم من أجل تكوين الزعامة من الصفوة. والثالثة: السعي
في الإصلاح الاجتماعي الشامل في الدين والدنيا دون اكتفاء
بالوعظ والإرشاد. والرابعة: إصلاح الحكم والإدارة لأن تغيير
نظام الحكم هو السبيل لمنع الفساد في الأرض.
٣٣
ويحدث الانقلاب عن طريق تكوين جماعة من الصفوة تقوم
بالانقلاب «فإنها لا تظهر دولة إسلامية بطريقة خارقة
للعادة، بل لا بد لإيجادها وتحقيقها من أن تظهر أولًا حركة
شاملة مبنية على نظرية الحياة الإسلامية وفكرتها، وعلى
قواعد وقيم خلقية وعملية توافق رُوح الإسلام وتوائم طبيعته،
يقوم بأمرها رجال يُظهرون استعدادهم التام للاصطباغ بهذه
الصِّبغة المخصوصة من الإنسانية، ويسعون لنشر العقلية
الإسلامية، ويبذلون جهودهم في بث رُوح الإسلام الخلقية في المجتمع.»
٣٤ ثم تتحول هذه الصفوة شيئًا فشيئَا إلى حركة
شعبية شاملة «تقوم هذه الحركة الشعبية وتنهض وتقوى حتى تغير
بجهادها المستمر العنيف أسس الجاهلية الفكرية والخلقية
والنفسية والثقافية السائدة في الحياة الاجتماعية وتأتي
بنيانَها من القواعد.»
٣٥ وكلما كانت الصفوة مختارة كان نجاحها أعظم.
يقول المودودي: «إن إعلاء كلمة الله والدعوة إلى القيام بها
تحتاج إلى رجال ذوي صلاح، يتقون الله في السر والعلن، ممن
لا يلهيهم عن العمل بالشريعة والاستمساك بعُروتها شيء من
مطامع الدنيا، ولا تصرفهم عن ذلك العقبات والشدائد. ولا يهم
الدعوة بعد ذلك هل برز للعمل أمثال هؤلاء الرجال من الذين
ورِثوا الإسلام عن آبائهم أو من قبلوا هذه الفكرة بأنفسهم.
وايْمُ الحق إن عشَرة رجال من أمثال هؤلاء أرجح كفة وأثقل
وزنًا في ميزان الدعوة الإسلامية من الآلاف المؤلفة من ضعاف الأخلاق.»
٣٦ هؤلاء الرجال يُكوِّنون الزعامة الحقة التي لا
تبغي النفع العاجل ولا تنظر إلى مصالح قومها، بل هي الزعامة
التي تحقق حاكمية الله الأوحد، كما فعل رسل الإنسانية وكما
تثبت سنن الله في الكون. ويحدد المودودي الدعوة الإسلامية
في ثلاثة مبادئ: عبادة الله، وتطهير النفس، والانقلاب
العام. ويقول المودودي شارحًا المبدأ الثالث: «ودعوتنا
لجميع أهل الأرض أن يحدثوا انقلابًا عامًّا في أصول الحكم
الحاضر الذي استبدت به الطواغيت والفجرة الذين ملئُوا الأرض
فسادًا، وأن ينتزعوا هذه الإمامة الفكرية والعملية من
أيديهم حتى يأخذها رجال يؤمنون بالله وباليوم الآخر
ويَدينون بدين الحق ولا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا.»
٣٧
وأهم عنصر في هذه الجماعة هو تربيتها وتأهيلها للزعامة،
وذلك عن طريق التربية الخلقية. الغاية هي «إحداث انقلاب في
القيادة قبل أن يحدث الانقلاب في الشعب، وأعني بذلك أن أقصى
ما نبتغي الوصول إليه والظفر به في هذه الدنيا أن نطهر
الأرض من أدناس قيادة الفسقة الفجرة وسيادتهم، ونقيم فيها
نظام الإمامة الصالحة الراشدة. فهذا السعي والكفاح المتواصل
نراه أكبر وأنجع وسيلة موصلة إلى نيل رضا الرب تعالى
وابتغاء وجهه الأعلى في الدنيا والآخرة … فإن أراد أحدٌ
اليوم أن يطهر الأرض ويستبدل فيها الصلاح بالفساد والأمنَ
بالاضطراب والأخلاقَ الزكية بالإباحية، والحسنات بالسيئات،
لا يكفيه أبدًا أن يدعوهم إلى الخير ويعظهم بتقوى الله
وخشيته ويرغبهم في الأخلاق الحسنة، بل من المحتوم عليه أن
يجمع من عناصر الإنسانية الصالحة ما يتمكن من جمعه ويجعل
منها كتلة متضامنة وقوة جماعية تمكنه من انتزاع زمام الأمر
من الذين يقودون موكب الحضارة في الدنيا، وإحداث الانقلاب
المنشود في زعامة الأرض وإمامتها.»
