وسنعتمد في تحليل فكر الإمام الشهيد على معظم مؤلفاته
وإرجاعها إلى المواقف النفسية والاجتماعية التي مر بها دون
الاعتماد على المواد الثانوية، مثل كتابات الآخرين عنه أو
رؤيتهم له، أو حتى سيرته الذاتية الخاصة وحياته الشخصية نظرًا
لما يمتاز به من اتساقٍ بين حياته الخاصة وحياته العامة،
ووحدةٍ بين النظر والعمل. وليس الهدف من ذلك هو إعطاء سيرة
فلسفية شاملة، بل أثره على الجماعات الإسلامية المعاصرة. كما
سنعتمد على فهم فكر مبني على الملاحظة المباشرة والتجارِب
المعيشة. ومما يسهل ذلك انتسابنا جميعًا إلى جيل واحد يجعل
المؤلف يحلل الموقف كله من خلال وحدة تجرِبة الدعوة الإسلامية
في عصر الثورات الوطنية الاشتراكية، وهي التجرِبة التي ما
زالت مستمرة حتى الآن. فإن كنا في الربع قرن الماضي قد عاصرنا
المد الوطني الثوري وانحسار حركة الدعوة الإسلامية فإننا
نعاصر منذ عدة سنوات انحسار حركة المد الوطني الثوري وعودة
حركة الدعوة الإسلامية إلى المد من جديد.
ويمكن التعرف على
أربع مراحل في فكر الإمام الشهيد تعبر عن تطوره الرُّوحي:
المرحلة الأدبية، والمرحلة الاجتماعية، والمرحلة الفلسفية،
والمرحلة السياسية. وهي في نفس الوقت مراحل تعبر عن تاريخنا
الثقافي منذ أكثر من نصف قرن ساهم فيها الإمام الشهيد. فقد
كان جزءًا منها مثل طه حسين والعقاد. وهي مراحل متداخلة فيما
بينها، ولكنها تتمايز بالطابع العام الذي يغلب على كل منها.
كما أنها تتفاوت فيما بينها في الطول والقصر؛ أطولها الأولى:
المرحلة الأدبية (١٩٣٠–١٩٥٠م)، وأقصرها الثانية: المرحلة
الاجتماعية (١٩٥١–١٩٥٤م) بعد أن وأدتها وهي في المهد الثورة
المصرية. ولو لم تندلع الثورة المصرية في ١٩٥٢م ولم يبدأ
الصراع بين الإخوان والثورة على السلطة وليس على المبادئ
الثورية الست، لامتدت المرحلة الاجتماعية حتى ابتلعت قوانين
يوليو ١٩٦١م، وطوت في داخلها مرحلة التحول الاشتراكي
(١٩٦١–١٩٦٤م) في الثورة المصرية، وطوَّرتْها وعمَّقتْها
وأصَّلتْها، وحافظت عليها، ودافعت عنها، ولَكُتب لها
الاستمرار والدوام، ولأصبح سيد قطب ليس فقط من أمثال الصحابة
الأوائل عمر بن الخطاب وأبي ذر الغفاري، بل أيضًا من دعائم
الثورة التحررية العالمية من أمثال ماركس، وماوتسي تونج،
وهوشي منه، وغرامشي، وجيفارا، ولكان حلقة الاتصال بين
ثُوَّارنا القدماء والثُّوَّار المحدثين مثل الأفغاني،
والسلطان جالييف، والإمام الخميني. ولكن الإمام الشهيد راح
ضحية هذا الصراع بين الإخوان والثورة.
كما أن هذه المراحل تتفاوت فيما بينها من حيث التطور
والوقوف ثم النكوص والارتداد. فهناك تقدم وتطور فعلي من
المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية. ولكنْ هناك توقف في
المرحلة الثالثة، المرحلة الفلسفية (١٩٥٤–١٩٦٢م)، التي تمت
بين جدران السجون، والتي تحولت فيها «معركة الإسلام
والرأسمالية» إلى «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته»، أي تحولت
معارك الإسلام عن النضال الاجتماعي إلى عرض نظري خالص
للإسلام. ثم حدث نكوص من المرحلة الفلسفية إلى المرحلة
السياسية في (١٩٦٣–١٩٦٥م) إبان موجة الاضطهاد الثانية
للإخوان، والتي بلغت ذروتها في آخر عام عاشه الشهيد عندما
تحولت «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» إلى «معالم في
الطريق» وانتقاء فقرات طويلة من «في ظلال القرآن»، وقد تم
معظمه بين جدران السجون، بالإضافة إلى بعض تجارِب السجن
الفكرية التي تعبر عن «فكر المضطهدين». حينئذٍ برزت أفكار
الألوهية والربوبية والحاكمية والدينونة والطاعة، وتم التعارض
بين الإسلام والجاهلية حيث لا بقاء لأحدهما إلا بالقضاء على
الآخر. وهنا يبدو أثر أبي الأعلى المودودي عليه. ومن هذه
المرحلة فقط خرجت جميع الحركات الإسلامية المعاصرة، سواء التي
استعملت العنف في حادثة الفنية العسكرية أو مقتل الشيخ
الذهبي، أو تلك التي تستعمله الآن في حرم الجامعة ومدرجاتها،
أو تلك التي ستستعمله فيما بعد وتعد له نفسها الآن خارج
الجامعة على نطاق النظام الاجتماعي ككل.
أولًا: المرحلة الأدبية (١٩٣٠–١٩٥٠م)
وهي أطول المراحل الأربعة، والتي يبدو فيها المؤلف
جزءًا من الحركة الثقافية والأدبية التي كانت تعم البلاد في
هذه الفترة.
٣ ويتفاوت إنتاجه فيها بين النقد الأدبي مثل:
«مهمة الشاعر في الحياة» عام ١٩٣٢م
٤ أو «النقد الأدبي، أصوله ومناهجه» عام ١٩٤٧م،
٥ وبين الإنتاج الأدبي في الشعر مثل: «الشاطئ
المجهول» عام ١٩٣٤م
٦ وفي الرواية مثل: «المدينة المسحورة»، «أشواك»،
«الأطياف الأربعة»، أو في السيرة الذاتية مثل: «طفل من
القرية» عام ١٩٤٥م.
٧ وقد تم تتويج هذه المرحلة باكتشاف الجانب الفني
في القرآن، وذلك في «التصوير الفني في القرآن» عام ١٩٤٥م،
ثم تطبيق النظرية في «مشاهد القيامة في القرآن».
٨
كانت الإحساسات الأدبية والفنية هي الطاغية على
التصورات العقلية والاهتمامات الوطنية والاجتماعية
والسياسية. ويبدو أن الشعر كان أعلى الفنون، وهو بمثابة
المنبع الأول للفكر، فالشاعر فيلسوف يحس ويشعر ثم يعبر
ويصوغ مرة بالصورة فهو شاعر، ومرة بالتصور فهو فيلسوف.
والشاعر مصور تقوم الصورة لديه على الخيال وتعتمد على
التناسق، وهو قادر بالخيال على الإحساس بالحقيقة، حقيقة
الإنسان والحياة والكون. وهو الشاعر الصادق في مقابل الشاعر
المزيف الذي لا يبدأ بالتجرِبة الوجدانية. صحيح أن للبيئة
أثرًا في التذوق والخيال، ومع ذلك فالتجرِبة الشعرية لها
استقلالها الخاص.
بهذا التصور للشعر وضع سيد قطب أول إنتاجه الأدبي وفيه
بذور «التصوير الفني» وبدايات «التصور» للحياة والإنسان
والكون، دفاعًا عن الأدباء الشبان ضد طه حسين الذي ينكر
عليهم إنتاجهم وموهبتهم، ومعطيًا له نماذج شعرية من خمسة
منهم، بالإضافة إلى نموذج واحد للعقاد، قائلًا لطه حسين:
«إنك تبحث عن الشاعر الشاب الذي نشأ في هذه الأعوام فصرف
جماعة من الشباب عن شوقي وحافظ ومطران فلا تجده، وعن الكاتب
الشاب الذي ظهر فاستحدث مذهبًا في النثر صرف بعض الناس عن
هيكل والمازني والعقاد فلا تظفر به.»
٩ هنا يظهر سيد قطب مدافعًا عن الخلق والإبداع
الذي سيصبح فيما بعد لديه مرادفًا للإسلام. وفي ديوانه
الشعري الأول «الشاطئ المجهول» الذي يضم مجموعة أشعاره في
١٩٣٤م وبداياتها قبل ذلك بعشر سنوات، تبدو الموضوعات
الفلسفية والميتافيزيقية من خلال الوجدان والإحساس الشعري
بالزمان والخلود. يعقد مقدمة للديوان يتحدث فيها كناقد عن
نفسه كشاعر، وكأنه انقسم شطرين ذات وموضوع، مبينًا أن الشعر
أوسع مجالًا من العلم والفلسفة، عارضًا لموضوعات الجسم
والعقل والرُّوح والزمن والوحدة ومستشرفًا المجهول. وفي نفس
الوقت يتحدث عن ملكة التصوير الفني ورُوح القصص، والحركة
الداخلية، وموسيقى الشعر.
١٠
وقد ظهر كثير من
الموضوعات الميتافيزيقية مثل الغربة والموت، فقد اعتاد
الشاعر أن يتردد كثيرًا على وادي الموتى في أوقات مختلفة
أكثر ما تكون عند مغرب الشمس وقبل طلوعها.
١١ إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور الموضوعات
الاجتماعية أو السياسية. بل إن الشاعر يتغنى بجمال ريف مصر
١٢ وأنه سر بقائها، ويطالب له بالسلامة. ولم يشر
إلى الإسلام إلا مرة واحدة مقارنًا تصوره للجسم والزمن
والوحدة إما بالنسبية أو بالتصوف الإسلامي،
١٣ ولكن الموضوع الغالب هو للوطنيات بالرغم من أنه
أقل الأجزاء جميعًا.
١٤ وتدور الأشعار الوطنية حول مصر، والسودان،
وفلسطين، والشرق. ومن الموضوعات التي كانت سائدة أيضًا عند
شاعر النيل حافظ إبراهيم وفي شعر العقاد.
١٥ فمصر في كبوة من التسلط والتخلف والاستعمار، آن
لها أن تنهض من عثراتها، ويحثها الشاعر على النهوض بعد
حادثة البداري ومأمورها المقتول وسجن أهالي البداري، دنشواي الجديدة.
١٦ كما كتب الشاعر أشعارًا في ذكرى سعد في ١٩٣٢م
والثورة الوطنية المصرية. كما حاول الاستعمار فصل شطرَي
وادي النيل والأمة في شغل عنه بما هي فيه من نكبات عامة.
وقد قام السيد العبيدة رئيس جمعية اللواء، بتأليف جمعية على
إثر إخراج الجيش المصري من السودان في ١٩٢٤م، وقام يناضل عن
وحدة وادي النيل المقدسة في جرأة ورجولة وبطولة، غير عابئ
بسجن أو بتنكيل بلغ من وحشيته «أن يُسجن الفقيد وهو سياسي!»
كما عبر الشاعر عن صوت مصر الوطنية بعد موافقة وزارة
وبرلمان صدقي على مشروع خزان الأولياء في ١٩٣٢م. ونظَم
الشاعر نداءً إلى البلاد العربية الشقيقة في ١٩٣١م بمناسبة
ثورة فلسطين وحوادثها الدموية. كما رثى شهيدَي الطيران على
طليعة الضحايا في ١٩٣٢م. وقد ظل صراعه مع الصهيونية منذ ذلك
الحين حتى استشهاده.
١٧ ومصر هي دُرة الشرق ومركزه في مواجهة الغرب.
فصَيْحة الأفغاني وشعر حافظ يتكرران معًا عند شاعر الوطنية.
١٨ فلا غرابة إذن أن يكون أول مهد له هو «مصر
الفتاة» في أواخر الأربعينيات.
أما «المدينة المسحورة»
١٩ فهي مدينة عظيمة في مصر القديمة تقع فيها فرصة
حب وانتقام. وقد كان البحث في مصر القديمة كمادة روائية
طريق جيل كامل من الأدباء إثر دعوة الأفغاني «مصر للمصريين»
وتحت تأثير الحركة الوطنية المصرية
٢٠ وتأسيس الحزب الوطني وقيام ثورة ١٩١٩م ونضال
مصر ضد الاستعمار، وتحقيقًا للوطنية المصرية التي بدأها
الطهطاوي ولطفي السيد وطه حسين والعقاد. ومع ذلك فالقصة
موضوعة في قالب روائي إسلامي، قصة من ليالي ألف ليلة وليلة،
الليلة المائة بعد الألف، تقصها شهرزاد على شهريار، وتدور
حول قصة حب وتعتمد على التحليل الوجداني للمحبين.
مما يظهر فيما بعد في منطق الوجدان والتعبير الحسي عنه.
٢١ كما تظهر بعض الموضوعات الدينية مثل: الخرافات
والسحر والشعوذة والأقدار
لِيَقْضِيَ
اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وتحقق النبوة والإلهام.
٢٢ كما تظهر صورة الطريق عدة مرات: أين الطريق؟ أو
لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ
ذَلِكَ أَمْرًا، مفرق الطريق بين عهدين، وهي
الصورة التي لم يخل منها أي عمل من أعماله، والتي أصبحت
فيما بعد عنوانًا لمؤلفه «معالم في الطريق» الذي دفع حياته
ثمنًا له.
٢٣ كما تظهر بدايات أفكار ستصبح فيما بعد نقدًا
للغرب مثل ضرورة إشراف الأم على تربية الأطفال فإن «إشراف
الأم لا يعدله إشراف.»
٢٤ وتظهر أيضًا بذور «التصور الإسلامي» خارجة من
الأدب مثل الحديث المستمر عن الحلم والواقع وعدم الفصل
بينهما، وبيان أهمية الحلم والخيال «لأن الحياة بلا خيال
نوع من التحجر»، ولأن الإنسان لن يصل إلى شيء إلا بالوجدان
والخيال والأحلام، ولأن الواقع الأصيل لن يحصره إدراك فرد
وهو ما سيصبح فيما بعد «التصور الإسلامي».
٢٥ ولكن الواقع أيضًا طرف للخيال، فالإنسان يحس
أيضًا بشوق إلى الحياة في الأرض والعودة إلى الواقع.
٢٦ وإذا كان السحر قد جمَّد الحياة وأوقف الزمان
٢٧ فإن الحب قد أعاد الحياة وحرك الزمن. والزمن
والتطور والحياة والتجدد والحركة بذور «التصور الإسلامي».
ويظهر التناسق الفني في بناء الرواية بين البطل والبطلة
«الأب والأم» وتحليل عواطف كلٍّ منهما بالتبادل، ثم بين
البطل والبطلة «الابنة والابن». فالرواية تقوم على فن هندسي
متقن، وهو ما سيصبح فيما بعد أساس «التصوير الفني في
القرآن». كما يبدو الصراع بين الخير والشر، بين الحب
والانتقام، بين الحياة والموت، مع الإفاضة في تصوير نزوع
الخير؛ لأن الأدب الإسلامي كما يقول فيما بعد لا يصور لحظات
الضعف الإنسانية بل لحظات القوة والاكتمال؛ لذلك لم يبين
المؤلف لماذا يَعثَى المدافعون عن المدينة، وما ذنب القتلى
من المتفرجين على المدينة.
ولكن الأظهر في ذلك كله هو الجانب الاجتماعي. فالبطل
ملِك والبطلة راعية غنم، فالحب لا يعرف التفرقة الطبقية
وينتصر على الملك في النهاية. وقد استبشر فريق وهلل لهذا
الانقلاب، وفي صميم نفسه شعور غامض بأن هذا تصرف إلهي يرفع
من مقام الشعب ويزيل الفوارق بينه وبين أكبر الرءوس في البلاد.
٢٨ ثم تكون البطلة الأميرة ابنتهما والبطل راعي
غنم، وينتصر الحب أيضًا في النهاية على انتقام الأميرة
الأولى المهجورة، وهي أميرة شريرة تحولت إلى ساحرة وفقدت
حبيبها. وقد زعم فريق أن الأميرة كانت قد قَسَت على امرأة
عجوز فقيرة رأتها تلوذ بحوائط القصر من الوابل المنهمر،
فأمرت بإبعادها عن القصر حتى لا تشوهه بمنظرها القذر.
٢٩ هذا الجانب الاجتماعي هو الذي سيستمر فيما بعد
المرحلة الأدبية كلها.
أما روايته «أشواك» فيبدو من الإهداء إلى رفيقة عمره
التي انفصل عنها أنها تجرِبة شخصية مر بها الكاتب الأديب،
تدور حول الصراع بين الإنسان والأدب، بين الحياة اليومية
وحياة الإبداع، وإيثار رفيقة العمر أن يبقى لعمله الأدبي
فهو أدوم وأخلد.
٣٠ وهي قصة تدور حول فترة الخطوبة بين الحبيبين
وتحليل نفس كلٍّ منهما بما فيها من غزل وحب وتوتر وغضب.
ويأخذ الحب الرومانسي صورًا حسية ووصفًا للصدور والرءوس والشعور.
٣١ كما يظهر موضوع الخيال والواقع من جديد مما
يوحي بالتصوير الفني كمقولة في النقد الأدبي فيما بعد.
٣٢ ويمكن تلمس بعض جذور الموضوعات الدينية لديه
مثل الحديث عن بيئته المحافظة التي جعلته يقترب من الشعر
والفن والخيال ويرتبك مع المرأة، أو مثل بعض التشبيهات
الصوفية مثل: «لقد خلا الهيكل من الصنم المعبود، واستوحش
الصوفي من سبحات الشهود.»
٣٣ وقد يكون موضوع الرواية كلها، وهو ثقل الماضي
في الحاضر أو الماضي الحي وأثر صديق الفتاة القديم على
عواطف خطيبها الحالي، هو البذور لموضوع التراث والتجديد،
والدين والتطور،
٣٤ وتراث الأمة الذي ما زال يعيش في قلوب الناس.
ومع ذلك فإنه يغلب على الرواية التحليل النفسي للفرد. ولا
أثر فيها للجوانب الاجتماعية أو التصورات الإسلامية. كما
أنها انتهت نهاية مأساوية وهي القطيعة والانفصال بين
الحبيبين على عكس التفاؤل الإسلامي.
أما «طفل من القرية» فإنه سيرة ذاتية للمؤلف في طفولته
المبكرة منذ أكثر من ربع قرن أيام الكُتَّاب والمدرسة وقبل
الرحيل إلى القاهرة، مثل «الأيام» لطه حسين ومهداة إليه.
بها اختلاف واتفاق معه مثل الخلاف والاتفاق بين الأجيال
والطبائع والحياة والاتجاه.
٣٥ ويتجاذب السيرة جانبان: الجانب الديني والجانب
الاجتماعي.
ويظهر الجانب الديني في دين القرية الذي يتمثل في تصوف
المجذوبين والإيمان بالعفاريت والأولياء، فلاعب الجمباز مثل
المجذوب. ولكن يبرز الدين العلمي على يد المدرسين الشبان
فيحدث التقابل بين الخرافة والعلم: بين العلاج عن طريق
العفاريت والتمائم وكتابات سليمان وآية الكرسي أو الصمد
وذكر الله الأعظم لطرد العفاريت الشريرة التي تختفي في شهر
رمضان، وبين الطب والعلم الحديث. بل يقوم المدرس الشاب مع
الأطفال بتجرِبة علمية يذهب فيها إلى المكان المسكون، رواق
المنزل القديم الذي سكنه الأرانب ويظنها الناس عفاريت،
لإثبات أن هذه العفاريت خرافة أساسها الجهل وقصص مكذوبة
لبعض الأغراض الدنيوية حقيقية أو متوهمة، ثم دور الخوف
والرعب في الإيهام
وتحويل الحقيقة إلى وهم. كما يظهر الدين في أسلوب الكُتَّاب
في تحفيظ قواعد اللغة والقرآن دون فهم أو تذوق، والصراع بين
الكُتَّاب والمدرسة، واعتماد الكُتَّاب على حفظ القرآن
وإهمال المدرسة له، ومحاولة المؤلف الجمع بين الحسنيين حفظِ
القرآن في الكُتَّاب وفهمِه في المدرسة، واكتشاف الكُتَّاب
والمدينة، وحب الثقافة والكتب، وتذوق الطبيعة، وتشخيص النهر
بعد الفيضان «مسكين خلاص همد»، وتفويض الأمور إلى الله
«الأمر لله» كما يؤمل أهل القرية دون أن تظهر الحاكمية
بعد.
وارتبط الدين أيضًا لديه بالوطنية، فقد حفظ رسالة لعمرو
بن العاص وصف فيها مصر والفيضان. وتأثر بالناظر الشاب وهو
يفيض وطنية، ويتحدث عن عباس الشيخ وعبد العزيز جاويش ومحمد
فريد وأنور باشا التركي وطلعت رءوف وشقيقته حميدية التي
أذاقت الحلفاء الويل في نهاية الحرب العظمى الأولى. وكان
الطالب يقرأ دواوين شعراء الوطنية مثل ثابت الجرجاوي وكتب
التاريخ كمادة وطنية. ولما اندلعت ثورة ١٩١٩م وقف الناظر
أمام التلاميذ وألقى عليهم خطبة نارية وطنية، وأغلق المدرسة
إلى أجل غير مسمًى لأنه ذاهب هو وزملاؤه للعمل في الثورة.
فالثورة واجب على كل إنسان. انطلق حماس الطالب، يكتب الخطب،
ويقرض الشعر، ويلقي ذلك في المجامع والمساجد لينفخ رُوح
الثورة في الجميع فصاروا يستمعون لكل هاتف بالثورة. وكان
الاسم المقدس الجديد لديهم هو سعد زغلول.
٣٦
أما الجانب الاجتماعي فإنه يظهر في تصوير فقر الريف
وترف الأغنياء، حتى لقد علم وهو في هذه السن ما يجب أن يبقى
وما يجب أن يزول. فلقد أحس أنه سارق لهؤلاء الغرب (الأجراء
الزراعيين) وأمثالهم من الملايين التي تُنبت الذهب في
الوادي ونجوعه. ولو كان في الوادي قانون عادل لقاده إلى
السجن قبل أولئك الكثيرين الذين يحسبهم القانون لصوصًا
ومجرمين. لقد ظل هذا الشعور يعاوده أبدًا كلما جلس يتناول
طعامًا دسمًا أو فاكهة لذيذة أو حلوى أنيقة أو يتمتع بأيسر
مباهج الحياة بين ملايين المحرومين. لقد علم أشياء وأشياء
ولم يتبين عمق آثارها في نفسه وقسوة وقعها على حسه إلا هو
يسترجعها الآن في الحين بعد الحين فيشعر في قرارة نفسه
بالخجل ويحس لنفسه ولشعبه بالازدراء. عرَف قحط النهر،
وارتباط الفلاح بالأرض، وإقامة المأتم يوم بيعها.
عرَف أغلاب الزمان في
الريف: غلب الفقر، غلب الحرمان، غلب الجور من الحكام:
الضريبة، مطالب العمدة، تلبية لأوامر الحكومة، تذاكر
الجمعية الخيرية والهلال الأحمر والإسعاف، سخرة الجسور،
وتنقية الدودة في مزارع الأثرياء وتفاتيشهم خارج القرية،
ومكافحة الجراد، وغلب الكدر المتواصل …
٣٧ عرَف أن الذين يعملون أجراء زراعيين غرب، لا
يربطهم بالقرية إلا الدين لا القومية ولا الجنس، وهو ما
سيظهر فيما بعد على أنه الأمة الإسلامية. عرَف قلب التقاليد
وبخاصة فيما يتعلق بالمرأة التي لا ترتفع في نظر الرجل عن
السلعة. فإذا كان بيت أهلها ما زال مفتوحًا فهي محترمة إلى
حد ما لأن هناك مالًا ينتظرها. أما أذا خَرِب بيت أهلها
فهنا تعاني من الذل والتحقير ما يحيل حياتها ظلامًا في
ظلام. وعندما تبلغ سن الثلاثين يجب أن تحتشم دون زينة
فتُقتل طبيعتها. لذلك سيظهر الإسلام فيما بعد كعدالة
اجتماعية وأخذ حقوق الفقراء من الأغنياء وكتحرير للمرأة
المسلمة.
ويمثل «التصوير الفني في القرآن» ثم «مشاهد القيامة في
القرآن» نقلة من الأدب إلى الدين، واكتشاف العنصر الفني في
الدين قبل أن يكتشف فيما بعد الأبعاد الاجتماعية والفلسفية
والسياسية. ويقوم على تجرِبة شخصية منذ سماع القرآن في
القرية في كنف أمه التي يهديها «التصوير الفني» كما أهدى
«مشاهد القيامة» إلى رُوح أبيه، وكما أهدى ديوانه «الشاطئ
المجهول» إلى أخيه. وينقد تفسير الأساتذة الذي لا ذوق فيه،
ويعتمد على التجارِب الإنسانية الشعورية والتأثر الوجداني،
ويعطي التفسير الشعوري معتمدًا على التذوق الفطري وتشخيص
الانفعالات الإنسانية، ويضع نظرية في التصوير الفني الذي
يعتمد على التخيل الحسي والتجسيم مركِّزًا على أغراض القصة
وهو إحداث الأثر النفسي المطلوب وليس وصف حقائق مادية
بالتفسير الحرفي للنصوص، فالآيات تحمل مثلًا يُضرب وليس
حادثًا يقع. وقد شغل القدماء أنفسهم بمباحث عقيمة حول اللفظ
والمعنى ولم يلمسوا قضية التصوير الفني «بالرغم من اقتراب
البعض منه مثل الجاحظ وابن قتيبة وقدامة وأبي هلال العسكري
وأخيرًا عبد القاهر الجرجاني الذي وضع نظريته في التخييل.»
وقد اقتصر «التصوير الفني» على الجانب الأدبي دون التعرض
للمسائل الاجتماعية مثل «العدالة الاجتماعية» أو الفلسفية
مثل «التصور الإسلامي» أو السياسية مثل «الحاكمية».
أما «مشاهد القيامة» فهي تطبيق لنظرية «التصوير الفني»
٣٨ على موضوع ميتافيزيقي خالص وهي الأخرويات:
البعث، واليوم الآخر، والجزاء والعقاب، مبينًا أثرها في
الشعور أو كما يقول المؤلف: «العالم الآخر في الضمير
البشري» وواضعًا إياها في إطار تاريخ الأديان المقارن الذي
يُجمع على أن الأخلاق هي أساس الجزاء والعقاب. ومع ذلك لم
يظهر البعد الاجتماعي والسياسي لهذه المشاهد. كما لم يظهر
بناء فني واحد لهذه المشاهد كلها بدل عرضها حسب الترتيب
الزمني للسور. ومع ذلك فيبدو أن قضية التصوير الفني كانت
تدل على شجاعة الفكر والتمسك بحرية النظر دون أدنى مجافاة
للدين. كما تدل على أن المؤلف كان مقدَّمًا على عصره الذي
ما زالت تسوده الحرفية والتفسير المادي للنصوص.
وأخيرًا يمثل «النقد الأدبي، أصوله ومناهجه» اجتماع
الأدب والدين ومحاولة إيجاد نظرية في النقد الأدبي تضم
منهجه في الأدب واكتشافه للجانب الأدبي في الدين في موضوع
«التصوير الفني في القرآن». ينقد التراث محاولًا تطويره
وفهمه، وتأصيلًا للتصوير الفني، على عكس ما سيفعل فيما بعد
في المرحلة الفلسفية من رفض الفلسفة والكلام والتصوف. وينقد
الأدب العربي القديم لأنه لا يسلك طريق التركيز ولا يسلك
طريق المشاهد والجزئيات في عرض التجارِب الشعورية إلا
نادرًا. همه صياغة التجرِبة الشعورية في حكمة أو قاعدة لا
في مشاهدة وحالة.
٣٩ وكان ينقص كثيرًا من النقاد والعرب القدماء لا
في مشاهدة على الحركة. وينقد قدامة لإقامته النقد على أسس
فلسفية منطقية على عكس عبد القاهر الذي حاول الاعتماد على
التحليل النفسي، فقد استطاع الإمام عبد القاهر الجرجاني أن
يصل إلى نظرية التخييل، فهو لذلك يستحق إهداء الكتاب: «إلى
رُوح الإمام عبد القاهر أول ناقد عربي أقام النقد الأدبي
على أسس علمية نظرية ولم يطمس بذلك رُوحه الأدبية الفنية،
وكان له من ذوقه الناقد وذهنه الواعي ما يوفق به بين هذا
وذاك في وقت مبكر شديد التبكير.»
٤٠ وبالرغم من هذا الموقف النقدي من التراث فقد
استطاع المؤلف أن يقدمه سهلًا بسيطًا واضحًا رافضًا تقليد
الغرب في النقد الأدبي، ومدافعًا عن التأصيل في التراث
القديم. ويستشهد بالأدب الشرقي ومؤلفات طاغور. ويعرض للحركة
الأدبية لجيل بأكمله: العقاد، وطه حسين، والمازني، وللشعر
الحديث عند نازك الملائكة، ويعتمد على الدراسات العلمية
لمعاصريه في الإبداع الفني.
٤١ وظل التمايز الحضاري مقياسًا للشعر ووضعه
المتميز داخل كل حضارة. ويدافع عن رأي العقاد في الأدب
الشعبي الذي لا سلطان عليه للطبقة الحاكمة. وتظهر الواقعية
في الأدب وأهميتها، وهي التي ستتحول فيما بعد إلى واقعية
المنهج الإسلامي، على عكس مُثُل أفلاطون المجردة. كما يشير
إلى صراع الطبقات كحقيقة اجتماعية يحللها الاجتماعي وإن لم
تكن موضوعًا مباشرًا للأدب، وإن حاول المؤلف فيما بعد تجاوز
الصراع الطبقي من أجل تغليب طبقة على طبقة إلى تحرر
الإنسانية جمعاء، وهو التحرر الأشمل والأعم والأبقى والأقرب
إلى الكرامة الإنسانية، وهو ما يسميه المؤلف «المنهج
التكاملي في الأدب» الذي يأخذ في الاعتبار كل العناصر
المكونة للعمل: الأدبية والفنية والوجدانية والاجتماعية
والإنسانية. صحيح أن الصراع محور الحركة التطورية في الفن
طبقًا للتفسير المادي للتاريخ، ولكن الإسلام لا يعطيه كل
هذه الأهمية؛ لأن أهدافه أوسع وأرقى. إنه لا يرضى بالظلم
الاجتماعي ولا يقره ولا يدعو الناس إلى الرضا به، بل يدعوهم
إلى مكافحته لتطوير البشرية.
ويركز المؤلف على أهمية القيم الشعورية والقيم
التعبيرية في العمل الأدبي، ويستشهد بالقرآن، ويكتشف
التصوير الفني من جديد، ويستشهد بمقتطفات طويلة منه لضرب
المثل بموسيقية الألفاظ، ولبيان وظيفة الصور والظلال
والإيقاع ومقدار اشتراكها في الدلالة الأدبية وفي تصوير
الجو العام. فالسمة الأولى للتعبير القرآني اتباع طريقة
تصوير المعاني الذهنية والحالات النفسية وإبرازها في صور
حسية.
ولكن الأهم من ذلك كله هو بداية الربط بين الأدب
والتصور، فالأدب في كل حضارة مرتبط بتصورات هذه الحضارة
وقيمها، ويمكن للناقد أن يتذوق العمل الأدبي ويرفض التصور
الذي يقوم عليه. والإسلام أدب وتصور يقوم عليه هذا الأدب،
فمن الصعب فصل الأدب عن التصور الكلي للحياة، وهو الإسلام.
فالإسلام عقيدة وحركة لتطوير الحياة وتجديدها. فمثلًا لا
يحفل الأدب الإسلامي إلا بقوة العنصر وليس بضعفه ولا
سلبيته. الإسلام لا يحارب الفنون ولكنه يعارض بعض التصورات
والقيم التي تعبر عنها هذه الفنون، ويقيم مكانها تصورات
أخرى. فالإسلام تصور تنبثق منه قيم. وبالتالي فالأدب
الإسلامي عقيدة ضخمة هائلة جادة فعالة خالقة منشئة تملأ
فراغ النفس والحياة وتستنفد الطاقة البشرية في الشعور
والعمل وفي الوجدان والحركة فلا تُبقي فيها فراغًا للقلق
والحيرة والتأمل الضائع. أبرز ما فيه الواقعية العلمية حتى
في مجال التأملات والإشراق. جاء الإسلام لتطوير الحياة
وترقيتها وليس للعرض في زمان أو مكان معين أو لمجرد تسجيل
ما فيها من دوافع ونزعات.
٤٢ الإسلام حركة إبداعية شاملة في الفن والحياة.
على عكس مثالية الغرب ستكون واقعية الإسلام. قرأ الجيل
الأول من الصحابة القرآن وكان هدفهم تطوير الواقع لا
ترقيعه. الأدب الإسلامي أدب موجه يحمل فكرة وصاحب رسالة.
٤٣ ولا نهضة للأمة إلا بالبعث الإسلامي، وليس كما
يلجأ البعض إلى الشرق أو إلى الغرب أو إلى الفرعونية
المصرية القديمة. وهكذا يكاد سيد قطب ينتقل من المرحلة
الأدبية إلى اكتشاف الإسلام ذاته كتصور وكتقدم في التاريخ،
كما حدث بعد ذلك في المرحلة الفلسفية.
٤٤
من هذا العرض للمرحلة الأدبية يمكن استنتاج
الآتي:
- (١)
بدأ سيد قطب حياته شاعرًا، أديبًا، روائيًّا،
ناقدًا، وكان مدخله إلى الدين هذا المدخل الأدبي
الفني. وعرَف «التصوير الفني» وتذوق القرآن وما
يُحدثه في النفس من إبداعات وانطباعات جمالية. ولكن
للأسف لم تتأثر الجماعات الإسلامية المعاصرة بهذه
المرحلة نظرًا لفقدانها الإحساسات الأدبية والجمالية،
بل ووقعت في حرفية تفسير النصوص وملئها بشحنة من
الغضب والتمرد والقسوة. وإن كان لديهم بقايا من شعر
أو قصة فإنه يعبر تعبيرًا مباشرًا وفجًّا عن الصراع
بين الإيمان والكفر، الإسلام والجاهلية، ويكون أقرب
إلى الدِّعاية والموعظة وأدب المناسبات. عرَف سيد قطب
الإسلام من خلال الأدب والفن، وتبنت الجماعات
الإسلامية الإسلام تحت ظروف نفسية واجتماعية تحول
الإسلام فيها إلى «أيديولوجية المضطهدين»، وبالتالي
يمكن التخفيف من أثر هذه الجماعات على حياتنا
المعاصرة، وذلك بالتركيز على الجوانب الأدبية والفنية
في الدين وأثر الصورة الفنية في توجيه سلوك المؤمنين.
فالعاطفة الدينية هي عاطفة جمالية ينقصها الصياغة
الفنية ويحل محلها التعصب والهوى. ويكون تشجيع حركة
الأدباء الشبان، وتأسيس الجماعات الأدبية في
الجامعات، وإصدار مَجلات للشعر والقصة والمقال الأدبي
كوسيلة لتعريف الانفعالات الدينية بأسلوبها الطبيعي،
وهو الأسلوب الأدبي، وإن صورة حسان بن ثابت «شاعر
الرسول» ليست ببعيد.
- (٢)
كان سيد قطب في أدبه شاعر الحب والغزل. ولم يجد
حرجًا في وصف مفاتن البدن وما يشعر به المحبون لشوق
اللقاء والعناق والقبلات. ولكن الجماعات الإسلامية
نظرًا لتطهرها الظاهري وحرمانها وكبتها، نظرًا لما
يسود المجتمع من محرمات على رأسها الجنس، تضع كل
ثقلها في الغطاء والحجاب، وفصل الطلبة عن الطالبات.
تسقط التصور الجنسي للعالم نتيجة للتخلف والحرمان
والكبت ثم تغطيه وتحجبه عن طريق التَّزَمُّت الخارجي
والإشباع الجنسي عن طريق العداء للمرأة وبوتقتها
ووضعها على أريكة أمام الجميع أقرب لما يفعله العراة
ولكن على نحو مقلوب. وبالتالي يمكن للحياة الاجتماعية
المشتركة والسلوك السوي، والتعبير العلني عن عواطف
الحب والإعجاب المتبادل، والاعتراف بمكنونات الفطرة
وبمظاهر الجمال في الخلق. يمكن لذلك كله أن يقضي على
المحرمات فتخرج من السر إلى العلن بدل أن يموت
الانقلاب من الضد إلى الضد في حياة أفراد الجماعة من
الله إلى التجارة، ومن التَّزَمُّت إلى الإباحية، ومن
التقوى إلى النفاق.
- (٣)
كان سيد قطب جزءًا من الحركة الثقافية والنقدية
في مصر منذ الثلاثينيات حتى أواخر الأربعينيات حيث
ازدهرت المَجلات الثقافية والنقدية في مصر منذ
المعارك الفكرية والأدبية، وكان سيد قطب من النابغين
الشبان الذين فرضوا أنفسهم على الحركة الأدبية
والثقافية في مصر. ولكننا لا نجد للجماعات الإسلامية
أي أثر على حياتنا الثقافية والأدبية، بل انعزلت في
نشاط ذي نمط واحد معين وهو النمط المظهري الشعائري.
لم يبزغ منهم أحد في حركة الأدباء الشبان، كما فعلت
الحركات اليسارية بوجه عام والماركسية بوجه خاص، ولم
يدخل أحد منهم في معارك الفكر والأدب والثقافة كمفكر
وأديب وليس كداعية وخطيب. وبالتالي فإنه من الممكن
تحول هذا النشاط وإخراجه عن عزلته إلى المعارك
الثقافية والأدبية لجيلنا. فالدعوة الإسلامية ليست
مستقلة عن حياة البلاد الثقافية ومعاركها
الأدبية.
- (٤)
ظهر في أدب سيد قطب الشعور الوطني ومشاركته في
الوطنية المصرية بالشعر والخطبة والمقال بدافع فردي
خالص دون أن يتلقى تعليمات من جماعة أو من رئيس
مباشر. وكان يلهب شعورَه القادة الوطنيون والشهداء
الأبرار لمعارك جيلنا: استقلال مصر، وحدة وادي النيل،
استقلال فلسطين. ولكن الجماعات الإسلامية المعاصرة
غالبًا ما ترى الشعور الوطني أقل قيمة من الشعور
الديني، بل كثيرًا ما تتنكر له وتجعله مناقضًا للشعور
الديني ومضادًّا له، فتلتزم بمقتضيات الشعور الديني
وتضحي بالشعور الوطني، وهو ما يجعلها باستمرار موضع
الاتهام بالخيانة والعمالة لنظم دينية أخرى خارج
الوطن، ويجعلها غير قادرة ليس فقط على الدخول في وحدة
وطنية بل أيضًا على تصورها. فكيف يجتمع النقيضان:
الجاهلية والإسلام؟
- (٥)
استطاع سيد قطب، وهو الريفي القروي، إدراك مأساة
ريف مصر منذ الصغر، وأحس بفقر الفلاحين وبؤس الأجراء
الزراعيين. كما رأى ترف الأغنياء وسرقة اللصوص. وظل
هذا الانطباع طيلة حياته يعطيه الإحساس بالذنب تجاه
هؤلاء المنبوذين. بالرغم من أن لمعظم أعضاء الجماعات
الإسلامية جذورًا ريفية إلا إن إحساسهم بقضايا الفقر
والغنى يتوارى كليةً أمام إحساساتهم الدينية، حتى
أصبحت بغير ذات مضمون. ويقتصر حديثهم على بعض النصوص
الدينية فيما يتعلق بالزكاة والاستخلاف، ودون مساس
بجوهر الاقتصاد الرأسمالي مثل الملكية الخاصة،
والتنافس، والربح، والاقتصاد الحر، والتجارة. لم يصور
كُتَّابهم بؤس ريف مصر وفقره المدقع، ولم يشعر أحد
منهم بنيل مصر وفيضانه وكأنها إحساسات وثنية.
وبالتالي يمكن إرجاعهم إلى الريف وإدراجهم في العمل
الاجتماعي في الريف حتى تأخذ عواطفهم الدينية
مضامينها الاجتماعية.
- (٦)
كان سيد قطب وهو في هذه المرحلة الأولى من حياته
على وعي تام بالموقف الحضاري. ينقد التراث القديم
فيما لا نفع فيه ولا أصالة، ويبرز ما يصلح لجيلنا
وإشباع حاجاتنا. وينقد الغرب ويرفض تقليده، وفي نفس
الوقت الاستفادة بإبداعاته ودلالاتها بالنسبة لنا في
نهضتنا وبالنسبة له في مظاهر انهياره. وينفتح على
الحضارات الشرقية القديمة التي انفتحت حضارتها
القديمة عليها. ويبين حدود الإقليمية الحضارية مثل
الدعوة الفرعونية، ويطلق حدودها حتى تدخل في إطارات
الحضارات الشرقية القديمة التي تجعل العمل الصالح في
الدنيا أساس الجزاء في الآخرة. ولكن الجماعات
الإسلامية المعاصرة خرجت عن مسار التاريخ وإطار
الحضارات والتصقت بالتراث القديم وحده، وعادت التراث
الغربي، ما ينفع منه قبل ما يضر. كما عادت الشرق كله
وحضاراته مع أنها امتداد لحضارة الإسلام القديمة.
وبالتالي تحول نشاطها خارج التاريخ ودون وعي بالمرحلة
فانحسر أثرها. ويمكن التغلب على ذلك عن طريق إدخال
الجماعة في رُوح العصر، واعطائهم البعد التاريخي،
وانشغالهم بقضايا الساعة ومعرفتهم بالمراحل وإدراكهم
للتطور.
- (٧)
لم تظهر فكرة الحاكمية في هذه المرحلة الأدبية،
وهي الفكرة التي أصبحت مسيطرة عليه في المرحلة
السياسية. مما يدل على أنها فكرة طارئة عليه إما من
الخارج، خاصة من أبي الأعلى المودودي، أو من الداخل
تعبيرًا عن ظروف القهر السياسي والاعتقال ظلمًا. بل
كانت لديه بدايات رفض الدين الشعبي الذي يقوم على
الخرافة والجهل. بل إن بذورها لم تظهر لديه في
المرحلة الأدبية كما ظهرت بذور الاتجاهات الوطنية
والاجتماعية والثقافية.
ثانيًا: المرحلة الاجتماعية: (١٩٥١–١٩٥٣م)
وبالرغم من ظهور بدايات التحليل الاجتماعي في المرحلة
الأدبية إلا أنه بدأ بصورة واضحة في «العدالة الاجتماعية في الإسلام»
٤٥ وفي «معركة الإسلام والرأسمالية» وفي «السلام
العالمي والإسلام» وأخيرًا في «دراسات إسلامية» التي تبدأ
فيها القطيعة بين الإخوان والثورة.
٤٦ وقد انتهى سيد قطب إلى الجانب الاجتماعي في
الإسلام تلقائيًّا ابتداءً من الأدب وليس ابتداءً من الدين
أو من الإخوان المسلمين. وكان قد انضم للجماعة أيضًا في هذه
الفترة. وكانت مصر في ذلك الوقت تغص بالحركات الاجتماعية،
سواء في الأحزاب الماركسية، أو في الطليعة الوفدية، أو في
الأحزاب الاشتراكية، وفي طليعتها حزب مصر الفتاة الذي كان
سيد قطب قد انضم إليه قبل انضمامه إلى الإخوان. كانت
المعركة الاجتماعية في الأربعينيات على أشدها. وهي التي
دفعته إلى اكتشاف الجانب الاجتماعي في الدين بعد اكتشاف
الجانب الأدبي فيه في فترة أيضًا كانت المعركة الأدبية على
أشدها في أوائل الثلاثينيات.
ويعتمد الكتاب على منهج النص وعلى ذكر الشواهد
التاريخية لإثبات الدين الحي، والعمل، والإنتاج، وأهمية
الدنيا في الإسلام دون أن يعطي تصورًا نظريًّا محكمًا أو
أيديولوجية اجتماعية واضحة المعالم. ويستشهد بالمعاصرين
ودراساتهم في الملكية والعدالة
٤٧ ولكنه في نفس الوقت يحاول تأصيل العدالة
الاجتماعية في التراث القديم، فيجدها مثلًا في المصالح
المرسلة. وينقد الطوفي لتقديمه المصالح المرسلة على النص،
على عكس الشافعية الذين لا يأخذون بالمصالح المرسلة،
والحنفية الذين يأخذون بالاستحسان مع القياس، ويصف المالكية
بالاعتدال لأنهم يجمعون بين المصلحة والنص. كما يستشهد
بالمستشرقين المنصفين للإسلام المتجردين عن الهوى والضغينة
وبعض المفكرين الغربيين الذي تحولوا إلى الإسلام أو الذين
بقُوا على دينهم ولكنهم أُعجبوا به وأنصفوه.