٣٨ يجب إذن تكوين زعامة طاهرة في مواجهة الأغلبية
الدنسة من أجل تحويلها إلى جماعة طاهرة؛ لأن غاية الدين
الحقيقية هي إقامة نظام الإمامة الصالحة الراشدة وتوطيد
دعائمه في الأرض «وكل ذلك يتوقف تحققه على القوة الجماعية.
والذي يضعضع القوة الجماعية ويفت في عَضُدها يجني على
الإسلام وأهله جناية لا يمكن جبرها … ثم إذا لم يكن من
الممكن تحقيق هذا المقصد الإسلامي إلا بالمساعي الجماعية،
لم يكن بد من أن تكون في الأرض جماعة صالحة تؤمن بمبادئ
الحق وتحافظ عليها ولا تكون لها غاية في الحياة إلا إقامة
نظام الحق وإدارة شئونه».
٣٩
وتقوم التربية الخلقية للزعامة على القوانين المادية
والمعنوية. فالإنسان موجود طبيعي تسري عليه سائر قوانين
الطبيعة، ولكنه أيضًا موجود خلقي لا يذعن للطبيعة بل يسيطر
عليها ويتحكم فيها. فالأخلاق هي مناط رقي الإنسان وانحطاطه،
وهي نوعان: الأخلاق الإنسانية الأساسية، والأخلاق
الإسلامية. فالأولى مثل: «قوة الإرادة والمَضاء في الأمر
والعزم والإقدام والصبر والثبات والأناة ورباطة الجأش وتحمل
الشدائد والهمة والشجاعة والبسالة والنشاط والشدة والبأس
والولوع بالغاية والاستعداد للتضحية بكل شيء في سبيل
تحقيقها، والحزم والحيطة وإدراك العواقب والقدرة على تقدير
المواقف المختلفة» … وهذه كلها صفات القيادة الحازمة
والزعامة الصُّلبة. أما الأخلاق الإسلامية فلها مهام ثلاث؛
الأولى: تزويد الأخلاق الإنسانية بمركز صحيح وقطب مستقيم
إذا اقترنت به حولها إلى الخير والرشد وهو ما توفره الزعامة
بوجودها. والثانية: تأصيل الأخلاق الإنسانية وتوسيعها
وتطبيقها وتقويتها مثل الصبر والمثابرة والجهاد وهو ما
توفره الزعامة أيضًا بقدوتها. والثالثة: تطهير القلب من
أدران الأثرة والأنانية والظلم والخلاعة والاستهتار، وهو ما
توفره الجماعة أيضًا بإيمانها. زعامة الجماعة إذن تجمع بين
الأخلاق الأساسية والأخلاق الإسلامية وتستخدم الوسائل
المادية والمعنوية لتحقيق غايتها. وهي وإن كانت قلة من حيث
الكم إلا أنها كثرة من حيث الكيف.
٤٠ ويضع المودودي أربع مراتب للأخلاق الإسلامية
يتدرج المسلم فيها من بدايتها إلى نهايتها فيصل إلى رتبة
الزعامة: الإيمان وهو مجرد إقرار باطني، ثم الإسلام حيث
يظهر الإيمان من الباطن في عملٍ للجوارح، ثم التقوى وهي عود
إلى الباطن من أجل خشية الله، ثم الإحسان وهو عود إلى
العالم الخارجي لبدء النضال الجماعي من خلال الجماعة.