ومع ذلك فإنه ينقد الغرب، ينقد مناهج التاريخ الغربية
التي تنفي أثر العوامل الرُّوحية في الزمن، والتي تعتبر
أوروبا هي المحرك لخط الزمن؛ لأن الإسلام يفسر التاريخ
بالعقيدة والنشاط والحركة، ويعتبر الإنسانية جمعاء ميدان
التاريخ والأمة الإسلامية في مركزه. لذلك ارتبطت العدالة
الاجتماعية لديه بفلسفة التاريخ وتقدم الأمة الإسلامية
وانهيار الغرب قديمًا ممثلًا في الإمبراطوريتين الفارسية
والرومانية، وحديثًا ممثلًا في المعسكرين الشرقي والغربي،
أي النظامين الشيوعي والرأسمالي. والغرب له حالة خاصة، قد
حدثت فيه فجوة بين الدين والعلم، بين الكنيسة والفكر، نظرًا
لطبيعة الدين المسيحي ومساره في التاريخ الأوروبي. فالدين
كان مخدرًا للشعوب في أوروبا «وجدت الطبقات الكادحة التي
تريد أن تصارع أن الدين لا يغذي رغبتها في الصراع، وأن
الكنيسة تتخذ منه مخدرًا للكادحين، فأعلنت ثورتها الكاملة
على الدين، وقالت عنه إنه مخدر الملايين. ومن هنا كان
العداء الجاهر الصريح بين الشيوعية والدين عند الشيوعيين.»
٤٨ ولكن أحيانًا يظهر التصور الشعبي للشيوعية عند
المؤلف قائلًا: «حاولت الشيوعية أن تقضي على الأسرة لأنها
تلغي أحاسيس الأسرة وحب التملك وتضع شيوعية الثورة وملكية
الدولة للأفراد ولكنها فشلت.»
٤٩ كما يستشهد بالكتابات الناقدة للغرب، أو التي
تدل — في رأي المؤلف — على انهيار قيم الغرب.
٥٠ ويرفض أي تقارب بين النظام الإسلامي وأي نظام
في الغرب، فلا يوجد شيء يسمى الإمبراطورية الإسلامية كما
يقول طه حسين في كتابه «الفتنة الكبرى – عثمان»؛ لأن النظام
الإسلامي له خصائصه المميزة، ولكن المهم هو اكتشاف الرصيد
الرُّوحي للإسلام.
فالإسلام ليس دينًا معزولًا عن الحياة أو ينظم عَلاقة
الإنسان بربه، ولكنه دين الحياة ينظم العَلاقة بين الإنسان
والإنسان. ليس الإسلام كدينٍ مخدرًا للشعوب يستغله
الرأسماليون والحكام المستبدون لتنويم الطبقات الكادحة
وتخدير المحرومة. وليست العبادات فيه شعائرَ وطقوسًا
وأشكالًا ومراسيمَ، بل أفعال يومية موجهة لحياة الفرد
والجماعة.
ويربط سيد قطب قضية العدالة الاجتماعية في الإسلام
بقضية التصور الإسلامي، فيرفض أولًا التراث الفلسفي القديم؛
لأن الفلسفة الإسلامية الحقة لا تُلتمس عند ابن سينا وابن
رشد وأمثالهما ممن يطلَق عليهم فلاسفة الإسلام. ففلسفة
هؤلاء أنما هي ظلال للفلسفة الإغريقية لا عَلاقة لها حقيقةً
بفلسفة الإسلام. وللإسلام فلسفته الأصيلة الكامنة في أصوله
النظرية والقرآن والحديث وفي سيرة رسوله وسننه العملية.
وهذه الأصول حسب أي باحث متعمق يدرَك بها فكرة الإسلام
الكلية التي يصدر عنها في كل تعاليمه. يقوم النظام الإسلامي
على فكرتين مستمدتين من فكرته الكلية عن الكون والحياة
والإنسان: وحدة الإنسانية في الجنس والطبيعة والنشأة، وأن
الإسلام هو النظام العالمي الخالد في مستقبل البشرية.
٥١ هذه الوحدة المطلقة المتعادلة المتناسقة هي
أساس التكافل العام بين الأفراد والجماعات، والتي تجعل
الإسلام يسير في تحقيق العدالة الاجتماعية مراعيًا العناصر
الأساسية في الفطرة الإنسانية غيرَ متجاهل كذلك للطاقة البشرية.
٥٢ لذلك يعني التوحيد الإسلامي ثلاثة مبادئ:
التحرر الوجداني، والمساواة الإنسانية، والتكافل الاجتماعي.
«والتكافل الاجتماعي أشمل وأعم من الضمان الاجتماعي المالي
كإعانة من الدولة، والذي هو جزء من التكافل الاجتماعي.
ويعني أن كل فرد في الكفاية المادية عن طريق العمل، وإذا
حدث عجز قامت الدولة بكفايته بدلًا عنه. ويشمل أيضًا حق
التعليم والتربية وحق العمل وتمكين القادرين عليه وحق الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر. فالفرد جزء من المجتمع وليس
عالة عليه.»
٥٣ إن شهادة أن لا إله إلا الله، وهي من أخص
المشاعر الاعتقادية، لَتعني التحرر الوجداني من كل عبودية
لغير الله. هذا التحرر الذي هو الخطوة الأساسية لتحقيق
مجتمع صالح كريم. الكل فيه متساوون.
٥٤ فالشهادة هنا لا تعني الحاكمية بقدر ما تعني
تحرر الضمير البشري. لقد بدأ الإسلام بتحرير الضمير البشري
من عبادة أحد غير الله، ومن الخضوع لأحد غير الله. فما لأحد
عليه غير الله من سلطان. وما من أحد يرزقه من شيء في الأرض
ولا في السماء إلا الله، وليس بينه وبين الله وسيط ولا
شفيع، والله وحده هو الذي يستطيع، والكل سواه عبيد لا
يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئًا.
٥٥ ولكن لم تظهر الحاكمية في «العدالة الاجتماعية
في الإسلام»، بل ظهر التوحيد كثورة اجتماعية على الواقع
بدافع من الواقع أكثر من كونه بدافع من الفكر، وبباعث مادي
أكثر من كونه بدافع تصوري، وبشعور اجتماعي أكثر من كونه
بشعور ديني. ولكن تظهر صورة الطريق في آخر الكتاب «في مفترق الطرق».
٥٦ كما يهدي الكتاب إلى «الفتية الذين ألمحهم في
خيالي قادمين، يجاهدون في الله بأموالهم وأنفسهم مؤمنين في
قرارتهم أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. إلى أولئك الفتية
الذين لا أشك لحظة في أن رُوح الإسلام القوية ستبعثهم من
ماضي الأجيال إلى مقبل الأجيال في يوم قريب، جِد قريب.»
٥٧ وهم الذين أصبحوا فيما بعدُ الجيلَ القرآني
الجديد.
وتبلغ قمة الالتزام الاجتماعي عند سيد قطب في «معركة
الإسلام والرأسمالية». فالصلة بينهما صلة حركة وصراع
وتناقض، لا حياة لأحدهما إلا بفناء الآخر. وقد وقع الاختيار
على الرأسمالية كأحد طرفي الصراع وليس على الشيوعية؛ لأن
الخطر الداهم الذي يغزو مصر والعالم الإسلامي لا يزال هو
نهب الرأسمالية وعملائها لثروات المسلمين، بل إنه يسخر من
اتهام كل من يناهض الرأسمالية بالشيوعية. صدر في أوائل
الخمسينيات إبان الثورة المصرية، قبلها وبعدها، مما يدل على
نضج الثورة الاجتماعية في هذه الفترة. ولا يعتمد على النصوص
الدينية كثيرًا، ولكنه يبدأ بالأوضاع الاجتماعية، وبلغة
الأرقام والإحصاء؛ لأن المواعظ والخطب والآيات لن تغير
شيئًا. ويطلق صيحة للنذير، ويشير إلى المخاطر التي تواجه
الأمة من جرَّاء الأوضاع الاجتماعية حيث تتمايز طبقتان:
الأغنياء والفقراء. وصدَّر الكتاب بآية
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا
الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا.
٥٨ صحيح أن الحماس والخطابة يغلب عليه، ولكن ذلك
يرجع إلى أنه موجَّه توجيهًا مباشرًا لجمهور الأمة حتى تعي
واقعها، وتدرك مَن المسئول عن ذلها وفقرها وبؤسها. أن صوتًا
سيرتفع بعد ذلك كله ولن يمكن إسكاته أبدًا، صوت المَعِدات
الخاوية التي تملأ جنبات هذا الوادي، صوت الملايين التي
تبذل الوقت والدماء، صوت الواقع، لا بد لهذا الوضع أن يثور.
«إن الذين يعملون في هذا البلد هم الذين يجوعون، أعني الذين
يعملون أعمالًا شريفة لا تدخل في قائمة السرقة والاختلاس
والغش والتدليس والارتشاء واستغلال النفوذ وتجارة الرقيق
الأبيض والخيانة الوطنية.»
٥٩ إن هذه الأوضاع الاجتماعية القائمة هي التي
تدفع بالناس دفعًا إلى أحضان الشيوعية، وبخاصة ذلك الجيل
الناشئ من الشبان الأبرياء. ولا يمكن أن تصح دعوة خلقية أو
دينية لملايين الجياع. فالمعِدات الجائعة لا تفهم المنطق،
بل إن الأوضاع الاجتماعية هي التي تفسر الخلق
والضمير.
فما الحل؟ فريق يهتف بالاشتراكية، وفريق يحلم
بالشيوعية، وفريق يدعو إلى الإسلام، وهو وضع طبيعي من بيئة
طبيعية في موقف محاصر بين المذاهب السياسية المعاصرة غربية
وشرقية، قديمة وحديثة. ولكن بالرغم مما يتمتع به الغرب من
حرية التفكير والتعبير، وبالرغم مما يسود مجتمعاته من
احتكار واستغلال وإثارة وانحلال، فإن المجتمعات لا تتغير عن
طريق التقليد للغرب، وهو المعادي لكل ما هو إسلامي أو شرقي.
٦٠ ولكنْ في الإسلام خلاص من التقليد أو الاستجداء
أو الاستيراد من وراء الحدود. الإسلام صاحب لنا وصديق
ألِفناه منذ أربعمائة وألف عام. الإسلام حجة قوية ضد
الرأسمالية المستغلة، وضد من يريدون استبعاده من معركة
العدالة الاجتماعية (الشيوعيون)، وضد المحترفين من رجال
الدين وفقهاء السلطان. الغرب والشرق كلاهما ضد المسلمين
فكرًا وواقعًا، وعقيدة وأرضًا، وكما هو واضح في فلسطين.
والإسلام يكوِّن كتلة ثالثة مستقلة بالإسلام. فإذا كانت
مشاكلنا أربعة: سوء توزيع الملكيات والثروات، ومشكلة العمل
والأجور، وعدم تكافؤ الفرص، وفساد جهاز العمل وضعف الإنتاج،
فإن الإسلام يحلها جميعًا بإعادة توزيع الملكيات والثروات،
وحق الدولة في التأميم ومصادرة رأس المال المستغِل وفرض
الضرائب على الأغنياء، واعتبار الإسلام أن العمل وحده مصدر
القيمة، وأن الناس متساوون، وأن الإنسان خليفة الله في
الأرض سخر الله له كل شيء في الكون. فالإسلام نظام أعدل من
الشيوعية وأطهر وأشمل: أعدل لأنه لا يمس الملكية الفردية
إلا عند الاقتضاء، وأطهر لأنه يضمن بذل أقصى الطاقة من
الأفراد في الإنتاج، وأشمل لأنه يُعِد الفرد للمجتمع ويُعِد
المجتمع للأفراد.
٦١ الإسلام عدو التبطل باسم العبادة والتدين ويمنح
المسلمين الذاتية والشخصية.
إن الأوضاع الاجتماعية القائمة مناقضة في جملتها
وتفصيلها لرُوح الدين كله. ولكن المشكلة هم رجال الدين
المحترفون الذين يؤوِّلون الدين ليساندوا هذه الأوضاع
الاجتماعية إرضاءً للحكام وافتراءً على الدين. «إن الإسلام
ليصرخ في وجه الظلم الاجتماعي والاسترقاق الإقطاعي ويمد
المكافحين لهذه الأوضاع بقوة ضخمة للكفاح والصراع. وما من
وضع اجتماعي هو أبعد عن رُوح الإسلام من أوضاعنا القائمة.
وما من إثم أكبر من إثم الذين يَدينون بدين الإسلام ثم
يقبلون مثل هذه الأوضاع أو يبررونها باسم الإسلام، والإسلام
منها براء. إن هذه الأوضاع غير قابلة للاستمرار والبقاء؛
ذلك أنها مخالفة لرُوح الحضارة الإنسانية بكل معنًى من
معانيها، مخالفة لرُوح الدين بكل تأويل من تأويلاته، مخالفة
لرُوح العصر الحاضر بكل مقتضًى من مقتضياته، ومن ثم فهي لا
تحمل عنصرًا واحدًا من عناصر البقاء يملي لها في الأجل،
ويمنحها فرصة البقاء.»
٦٢ لا بد للإسلام إذن أن يحكم: «إذا أردنا للإسلام
أن يعمل فلا بد له أن يحكم. فالإسلام لا ينزوي في المعابد
أو يستكن في القلوب، إنما جاء ليحكم الحياة ويصوغ المجتمع
لا بالوعظ والإرشاد بل بالتشريع والتنظيم … لا إسلام بلا
حكم، ولا مسلمين بلا إسلام.
٦٣ الحاكمية هنا تعني إذن الإسلام للحكم وليس
الحاكمية لله، على عكس إعطاء يوم الأحد للكنيسة وللدنيا
بقية أيام الأسبوع. فعقيدة الإسلام لا يمكن أن تتحقق بذاتها
في واقع الحياة ما لم تتمثل في نظام اجتماعي معين. العقيدة
هي التي تخلِّص الأمة دون الوطنية أو العدالة الاجتماعية
اللتين تتحققان تلقائيًّا من خلال الإسلام. ويحدث ذلك دونما
حاجة إلى هيئة كبار العلماء، بل من خلال تحول العقيدة إلى
طاقة وحركة وتغير وتطور.
ومع ذلك تُلقى
الشبهات حول الإسلام من الأبرياء الجهال الذين تبهرهم
مقاليد الحكم أو مناصب الإفتاء. فيُقال إن الحكم الإسلامي
يعني بُدائية الحكم وشظف البداوة. والحقيقة أن هناك فرقًا
بين النشأة التاريخية للإسلام والفقه الإسلامي المتجدد
المتطور. يُقال إنه حكم المشايخ والدراويش! والحقيقة أنه
حكم يقوم على الشورى «فالحاكم في الإسلام يتلقى الحكم من
مصدر واحد هو إرادة المحكومين. فالبيعة الاختيارية هي
الطريق الوحيد لتلقي الحكم، والواقع التاريخي قام على هذا المبدأ.»
٦٤ فالحاكمية للبشر ومصدرها من البشر. وخلافة أبي
بكر وعمر وعثمان وعلي قامت على أساس الاختيار المطلق، ولكنْ
عدَّل بنو أمية القاعدة، ثم ردها الخليفة الخامس عمر بن عبد
العزيز حتى تختاره الأمة مختارةً فلا ولاية بغير شورى ورضًى وقبول.
٦٥ ويُقال إنه حكم الطغيان في حين أن الرسول قد
قال: من رأى سلطانًا جائرًا مستحلًّا لحُرَم الله ناكثًا
لعهد الله، مخالفًا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله
بالإثم والعدوان فلم يغيِّر عليه بفعل ولا قول كان على الله
أن يدخله مُدخله.» والإسلام يدرأ الحدود بالشبهات، ولا
يطالب الناس بواجباتهم قبل أن يعطيهم حقوقهم. ويُقال إنه
نظام الحريم في حين أن المرأة في الإسلام تعمل في الدراسة
والتجارة والحرب. ويُقال إنه نظام متعصب ضد الأقليات في حين
أن المستشرقين أنفسهم قد اعترفوا بإنسانية الإسلام وشموله.
٦٦ وقد كانت مذابح الأقليات على يد الأتراك لأسباب
سياسية وليست دينية.
كما تظهر العداوات من الحاقدين على الإسلام: الصليبيين
الجدد الذين عبَّر أللنبي عما في صدورهم وهو يدخل بيت
المقدس في الحرب العالمية الأولى قائلًا: «الآن انتهت الحرب
الصليبية»، وأقطاب التبشير في مصر.
٦٧ هؤلاء وهؤلاء هم الذين أقاموا إسرائيل على
الدين شوكة في ظهر الإسلام. وإسرائيل هي الدولة العنصرية
التي تقوم على الدين، أول ما تتنكر الشيوعية له، وفي نفس
الوقت وقفت تسلح إسرائيل معلنة مبادئها. ولا فرق في ذلك بين
شرق وغرب، فقد خان الغرب بزعامة بريطانيا وأمريكا
والمستعمرون والاستعمار الذي يقوم على تحالف دكتاتورية
الحكم ورأس المال، أيضًا قضيةَ فلسطين في مجلس الأمن وفي
حرب فلسطين. الذين يدعون إلى لفظ حكم الشريعة، وتبني
القانون الوضعي من خلال الاستعمار الثقافي.
٦٨ والحقيقة أن الإسلام يحرم على أتباعه الخضوع
لحكم الأجنبي واتباع أي تشريع لا يتفق مع شريعة الإسلام.
والمستغلون الطغاة يريدون جعل الإسلام مجرد طقوس وشعائر:
«إنه لا ضَير من الإسلام حين يكون تمتمة بالشفاه، وطقطقة
بحبات المسابح، أو أدعية وتراتيل، أو مَحْملًا يُطاف به
سبعًا ويُسلَّم مِقود الجمل الذي يحمله رسميًّا، أو
مَولِدًا تطلَق فيه الصواريخ، أو مشيخةَ طرق أو نقابةَ
أشراف تُخلع فيها الخِلَع وتُمنح فيهما الألقاب … إلى آخر
أجهزة التخدير التي يستغلها الطغاة والمستغلون ليُلهوا بها
الجماهير. فأما حين يصبح حكمًا جادًّا ينفذ شرائع الإسلام
في الحكم والمال ويمنح الحقوق الإنسانية والاجتماعية
والقانونية لكل فرد وكل جماعة ولا يفرق بين الشعائر
التعبدية والشرائع القانونية فدون هذا ويصبح الإسلام خطرًا
يُتَّقى، وكارثة تقع، ومعركة يخوضها الطغاة والمستغلون بكل
ما يملكون. هذا الإسلام لا يوافق السلطات الاستبدادية في
الحكم ولا يضمن معه المستبدون في البقاء … يسلطون عليه رجال
الدين المحترفين … الإسلام حرب على الأوضاع الظالمة
والسلطات الغاشمة.»
٦٩ والمحترفون من رجال الدين يستغلون عقول
الجماهير باسم الدراويش، ويقومون بوظيفة التخدير والتغرير
بالجماهير الكادحة العاملة المستغَلة المحرومة، وهي وظيفة
الدين في المجتمعات الإقطاعية والرأسمالية. والمستهترون
والمنحلُّون في مصر يرون في الإسلام نظامًا للقيم والتزامًا
بالجدية. وأخيرًا الشيوعيون يشوهون صورة الحكم الإسلامي
ويعملون على انقسام العالم إلى كتلتين، وأن عدم الانضمام
إلى الشرق يقوِّي من نفوذ الغرب. والحقيقة أن الإسلام نظام
مستقل بذاته لا ينحاز إلى كتلة ولا ينضم إلى معسكر.
ينبغي أن تتولى الجماهير الكادحة المحرومة المغبونة
قضيتها بأيديها، وأن تفكر في وسائل الخلاص. ويوجه سيد قطب
النداء التالي: «أيتها الجماهير: هذا هو الطريق، هذا هو
الطريق، هذا هو الطريق» وهو الذي سيصبح فيما بعد في «معالم
في الطريق».
٧٠
أما «السلام العالمي والإسلام» فقد ظهر في بدايات
الثورة المصرية. فقد كان موضوع السلام والحرب من موضوعات
اليسار المصري، فالحرب أداة الاستعمار، والاستعمار أعلى
مراحل الرأسمالية. والغرب بنظامه الرأسمالي مجتمع الحرب
والعدوان. وربما انتقل سيد قطب انتقالًا طبيعيًّا من
الإسلام كوسيلة للسلام الاجتماعي إلى الإسلام كوسيلة للسلام
العالمي. يعتمد على النقل والعقل، ويبدأ ببيان ارتباط
العقيدة بالحياة، ثم يرتقي من سلام الضمير إلى سلام البيت
إلى سلام المجتمع إلى سلام العالم في النهاية. فلا سلام في
عالم لا يتمتع فيه ضمير الفرد بالسلام. وهو موضوع جديد؛
لذلك لم يؤصله في أعمال السلف وتراثنا القديم.
ويغلب على الكتاب موضوعان: نقد الغرب باعتباره مجتمعًا
لا يقوم على السلام، وضرورة الجهاد لإقرار السلام في
الإسلام ومحو آثار العدوان على حرية الاعتقاد. ويستعمل
الواقع الإحصائي لبيان انحلال الغرب والتصوير الواقعي
للإثارة الجنسية دونما حرج.
٧١ ويبطل خرافة العامل الاقتصادي في المذهب
المادي، ويشكك في قيمة الإصلاح الاجتماعي الذي يتم عن طريق
تغيير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تُنشئ الاختلال
في جسم المجتمع، في حين أن الإسلام يبدأ التغيير ابتداءً من
ضمير الفرد. المذهب المادي الطبيعي في الغرب والصراع الطبقي
كذلك. أما المجتمع الإسلامي فإنه يبدأ من الجزء ومن الضمير
والعقيدة التي تعطي التصور النظري والبناء
الاجتماعي.
الإسلام دين الوحدة، والسلام فيه ينشأ من طبيعته. ولأول
مرة تظهر عند سيد قطب بصورة واضحة بسيطة الألوهية على نحو
عملي لتحقيق السلام العالمي وليس كتصور نظري، وبدافع داخلي
محض ودون أي أثر خارجي (المودودي)، ودون الخضوع لأي مؤثرات
نفسية (سيكولوجية المضطهدين)، كما سيحدث ذلك كله فيما بعد
في المرحلة السياسية في «معالم في الطريق». فكلمة الله تعبر
عن إرادته الظاهرة لنا نحن البشر: إفراد الله بالألوهية،
والربوبية اعتراف بإرادته، والعبادة تسليم بحقه، والطاعة
تنفيذ لأوامره، والدينونة التزام بخلافته في الدنيا.