٤١ ويحدد المودودي منهاج العمل للجماعة بثلاثة
مبادئ: الاصطباغ بالدين كلية، وتقوية أواصر الصداقة
والقرابة، والصبر على الشدائد والثبات في المصاعب. ويعدد
مميزاتها في أربع: أنها جماعة تقوم على المبدأ، راسخة
العقيدة، حسنة الأخلاق، قادرة على الكشف عن اللئام.
٤٢ يقول المودودي: «لأنه في مثل هذا الكفاح
والمقاومة يُمتحن القائمون بالدعوة وحاملو لوائها بأنواع
المصائب والشدائد فيقاسون الآلام والأهوال ضربًا وقتلًا
وإجلاء عن الوطن، ويبذلون مُهجهم وأرواحهم بكل صبر وجلَد
وإخلاص وعزم ويُبتلَون بالشدائد ويُفتنون.»
٤٣
ويبرز المودودي دور الطلبة في بناء مستقبل العالم
الإسلامي مما يفسر إقبال الطلاب خاصة على الجماعات الدينية.
فالطلبة هم قادة الوعي، القادرون على الفكر والمؤهلون
للزعامة. الطلاب في البلاد الإسلامية في أوضاع متجانسة يرون
انهزام الأمة أمام الاستعمار وأثر الحضارة الغربية في
ثقافاتهم. وبالتالي فعلى عاتقهم يقع تحويل التراث الحضاري
إلى الأجيال القادمة. وهناك طريقان لذلك؛ الأولى: تخص
الطلبة، والثانية: تخص الحكومات. فما يخص الطلبة هو تربيتهم
على مبادئ الإسلام الثلاثة: مبدأ التوحيد ومبدأ الرسالة
ومبدأ البعث بعد الموت، وضرورة تركيز الجهود للمحافظة على
هذه المبادئ من أجل الاستمساك بالأخلاق الإسلامية والحضارة
الإسلامية أمام جرائم الذين ينشرون الثقافات العاهرة في
الشباب الإسلامي، ووسط انتشار الخيانات في المجتمع. أما ما
يخص الحكومات فهو ضرورة التربية العسكرية على مبادئ الإسلام
حتى يمكن للشباب تحقيق أهداف الإسلام.
٤٤
والحقيقة أن كل ما يقوله المودودي لحل هذه الثنائية
المتعارضة صحيح من حيث المبدأ، ولكن الخلاف في التطبيق، فلا
يمكن إدانة الواقع كله وهدمه وتقويضه ثم إعادة البناء من
جديد. بل الممكن هو تطوير الواقع تمامًا وبالتالي تتحقق
الحاكمية لله. فإدانة الواقع كله لا تسمح بالتعامل معه، بل
تسبب النفور من كل محاولات الإصلاح والتغيير. صحيح أن هذه
الثنائية المتعارضة تعبر أيضًا عن البناء الثقافي للمجتمعات
المتخلفة التي لا تعرف التوسط بين الأطراف، إلا أن اكتشاف
الواقع هو الذي يمكن أن يجمع الأطراف المتصارعة حوله.
فالواقع ليس حقًّا أو باطلًا، خيرًا أو شرًّا، بل هو الواقع
ذاته يتغير ويتحرك ويتبدل. هو ميدان العمل والجهاد والكفاح
المتواصل. إن توجيه نشاط الجماعات الإسلامية إلى البناء وحل
المشاكل الأساسية التي تعرض لها مجتمعاتنا مثل الفقر
والأمية ونقص الخدمات هو السبيل لاكتشاف الواقع. وإن إعادة
البناء هو خير من الهدم.
الإيمان والطاعة
الدين هو الإيمان والتسليم بمعطياته دون إعمال لعقل أو
إقامة لبرهان على صحة هذا الإيمان أو حتى مضمون اجتماعي له.
والإيمان أكثر عاطفة وانفعالًا وأقل عقلًا وبرهانًا. لذلك
غاب الحوار، وانعدم النقاش، وزادت الحمية الدينية، وانقلبت
إلى تعصب وهوس.