فالسلام الإسلامي إذن ليس تراجعًا عن الحرب أو نفيًا للصراع
أو نظرة فردية تبدأ من الفرد إلى المجتمع، ومن الداخل إلى
الخارج على ما هو معروف في الأخلاق الدينية الشائعة.
٧٢ لذلك قد تكون الحرب ضرورية لإقرار السلام:
«فهذه هي الحرب التي يقرها الإسلام لتقرير ألوهية الله في
الأرض ونفي غيرها من الألوهيات المدعاة، ودفع الذين يدَّعون
الألوهية سواء بالقول أو بالفعل، وإثبات سلطان الله في
الأرض حتى يكون الدين كله لله وحتى لا يتخذ الناس بعضهم
بعضًا أربابًا من دون الله … فمن وقف في طريق هذا الخير أن
يصل إلى الناس كافة، وحال بينهم وبينه بالقوة، فهو إذن
معتدٍ على كلمة الله، وإزالته عن طريق الدعوة هي إذن تحقيق
لكلمة الله لا لفرض الإسلام فرضًا على الناس، ولكن لمنحهم
حريتهم المعروفة وخِيَرة الهداية. فالإسلام لا يُكرِه أحدًا
على اعتناقه ولكنه يكره الذين يقفون بالقوة في طريقه،
ويفتنون الناس عنه أو يمنعونهم ابتداءً من تبين الرشد من
الغي عن طريق السيطرة عليهم وحرمانهم حق الاختيار. وهذه
الحرب هي التي يقرها الإسلام، ويحرض عليها تحريضًا، ويدعو
رسوله أن يحرض عليها المؤمنين، ويحب الذين يخوضونها.» ويقول
أيضًا: «لقد جاء الإسلام لتحقيق العدالة في الأرض قاطبة،
ويقيم القسط بين البشر عامة، العدالة بكل أنواعها: العدالة
الاجتماعية والعدالة القانونية والعدالة الدولية. فمن بغى
وظلم وجانب العدل فقد خالف عن كلمة الله وعلى المسلمين أن
يقاتلوا لإعلاء كلمة الله وأن يردوا الشاردين عنها إليها
حتى ولا امتشقوا الحسام في وجوه المسلمين الباغين. فالعدل
المطلق ورد البغي والعدوان هو كلمة الله التي يجب أن تعلو
في كل حال وفي كل مكان … فإعداد القوة واجب، واجب ليكون في
هذه الأرض سلطة عليا ترد الشاردين عن الحق إليه وتقف الطغاة
عن البغي والعدوان، وتحفظ على الآمنين أمنهم وسلامتهم، وتعز
كلمة الله عن الاستخفاف والهوان وتقر سلطان الله في الأرض
وتفرده سبحانه بالسلطان … فأما حين تتحقق الحرية المنيعة
فلا يصد الناس بالقوة عن كلمة الله ولا يُفتنون عن دينهم
الذي ارتضاه لهم لله نظامًا شاملًا للحياة، وحين لا تقوم في
الأرض سلطة تعبِّد الناس في الأرض لأرباب من دون الله وحين
تتحقق العدالة الخيِّرة فلا يبغي بعض الناس على بعض، ولا
يستغل بعضهم رقاب بعض، وحين يتحقق الأمن للضعفاء الذين لا
يملكون عن أنفسهم دفاعًا ويكف الباغي عن بغيه ويجنح إلى
السلم والمهادنة، حين يتم هذا فالإسلام المالك للقوة
المستعد للطوارئ يضع السيف جانبًا ويدعو إلى السلم فورًا …
السلم قاعدة والحرب ضرورة، ضرورة لتقرير سلطان الله في
الأرض ليتحرر الناس من العبودية لغير الله، وضرورة لدفع
البغي من البغاة وتحقيق كلمة الله وعدل الله، ضرورة لتحقيق
المثل الإنسانية العليا التي جعلها الله غاية للحياة
الدنيا، ضرورة لتأمين الناس من الضغط، وتأمينهم من الخوف،
وتأمينهم من الظلم، وتأمينهم من الضر، ضرورة لتحقيق العدل
المطلق في الأرض فتصبح إذن كلمة الله هي العليا.»
٧٣ مهمة الإسلام إذن هي التحرر من سلطان الطواغيت،
ومواجهة عقيدة الإسلام أحرارًا في الاختيار بغير ضغط من
سلطة قاهرة تصدهم عن هدى الله وتقف لهم بالقوة دون
الاستجابة للهداة. يقع العدوان من الجاهلين الذين لم
يسالموا محمدًا من قبل فيُضطر الإسلام إلى رد العدوان.
«حروب الإسلام … إنما كانت إعلاء لكلمة الله في الأرض بجعل
السلطة العليا فيها للذين يفردون الله سبحانه بالألوهية
وإيصال الخير الذي جاء به الإسلام للناس كافة عن طريق الرضا
والإقناع وبتحقيق العدالة والأمن والسلام في ظل سلطان الله
المتفرد سبحانه بالسلطان. وفي ظل هذا السلطان الذي يقرر
للناس منهج حياةٍ الناسُ فيه أحرار، يختار كل فرد عقيدته
بلا ضغط ولا إكراه … السلام الذي يحقق كلمة الله في الأرض
من الحرية والعدل والأمن لجميع الناس، لا مجرد الكف عن
الحرب بأي ثمن مهما يقع في الأرض من ظلم ومن فساد، ومهما
يكن في الأرض من طاغوت واعتداء على سلطان الله وألوهية الله.»
٧٤ لقد أباح الإسلام للفرد أن يقاتل ويقتل مَن في
يده طعامه وشرابه إذا منعه عنه وهو في حاجة ماسَّة إليه
لأنه كحق الدفاع عن الحياة. فالحرب لا تتم من أجل صورة بل
من أجل مضمون.
ولما كان البشر جميعًا عباد الله، وكانت الشريعة قانون
الله، فكلهم أمامها سواء ويكون الحكم للقانون، وليس للحاكم
من سلطان إلا في حدود القانون الإلهي الذي يخضع له كما يخضع
السلطان سواء، والذي لا يُستمَد من هوى الحاكم ولا هوى طبقة
ولا أمة، ولا يُسَنُّ ليحقق مصلحة لحاكم أو لطبقة أو أمة،
إنما شرعه الله إله الجميع ومالك الجميع لمصلحة الجميع.
والخضوع له خضوع لله لا لعبد من عباده، والضمانات فيه
للجميع لأنه مشرَّع للجميع. وتلك ميزة قيام الدولة على
شريعة الدين وقانونه. فالحرية الكاملة من كل عبودية أرضية
لن تكون من البشر، فلن تتحقق الكرامة المطلقة ولن تتحقق
المساواة المطلقة ولن تتحقق المصالح المطلقة. إن الحاكمين
سيُحِسُّون دائمًا بأنهم أرباب لأنهم هم الذين يضعون
التشريع، وأن القانون سيظل دائمًا في مصلحة طبقة دون طبقة
ولن يحقق مصالح الجميع. هناك حالة واحدة يخضع فيها الفرد
للقانون وهو شاعر بعزته كاملة وحريته كاملة ومصلحته كاملة،
حالةُ استمداد التشريع كله من شريعة الله الذي لا حاكم إلا
هو ولا مسيطر سواه، ولا مصلحة له في نصرة طبقة على طبقة،
ولا إخضاع طبقة لطبقة. وعندئذٍ يطمئن الفرد إلى العدل
المطلق ويستريح. وعندئذٍ فقط يطامن الحاكم من كبريائه التي
يستمدها من سلطة التشريع ويحس أنه يملك شيئًا إلا أن ينفذ
القانون الإلهي الذي فُرض عليه وعلى كل فرد سواء … وهذا هو
التحرر الكامل الصحيح.
٧٥
المسلمون إذن عليهم تبعة النضال، أي الجهاد في سبيل
الله. المسلمون إذن مكلفون بتبعات إنسانية تجاه هذه البشرية
بحكم وصايتهم هذه عليها ووصاية كتابهم على كتبها. هم مكلفون
أن يحققوا في الأرض ذلك السلام في الضمير والبيت والمجتمع
وأسسه ومبادئه من إفراد لله سبحانه بالألوهية وبالربوبية
وبالحاكمية، ومن العدل والمساواة والحرية، ومن ضمانات
الحياة القانونية والمعيشية، ومن منع البغي وإزالة الظلم،
وتحقيق التوازن الاجتماعي والتكافل والتعاون، وإزالة أسباب
الفرقة والخصام والنزاع بين الأفراد وبين الجماعات، وسد
الذرائع التي تدعو إلى قيام الطبقات وتميزها وصراعها.
٧٦ للحاكمية إذن مضمون اجتماعي من أجل تغيير نظم
الظلم والعدوان وتحقيق نظام العدالة والمساواة. لذلك فُرض
الجهاد في سبيل الله على المسلمين تحقيقًا لأربعة أهداف؛
الأول: حماية المؤمنين حتى لا يُفتَنوا عن دينهم وكف القوة
عنهم بالقوة. والثاني: كفالة حرية الدعوة وإزالة كل قوة
طاغية في الأرض تمنع أن تصل دعوة الإسلام إلى الناس كافة.
والثالث: إقرار سلطان الله في الأرض ودفع المعتدين على هذا
السلطان، أولئك الذين يدَّعون أن لهم حق التشريع للناس من
دون الله، فهم يدَّعون بهذا حق الألوهية ويقيمون من أنفسهم
أربابًا مع الله أو من دون الله. والرابع: إقامة العدالة
الكبرى في الأرض. وهذا يقتضي مكافحة ربوبية الطواغيت
وحاكميتهم، وأن يكافحوا الظلم والبغي لا لتملك الأرض
واستذلال الرقاب، بل لتحقيق كلمة الله في الأرض وفرض ربوبية
الله وحاكميته وعدله. وهذا هو الجهاد في سبيل الله لتحقيق
ربوبية الله لعباده ولتكون كلمة الله هي العليا.
لقد تضمنت مبادئ الإسلام الأساسية ثورة حقيقية كاملة
تُعَد أكبر ثورة تحررية عرفتها البشرية، ثورة على ربوبية
العباد، وثورة على الظلم بكل صنوفه أو أنواعه وفي كل
ميادينه ومجالاته، وثورة على النظم والحكومات والأوضاع التي
تَسنُد هذا الظلم وتستبقيه، لحساب فرد على جماعة في صورة
حاكم أو مستغل، أو لحساب طبقة على طبقة في صورة إقطاعيين
ورأسماليين وصعاليك، أو لحساب دولة على دولة في صورة محتلين
ومستعمرين. وكان لا بد من الجهاد لنصرة الثورة وتحقيق
ربوبية الله وحاكميته في الأرض واستنقاذ البشرية أفرادًا
وجماعات من جور الأرباب الأرضية الممثلة في الأشخاص
والحكومات والنظم والأوضاع، فالحاكمية موجهة إذن ضد نظم
اجتماعية معينة هي نظم الجور وليس إلى البشر ونظمهم من حيث
هم بشر.
ليس هَمُّ الإسلام شراءَ سلام كاذب مع الدول بأن يدع
هذه الدولة تقيم لرعاياها أربابًا من دون الله يدَّعون حق
الربوبية فيها، وتحرمهم العدل القضائي والعدل الاجتماعي.
فهؤلاء الرعايا الذين تحكمهم تلك الدولة الظالمة أيًّا كان
دينها وأيًّا كان شكلها هم ناس من البشر. والأمة الإسلامية
مكلَّفة أن ترفع عنهم الظلم وتمتِّعهم بالعدل، ومن ثم ينصرف
الجهاد إلى تحقيق فكرة الثورة العالمية لا إلى الحكم
والسيطرة والغُنم. الإسلام في جهاد دائم لا ينقطع أبدًا
لتحقيق كلمة الله في الأرض، أي لتحقيق النظام الأصلح الذي
يقوم على مبادئه العليا في عالم الفرد والجماعة البشرية.
وهو مكلف ألا يهادن قوى الطاغوت على الأرض في صورة فرد أو
جماعة أو طبقة أو دولة مستغلة. قوة الإسلام قوة محررة تنطلق
من الأرض لتدك قواعد الظلم والاسترقاق والاستغلال دون نظر
إلى جنس أو لغة أو أرض أو لون، ومنع الظلم عن المسلمين أو
الذميين. والإسلام يواجه قوى الطاغوت بثلاث: الإسلام أو
الجزية أو القتال. فالإسلام دين الحرية، والجزية الكف عن
المقاومة، والقتال الرد على المقاومة. إن الإسلام قوة
تحررية تنطلق في الأرض لتقرر ربوبية الله وحده للعباد،
وتحرر البشر من أغلالهم وتمنحهم الحرية والنور والكرامة دون
نظر إلى عنصرية أو طبقية. فإذا اصطدمت هذه القوة بقوة الشر
والطغيان والاستعباد كافحت هذه القوة الشريرة وحدها مبرأة
من كل غاية استعمارية أو اقتصادية. حرب الإسلام حرب التحرير
للبشرية، الحرب على عبودية البشر لناس من البشر، وعلى
الطغيان والظلم والشطط، وعلى الخرافات والأوهام والأساطير،
حرب التحرير الخالصة من الهوى والدوافع الاقتصادية
والعنصرية والطبقية، لا تديرها رءوس الأموال، ولا تبتلع
الحضارات والمدنيات أو تحطم النفوس والأخلاق.
٧٧
ولكن بدايات القطيعة مع الثورة ظهرت في «دراسات إسلامية»
٧٨ حيث يظهر محمد بن عبد الله محطِّمًا للطواغيت،
فقد تشخص الإسلام في محمد وظهرت قوته في تحطيم الطواغيت،
مما يدل على بدايات فكر المضطهدين — كما هو الحال عند
الشيعة تحت الحكم الأموي — القائم على تشخيص الأفكار
والصراع بين الحق والباطل، فتحول الفكر الإسلامي من معارك
الإسلام والرأسمالية إلى معارك من أجل تأكيد الإسلام وسط
الدعوة الوطنية الثورية الاشتراكية الجديدة، والتأكيد على
نقد الغرب والشرق واستقلال الأمة الإسلامية عن الكتلتين، ثم
ظهور الحاكمية كأقوى سلاح لتأكيد التراث ضد العواطف الوطنية
والغربية الجديدة.
وقد استمرت الدعوة الاجتماعية وإن كانت حدتها قد خفَّت
أحيانًا، وتحولت من أسسها الاجتماعية والاقتصادية الخالصة
إلى أسسها الخلقية. فالتربية الخلقية وسيلة لتحقيق التكافل
الاجتماعي، وهي تربية ابتداءً من ضمير الفرد وليست مجرد
إحضار للمنفعة إلى محيط الأسرة ثم إلى محيط الجماعة. ومع
ذلك ينشر الإخوان البرنامج الاجتماعي مع برامج الأحزاب عشية
الثورة المصرية، وفيه تطهير شامل كامل للحياة المَلَكية
ومعاونيها والارستقراطية الكاذبة، ويعلنون أن المِلكية
الفردية في صورتها الراهنة حرام تجعل ثلث الأراضي الصالحة
للزراعة في يد الملك وأسرته، وقد حولت دوائر التفتيش الناسَ
في مصر إلى أرقاء، ويطالبون بتحديد المِلكية الزراعية،
ويحددون عَلاقة المالك بالمستأجر ويختارون نظام المزارعة،
فالإيجار النقدي أو العيني طالما ظلم المستأجرين، ويطالبون
بتحديد الدخل، وتقريب الفوارق بين الحد الأعلى والحد الأدنى
في الأجور والمرتبات، وضمان حد أدنى للجميع: مطعم كافٍ،
وملبس واقٍ، ومسكن مريح، وعلاج وتعليم بالمجان، وضمانات
اجتماعية ضد المرض والعجز والشيخوخة والبطالة، فإن لم تكفِ
الزكاة أخذت الدولة فضول أموال الأغنياء فردَّتها على
الفقراء، ويطالبون بإدخال العمال الزراعيين في النقابات
وتطبيق قوانين العمال عليهم وإباحة تكوين اتحادات العمال.
٧٩
وفي الوقت الذي كان الاستقلال الوطني يتم عن طريق الغرب
والتفاوض معه، وكان التغريب منتشرًا في أذهان القادة
الوطنيين القدماء أو الجدد، فإن نقد الفكر الإسلامي للغرب
تواصل من أجل تأكيد هُوية الأمة الإسلامية واستقلالها عن
الكتلتين. فالعالم الحر اسم يطلقه الاستعماريون على أنفسهم
تأكيدًا لعنصريتهم ومنعًا للحرية عن غيرهم. يستغلون
المؤسسات الدولية والهيئات التعليمية لأغراضهم الخاصة.
٨٠ لقد طالما حاول الاستعمار ذاته القضاء على
الإسلام في شتى أنحاء العالم الإسلامي. وفي نفس الوقت
تدَّعي الدول الأوروبية أنها تحترم حرية الأديان. وتدَّعي
فرنسا الحرية بالرغم من حملاتها الصليبية في الجزائر، «ولقد
عجز الدكتور طه حسين وهو في وزارة المعارف — وهو أصدق
أصدقاء فرنسا — أن يفتتح معهدًا لمصر في الجزائر أو حتى في
طنجة التي تُحكم دوليًّا بسبب تعصب صديقته الكبرى فرنسا.»
٨١ وفي نفس الوقت يُقال: المسلمون متعصبون لأنهم
يدْعُون إلى تكوين كتلة لإنقاذ العالم الإسلامي مما يقع
عليهم من أبشع أنواع القهر والاضطهاد الديني في القرن
العشرين في آسيا وأفريقيا، وإيقاع العالم الإسلامي في
الأحلاف الاستعمارية. ولا ضير من استعمال «إسلام أمريكاني»
يتحدث عن مزايا الشعائر وتسامح الدين والزكاة للفقراء وحوار
بين الإسلام والكثلكة من أجل إبراز التعارض بين الإسلام
والشيوعية.
وتقوم الديمقراطيات الشعبية في الشرق وهي لا تحمل إلا
الاسم لأنها تقوم على الدكتاتورية والنظم البوليسية
والجاسوسية وتمنع حرية الفكر. هذا بالإضافة إلى محاولة
القضاء على الإسلام والمسلمين في آسيا في التركستان،
والقِرم، وأوروبا الشرقية، فيمتزج في الغرب والشرق معًا
التعصب الديني والتعصب العنصري من أجل تحويل شعوب العالم
إلى هنود حمر أو عبيد سود. فالبشرية اليوم في مفترق الطرق،
وستحتاج فيما بعد إلى «معالم في الطريق».
وتبلغ قيمة هذه الفترة أيضًا في تصور الإسلام على أنه
ثورة تحريرية كبرى في وقت اندلعت فيه الثورة المصرية
ومحاولة الفكر الإسلامي تمثلها وتجاوزها. فقد حطم الإسلام
الطواغيت كلها، في الضمير وفي الواقع. كان الإسلام ثورة
تحررية كاملة للإنسانية شملت كل نواحي الحياة الإنسانية.
كان ثورة على طاغوت الشرك في عالم العقيدة، وثورة على طاغوت
التعصب العنصري ضد الجنس واللون، وأعلن وحدة الأصل الإنساني
ووحدة الجنس البشري، وثورة ضد طاغوت التعصب الديني معلنًا
حرية الاعتقاد، وثورة على طاغوت التفرقة الاجتماعية والنظام
الطبقي في مجتمع كان يفخر بالأنساب والأشراف، وثورة على
طاغوت الظلم والبغي والطغيان جرَّدَت الحكام والسلاطين من
كل امتياز وسلطان؛ لأنها ردت الأمر كله لله في التشريع،
وردت الأمر كله إلى الأمة في اختيار من يقوم على تنفيذ
التشريع. إن انتزاع حق التشريع من البشر وردَّه إلى الله
وحده سبحانه لم يُبقِ لواحد من البشر أو لجماعة أو لطبقة أي
مجال للتحكم في الآخرين ولا أي منفذ يعلو به فرد على فرد أو
فرد على جماعة أو طبقة على طبقة. إن الحاكمية لله سبحانه،
وليس لغيره أن يشرع إلا استمدادًا من شريعته، والله رب
الجميع. وإذن فلن تكون في تشريعه محاباة لفرد أو جماعة أو
طبقة، ولن يحس أحد أنه حين ينفَّذ القانون خاضع لمشيئة أحد.
إنما هو خاضع لله رب الجميع، ومن ثم تتساوى الرءوس، وترتفع
الهامات جميعًا لأنها لا تعنو جميعًا إلا لله وحده، «وأما
من يقوم على تنفيذ التشريع فإنه لا يشرع بل ينفذ، وهو يستمد
حقه في القيام على التنفيذ من اختيار الأمة له، والطاعة
المفروضة له ليست طاعة لشخصه إنما هي طاعة لشريعة الله التي
يقوم على تنفيذها، ولا حق له في الطاعة حين يتعداها. فإن
وقع خلاف على أمر من الأمور التنفيذية فالحكم فيه هو
للشريعة ذاتها.»
٨٢ والإسلام أيضًا ثورة على طاغوت الرجل من أجل
حقوق المرأة. فالحاكمية لله إذن تعني ثورة على الطواغيت،
وتحررًا للبشرية. ولا يحكم الله بذاته بل من خلال الشريعة،
والقائم عليها منفذ لها وليس مشرعًا والمطيع لها مطيع
للشريعة وليس مطيعًا للقائم على تنفيذها، فلا طاعة لمخلوق
في معصية الخالق. «إننا ندعو إلى نظامٍ الحاكميةُ فيه لله
وحده لا لفرد من البشر ولا لطبقة ولا لجماعة، وبذلك تتحقق
فيه المساواة الحقيقية، ولا يكون لحاكم فيه حقوق زائدة على
حقوق الفرد العادي من الشعب ولا تكون هناك شخصية أو شخصيات
مقدسة فوق مستوى القانون. ولا تكون هناك محاكم خاصة للشعب
ومحاكم خاصة للوزراء أو غير الوزراء. إنما يقف فيه الحاكم
الأعلى مع أي فرد من الشعب أمام القضاء بلا تمييز ولا
استعلاء. إننا ندعو إلى نظام يجعل لجميع المواطنين حقًّا
عامًّا في الثروة العامة لأن المِلكية فيه أصلها للجماعة
مستخلَفة فيها عن الله، والمِلكية للفردية عارضة وفي حدود
الانتفاع. والفضل للجماعة حين تحتاج إلى فضل الأموال.»