عندما يتحدث المودودي عن مبادئ الإسلام فإنه لا يتحدث
عن الإيمان بالواقع عن طريق الحس والمشاهدة وبطريق العقل
والاستدلال، ولكنه يتحدث عن الإيمان عن طريق النبوة، نبوة
الرسل. فالعقل البشري يتخبط في طريقه، والمعرفة البشرية
ناقصة وخاطئة، والإنسان جاهل ونَزَّاع للهوى. أما الرسل فهم
أكمل البشر وأفضل الخلق؛ لذلك هم مصدر العلم والمعرفة.
النبوة إذن هي الطريق إلى العلم الصحيح، ليس عن طريق الجهد
البشري بل عن طريق الوحي والإلهام. والدليل على صدق النبي
هو المعجزة أي الدليل الخارجي المحض. النبوة ضرورية للإنسان
لأن الإنسان لا يكفي ذاته، إن استطاع معرفة دنياه فإنه قاصر
عن معرفة آخرته.
٤٥
أما مضمون النبوة فهو ديني خالص، الإيمان بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعلى رأسه تصور
الألوهية وصفاتها. يغيب عنه المضمون الاجتماعي الذي يربط
الإيمان بقضايا الواقع حتى لا ينغلق على نفسه فيتصلب ويتحول
إلى هوس ديني. والعجيب أن يجعل المودودي نسبة التصوف إلى
الفقه نسبة الدين إلى الشريعة، التصوف شريعة للباطن
والشريعة شريعة للظاهر. والمسلم من يجمع بين الشريعتين
وأصبح باطنيًّا في سره ظاهريًّا في علنه، يتصوف ويقيم الشعائر.
٤٦
ويقوي ذلك ما يسود مجتمعاتنا من دِعاية للإيمان لأن
الإيمان يعني التسليم، والتسليم بالمعطيات مسبقًا يخدم
النظم السياسية؛ لأنه يضمن لها طاعة الجماهير والتسليم
المسبق بما تعطيه لها الصفوة الحاكمة. كما أنه الطابع العام
المميِّز للمجتمعات المتخلفة، إذ يُقاس التقدم بمقدار ما
يتوفر في المجتمع من عقلانية وممارسة للنقد. ويمكن بطبيعة
الحال التخفيف من حدة هذا الإيمان الانفعالي عن طريق عمل
العقل، وطلب البرهان، وتحليل المعطيات، والتفرقة بين التمني
والرغبات من ناحية وبين الفكر الموضوعي من ناحية
أخرى.
ويقترن الإيمان بالطاعة، فإن أي تنظيم اجتماعي لا بد أن
يقوم على الإيمان الراسخ لأعضائه وعلى طاعة الأمير. وقد
انهارت المجتمعات الإسلامية لفقدانها هاتين الدعامتين.
٤٧ والطاعة مطلقة تنفيذًا للأوامر ودون مناقشة،
لما تقتضيه الحاكمية لله. وقديمًا عرَّف الصوفية التصوف
بأنه: «الإعراض عن الاعتراض.»
ويعرف المودودي الإسلام حسب التعريف الشائع بأنه
الانقياد والاستسلام. فالكون كله منقاد لقاعدة معينة وكذلك
حياة الإنسان. أما الكفر فهو العصيان والجهل والظلم
والخسران المبين. ويقرن بين الإيمان والطاعة، ويجعل حاجة
الإنسان إلى العلم واليقين من أجل الطاعة وليس لأجل الرفض.
يجعل الإيمان الإنسان مطيعًا منفذًا للأوامر والأحكام، ومن
لا يؤمن بالله يكون رافضًا عاصيًا خارجًا. وإن طاعة النبي
واجبة فيما نفهم وفيما لا نفهم. أما العبادة فهي أيضًا خضوع
العبد للرب. وأحكام الشريعة تطلب من الإنسان حق الله في
الطاعة والإيمان والانقياد.