٨٣
وتبدو الحاكمية في مظهرها السلبي رفض العبودية للبشر،
فتظهر على أنها تحرير للرُّوح البشرية من العبودية لغير
الله من الأرباب المتفرقة، من الأوهام والشبهات. «والعبودية
لغير الله من الأرباب المتفرقة سواء هي العبودية للأوهام
والخرافات والأساطير، والعبودية للشهوات والنزوات الهابطة،
كلها تنفق الطاقة البشرية في غير ما يليق بالإنسان، وكلها
تصرفه عن التطلع للبناء والتعمير والإنشاء، وكلها تصده عن
النهوض بتكاليف الحياة الكريمة التي أرادها الله لبني
الإنسان … وليس هنالك اختلاف ظاهري بين أوضاعنا الحاضرة
والأوضاع التي كانت مع عهد الرسول من هذه الوجهة، وإن
خُيِّل إلى البعض أن الدعوة إلى تحرير البشر من عبودية
الأرباب المتفرقة لا موضع لها اليوم ولا ضرورة، كلا! فإن
عبادة الأرباب المتفرقة اليوم لا تنقص عن عبادة الأرباب
المتفرقة في الجاهلية، كل ما تغير هو نوع الأرباب لا عبادة
الأرباب. أما عبادة الشهوات، وعبادة الخرافات فهما على
حالهما بغير استثناء.»
٨٤ إن البشر يدفعون ضريبة الذل إن هم عَنَوا
الرءوس لغير الواحد القهار، ويتحولون إلى عبيد بمحض
اختيارهم، ولكن العبودية لله هي التي تحررهم. العبودية لله
هي التي تعطي البشر حرية الكلمة والقدرة على الجهر بالحق.
إنه في ذلك التصميم الحاسم على تحويل الكلمة المكتوبة إلى
حركة حسية والمعنى المفهوم إلى دافع ملموس.
٨٥ وتلك عبارات ستُستخدم فيما بعد للتعبير عن
التصور الإسلامي والتفرقة بين العقائد والفلسفات.
لذلك استطاع الإسلام أن يكافح الظلم وأن يقف بجانب
المظلومين يصرخ في وجه الطغاة والمتجبرين. «إن الإسلام في
صميمه حركة تحريرية تبدأ في ضمير الفرد وتنتهي في محيط
الجماعة. وما يعمر الإسلام قلبًا ثم يدعه مستسلمًا خاضعًا
لسلطان على وجه الأرض إلا سلطان الواحد القهار. وما يعمر
الإسلام قلبًا ثم يدعه صابرًا ساكنًا للظلم في صورة من صوره
جميعًا سواء وقع هذا الظلم على شخصه أو وقع على الجماعة
الإنسانية في أية أرض وفي ظل أي سلطان.»
٨٦ ومن هنا أتى التعارض بين الحق والباطل، بين
الإسلام واللاإسلام، دون أن يظهر بعدُ مفهومُ الجاهلية.
«إنه إسلام أو لا إسلام … إسلام فهو كفاح لا يهدأ أو جهاد
لا ينقطع، واستشهاد في سبيل الحق والعدل والمساواة. أو لا
إسلام فهو إذن همهمة بالأدعية وطقطقة بالمسابح وتمتمة
بالتعاويذ، واتكال على أن تمطر السماء على الأرض صلاحًا
وخيرًا وحرية وعدلًا. وما كانت السماء لتمطر شيئًا من هذا
كله، وما كان الله لينصر قومًا لا ينصرون أنفسهم، ولا يثقون
بأهلهم، ولا ينفذون شريعته في الجهاد والكفاح.»
٨٧ وهذا هو معنى القتال لتكون كلمة الله هي
العليا. «فكلمة الله هنا تعني كذلك حرية الدعوة وحرية
الاعتقاد. وكل قوة مادية تقوم في وجه هاتين الحريتين أو
إحداهما هي قوة معتدية مضادة لكلمة الله الذي كرم الإنسان
وجعله على نفسه بصيرة، وجعل عقله هو الحاكم، وإرادته هي
مناط التكليف، واعتبر الوقوف بالقوة في وجه الدعوة أو
استخدام القوة للإكراه على العقيدة معطلًا لكلمة الله. فمن
قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.
٨٨ يحرم الإسلام الانضمام إلى قوى الطواغيت
ويحتِّم دفع الظلم عن البشرية. حرب الإسلام هي حرب لتحرير
البشرية، حرب على عبودية البشر للبشر.
وقد تحققت هذه الثورة بالفعل بعد أن توفرت عناصر ثلاث:
عدم المساومة على الحق، وتحويل العقيدة إلى حياة وحركة
ابتداءً من ضمير الفرد، وتحويل الإسلام كله إلى نظام شامل
للحياة. فثورة الإسلام تنبع من طبيعته وليس من القائمين على
تنفيذه، «ولذلك اختفت من الإسلام أسطورة فصل الدين عن
الدولة لأنه لا دولة بلا دين، ولا دين بلا شريعة ونظام.»
٨٩ الإسلام عقيدة الضمير، ينبثق منها سلوك في
المجتمع ويقوم عليها نظام للحياة. نظام كامل يتناول نشاط
الفرد في حياته العائلية وحياته الاجتماعية وحياته الدولية.
ويحكم على عَلاقاته المتنوعة في تلك الميادين كلها، ويضع
الشرائع التي تنظم هذه العَلاقات.» ليس في الإسلام دعوة «أن
ما لقيصر لقيصر وما لله لله»؛ لأن الإسلام يعتبر كل شيء لله
ولا يعرف قيصر إلا منفِّذًا لشريعة الله، منظمًا للحياة
بقانون الله.
كذلك يرفض الإسلام أدب الانحلال (الدنيا سيجارة وكاس)
لأنه أدب يخدر الشعوب ويستذل النفوس البشرية ويقضي على رُوح
الكفاح فيها. وهو ما فعله الأمويون ليأمنوا أهل الحجاز،
والتاريخ يعيد نفسه. «عندئذٍ انطلق كتاب وشعراء وفنانون
يسبحون بحمد الطاغية الصغير، ويسجدون له من دون الله
ويخلعون عليه من صفات الله سبحانه ما لا يجرؤ مسلم أو مسيحي
على النطق به حياء من الله.»
٩٠ كما يرفض مواكب الفارغات والحفنة الفارغة من
النسوة المتشدقات الذين يحكون عن المرأة والبرلمان والمرأة
والوزارة. والإسلام أعطى المرأة جميع حقوقها في الدراسة
والعمل، والتجارة والقتال.
وفي نهاية المرحلة الاجتماعية نستخلص النتائج
الآتية:
- (١)
تطور سيد قطب تطورًا طبيعيًّا من الأدب إلى
الوطنية إلى الاشتراكية إلى اكتشاف الإسلام كوعاء
حاوٍ لكل هذه التيارات. ولو كان استمر تطوره على نحو
طبيعي لانتهى إلى الاشتراكية العلمية كمرادف للإسلام،
ولأصبح من ركائز اليسار الإسلامي في مصر ومن دعائمه
الأولى في العالم الإسلامي. ولكن اندلعت الثورة
المصرية في ١٩٥٢م وحققت ما كان ينادي به سيد قطب من
عدالة اجتماعية ومقاومة الاستعمار والصهيونية ودعوة
إلى تكوين كتلة ثالثة بين المعسكرين. ولكن نظرًا
للتخلف الحضاري وعدم استطاعة الضباط الأحرار جعل
مضمونهم الثوري من داخل الإسلام، وعجز الإخوان عن جعل
قالبهم الإسلامي قادرًا على احتواء المضمون الثوري،
ونظرًا للصراع على السلطة، فقد كان كل فريق ضحية
التصور الهرمي للعالم ظانًّا أن السلطة هي أداة
التغيير الاجتماعي، فحدث الصدام المؤسف بين الثورة
والإخوان في ١٩٥٤م، واستمر هذا الصراع على طول تاريخ
الثورة، وراح سيد قطب ضحية هذا الصراع، فلا هو طور
أفكاره الاشتراكية الأولى من خلال الممارسة السياسية
الفعلية بعد أن ميعتها الثورة، ولا هو استطاع تأصيلها
في الإسلام نظرًا لحل جماعة الإخوان المسلمين. أصبح
محصورًا بين دفتي الرحى مع أنه كان مؤهَّلًا للقيام
بالوحدة الوطنية وبإنشاء اليسار الإسلامي الذي كان
يمكن أن تلتقي عليه الثورة والإخوان.
٩١ لم يَبقَ من الإخوان إلا التيار المحافظ
الذي منه خرجت الجماعات الإسلامية مع أخذ بالثأر
لشهدائها من الثورة خاصة. وإن سيد قطب كان محط الشكوك
من الإخوان، وكان منهم من يتهمه بالخروج على أفكار
حسن البنا، وتأثره بالاتجاهات الوطنية الاشتراكية
والشيوعية.
- (٢)
لم تظهر الحاكمية لله إلا بمعنى الحاكمية
للتشريع. فالحكم للشريعة وليس لله والحاكم يستمد
سلطته من البيعة وليس من الله. وهذه الحاكمية
التشريعية ليست ضد نظم البشر كلها في ذاتها، ولكنها
ضد نظام بشري واحد بعينه وهو الذي يقوم على الظلم
الاجتماعي والعدوان على حرية الاعتقاد. ولا يوجد أثر
أو ذكر أو استشهاد بأبي الأعلى المودودي كما سيحدث
فيما بعد وهو في غيابات السجن. وبالتالي لم تخرج
الجماعات الإسلامية من هذه الفكرة الأولى، بل من
الحاكمية لله نظرًا لتشابهها معه في الموقف النفسي
«نفسية السجين».
- (٣)
بالرغم من معركة الإسلام ضد الرأسمالية وظهور
الإسلام كدين العدالة الاجتماعية الذي يدافع عن حقوق
الفقراء ضد الأغنياء، إلا أن بقايا التصورات
الرأسمالية ما زالت باقية عند سيد قطب مثل حق الملكية
الفردية وحق الإرث تعبيرًا عن حب الذات، في حين أن
الله هو المالك وحده وأن الإنسان مستخلَف فيما بين
يديه. ومن هذه البقايا تخرج الجماعات الإسلامية
المعاصرة دون تطوير للفكر الاجتماعي الإسلامي.
- (٤)
بالرغم من معاداة سيد قطب للحضارة الغربية
المادية، ونقده للنظم الرأسمالية والشيوعية على حد
سواء، وإدانته للمذهب المادي ومظاهر الانحلال والجنس
في الغرب، إلا أن الجماعات الإسلامية المعاصرة قد خفت
حدتها في نقدها للغرب وزادت حدتها في نقدها للشرق،
فازدادت نسبة تسرب العناصر الرأسمالية في فكرها،
وابتعدت عن رؤية بعض مظاهر العدالة الاجتماعية في
النظم الاشتراكية حتى رأى الغرب فيها حليفًا طبيعيًّا
له لعدائها المستميت ضد الشيوعية، بالرغم من تحذير
سيد قطب من «الإسلام الأمريكاني»، وركزت اهتمامها على
تحريم الجسد، وكأن العالم يسير بالغرائز، وكأن البشر
حيوانات مدفوعة بالجنس. وكلما زاد التحريم زاد
الإشباع المقلوب.
- (٥)
ظهر الواقع الإحصائي عند سيد قطب ولجأ إلى
الأنظمة الاجتماعية محللًا إياها كعالم اقتصاد
واجتماع وسياسة وقانون وتاريخ. بل إنه نادرًا في
«معركة الإسلام والرأسمالية» ما يعتمد على النصوص
الدينية، ولكن الجماعات الإسلامية المعاصرة تراجعت عن
هذا المنهج واعتمدت اعتمادًا كليًّا على قال الله
وقال الرسول، وأصبحوا خطباء ووعاظًا أكثر منهم علماء
ومفكرين. وغاب التحليل الكمي للواقع واقتصروا على
ترديد الشعارات العامة بلا مضمون اجتماعي للأمة
الإسلامية.
- (٦)
تظهر أحيانًا عند سيد قطب بدايات الثنائية
المتصارعة المتعارضة التي لا واسطة بينها. فالإسلام
إما أن يُؤخذ كله أو يُترك كله «خذوا الإسلام جملة أو دعوه.»
٩٢ وقد أصبح هذا الجدل بين الكل أو لا شيء
طابعًا مميزًا لفكر الجماعات الإسلامية وسلوكها،
وبالتالي غاب الحوار، وتوارى العقل، وبرز الهوى
والانفعال. غابت فكرة المراحل والاستكمال والتطوير
والاحتواء.
- (٧)
بالرغم من نقد سيد قطب لتحويل الإسلام إلى دين
شعائري: تمتمة بالشفاه، وتسبيح بالأصابع، وإطالة
اللحى، والحرص على السلام كشريعة ونظام، فإن الجانب
الاجتماعي عند الجماعات الإسلامية قد توارى، وبرز
الجانب الشعائري المظهري. توارت هذه المرحلة
الاجتماعية ولم تُحدث أثرًا في الجماعات الإسلامية
المعاصرة، باستثناء بعض كتابات نظرية تقليدية عن
الاقتصاد الإسلامي، وإعادة تحريم فوائد شهادات
الاستثمار ضد فتاوي الإمام محمد عبده وبعض الفقهاء
المحدَثين. لم يحدث تطبيق مباشر للاقتصاد الإسلامي في
حالة مصر أو الحجاز أو باكستان. فما أسهل تقريظ
النظريات وما أصعب تحليل الواقع وقياس المسافة
الشاسعة بين النظرية والواقع. ومما يساعد على هذا
التحول من الجانب الاجتماعي إلى الجانب الشعائري ما
تقوم به الدولة من احتكار للقضايا الاجتماعية
وتغطيتها بشعارات إسلامية مثل تطبيق الشريعة
الإسلامية، والترويج للإسلام الشعائري في أجهزة
الإعلام إضفاء للشرعية على واقع الظلم الاجتماعي،
والترويج للقيم السلبية من التراث الصوفي مثل الإيمان
والصبر والمحبة والرضاء والتوكل، ومن التراث العقائدي
مثل القضاء والقدر، وتكفير الخصوم السياسيين واتهام
دعاة التغيير الاجتماعي والعدالة الاجتماعية بالكفر
والإلحاد، والاحتفال بالموالد وإنارة المآذن، وبناء
المساجد، والنداء للصلاة في أجهزة الإعلام، وبناء
مجمع للأديان!
ثالثًا: المرحلة الفلسفية: (١٩٥٤–١٩٦٢م)
تبدأ المرحلة الفلسفية نفسيًّا أكثر منها تاريخيًّا،
وذلك بعد أن احتكرت الثورة العمل السياسي وقامت بتنفيذ بعض
مطالب العدالة الاجتماعية مثل قوانين الإصلاح الزراعي وبعض
المطالب السياسية مثل معاداة الاستعمار والرأسمالية
والإقطاع. ولكن بعد صراع الثورة مع الإخوان، بدأت المعركة
الاجتماعية في فكر سيد قطب في الانحسار، وبرزت تعويضًا عنها
وشيئًا فشيئًا بعض المسائل النظرية التي بلغت ذروتها في
«خصائص التصور الإسلامي ومقوماته»، وقد بدأ هذا الانحسار
واضحًا في «المستقبل لهذا الدين» ثم في «نحو مجتمع إسلامي»
حيث يتجاوز الإسلام النظامين الرأسمالي والشيوعي، ويصبح
قادرًا على أن يعرض نفسه كنظام مستقل. ثم بدأ العرض النظري
التصوري لهذا النظام أولًا في «هذا الدين» ثم في «خصائص
التصور الإسلامي ومقوماته» الذي طالما وعد به والذي لم يصدر
إلا الجزء عن المقومات.
٩٣
ويغلب على هذه المرحلة أربعة موضوعات رئيسية: نقد
الحضارة الغربية، وأن المستقبل للإسلام، وخصائص التصور
الإسلامي، وأخيرًا حاكمية الشريعة.
فالحضارة الغربية ليست نمطًا مثاليًّا لكل حضارة، بل هي
حضارة خضعت لظروفها الخاصة ولطبيعة معطياتها الدينية، خاصة
المسيحية وردود الفعل عليها. فكل دين، وليس فقط الإسلام،
تصور للإنسان والحياة والكون ينشأ منه نظام. فبعد أن اكتشفت
الحضارة الأوروبية بُعد دينها عن الحياة، وفصل ملكوت
السموات عن ملكوت الأرض، وما به من عقائد ظنية وسلطة
كهنوتية، قام بعملية رد فعل على ذلك ولجأ إلى العلم،
والعالم، والمادة، والطبيعة. فنشأت المادية الأوروبية
المشهورة كتيار أساسي تقوم عليه جميع مذاهبها الاقتصادية
والسياسية، الرأسمالية منها والشيوعية. آمنت الحضارة
الغربية بالعلم، هذا الإله الغربي الجديد، الذي يقوم على
تصور خاص للمادة. ثم بدأت البشرية اليوم تفقد الثقة في هذا
الإله الجديد بعد أن انفلتت من قيود العقيدة وانطلقت إلى
عبادات جديدة مثل آلهة أمريكا الجديدة: الإنتاج، والمال،
واللذة، وآلهة الماركسية الجديدة: المادة، والاقتصاد،
وماركس. ولم تستطع هذه الآلهة الجديدة ملأ الفراغ الرُّوحي
وإعطاء الثقة بالنفس وراحة الضمير فانتهت الحضارة الغربية
إلى الخواء التام على الرغم مما يبدو في الظاهر من زحمة
وامتلاء. «إن البشرية في حاجة إلينا.»
٩٤
وقد حدث الفصل النكد في أوروبا بعد أن اكتشفت زيف
معطياتها الدينية. فبعد أن وقع الفصال بين المسيحيين
واليهود، رفض المسيحيون شريعة التوراة كما رفض اليهود من
قبل شريعة عيسى التي أتى بها تخفيفًا لشريعة موسى. وبعد
دخول الإمبراطور قسطنطين المسيحية حدث تحول عظيم فيها،
فتحولت من دين إلى دنيا، وتم اضطهاد الفرق المسيحية
المعارضة مثل «المونوفيسية» التي كان عليها أهل مصر الذين
استقبلوا العرب القادمين كمخلِّصين لهم من الاضطهاد الديني
والقهر السياسي. كل ذلك أدى إلى وقوع الزيف في التصور
النصراني، بالإضافة إلى تسلط الكنيسة على رقاب المؤمنين
وتهديدهم بالطرد والحرمان وإنذارهم بالنار إن هم أخذوا من
طيبات الحياة. كانت الرهبانية مضادة للفطرة والطبيعة،
واحتكرت الكنيسة تفسير الكتاب المقدس وتفسير العلم، ووقع
الصراع بين الأباطرة والبابوات حتى قامت الثورة المعاصرة
على الدين منذ الإصلاح الديني حتى العصر الحاضر، ضد هذا
الفِصام النكد بين الدين والحياة، وبين التصور والنظام.
وثار المجددون المتنورون على مآسي رجال الدين ورذائلهم
ورفضوا الدين في رفضهم لرجال الدين وأبعدوه عن الحياة فحوت
الفصل النكد.
٩٥ وهي كلها ظروف خاصة بنوعية دين بعينه ومساره في
التاريخ، وليس كل دين وكل مسار، وهو ما لا يعرفه المقلدون
المرددون لكل ما ينتجه الغرب. وإن «جناية الحضارة الراهنة
وسبب فسادها الأساسي، وإهدارها للقيم الإنسانية والخصائص
الإنسانية والمقومات الفردية … يكمن في رفضها ابتداءً أن
يكون للدين — بوصفه منهجًا للحياة من عند الله — هذه
الاختصاصات وهذا السلطان أي رفضها لألوهية الله سبحانه، هذا
الرفض المتمثل في اتخاذ مناهج للحياة غير منهجه، ولو لم
تعلن رفضها لألوهية الله جهرًا — كالبلاد الشيوعية — فاتخاذ
مناهج من صنع البشر هو رفض لألوهية الله قطعًا.»
٩٦ لقد جعل الله الإنسان سيد الآلة والمادة
والاقتصاد وليس خاضعًا لها. «فالجاهليات القديمة كانت
جاهليات جهل وسذاجة وفتوة، أما الجاهلية الحاضرة فجاهلية
علم وعقيدة واستهتار.»
٩٧ كانت الجاهليات الأولى قريبة من البداوة، ولكن
بها أخلاق البداوة أما جاهلية اليوم فعنيفة مكشوفة وحرية
مبتذلة خالية من القيم.
نشأت جميع الاتجاهات الأوروبية مناهضة للدين من عقلية
مثالية ووضعية حسية وجدلية مادية. فبعد سيادة النص أو الدين
ساد العقل وتزايد الشعور بالثقة به والجرأة على الواقع
والإيمان بالمنافع البشرية. ثم ساد الحس للتخفيف من صورية
العقل، ونشأت المذاهب الوضعية. وأخيرًا سادت المادية
الجدلية التي عليها قامت الماركسية. هذه الاتجاهات كلها
انحرافات بشرية كردِّ فعل على تشويه المجامع الكنسية للتصور
الديني. وانتهت الحضارة الأوروبية إلى نصب آلهة آخرين بدل
إله الكنيسة، آلهة العقل والحس والمادة، وهي كلها انحرافات
عن التصور الرباني.
٩٨
أما على مستوى المذاهب الاقتصادية فقد نشأت الرأسمالية
على المذهب المادي، وانتهت إلى الاحتكار والاستغلال، وكان
الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية كما يقول لينين، ثم جاءت
الشيوعية كرد فعل طبيعي عليها منعًا للاحتكار والاستغلال،
وهي بالتالي تمثل تقدمًا بالنسبة للرأسمالية، ولكنها ما
زالت نظامًا يقوم على مذهب مادي نتيجة للفِصام النكد ولا
يرتكز على عقيدة الإيمان بالله، بل على أدوات الإنتاج التي
عندما يسيطر عليها البروليتاريا تقود العالم. ومهما حاولت
الماركسية تغيير وتطوير نفسها فإنها تتحطم ولا يبقى منها
إلا الدولة والنظام البوليسي.
٩٩ جاءت الشيوعية تفسر التاريخ تفسيرًا ماديًّا
لتعطي مبادئ الثورة الفرنسية نطاقًا أوسع من الوجودية
والبرجماتية، ولكنها أيضًا عجزت عن أن تمُد الإنسانية
بعقيدة وإن مدت الغرب بعقيدة تملأ فراغه الرُّوحي والفكري
لدى المثقفين وتسحر طبقة العمال المستغَلين. «إن الشيوعية
هي النهاية الطبيعية لحضارة خالية من الرُّوح، خاوية من
المُثُل، مجردة من الأحلام.»
١٠٠ عمرها قصير ولا تجذب إلا الشعوب
الأوروبية.
لقد أعلن كثير من مفكري الغرب نهاية دور الرجل الأبيض
وتنبأ «راسل» بانتشار الشيوعية في آسيا والعالم العربي
باستثناء الهند.