٤٨
ويحدد المودودي الصفات اللازمة للعاملين في الحركة
الإسلامية على نوعين: فردية وجماعية. فالفردية تشمل الخضوع
للأوامر والنواهي، وطبقًا لهذا الخضوع تتحدد درجات الجهاد
ثم الهجرة ثم بداية الحرب مع البيئة المحيطة ابتداءً من
المنزل حتى المجتمع. أما الجماعية فإنها تهدف إلى تحريك
الجماعة عن طريق أواصر الصداقة والقرابة. والمجاهد في سبيل
الله تتحدد عَلاقته بالله بالتفهم والتفكر أولًا وبالعمل
ثانيًا. وتقوى عَلاقته بالله بالصلاة وذكر الله والصوم
والإنفاق. ومقياس عَلاقته بالله إيثاره الآخرة على الدنيا.
ولا مكان للانتقاد الاجتماعي إلا عن طريق إسداء النصح
والمشورة لأمراء الجماعة؛ لأن واجب المجاهد أولًا هو
الالتزام بالسمع والطاعة. لا يكون الانتقاد في كل حين
ومجلس، بل بناء على طلب من أمير الجماعة المحلية، مع توخي
رقابة الله ودون إطالة، مع توقعٍ لما يأتي عن الانتقاد
الزائد من الفساد.
٤٩
وتبدو هذه الطاعة في الولاء المطلق لأعضاء الجماعات
الدينية لأمرائهم، وفصل كل من يشق عصا الطاعة عليها لدرجة
التهديد بالقتل، وتنفيذ الأوامر بالقتل والعنف والاستيلاء
على مؤسسات الدولة دون تفكير أو مناقشة أو اعتراض أو حتى
مراجعة. وهنا تتحدد حاكمية الدولة بحاكمية الأمير طبقًا
للتفسير الشائع لآية أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ. بل ويتم التحكم في أعضاء الجماعة حتى
في أحوالهم الشخصية من زواج وطلاق أو عمل في الدنيا وهجرة
إلى الآخرة.
ويقوي ذلك الطابع التسلطي لمجتمعاتنا المعاصرة التي
يسودها أيضًا هذا النمط من السلوك طبقًا للتصور الهرمي
للعالم. فالحاكمية للسلطان الذي يأمر فيطاع دون جدل أو نقاش
حتى ولو اعترضت على أوامره وقوانينه بعض جماعات المعارضة.
وبالتالي تعبر أيديولوجية التسلط ليس فقط عن الحاكمية لله
بل أيضًا عن الأوضاع السياسية في مجتمعاتنا المعاصرة، كل
منها يقوي الآخر ويغذيه. تقوي هذه الطاعة نظمنا السياسية
المعاصرة التي يدين لها المواطن بالولاء. فتعتقل المعارضين،
وتتهمهم بالمروق والعصيان، وتُدين حركات الرفض، وتصف الثوار
بالكفر والعمالة والإلحاد.
ويمكن التخفيف من حدة هذه الطاعة العمياء عن طريق إذكاء
رُوح المعارضة في المجتمع، وإفساح المجال للتعبير عن مختلِف
الآراء. وعدم سيادة الرأي الواحد والإرادة الواحدة، وسماع
آراء الشباب بدلًا من تلقينهم للمذاهب السياسية والمعتقدات
الدينية أو دفعهم نحو المراجعة والتمحيص، وعدم قبول شيء على
أنه حق إن لم يثبت بالدليل أنه كذلك. ويبدو أن المأساة هي
ظهور هذه الجماعات الدينية في مجتمعات متخلفة نظرًا لأن
الطاعة العمياء وغياب النقد هي إحدى سمات التخلف الحضاري،
حتى ولو ظهرت مثل هذه الجماعات في المجتمعات الصناعية
المتطورة.
المحارم والطقوس
الحجاب والستار والمَحرَم علامات مميِّزة للجماعات
الدينية تخصها عن غيرها من الجماعات تأكيدًا للهُوية
الدينية والانفصال عن بقية المجتمع. فجسم الإنسان به أجزاء
محرمة لا بد من تغطيتها، والعَلاقات الإنسانية بها جوانب
محرمة لا يجوز الاقتراب منها. ويصل الأمر إلى تصور العالم
مملوءًا بالمحرمات التي تتحول إلى مقدسات كما هو الحال في
المجتمعات المتخلفة. والأخطر من ذلك أن يتحول ذلك المجهول
إلى نشاط سري وأن تتحول الجماعات الدينية إلى جماعات باطنية
تخضع لقوانين العالم السري، عالم ما تحت الأرض. ومعروف أنه
يغلب على هذه الجماعات الطابع السري، على ما هو معروف في
فرق الشيعة؛ لأنها جماعات مناوئة للنظم القائمة، وتبدأ
بالعمل السري في الخفاء قبل أن تظهر في العلن.