١٠١ وقد يؤكد ذلك تبني الصين للمذهب الشيوعي،
والعالم العربي والإسلامي في الطريق إليها. ولكن سيد قطب
يرى أن النبوءة صحيحة في أولها وليس في آخرها، فلقد انتهى
عصر الرجل الأبيض بالفعل ولم يعد يصلح لقيادة العالم، فلقد
أصيب بالعقم بعد الماجنا كارتا الإنجليزية ومبادئ الثورة
الفرنسية ومبادئ الحرية الفردية التي سادت فيما يسمونه
«التجرِبة الأمريكية». ولكن يغيب منها كلها الاعتقاد بالله
نتيجة للفِصام النكد، وبالتالي لم تعد صالحة للبقاء لأنها
لا تقوم على الإنسان كقيمة، بل على المادة أو الإنسان
الضائع الهائم على وجهه، كما هو الحال في الوجودية. وقد شهد
شاهد من أهلها ضد الحضارة المادية القائمة؛ لقتلها أهم
خصائص الإنسان، وأطلق فيها صيحة مدوية بالأخطار التي تهدد
الجنس البشري من جراء الاعتداء على القوانين الطبيعية التي
لا تدع المعتدين عليها بلا عقوبة، وأعلن جهل العلم بحقيقة
الإنسان، بل بأبسط حقائق تكوينه الجسدي
١٠٢ فإن الحرية والإخاء والمساواة، كانت غايات
محدودة بفترة معينة من الزمن وبآفاق معينة؛ فكانت تعني
الحرية الشخصية في كل ميدان، وكانت المساواة تعني المساواة
في الحقوق المدنية وليس في الحقوق الاجتماعية والاقتصادية،
وظل مبدأ الإخاء مسألة نظرية صرفة، ولم تعطِ أمريكا شيئًا
على مستوى المبادئ والمُثل.
ويدخل نقد الحضارة الغربية ضمن إطار فلسفة التاريخ،
فكما أزاح الإسلام في نشأته الإمبراطوريتين القديمتين
الفارسية والرومانية وشق طريقه وسطهما ثم احتواهما، كذلك
يكون مستقبل الإسلام في مواجهة النظامين العالميين الحاكمين
الآن الرأسمالية والشيوعية. سيزحف الإسلام عليهما حاويًا
إياهما ووارثًا نظم العالم الجديد. هناك طريق واحد للشعوب
الإسلامية الآن يؤدي بها إلى العزة القومية والعدالة
الاجتماعية والتخلص من عقابيل الاستعمار والطغيان والفساد،
وهو طريق الإسلام والتكتل على أساسه. لقد مزق الاستعمار
العالم الإسلامي وأكله فرادى، وأورث بين شعوبه الأحقاد
وربطها بالعملاء شرقًا وغربًا، ورُوح الصليبية واحدة.
والتكتل الإسلامي لا يعني التعصب بل إن الإسلام هو الضمانة
الوحيدة لوقف حركة التعصب ضد المخالفين له في العقيدة.
وتظهر صورة الطريق بقوة: «إنه طريق وحيد، طريق الكرامة،
وطريق المصلحة، وطريق الدنيا، وطريق الآخرة. إنه الطريق إلى
الله في السماء وإلى الخير في الأرض، وإلى النصر والعزة
والاستعلاء، إنه هو الطريق.»
١٠٣
لقد كان يمكن لأوروبا أن تستفيد قديمًا من فكرة الإسلام
وأن تستمتع بثماره، لولا أنها وقفت له بالمرصاد إبان المد
الأول عندما وصل الإسلام إلى حدود البرانس، ثم ساقها التعصب
إلى طرده من الأندلس. ومع ذلك فالبشرية صائرة إلى الإسلام
من جديد بالرغم من دعاة التغريب في حياة المسلمين. «إن
الإسلام بالذات كان ثورة تحررية حررت الفكر كما حررت
الرُّوح، حررت الفكر من الوهم والخرافة ووجهته إلى تنمية
الحياة في الأرض دون تخوف من الطبيعة التي عقدت بينه وبينها
أواصر الصداقة والقربى وصورتها له عونًا مساعدًا لا عدوًّا
مناوئًا، وحررت الرُّوح من الهبوط والتردي وأطلقته يرتاد
الآفاق العليا وجذب الحياة كلها إليها. لذلك نمت الحياة في
ظله نموًّا سريعًا.»
١٠٤ وقد فتح الإسلام الأمصار باسم هذه الثورة
التحررية القائمة على العدل والحرية. وعندما ينتهي الصراع
بين الشيوعية والرأسمالية عندئذٍ يبدأ الصراع بين الفكرة
الإنسانية التي يمثلها الإسلام والفكرة المادية التي تمثلها
الشيوعية والرأسمالية على الرغم مما يوحي الاستعمار بما
بينهما من تعارض.
إن المنهج التجريبي الذي يعتز به الغرب ويفخر به لهو من
نتاج الإسلام وأثره من خلال الأندلس، عندما ترجم اللاتين
علوم المسلمين الطبيعية القائمة على منهج التجريب المستمد
ذاته من الإسلام كمنهج تجريبي، ولقد كان الإسلام هو الذي
أنشأ – بطبيعة واقعية منهجية – المنهج التجريبي الذي انتقل
إلى أوروبا من جامعات الأندلس، والذي أقام عليه روجر بيكون
وفرنسيس بيكون — الذي سمَّوه افتراءً «أبا المنهج التجريبي»
— منهجهما كما قرر ذلك بريفولت وجوهرنج من الكتاب الغربيين أنفسهم.
١٠٥ ولقد استمدت أوروبا حياتها، وهي في جهالتها، من
الإسلام، وأقامت عليه حضارتها، وكان ذلك أثرًا مباشرًا
للحروب الصليبية ولقيام دولة الأندلس في إسبانيا، واستطاع
أن يؤثر أكثر مما أثرت فيه المسيحية نظرًا لطبيعته
الإيجابية وطبيعة المسيحية السلبية، فقد قدم الإسلام الفكرة
كما قدم ترجمتها في الحياة الاجتماعية، قدم التصور كما قدم النظام.
١٠٦ لقد نشأت مناهج البحث العلمي في ظل الإسلام في
جامعات الأندلس، وقد اعترف روجر بيكون باقتباسه المنهج
التجريبي من العالم الإسلامي. والقسم الخامس من آخر كتبه
الكبرى في البصريات منقول عن كتاب المناظر لابن الهيثم،
بالإضافة إلى تأثره بابن حزم. لقد درس العربية والعلوم
الإسلامية ونقل رُوحها إلى أوروبا المسيحية. ثم وقفت
الكنيسة أمام هذا العلم الجديد فمدت الفصام النكد المشئوم،
وقد آمن الصليبيون من قبل بالعالم الإسلامي «ورأَوا شريعة
يتحاكم إليها الناس جميعًا، حاكمهم ومحكومهم، غنيهم
وفقيرهم، مالكهم ومعدِمهم، صاحب الأرض والعامل فيها على
السواء. شريعة ليست هي إرادة السيد صاحب الأرض، وليست هي
إرادة الأمير كذلك ولا السلطان، إنما هي شريعة تجيئهم
جميعًا من عند الله، ويتولى الحكم بها قضاة، طالما وقفوا
بها في وجه الأمراء والسلاطين عندما كان أحدهم يهم بظلم
الرعية أفرادًا أو جماعات. وقد ظهر في هذه الفترة أئمة
أقوياء وقفوا مرات في وجه سلاطين المماليك وكان لوقفاتهم
صداها الذي تتناقله الجماهير في الوطن الإسلامي وتعرفها
جموع الصليبيين الذين احتكوا بهذا المجتمع خلال قرنين من الزمان.»
١٠٧ بل إن الليبرالية ذاتها التي يعتز بها الغرب
أثر من آثار اتصالهم بالعالم الإسلامي. إن حركة الإصلاح
الديني التي قام بها مارتن لوثر وكالفن في أوروبا، وحركة
الإحياء التي تقتات منها أوروبا حتى اليوم، وحركة تحطيم
النظام الإقطاعي في أوروبا والانطلاق من حكم الأشراف، وحركة
المساواة وإعلان حقوق الإنسان التي تجلت في الماجنا كارتا
في إنجلترا، والثورة الفرنسية في فرنسا، وحركة المذهب
التجريبي التي قام عليها مجد أوروبا العلمي وانبعثت منها
الفتوحات العلمية الهائلة في العصر الحديث، وأمثالها من
الحركات الكبرى التي يحسبها الناس أصولًا في التطور
التاريخي، كلها قد استمدت من ذلك المد الإسلامي الكبير
وتأثرت به تأثرًا أساسيًّا عميقًا.
١٠٨ إن الحركات التي دعت إلى إنكار الاعتراف أمام
القسيس، والتي تدعو إلى تحطيم الصور والتماثيل الدينية،
والتي ترفض التثليث، كل ذلك نشأ في أوروبا تحت أثر
الإسلام.
ولكن المهم إعادة كتابة التاريخ الإسلامي دون خلط
القدماء أو تشويه المحدثين من المستشرقين وأتباعهم المؤرخين
المسلمين. فالتاريخ ليس هو الحوادث بل تفسير هذه الحوادث.
والتفسير لا يتم إلا من خلال مشاركة المؤرخ الوجدانية
للحادثة، وهي غائبة تمامًا عن الدراسات التاريخية المعاصرة
عند الغربيين. بالإضافة إلى أن الباحث الغربي يعتبر أوروبا
مركز العالم ومحوره وكل ما سواها أطراف معلقة، وذلك إسقاط
من حاضره على ماضيه، فأوروبا لم تكن في الماضي محور العالم
ومركز ثقله. كما غابت النزاهة عن الباحث الأوروبي نظرًا
لموقفه العدائي من الإسلام، نظرًا لذكريات له في الأندلس
وفي الحروب الصليبية وفي الاستعمار الحديث.
١٠٩
يجب إذن إعادة كتابة التاريخ متجاوزين صورته في المصادر
العربية القديمة كحوادث ونكات ووقائع دعايات وخرافات
وأساطير وروايات متضاربة وأقوال متعارضة، ومتجاوزين صورته
في أعمال المستشرقين التي حاولت نقد المصادر ولكن غابت عن
نتائجها النزاهة والموضوعية. هذه الدراسات التاريخية
الجديدة، تعتمد على المراجع العربية كمصادر أولى وتفسير
مادتها بإخضاعها إلى منطق الحوادث ذاته. ولا يمكن إدراكها
إلا بالتجارِب والتعاطف معها حتى يمكن إدراك رُوح العقيدة
الإسلامية وطبيعة فكرتها عن الإنسان والكون والحياة، «ولا
بد من ربط هذا كله بطبيعة الفكرة الإسلامية وما فيها من
رُوح انقلابية ثورية». والتاريخ الإسلامي جزء من التاريخ
الإنساني، وتجرِبة شقت طريقها ضمن التجارِب الإنسانية
الأخرى، فالإلمام بتاريخ الحضارات القديمة، وحال الجزيرة
العربية قبل الإسلام، وحال المجتمعات المعاصرة، ضروري لفهم
التاريخ الإسلامي نشأة وتطورًا في الماضي والحاضر
والمستقبل. يتحول التاريخ حينئذٍ إلى «عملية استبطان وتجاوب
في ضمائر الأشياء والأشخاص والأزمان والأحداث، ويتصل بناموس
الكون ومدارج البشرية ويصبح كائنًا حيًّا ومادة
حياة.»
وبعد هذه المقدمات والأفكار الموجهة الأساسية يمكن
تقسيم التاريخ الإسلامي إلى أربعة مراحل: الإسلام في عهد
الرسول، المد الإسلامي، انحسار المد الإسلامي، العالم
الإسلامي اليوم.
١١٠ على هذا النحو يمكن التحرر من الرؤية الغربية
لكتابة التاريخ، مع إعطاء رؤية أخرى أوسع وأشمل من باحثين
أقدر على التجاوب والتعاطف مع مادة التاريخ معطين نموذجًا
جديدًا في الدراسة، ويرسم الطريق لإعادة بعث الأمة من إعادة
كتابة تاريخها.
١١١
ولإقامة المجتمع الإسلامي هناك أولًا فرق بين الشريعة
الإسلامية والفقه الإسلامي، الأولى ثابتة لا تتغير لأنها
المبادئ الأساسية للدين، أما الثاني فمتجدد متغير متطور
طبقًا لتغير وتجديد وتطور الحياة، فلا ثبات دون ثبات.
الأولى من صنع الله والثاني من صنع البشر. ثانيًا: إن
الصورة التاريخية للمجتمع الإسلامي ليست نهائية بل تتجدد
باستمرار ما دامت منبثقة من التصور الإسلامي العام. وقد
انبثق من الفقه الإسلامي جانبان: العبادات والمعاملات،
الأولى أكثر استقرارًا وثباتًا، والثانية متغيرة متطورة
متجددة لارتباطها بالحاجات البشرية، وقد وصلت إلينا
العبادات متضخمة والمعاملات ضامرة لظروف المجتمع الإسلامي
القديم. ولا يخرج الأمر في هذه الحالة عن أربعة احتمالات؛
الأول: أن تكون الشريعة قد نصت على حكم معين نصًّا صريحًا،
وهذا واجب التطبيق دون تحوير أو تبديل؛ لأنه متعلق بركن
أساسي من أركان المجتمع مثل تحريم الربا، أو بسمة أساسية من
سماته مثل الحدود، أو بمبدأ تشريعي لا يتغير مثل كتابة
الدين المؤجل. والثاني: أن تكون الشريعة قد جاءت فيه بنص
قابل للتأويل ويكون حينئذٍ عرضة للاجتهاد والترجيح والتوفيق
مع غيره من النصوص. والثالث: أن تكون الشريعة قد جاءت بمبدأ
عام تدخل المسألة الخاصة فيه ضمنًا دون النص عليها صراحة،
حينئذٍ يكون الأمر موضع اجتهاد في تطبيق المبدأ العام على
الحالات الخاصة. والرابع: أن تكون الشريعة قد سكتت عن هذا
الأمر ويكون حينئذٍ متروكًا للاجتهاد المطلق على ألا يصدم
الحكم مبدأً أساسيًّا من مبادئ الإسلام ولا أصلًا من أصول
التشريع. وعلى هذا الأساس احتفظت الشريعة الإسلامية بالثبات
والمرونة.
ونحن الآن أمام طريقين: إما أن نتابع خطوات الفقه
الإسلامي القديم حيث وقفت ونكملها كي تُملأ الفجوة الواسعة
بين الماضي والحاضر، وإما أن نرجع إلى مبادئ الشريعة ذاتها
فنجد فيها تلبية لحاجات مجتمعاتنا الحالية، «وهذا في نظري
هو الطريق المعقول إن لم يكن الطريق الوحيد.» فلا خلاف بين
المبدأ والواقع.
١١٢
والمجتمع الإسلامي مخالف للمجتمعات التي عرفتها النظم
الغربية الخمسة: الشيوعية الأولى، والرق، والإقطاع،
والرأسمالية، والاشتراكية وهي في طريقها إلى الشيوعية.
فالمجتمع الإسلامي يقوم على شريعة إلهية كاملة منذ نشأتها
على عكس النظم الغربية التي نشأت وَفقًا لظروف تاريخية
معينة. لم يصنع المجتمع الإسلامي الشريعة بل إن الشريعة هي
التي صنعت المجتمع الإسلامي، بعكس التشريعات الأرضية التي
ولدتها مجتمعاتنا. وترتكز الشريعة الإسلامية على أربع خصائص
هي التي جعلتها قادرة على إنشاء المجتمع الإسلامي؛ الأولى:
أنها بالرغم من أنها من صنع إله يعرف طبيعة خلقه قد جاءت
وَفقًا للمقومات البشرية المشتركة العامة وأصول الفطرة
الثابتة. الثانية: أنها جاءت في صورة مبادئ كلية عامة تقبل
التفريع والتطبيق في الجزئيات المتجددة والأحوال المتغيرة.
الثالثة: أن هذه المبادئ العامة شاملة لكل أصول الحياة
الإنسانية: الفرد والجماعة، والدولة والعَلاقات الدولية،
وفي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية.
والرابعة: أن المبادئ الاجتماعية التي قامت على أساسها جاءت
تقدمية، فدفعت بالبشرية إلى الأمام، وما زالت قادرة على
القيام بهذا الدور لأنها باستمرار تسبق الأوضاع الاجتماعية القائمة.
١١٣
أما النظم الأوروبية الخمسة فقد قامت على دراسة التاريخ
الأوروبي وحده لا التاريخ البشري العام. فالشيوعية الأولى
مجرد افتراض لا دليل عليه. أما عهد الرق فهناك بعض الدلائل
على وجوده في الإمبراطورية الرومانية عندما انقسم الناس إلى
طبقتين: طبقة الأحرار وطبقة العبيد، وهذه الأخيرة كانت تؤلف
ثلاثة أرباع سكان الإمبراطورية مما سبب ثورات العبيد. أما
نظام الإقطاع الذي انقسم فيه المجتمع إلى طبقتين أيضًا:
طبقة الملاك الذين يملكون كل شيء، الأرض ومَن عليها، وطبقة
المزارعين الذين يتبعون الأرض بعملهم وإنتاجهم وأشخاصهم،
فهو النظام الذي جاء الإسلام ليمحوه تدريجيًّا شيئًا
فشيئًا، ابتداءً من الضمير حتى الواقع نفسه. ثم قامت النظم
الرأسمالية ترث الإقطاع بعد أن هيأت الحروب الصليبية
الاتصال بالعالم الإسلامي والتعرف على ما فيه من وسائل
للإنتاج وإقامة مدن تجارية في السواحل الجنوبية لأوروبا
وعلى سواحلها الشمالية. وقد زاد النشاط التجاري وساعد على
نشأة طبقة برجوازية استثمرت أموالها بالربا والاحتكار على
عكس ما يقره النظام الإسلامي، وإن كان يقر حق الملكية
والاستثمار والإرث، مع تقييدها بحق الجماعة الثابت. فلما
أراد رأس المال مزيدًا من الربح وخرج خارج حدوده، وأصبح
الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية، ولما رأت المجتمعات
الأوروبية مآسي الرأسمالية اتجهت إنجلترا أولًا نحو
الاشتراكية، وروسيا نحو الماركسية كتطور طبيعي للرأسمالية،
في حين أن النظام الإسلامي وعدالته الاجتماعية نظام ثابت
وليس تطورًا طبيعيًّا لنظام سابق. وإذا كانت الاشتراكية
الأوروبية مذهبًا اقتصاديًّا بحتًا فالنظام الإسلامي قائم
على تصور للحياة ينبثق منه نظام ويتصف بالشمول ويتجاوز حدود
القوميات والأجناس والوطنيات المحلية. لذلك فالمجتمع
الإسلامي مجتمع عالمي خالٍ من النعرات الجنسية أو العنصرية
وصراع القوميات الحاد والحروب القائمة على أساسه. لا يعرف
المجتمع الإسلامي الحدود الإقليمية أو التعصب الديني ويقدم
الأخوة الدينية القائمة على حرية الاعتقاد والعبادة.
والجهاد الإسلامي يهدف إلى تأكيد هذه الحرية ودفع الظلم
والعدوان على حرية الضمير أو على الطبقات الاجتماعية
المظلومة أو على الدول المستعبدة تحت «راية حماية الضعفاء
من الظلم، الظلم كافة، قيامًا بشريعة الله في العدالة
الإنسانية بغير ما غاية سوى تحقيق كلمة الله في سبيل الله …
فهي الحرب لدفع الظلم والطغيان لا للإكراه على العقيدة ولا
كراهية للآخرين بسبب العقيدة، إنما هي الوسيلة العملية لدفع
الظلم وإقامة العدل وترتيب الأمن وحماية الضعفاء. وللذميين
حق الدفاع عنهم مثلهم مثل المسلمين على السواء.» إن المجتمع
الإسلامي مجتمع حر مفتوح تملك جميعُ العقائد والمذاهب
والآراء أن تعيش في ظله، وليس الإكراه عنصرًا من عناصر
تكوينه ولا بقائه.
١١٤
وبلغت قمة صياغة المنهج الإسلامي في «خصائص التصور
الإسلامي ومقوماته» الذي خرج منه الجزء الأول فقط عن
«الخصائص» ولم يعطِ الإمام الشهيد الوقت الذي يخرج الجزء
الثاني منه عن «المقومات»، والذي طالما وعد في كتبه السابقة
بأنه سيخرج كتابًا عدد فيه تصور الإسلام للإنسان والكون والحياة.
١١٥ وقد حاول سيد قطب ذلك أولًا في «هذا الدين»
ووصفه للإسلام على أنه منهج للبشر في حدود الطاقة البشرية:
«وهو منهج ميسر لأنه منهج عملي واقعي متفق مع الفطرة
البشرية، وهو منهج مؤثر يُحدث تحولًا في حياة البشر. يعتمد
على رصيد الفطرة وعلى رصيد التجرِبة. يقوم على خطوط مستقرة
منها: أنه يرى الإنسانية واحدة دون تفرقة عنصرية أو قبلية
أو جنسية، ويراها إنسانية كريمة لا يستذلها أحد. ويرى الأمة
واحدة لا فرق بين مذاهبها وسائر الديانات في ذمتها.» ولا
تظهر الحاكمية كأحد خصائصه إلا في أنه منهج متفرد، والتفرد
يعني الحاكمية، والحاكمية تعني العبودية، والعبودية
تشريعية، أي الالتزام بالإسلام كمنهج حياة.
١١٦ ثم يعدد هذه الخصائص بعد ذلك بسبع: الربانية،
والثبات، والشمول، والتوازن، والإيجابية، والواقعية،
والتوحيد. وتظهر الحاكمية في الخاصِّيتين الأولى والسابعة:
الربانية والتوحيد، دون أي أثر لأبي الأعلى المودودي كرافد
خارجي. وقد كان يهدف كله إلى بيان حقيقة الألوهية وحقيقة
العبودية. فالربانية لا تشير إلى الحاكمية بل إلى مجرد أن
الشريعة من التنزيل في مقابل النظم الوضعية، والألوهية مجرد
دفاع عن الله كتصور في مواجهة الغرب ضمنيًّا. والحقيقة أن
كل هذه الخصائص في معظمها قد تمت صياغتها ضد الحضارة
الغربية، فالربانية ضد المذاهب الإنسانية الفلسفية الغربية،
والثبات ضد نظريات التطور، والتوازن ضد تطرف المذاهب
الفلسفية وارتكازها على طرف واحد، والإيجابية ضد سلبية آلهة
الفلاسفة ومثالياتهم، والواقعية ضد خيال الفلاسفة
والأدباء.