لذلك تظهر مسألة الحجاب وكأنها مسألة جوهرية في الإسلام
وفي تنظيم الجماعات الدينية. وتبدو مسائل الجنس والزواج وغض
البصر وعدم لمس يد النساء، والهجوم على حفلات التعارف
والرحلات والجلوس المشترك للطلبة والطالبات في الجامعات، كل
ذلك فتنة وشبهات! فالإنسان حيوان مملوء بالرغبات والشهوات
والغرائز التي يجب كبح جماحها، وذلك عن طريق المحرمات، أي
اقتصاص جوانب في الإنسان لا يمكن الاقتراب منها، بل
معاملتها بالكبت والحرمان مثل الجنس المحرم. ويفصل المودودي
أحكام اللباس وستر العورات وحدود العورة للرجال وحدود
العورة للنساء وتحريم منع الخلوة واللمس وضرورة الاستئذان.
كما يحرم النظر إلى النساء ويمنع إبداء الزينة ويطالب
بإصلاح الباطن لمقاومة الشهوات والفتن: فتنة النظر، وفتنة
اللسان، وفتنة الصوت، وفتنة الطِّيب، وبطبيعة الحال فتنة
العُرْي. ولما كان عمل المرأة في منزلها إلا عن حاجة ترخِّص
لها الخروج فإنه يُؤذَن لها بحضور المساجد والحج وخروجها
للجمعة والعيدين وزيارة القبور واتباع الجنائز. والرجل قوام
عليها ومسئول عن معاشها وتربيتها وصلاحها.
٥٠ وفي كل كتاب يعقد المودودي فصلًا عن المرأة
وملك اليمين والزواج والطلاق وكأنها موضوع خاص له كِيانه
وقانونه الخاص.
٥١
وينتج عن هذا أخلاق التزمُّت والالتزام بالشعائر
والطقوس والمظاهر الخارجية. ويتحول الدين إلى مجرد أعمال
للجوارح كنوع من الإعلان عن النفس والدِّعاية الدينية
المرئية التي يلاحظها كل الناس، فما أسهل إطالة اللحى بدعوى
السنة، ومسك السُّبحة بدعوى ذكر الله، ولبس الجلباب الأبيض
بدعوى الزي الإسلامي، وإقامة الصلاة في الكليات والمعاهد
ودور العلم بدعوى الإيمان. فمبادئ الإسلام هي الأركان الخمس،
٥٢ وقانونه هو قانون العقوبات، وحدوده لمن يقترب
من المحرمات، والشريعة وضعت القيود لزجر النفس وكبح جماح
شهواتها وعقابها حتى أصبح العالم كله مغلغلًا بالشريعة، وكل
شيء محكوم عليه بقانون، فضاعت البراءة الأصلية وانعدم
السلوك الفطري. وكل ما لم يُذكر اسم الله عليه من الذبائح
فهو حرام حتى ولو كانت ذبائح أهل الكتاب.
٥٣ ويحدث هذا كَرَدِّ فعل عما يحدث في المجتمع
المتخلف من انحلال خلقي وإثارة جنسية ينشأ بعده التزمُّت
المضاد عند الأتقياء. هذا بالإضافة إلى أن المجتمع المتخلف
يتسم بالتشدق بالفضائل والرغبة في الإعلان عن التقوى في
مظاهرها الخارجية حتى يفعل الباطن ما يشاء بغير حساب كما هو
الحال عند المنافقين.