ونقَد سيد قطب التصورات الإسلامية في تراثنا القديم في
الكلام والفلسفة والفقه والتفسير. فالفلسفة معرفة باردة
تابعة لأرسطو توفق بينه وبين الإسلام، لغتها سقيمة ولا شأن
لها بالمشاكل الواقعية للعالم الإسلامي. أما الكلام فليس
أفضل من الفلسفة، بل تابع لها وتابع لمباحثه اللاهوتية
الميتافيزيقية الوافدة من اليونان ومن المسيحية. أما الفقه
فإنَّ قِسمته إلى عبادات ومعاملات قسمة متأخرة؛ لأسباب فنية
أولًا، ثم تحولت إلى أحد مظاهر التأخر. فالإسلام ليس فيه
عبادات منفصلة عن المعاملات. أما التفسير فإنه ابتعد عن
بساطة القرآن ووضوحه. وبالتالي فإنه يمكن العودة الآن إلى
القرآن مباشرة ورؤية واقع المسلمين من خلاله دونما حاجة إلى
عشرات المجلدات المتوسطة من علم التفسير.
١١٧
وفي هذه المرحلة يظهر المودودي وتظهر الإشارات إليه في
نقد الغرب أولًا وفي الحاكمية ثانيًا. وقد عرَفه سيد قطب
كناقد للغرب قبل أن يعرفه كمنظر للحاكمية. كما عرفه عن طريق
أبي الحسن النَّدْوي في كتابه المشهور «ماذا خسر العالم
بانحطاط المسلمين؟» الذي كان إنجيل المصلحين في الخمسينيات،
قبل أن يعرفه مباشرة في «المصطلحات الأربعة في القرآن» أو
في «الحجاب».
وينقل تحليلاته لأوضاع الرجل والمرأة في المجتمع
الإسلامي أو في المجتمع الجاهلي.
١١٨ ويقتبس منه فقرات طويلة للاستشهاد به في عَلاقة
الرجل بالمرأة في الإسلام ليس فقط من حيث الاتصال الجسدي بل
أيضًا القرابة الرُّوحية. والمصطلحات الأربعة في القرآن هي:
العبادة، الإله، الرب، الدين. ويشير مرة أخرى في «خصائص
التصور الإسلامي ومقوماته» إلى رسالة المودودي «شهادة
الحق»، دون حاكمية.
١١٩
ويبدو الانتقال من «المجتمع» إلى «التصور» في «المستقبل
لهذا الدين»، فلا يوجد مجتمع لا يقوم على تصور، ولا يوجد
تصور لا يُنشئ مجتمعًا. الإسلام منهج حياة، عقيدة ينبع منها
تصور، وتصور يخرج منه نظام. وهذا الدين ليس مجرد عقيدة
وجدانية منعزلة عن واقع الحياة البشرية في كل مجالاتها
الواقعية، وليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها المؤمنون بهذا
الدين فرادى أو مجتمعين فتكون لهم صفة هذا الدين، وليس مجرد
طريق إلى الآخرة لتحقيق الفِردَوس الأخروي بينما هناك طريق
آخر وطرق أخرى لتحقيق الفِردَوس الأرضي غير منهج الدين
وتنظيمات الدين.
١٢٠
هذه الخاصية الأولى للإسلام، الشمول والهيمنة، التي
أقلقت الاستعمار والصهيونية حتى أفلح أتاتورك في إلغاء
الخلافة وفصل الدين عن الدولة وإعلان تركيا دولة علمانية
خالصة، ومحاولات دول أخرى بعد وقوعها في قبضة الاستعمار
«زحزحة الشريعة الإسلامية من أن تكون المصدر الوحيد للتشريع
والاستمداد من التشريع الأوروبي وحصر الشريعة في ذلك الركن
الضيق المسدود، ركنٍ سمَّوه «الأحوال الشخصية».»
١٢١
إن ما يميز المجتمع الإسلامي هو قيامه على «قاعدة
المنهج الرباني، الصادر عن علم (بدل الجهل) وكمال (بدل
النقص) وقدرة (بدل الضعف) وحكمة (بدل الهوى)، القائم على
أساس إخراج البشر من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده دون سواه.»
١٢٢ فالحاكمية هنا للنظام والتشريع وليس لله في
ذاته. «إن مفرق الطريق بين منهج هذا الدين وسائر المناهج
غيره أن الناس في نظام الحياة الإسلامي يعبدون إلهًا
واحدًا، يُفردونه — سبحانه — بالألوهية والربوبية والقِوامة
— بكل مقومات القِوامة — فيتلقَّون منه وحده التصورات
والقيم والموازين والأنظمة والشرائع والقوانين، والتوجيهات
والأخلاق والآداب، بينما هم في سائر النظم يعبدون آلهة
وأربابًا متفرقة يجعلون لها القوامة عليهم من دون الله حين
يتلقَّون التصورات والقيم والموازين والأنظمة والشرائع
والقوانين والتوجيهات والآداب والأخلاق من بشر مثلهم،
فيجعلونهم بهذا التلقي أربابًا، ويمنحونهم حقوق الألوهية
والربوبية والقِوامة عليهم، وهم مثلهم بشر، عبيد كما أنهم عبيد.»
١٢٣ واتباع التشريع هو معنى عبادة الله وليس مجرد
الشعائر والطقوس، وسوى ذلك من نظم وشرائع لا تنتج عن
الألوهية هي النظم الجاهلية. «ونحن نسمي هذه النظم التي
يتعبد الناس فيها الناس كما يسميها الله سبحانه وتعالى:
نظمًا جاهلية، مهما تعددت أشكالها وبيئاتها وأزمانها، فهي
قائمة على ذات الأساس الذي جاء هذا الدين يوم جاء ليحطمه
وليحرر البشر منه وليقيم في الأرض ألوهية واحدة للناس
وليطلقهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بالمعنى
الواسع الشامل لمفهوم العبادة ومفهوم الإله ومفهوم الرب
ومفهوم الدين.»
١٢٤ لقد جاء هذا الدين ليلغي عبودية البشر للبشر في
كل صورة من الصور، وليوحد العبودية لله في الأرض كما أنها
عبودية واحدة لله في هذا الكون العريض «والناس إما أن
يعيشوا بمنهج الله هذا بكليته فهم مسلمون، وإما أن يعيشوا
بأي منهج آخر من وضع البشر، فهم في جاهلية لا يعرفها هذا
الدين، ذات الجاهلية التي جاء هذا الدين ليحطمها وليغيرها
من الأساس ليُخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله.»
١٢٥ ولقد أتى الإسلام ليخرج الناس من الجاهلية إلى
الربانية ويَكِل واقعهم إلى شريعة الله كما يكل ضمائرهم إلى
تقوى الله.
١٢٦
إن كل مجتمع إسلامي يقوم على مبدأ حاكمية الإسلام «وكل
فقه تُراد تنميته وتطويره في وضع لا يعترف ابتداءً بحاكمية
الإسلام هو عملية استنبات للبذور في الهواء.»
١٢٧ فالواقع دون حاكمية لا يكفي: «إن أولى بوادر
الهزيمة هي اعتبار الواقع أيًّا كان حجمه هو الأصل الذي على
شريعة الله أن تلاحقه، بينما الإسلام يعتبر أن منهج الله
وشريعته هي الأصل الذي ينبغي أن يفيء الناس إليه وأن يتعدل
الواقع ليوافقه.
١٢٨ ولقد واجه الإسلام المجتمع الجاهلي العالمي يوم
جاء فعدَّله وَفق منهجه الخاص ثم دفع به إلى الأمام.
لذلك فالإسلام منهج منفرد يقوم على شهادة أن لا إله إلا
الله، «ومعنى الشهادة إفراد الله بالألوهية وعدم إشراك أحد
من خلقه معه في خاصية واحدة من خصائصها، وأولى خصائص
الألوهية: حق الحاكمية المطلقة الذي ينشأ منه حق التشريع
للعباد وحق وضع المناهج لحياتهم وحق وضع القيم التي تقوم
عليها هذه الحياة.»
١٢٩ فالشهادة لا تقوم ولا تتحقق إلا بالاعتراف بأن
لله وحده حق وضع المنهج الذي تجري عليه الحياة البشرية،
وإلا بمحاولة تحقيق ذلك المنهج في حياة البشر دون سواه. وكل
من ادعى لنفسه حق وضع منهج لحياة جماعة من الناس فقد ادعى
حق الألوهية عليهم بادعائه أكبر خصائص الألوهية. وكل من
أقره على هذا الادعاء فقد اتخذه إلهًا من دون الله
بالاعتراف له بأكبر خصائص الألوهية. «شهادة أن محمدًا رسول
الله معناها القريب: التصديق بأن هذا المنهج الذي بلَّغه
لنا من الله هو حقًّا منهج الله للحياة البشرية، وهو وحده
المنهج الذي نحن ملزمون بتحقيقه في حياتنا وفي حياة البشر
جميعًا. ومن ثم فنحن ملزمون بمحاولة تحقيق ذلك المنهج لنحقق
لأنفسنا صفة الإسلام التي ندعيها، وهي لا تتحقق إلا بشهادة
أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وهذه الشهادة لا
تقوم إلا بإفراد الله بالألوهية وإفراده بحق وضع منهج
الحياة. ومحاولة تحقيق ذلك المنهج الذي جاءنا به محمد من
عند الله، فالإسلام هو المنهج الوحيد الذي يحرر الإنسان
ويطلقه من العبودية بتأكيد إنسانيته وعبوديته لله بالتحرر
من العبودية للناس بالعبودية لله رب الناس.»
١٣٠ وما من منهج آخر في الأرض يحقق هذه الخاصية إلا
الإسلام. ذلك أنه بربانيته التي تُفرد الله بالألوهية ومن
ثم تُفرده بحق الحاكمية التي تشرع للناس منهج حياتهم يجعل
للناس إلهًا واحدًا وسيدًا واحدًا، ويمنع أن يكون بعضهم
إلهًا لبعض، لهم حق الحاكمية بعضهم على بعض، ولهم حق
السيادة بعضهم على بعض، في مقابل العبودية التي يتسم بها من
يقرون لهؤلاء الآلهة بخصائص الألوهية. وقد كانت هذه الدعوة
للرسل جميعًا، إفراد الله بالألوهية، وإنكار كل خاصية من
خصائصها على غير الله، من عبودية الذين يتألهون فيدَّعون حق
وضع المناهج لحياة عباد الله، ويقرهم على هذا الادعاء مَن
لا يؤمنون بوحدانية الله.
١٣١ لم يعبد أهل الكتاب الأحبار والرهبان، إنما
كانوا يقرون لهم فقط بحق التشريع لهم من دون الله وبحق وضع
المناهج لحياتهم بالتشريع. وهذا هو معنى عبادتهم. فالألوهية
تقتضي العبودية، والعبودية تقتضي الالتزام بالتشريع،
والإسلام وحده هو الذي يُفرد الله بالعبادة حين يُفرده
بالحاكمية وحق وضع المنهج لحياة الناس، ومن ثم فهو وحده
الذي يطلق الناس من العبودية لغير الله. وهو المنهج الوحيد
المبرأ عن الهوى الإنساني؛ لأنه لا يشرع لجنس أو لشعب أو
لطبقة، كما هو الحال في التشريعات التي يشرِّعها الفرد
الحاكم أو الأسرة الحاكمة أو الطبقة الحاكمة أو الأمة
الحاكمة أو الجنس الحاكم.
وهذه رسالة كل
دين منذ نوح حتى محمد مع اختلاف التفصيلات في كل مرحلة:
«إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله دون سواه،
وإبطال الألوهيات والربوبيات الزائفة، ورد الألوهية
والربوبية إلى الله دون سواه.»
١٣٢ وقد أعلن القرآن ذلك فيما يسميه سيد قطب
«المفاصلة»، أي الفصل بين أهل الدين وأهل الجاهلية «وإلا
يَجئْ هذا التفسير الشامل الكامل من عند الله، وإلا يُقِمِ
الحياة كلها على هذا التفسير الشامل الكامل، فهي إذن أهواء
البشر وهي إذن الجاهلية التي جاء كل دين من عند الله لإخراج
الناس منها ورفعهم إلى الربانية. وإلا تَكُنِ العبودية لله
وحده ممثلة في التلقي عنه في هذا كله فهي العبودية للعبيد.
وقد جاء دين الله كله لتحرير العباد من عبادة العبيد.»
١٣٣ الإسلام منهج «حياة» ولا يُسلِم المسلم ولا
يؤمن المؤمن حتى يجعل منهج الله للحياة منهجه، وشريعة الله
للحياة شريعته، ولا يتخذ من عند نفسه لحياته منهجًا ولا
شريعة، وإلا ادعى لنفسه بهذا حق الألوهية فكفر بألوهية الله
ورفض إفراد الله بالألوهية، وكفر معه كل من يقره على ادعاء
حق الألوهية لنفسه بادعاء حق التشريع من دون الله واتخاذ
منهج غير منهج الله للحياة.
١٣٤
وهذا هو معنى التوحيد كأحد خواص التصور الإسلامي «هناك
ألوهية وعبودية، ألوهية يعتز بها الله، وعبودية يشترك فيها
كل من عداه وكل ما عداه. وكما يتفرد الله بالألوهية، كذلك
يتفرد تبعًا لهذا بكل خصائص الألوهية. وكما يشترك كل حي وكل
شيء بعد ذلك في العبودية، كذلك يتجرد كل حي وكل شيء من
خصائص الألوهية.»
١٣٥ وينتج عن ذلك أن يعتقد المسلم أن لا حاكم إلا
الله، وأن لا مشرع إلا الله، وأن لا منظم لحياة البشر
وعَلاقاتهم وارتباطاتهم بالكون وبالأحياء وببني الإنسان من
جنسه إلا الله، فيتلقى من الله وحده التوجيه والتشريع ومنهج
الحياة ونظام المعيشة وقاعدة الارتباطات وميزان القيم
والاعتبارات. ويترتب على وحدانية الألوهية والربوبية
ووحدانية الفاعلية والسلطان في هذا الوجود كل ما يُكلَّفه
المسلم سواء ما يُكلَّفه من شعور في الضمير أو ما يُكلَّفه
من شعائر في العبادة أو ما يُكلَّفه من التزام في الشريعة.
١٣٦ بهذه العبودية يتحرر الإنسان؛ لأنه يخرج من
عبادة العباد إلى عبادة الله بردِّ أمر التشريع والحاكمية
لله. «إن الناس في جميع الأنظمة التي يتولى التشريع
والحاكمية فيها البشر في صورة من الصور يقعون في عبودية
العباد، وفي الإسلام وحده يتحررون من هذه العبودية للعباد
إلى عبادة الله وحده … إنها إخراج من شاء الله من عبادة
العباد إلى عبادة الله وحده، وردُّ أمرهم إلى الله وحده،
وإفراد الله سبحانه بالألوهية وخصائص الألوهية، والسلطان
والحاكمية والتشريع هي أولى الخصائص التي لا ينازِع اللهَ
فيها مؤمنٌ ولا يجرؤ على منازعته إياها إلا كافر …»
١٣٧
والمجتمع الإسلامي مجتمع رباني، نظامه رباني قائم على
العقيدة الإسلامية، وفي نفس الوقت لا يحرم الإنتاج
بالتجارِب البشرية. يقوم على العدل المطلق، والشورى فيه
أساس الحكم، ويستفيد من التجارِب البشرية الإجراءات
التنفيذية لهذين الهدفين: العدل والشورى. إن عقيدة التوحيد
تسيطر وتؤثر على مقومات النظام الاجتماعي والإسلامي للفرد
والجماعة والحاكم والمحكوم، العامل وصاحب العمل، المنتج
والمستهلك، المعطي والآخذ، أي توحيد الاتجاه. إن الحاكمية
في هذا النظام الرباني لله وحده فالحاكمية فيه لا لأمير ولا
رعية. فالله وحده هو المشرع ابتداءً. وعمل البشر هو تطبيق
الشرع الإلهي وتنفيذه، وهم حتى فيما يُجمعون عليه مما لم
يرد فيه نص يظلون مطبقين لمبادئ الإسلام لا مبدعين ولا
مضيفين مبدأً جديدًا لا أصل له في الشريعة، أو أن يكون
مخالفًا لأصل من أصولها. وهم في الأحكام التطبيقية
والتنفيذية محكومون بالمبادئ الأساسية التي جاءت بها
الشريعة غير مخيرين في العدول عنها، أي اختيار بعضها دون
بعض، أو في تحويلها، وهذا هو معنى آيات الحاكمية. لفقهاء
الأمة الاستدلال واستنباط الأحكام دون أن يخرج ذلك على حدود
المبادئ الأساسية للشريعة، وبذلك تظل الحاكمية لله وحده،
ويظل المجتمع الإسلامي محكومًا وَفق شريعته، فإذا انحرف عن
هذه القاعدة فهو لا يُعَد مجتمعًا إسلاميًّا يحمل هذا
العنوان الخاص. وهكذا نجد سمة الربانية تتحقق من توحيد
الحاكمية لله، وهذه بدورها راجعة إلى عقيدة التوحيد
الإسلامية. بهذه الربانية انفرد النظام الإسلامي من بين
سائر النظم التي عرفتها البشرية، بما فيها النظام
الثيوقراطي الذي كان الحاكم يتلقى فيه سلطته إما من رجال
الدين وإما من الحق الإلهي، بوصفه ظل الله في الأرض. فمعنى
الربانية في الإسلام متعلق بالنظام ذاته لا بالحاكم وسلطة
الحاكم. فالحاكم في النظام الإسلامي لا يتلقى سلطته من رجال
الدين، ولا يدعيه بحق إلهي له، إنما يستمد حقه في تولي
الحكم من البيعة الحرة، كما يستمد طاعته من تنفيذ شريعة
الله دون سواها … وفرق كبير بين هذه القاعدة وقاعدة النظام
الثيوقراطي كما عرفته أوروبا. إن الربانية في النظام
الإسلامي ربانية شريعة ونظام لا ربانية أمراء وحكام. وحين
يشرع الله تعالى للبشر يشرع بعلمٍ كامل وبعدلٍ شامل، وهو
أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.
١٣٨
والعبودية لله ورفض العبودية لغير الله هو عنصر الثورة
في الإسلام. لقد استطاع الإسلام المحافظة على الوطن
الإسلامي بالرغم من كل هذه الحروب المشبوبة عليه، فقد حمي
الإسلام الوطن الإسلامي في الشرق من هجمات التتار، كما حماه
في الغرب من هجمات الصليبيين. وحين ضاع الإسلام في الأندلس
قديمًا وفي فلسطين حديثًا ضاعت اللغة والقومية. وقد حمى
المماليك الإسلام من دهم التتار، ووقفوا ضد بني جنسهم حماية
للعقيدة الإسلامية، كما دافع صلاح الدين، وهو كردي، عن حصن
الإسلام. وبقي الإسلام صامدًا في الجزائر أكثر من مائة
وخمسين عامًا محافظًا على اللغة والقومية العربية بفضل
الحركة الإسلامية التي قادها عبد الحميد بن باديس. والإسلام
هو الذي دفع المهدي إلى الثورة في السودان دفاعًا عن احتلال
الإنجليز لمصر، وكذلك جاهد عثمان دِقْنة لنشر الإسلام في
أفريقيا. والإسلام هو الذي كافح في برقة وطرابلس الغزو
الإيطالي، كما خرجت المقاومة من رباطات السنوسية وبجهاد عمر
المختار. وفي مَرَّاكش قام الظهير البربري بالجهاد ضد
الاستعمار الفرنسي الذي أراد استعماله لرد البربر إلى
الوثنية. «لقد كافح الإسلام وهو أعزل لأن عنصر القوة كامن
في طبيعته، كامن في بساطته ووضوحه وشموله وملاءمته للفطرة
البشرية وتلبيته لحاجاتها الحقيقية، كامن في الاستعلاء على
العبودية بالعبودية لله رب العباد، وفي رفض التلقي إلا منه،
ورفض الخضوع إلا له من دون العالمين. كامن كذلك في
الاستعلاء بأهله على الملابسات العارضة كالوقوع تحت سلطان
المتسلطين، فهذا السلطان يظل خارج نطاق الضمير مهما اشتدت
وطأته، ومن ثم لا تقع الهزيمة الرُّوحية إذا عَمَر الإسلام
القلب والضمير، وإن وقعت الهزيمة الظاهرية في بعض الأحايين.»
١٣٩ هذه العقيدة هي التي احتفظت للأمة الإسلامية
بحيويتها الكامنة، وجعلتها قادرة على مقاومة الاستعمار
وبداية نهضتها من جديد.
١٤٠
وقد تكون الحاكمية لله ولكن من خلال الإنسان، فالإنسان
خليفة الله في الأرض: «الإنسان في التصور الإسلامي هو سيد
هذه الأرض، بخلافته فيها عن الله، وكل ما فيها مسخر له
بقدرة الله تعالى، وقد أُوتي إمكان العلم بشئونها، هبة من
الله سبحانه، والاستمتاع بطيباتها وجمالها نعمة منه خالصة.
وليست الأرض وحدها بكل ما فيها من أحياء وأشياء، ولكن كذلك
السموات مهيأة لمساعدة الإنسان في خلافته في الأرض،
ومراعيًا في بنائها دور الإنسان في هذه الخلافة.»
١٤١ الإسلام يسلط الإنسان على عالم المادة ويسخرها
له، بإعطائه القدرة على معرفة النواميس الكونية اللازمة له
في الخلافة، وإعفائه من وضع منهج لمعرفة ذاته، وعون الله له
بوضع هذا المنهج وإلزامه باتباعه.
١٤٢ إن الإبداع المادي في هذه الأرض على يد الإنسان
وظيفة أساسية يُظهر فيه إمكانياته التي أودعها الله فيه
ليحقق غاية وجوده الكبرى، الخلافة عن الله في الأرض:
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ
خَلِيفَةً، ويحقق بها العبادة عن طريق هذه
الخلافة والعمل فيها باسم الله ابتغاء رضوان الله.
١٤٣
من هذا العرض للمرحلة الفلسفية نلاحظ
الآتي:
- (١)
أن الانتقال من المرحلة الاجتماعية إلى المرحلة
الفلسفية في الخمسينيات قد تم بين جدران السجن، مما
يدل على غياب الممارسة السياسية، والتي كانت سببًا في
تحويل معركة الإسلام الاقتصادية والاجتماعية إلى
معركته الحضارية مع الغرب أساسًا. ولو كان سيد قطب
حرًّا طليقًا لغابت هذه المرحلة الفلسفية، ودخل
الإسلام في المعارك الفعلية. وقد تراجعت الجماعات
الإسلامية المعاصرة خطوة أخرى، وتحول الجانب التصوري
إلى عقائد، وتحول العقل إلى هوًى، والإدراك إلى
انفعال. وكان سيد قطب قد تراجع هو ذاته عن محمد عبده
ورشيد رضا وتلميذه الشيخ المغربي؛ لأنهم يقولون بوجوب
تأويل النص ليوافق مفهوم العقل، وهو مبدأ أخطر.