ويظهر نشاط الجماعة نظرًا لغياب أي نشاط سياسي آخر لأي
حزب أو جماعة، فيبدو فريدًا نظرًا للسلبية التامة لمعظم
التنظيمات السياسية. ويظهر سريًّا نظرًا لغياب أي نشاط
إسلامي علني يدعو إلى تحقيق الحاكمية لله بعد القضاء على
نشاط الإخوان المسلمين منذ ١٩٥٤م حتى الآن. ويمكن التخفيف
من حدة التزمُّت الديني عن طريق العودة إلى الفطرة وإلى
البراءة الأصلية التي تحدث الأصوليون عنها، ففطرة الإنسان
بطبيعته تدفعه نحو الخير، والبراءة الأصلية في العالم،
الأشياء على الإباحة ما لم يَرِد فيها تحريم، تجعله خارج
نطاق المحرمات. ويمكن القضاء على كل المحرمات والأسرار
«التابو» عن طريق العلم والمعرفة، فلا حياء في الدين،
والإنسان قادر على معرفة ذلك المجهول حتى ولو كانت أعضاء
بدنه أو بدن الغير.
ومن مظاهر التزمُّت الديني ما يذكره المودودي باستمرار
عن أهل الذمة وحقوقهم في الدولة الإسلامية، والبداية بتقسيم
مواطني الدولة الواحدة إلى مسلمين وذِميين مما يثير الضغائن
والأحقاد ويبعث على الطائفية والفتن، وكأن الدولة الإسلامية
أصبحت قاب قوسين أو أدنى، أو كأنها قد تحققت بالفعل وأخذ
المسلمون حقوقهم، والآن جاء الدور على أهل الكتاب وأخذوا
حقوقهم، والآن نبحث عن واجباتهم. بل ويصنف المودودي أصناف
الرعية غير المسلمة، وهي كلها أصناف نظرية خالصة بالنسبة
للعصر الحاضر، ومجرد تمييزات فقهية تأتي من بطون الكتب تضر
أكثر مما تنفع.
٥٤
ومن مظاهر التزمُّت الديني أيضًا الهجوم على حركة تحديد
النسل وبيان أسباب نشأتها في الدول الصناعية كضرورة من
ضرورات الصناعة وكنتيجة لعمل المرأة. ولكن آثارها على الغرب
كانت وخيمة فيما يتعلق بكثرة الفواحش، والأمراض الخبيثة،
وكثرة وقائع الطلاق، وانخفاض نسبة المواليد. أما الإسلام
فإنه يترك خلق الله على الطبيعة؛ لأنه يعلم مضارَّ هذه
الحركة في الجسد والرُّوح وفي الحياة المدنية والاجتماعية
وفي الأخلاق وفي النسل والحياة القومية. ويمكن علاج مشاكل
الأمة عن طريق إعادة تنظيم اقتصادها وتوزيع مواردها وليس عن
طريق خنق إمكانياتها البشرية. وهو وإن كان على حق من حيث
المبدأ إلا أن سبب التحريم ليس هو الطبيعة بل ضرورة الثورة
السياسية في مجتمعاتنا من أجل إعادة توزيع الدخل القومي على
أساس من العدل والمساواة. والعجيب أن يُدين المودودي الفكر
الطبيعي في الغرب وينادي بالطبيعة في هجومه على حركة تحديد النسل.
٥٥
والأغرب من ذلك كله هو تأكيد المودودي على الملكية
الخاصة في الإسلام، ملكية الأرض بموجب القرآن والحديث،
ورفضه جميع أنواع الاشتراك في فلاحة الأرض مثل المزارعة.
والأغرب من ذلك كله هو وقوفه أمام الإصلاح الزراعي ونفيه
للتأميم والمساواة في توزيع الثروة ودفاعه عن حقوق الملكية
وإنكاره لأية قيود عليها، التي لا أصل لها إلا في هوى
النفس، وكأن الجماعات الدينية المغلقة تؤدي إلى الاستحواذ
على الأشياء والتسلط على المادة وتجعل المقصود من حدود الله
إثبات حق الملكية الفردية، في حين أن مثل هذه الجماعات عادة
تكون ذات نزعة اشتراكية، ولكن ظهورها في المجتمعات المتخلفة
التي ما زالت خاضعة لتأثير الثقافة الغربية، وعلى رأسها
الفكر الرأسمالي، جعلها تنحو نحوًا رأسماليًّا في تصورها
للملكية، مما يدل على أنها جماعات تسلطية أكثر منها
«كوميونات» للحياة المشتركة.
٥٦