١٤٤ ويقوِّي ذلك ما يسود مجتمعاتنا من
اتجاهات لاعقلانية باطنية.
- (٢)
عدم ظهور حاكمية الله في صيغتها المحكمة الإلهية.
فالحاكمية في هذه المرحلة ليست لله بل للتشريع
القانوني، والقانون له أسسه الوضعية في الدفاع عن
مصالح الناس، والحكم تنفيذي وليس تشريعيًّا، والحاكم
أتى بالبيعة عن طريق الشورى. فالحاكمية هي أساس بناء
المجتمع الإسلامي، أي أنها مبدأ اجتماعي وليست مبدأً
عقائديًّا، كما سيظهر ذلك فيما بعد في المرحلة
السياسية المتأخرة. وتعني الربانية وضعية الشريعة.
فالجماعات الإسلامية المعاصرة لم تتأثر بسيد قطب إلا
في مرحلته الرابعة، في آخر سنتين في حياته، عندما
تحولت الحاكمية لله كسلاح سياسي ضد نظام الحكم
القائم، تعبيرًا عن صرخة المظلومين الأبرياء بين
جدران السجون.
- (٣)
تظهر الحاكمية في خصائص التصور الإسلامي مع خصائص
خمسٍ أخرى مثل: الثبات، والشمول، والتوازن،
والإيجابية، والواقعية. وهي بهذا المصطلح بين مصطلحي
الربانية والتوحيد، مما يدل على خروجها من ثنايا
العقيدة الإسلامية، وليست وافدة عليها. ولم يظهر أثر
أبي الأعلى المودودي في هذه المرحلة في تصور
الحاكمية، ولكن في مساواة المرأة بالرجل في الإسلام
وفي نقد الغرب، ولكن تضخمت هذه الخاصية عند الجماعات
الإسلامية وأصبح لها الأولوية على بقية الخصائص، مثل
التوازن الذي انتهى إلى التطرف، أو الواقعية التي
أصبحت تصلبًا وتشنجًا، والإيجابية التي تحولت إلى
تعصب وحب للظهور. وأصبحت أقرب إلى الشمول
والثبات.
- (٤)
لم تظهر في مقابل الحاكمية لله أو للشريعة،
الذاتيةُ أو الإنسانية، بل إن سيد قطب ينقد محمد
إقبال بتأكيده على الذاتية، واتهامها بالإشراقيات
الصوفية العجمية التي تنتهي إلى الفناء، ورفضه تحدي
الموت واستمرار الذاتية بعده للتجرِبة والنماء. كما
يتهمه أيضًا بالوقوع تحت الأثر الغربي في دعوته للقوة
والحياة والتطور.
١٤٥
وقد استمرت الحركات الإسلامية في هذا التيار
وإنكارها الذاتية، وإيغالها في التمركز حول الله، أو
في صورة الشريعة وتضحيتها بالإنسان ذكرًا أم أنثى.
لقد رفض سيد قطب أن تكون العلوم الإنسانية وريثة
العلوم الدينية، في حين أن العلوم الدينية هي علوم
إنسانية مقلوبة لم تتحول بعد إلى علوم إنسانية طبيعية.
١٤٦
- (٥)
لم يظهر ارتباط قوي بالتراث القديم وتأصيل
التصورات الإسلامية ضد القدماء في العلوم العقلية، بل
إنه هاجم الفلسفة والكلام والفقه ككلٍّ دون تمييز بين
التيارات المختلفة في كل علم، وإعطاء أولوية على
اتجاه دون اتجاه. فابن رشد يخدم قضية سيد قطب أكثر من
الفارابي وابن سينا، والمعتزلة تؤيده أكثر من
الأشاعرة، والمالكية تؤكد واقعيته أكثر من الحنفية.
فاتهام الفلاسفة والمتكلمين بأنهم أتباع اليونان تسرع
وإغفال للعمليات الحضارية التي قاموا بها وتمثل
الحضارات القديمة لاستعمالها والرد عليها في آن واحد.
وهو نفس العيب الذي يستشري في الحركات الإسلامية
المعاصرة التي لا تنتقي من القدماء إلا الاتجاهات
المحافظة.
- (٦)
يبدو أيضًا أن هناك كثيرًا من التجني على الحضارة
الغربية بالرغم من إعطاء حريات الإصلاح الديني
والتنوير والعلم حقها. إلا أن إدانة ذلك كله، على أنه
إنسانية في تعارض مع الربانية، إنكار للجهد البشري في
اكتشاف زيف التراث الكنسي ووضع تراث إنساني آخر
بديلًا عنه، حتى ولو كان أحادي الطرف. لقد اعتمد سيد
قطب في معرفته بالتراث الغربي على مصادر مترجمة، ومن
نوع خاص، تلك التي تهاجم الحضارة الغربية، مثل كتب
العلم والإيمان التي تمثل التيار الديني المحافظ في
الغرب، أو كتابات المستشرقين المنصفة للتاريخ
الإسلامي في مواجهة الغرب، وأحيانًا على بعض التقارير
الصحفية وأدب الرحلات الذي يغلب عليه المزايدة في
الأخلاق والإيمان. فإذا ما وُضع التراث الغربي داخل
إطاره فإنه من الصعب نقد الغرب بالقرآن، أو بأنه يجهل
القرآن، أو من وجهة نظر إسلامية، أو مواجهته بنصوص
القرآن وتقييمه بآيات الله كمُسَلَّمات أو كنتائج، أو
وضع الأخلاق الإسلامية في مواجهة الانحلال الغربي، أو
وضع الرُّوحية الإسلامية في مقابل المادية الأوروبية.
وقد سارت الحركات الإسلامية المعاصرة في مثل هذا
الرفض الأعمى لحضارة الغرب متراجعةً عما بدأه
الأفغاني ومحمد عبده بأخذ أسباب القوة والعلم
والمدنية. ومثل هذا الرفض للغير يُشبع الحاجة إلى
التأكيد على هُوية الذات وتحدي المغلوب للغالب، خاصة
إذا كان هذا الغير عدو الأمس وما زال غالبًا، وما
زلنا نعيش على إنتاجه وإبداعه.
- (٧)
بالرغم من ظهور فلسفة في التاريخ لدى سيد قطب بعث
الأمة الإسلامية وهي في مدها الثاني، وانهيار الغرب،
واكتشاف واقع المسلمين الحالي، فإن الحركات الإسلامية
المعاصرة تبدو وكأنها ككلٍّ خارج التاريخ، وليس عندها
الوعي الحضاري الكافي بمراحل التاريخ وتطوره،
وبالتالي تخلفت عن إيجابيات سيد قطب واستمرت في
سلبياته.
رابعًا: المرحلة السياسية: (١٩٦٣–١٩٦٥م)
وهي المرحلة التي بدأت تتكون داخل جدران السجون، والتي
بلغت ذروتها بإخراج «معالم في الطريق» والذي دفع حياته
ثمنًا له. وهي المرحلة التي لها أبلغ الأثر على الحركات
الإسلامية المعاصرة، نظرًا لما تحتويه من «فكر المضطهَدين»،
ونظرًا لتشابه الظروف النفسية والاجتماعية للمفكر الراحل
ولهذه الحركات.
١٤٧ لم يكد يلتئم جرح السجن طوال الخمسينيات حتى
انفتح واتسع حتى تقيح في السجن الثاني في الستينيات.
فالثورة المصرية هي المسئولة عن «معالم في الطريق»؛ لأنه لو
لم يوجد سيد قطب بين جدران السجون لتطورت المرحلة
الاجتماعية إلى نضال ثوري ولأصبح من كبار المناضلين أمثال
جيفارا وماوتسي تونج وهوشي منه والأفغاني وكابوتشي
والخوميني. إن الثورة المصرية هي المسئولة عن تحول «معركة
الإسلام والرأسمالية» إلى معركة الإسلام والجاهلية. لقد راح
سيد قطب ضحية الصدام بين الإخوان والثورة في ١٩٥٤م، فلا هو
استطاع تطوير «العدالة الاجتماعية في الإسلام» أو «معركة
الإسلام والرأسمالية» أو «السلام العالمي والإسلام» إلى
الأيديولوجية الإسلامية الثورية التي تحفظ للعالم أصالته
وتحقق ثورته، ولا هو استطاع القضاء على الملكية ومناهضة
الاستعمار والرأسمالية والصهيونية، وتحقيق العدالة
الاجتماعية الممثلة في قوانين الإصلاح الزراعي والقوانين
الاشتراكية، وفي تأسيس كتلة ثالثة، كتلة عدم الانحياز،
الشعوب الآسيوية والأفريقية أو العالم الثالث.
وكتاب معالم في الطريق ليس مؤلفًا ذا بناء محكم، فصول
وأبواب مفصلة، بل مجرد تأملات تعبر عن عذاب النفس وعزلتها
في هذا العالم. يمثل تجرِبة رُوحية لسجين بريء يريد إعطاء
خلاصة تجرِبته للأجيال القادمة. كل فصل فيها قائم بذاته
أشبه بالوِرد الذي قرأه الصوفية، ولكنها هذه المرة جماعات
الشباب المؤمنة.
١٤٨ وتغلب عليه العناوين الأدبية مثل: «هذا هو
الطريق»، «نقلة بعيدة»، أو الإيمانية مثل: «استعلاء
الإيمان».
والكتاب مكون من ثلاثة عشر فصلًا دون ترقيم، منها أربعة
مستقاة من «في ظلال القرآن»، والبقية كُتبت على فترات طبقًا
للتجارِب النفسية التي مر بها المؤلف. ويعد بصدور معالم
أخرى استمرارًا في التعبير عن هذه التجارِب.
١٤٩ والحاكمية هي الفكرة الرئيسية المسيطرة على
الكتاب كله. وقد تم التركيز عليها بناء على التجرِبة
النفسية للسجن، ثم الرجوع إلى الوراء وإعادة قراءة كتاباته
السابقة وانتقاء نصوص الحاكمية منها، مع أنها كانت موجودة
متناثرة من قبل داخل أفكاره الاجتماعية والفلسفية، دون أن
تكون بؤرة في تفكيره أو محورًا لتأملاته كما حدث بعد ذلك
وهو في سجنه الثاني. لا تمثل هذه المرحلة إذن فكرًا واعيًا
شعوريًّا بل تمثل موقفًا لاشعوريًّا بناءً على الظروف
النفسية والاجتماعية التي عاشتها جماعة الإخوان المسلمين،
والتي عاشها الإمام الشهيد من خلالهم. فلم تظهر فكرة
الحاكمية لله ضد حاكمية البشر أو الإسلام ضد الجاهلية في
المرحلة الأدبية التي بدأ فيها وعيه الفني والأدبي والوطني.
ولم تظهر أيضًا في المرحلة الاجتماعية التي تطور فيها وعيه
الأول إلى وعي اجتماعي إلا في أقل الحدود، وتعني حاكمية
التشريع من أجل إقامة مجتمع إسلامي يقوم على العدالة
والحرية والاستقلال الوطني. ولم تظهر ثالثًا في المرحلة
الفلسفية إلا كجزء من تصور إسلامي عام يقيم مجتمعًا على
الربانية والتوحيد أي على الشريعة المنزلة وعلى تصور
الوحدانية، وحدانية الضمير فلا نفاق، ووحدانية المجتمع فلا
طبقات، ووحدانية الأمم فلا حروب. لم تظهر الحاكمية لله إلا
في المرحلة الرابعة، المرحلة السياسية، التي كان فيها
الإمام الشهيد سجينًا للثورة المصرية، تتحكم في فكره
سيكلوجية السجين، ونفسية المضطهَد، وواقع البريء ووضع
المظلوم. بدأ هذا الوضع النفسي الجديد يفرض نفسه على الماضي
ويتحكم في مقاييس انتقاء الأفكار والتركيز على ما اتفق معها
حتى أصبحت محورًا رئيسيًّا بعد أن لم تكن ذلك. ولو لم يحدث
الصدام بين الإخوان والثورة ابتداء من ١٩٥٤م واستمر النضال
الاجتماعي والسياسي لسيد قطب فساهم في البناء الاشتراكي في
أوائل الستينيات لأمكن إسقاط الحاضر على الماضي أيضًا. وبدل
«معالم في الطريق» لكان لدينا الإسلام طريق الاشتراكية
أيضًا مجموعة نصوص مستقاة من «في ظلال القرآن».
ويدور «معالم في الطريق» على فكرة الحاكمية وما يتبعها
من الجاهلية والصراع بين الإسلام والجاهلية، والجهاد،
والصفوة. وكأن الإمام الشهيد قد تحول إلى أبي أعلى مودودي
آخر. صحيح أنه يشير إليه أحيانًا في عجز أمريكا عن تحريم
الخمر في «التنقيحات» للمودودي نقلًا عن النَّدْوى في «ماذا
خسر العالم بانحطاط المسلمين؟» أو مباشرة في الحاكمية عن
«مبادئ الإسلام» للمودودي.
والحاكمية فكرة مستنبطة من العقيدة الإسلامية، عقيدة
الألوهية التي تنتج عنها العبودية، وعن العبودية تنتج
الحاكمية. «إن الألوهية تعني الحاكمية العليا … وإن توحيد
الألوهية وإفراد الله سبحانه بها معناه نزع السلطان الذي
يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام، ورده كله
إلى الله، السلطان على الضمائر، والسلطان على الشعائر،
والسلطان على واقعيات الحياة، والسلطان في المال، والسلطان
في القضاء، والسلطان في الأرواح والأبدان … إن «لا إله إلا
الله» ثورة على السلطان الأرضي الذي يغتصب أولى خصائص
الألوهية، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدةٍ من هذا
الاغتصاب، وخروج على السلطات التي تحكم بشريعةٍ من عندها لم
يأذن بها الله.»
١٥٠ فالحاكمية تحرر قبل أن تكون قيدًا، وانطلاق قبل
أن تكون كبتًا، وإقدام قبل أن تكون إحجامًا. أتى الإسلام
ولم تكن الغاية إقامة دولة بالرغم من اتساع الصحراء وتشتت
القبائل، ولكن تحريرًا للنفوس عربًا وفُرسًا ورُومًا، وليس
استبدال طاغوت عربي بطاغوت فارسي أو رومي، فالناس عبيد لله
وحده. لا حاكمية إلا لله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطان
لأحد على أحد لأن السلطان كله لله.
١٥١ يبغي الإسلام تحرير الإنسان من حيث هو إنسان،
بصرف النظر عن جنسيته وقوميته ولونه، عن طريق إقرار عقيدة
«لا إله إلا الله» بمدلولها الحقيقي، وهو رد الحاكمية لله
في أمرهم كله، وطرد المعتدين على سلطان الله بادِّعاء هذا
الحق لأنفسهم، إقرارها في ضمائرهم، وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم.
١٥٢ والحاكمية ما زالت تشريعية أقرب منها إلهية،
فالله يحكم من خلال الشريعة وليس من خلال أحكام. إن القلوب
يجب أن تخلص أولًا لله، وتعلن عن عبوديتها له وحده بقبول
شرعه وحده، ورفض كل شرع آخر غيره من ناحية المبدأ، قبل أن
تُخاطَب بأي تفصيل عن ذلك الشرع يرغبها فيه. إن الرغبة يجب
أن تنبثق من إخلاص العبودية لله، والتحرر من سلطان سواه، لا
من أن النظام المعروض عليها في ذاته خير مما لديها من
الأنظمة في كذا وكذا على وجه التفصيل. إن نظام الله خير في
ذاته لأنه من شرع الله، ولن يكون شرع العبيد يومًا كشرع
الله. ولكن هذه ليست قاعدة الدعوة. إن قاعدة الدعوة أن قبول
شرع الله وحده أيًّا كان، ورفض كل شرع غيره أيًّا كان هو
ذاته الإسلام وليس للإسلام مدلول سواه.
١٥٣
وأحيانًا تتفصل العقيدة في عدة مفاهيم مثل: الألوهية،
والربوبية، والقِوامة، والسلطان، والحاكمية. فالحاكمية تتبع
الألوهية بعد الربوبية والقِوامة والسلطان من أجل وصف
فاعلية الألوهية وتوجيهها لحياة البشر. «والقاعدة النظرية
التي يقوم عليها الإسلام على مدار التاريخ البشري هي قاعدة:
«شهادة أن لا إله إلا الله»، أي إفراد الله سبحانه
بالألوهية والربوبية والقِوامة والسلطان والحاكمية، إفراده
بها اعتقادًا في الضمير، وعبادةً في الشعائر وشريعةً في
واقع الحياة.»
١٥٤
وعلى نقيض الألوهية يأتي الشرك. والشرك يكون إما في
صورة الاعتقاد والعبادة، وإما في صورة الحاكمية والاتباع.
الحاكمية إذن تعبير عن التوحيد العملي، فالتوحيد في حياة
الإنسان، على ما يقول ابن القيم، توحيد نظر وتوحيد عمل،
والثاني شرط الأول، وهو ما أبرزه أيضًا محمد بن عبد
الوهَّاب في «كتاب التوحيد». الإسلام هو إسلام العباد لرب
العباد وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده،
إخراجهم من سلطان العباد في حاكميتهم وشرائعهم وقيمهم
وتقاليدهم إلى سلطان الله وحاكميته وشريعته وحده في كل شأن
من شئون الحياة … جاء (محمد) ليرد الناس إلى حاكمية الله
كشأن الكون كله الذي يحتوي الناس فيجب أن تكون السلطة التي
تنظم حياتهم هي السلطة التي تنظم وجودهم، فلا يشذوا هم
بمنهج وسلطان وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي
يصرِّف الكون كله، بل الذي يصرِّف وجودهم هم أنفسهم في غير
الجانب الإرادي من حياتهم. فالناس محكومون بقوانين فطرية من
صنع الله في نشأتهم ونموهم، وصحتهم ومرضهم، وحياتهم وموتهم،
وفي حركاتهم الاختيارية ذاتها. وهم لا يملكون تغيير سنة
الله وقوانينه الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرِّفه. ومن
ثم ينبغي أن يثوبوا إلى الإسلام في الجانب الإرادي من
حياتهم، فيجعلوا شريعة الله هي الحاكمة في كل شأن من شئون
هذه الحياة تنسيقًا بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب
الفطري، وتنسيقًا بين وجودهم كله بشطريه هذين وبين الوجود الكوني.
١٥٥ الحاكمية إذن تشمل الجانبين اللاإرادي والإرادي
في الإنسان، لذلك تبدو الحاكمية أحيانًا وكأنها ليست
تشريعية فقط بل كونية أيضًا، ترجع إلى أصل أشمل في تقريره
عن الوجود كله لا عن الوجود الإنساني وحده، وإلى منهج
للوجود كله لا منهج للحياة الإنسانية وحدها. لذلك يصبح
العمل بشريعة الله واجبًا لتحقيق ذلك التناسق. وفي مقابل
شريعة الله هناك أهواء للبشر
وَلَوِ
اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ
وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ (المؤمنون: ٧١).
فالحق الذي يقوم عليه الدين هو الحق الذي تقوم عليه السموات
والأرض في الدنيا والآخرة.
١٥٦ وهنا تتحول الحاكمية إلى نظرة فلسفية وليس فقط
إلى تشريع عملي، ترجع في أصولها إلى التسلطية الأشعرية التي
تقضي على الإنسان والعالم واستقلالهما وتقترب من التصور
الشيعي للشريعة الكونية.
ومع ذلك فالغالب على الحاكمية هي أنها أساس يقوم عليه
المجتمع الإسلامي، كما يدل على ذلك الشق التالي من
الشهادتين في أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول
الله «العبودية لله وحده هي شطر الركن الأول في العقيدة
الإسلامية المتمثل في شهادة أن لا إله إلا الله، والتلقي عن
رسول الله في كيفية هذه العبودية هو شطرها الثاني المتمثل
في شهادة أن محمدًا رسول الله.»
١٥٧ وما يتلقاه المجتمع عن الرسول هو الشريعة.
وبالتالي تتضمن الحاكميةُ اللهَ ثم الرسولَ ثم الشريعةَ،
وليس كما يقول دعاة النظام: الله ثم الرسول ثم أولي الأمر
الذين يحكمون بغير ما أنزل الله. «إن هذا المجتمع لا يقوم
حتى تنشأ جماعة من الناس تقر أن عبوديتها الكاملة لله وحده،
وأنها لا تدين بالعبودية لغير الله في الاعتقاد والتصور،
وفي العبادات والشعائر، ولا تدين بالعبودية لغير الله في
النظام والشرائع، ثم تأخذ بالفعل في تنظيم حياتها كلها على
أساسٍ من هذه العبودية الخالصة.»
١٥٨ فقبل أن يقرر الناس إخلاص عبوديتهم لله فإنهم
لا يكونون مسلمين، وقبل أن ينظموا حياتهم على هذا الأساس
فلا يكون مجتمعهم مسلمًا.
لذلك وبالرغم من سيطرة فكرة الحاكمية المستنبطة من
الألوهية والعبودية في المرحلة السياسية الأخيرة، إلا أن
قضايا العدالة الاجتماعية لم تختفِ بتاتًا. فالعدالة
الاجتماعية أحد مظاهر الحاكمية. فقد ظهر الإسلام والمجتمع
العربي بأسوأ ما يكون عليه المجتمع من سوء توزيع الثروة
والعدالة، فقد تملكت الفئة القليلة المال والتجارة، وتتعامل
بالربا أضعافًا مضاعفة، والكثرة لا تملك إلا الجوع والبؤس
وشظف العيش. أصحاب الثروات هم أصحاب الجاه والشرف،
والأغلبية البائسة لا شرف ولا قيمة. لم يهدف الإسلام إلى
تغيير الوضع الاجتماعي بتغليب طبقة على طبقة، وقلب الآية من
سيادة الأقلية إلى سيادة الأغلبية، ولكن بتحرير النفوس من
خلال «لا إله إلا الله». فالعدالة الاجتماعية لا بد وأن
تنبثق من تصور اعتقادي شامل بردِّ الأمر كله لله. كما كان
الظلم فاشيًا والدعارة منتشرة. ولم يكن الإسلام دعوة
إصلاحية أخلاقية اجتماعية، فالأخلاق فيه تنبثق من عقيدة «لا
إله إلا الله». لم يبدأ الإسلام إذن دعوة قومية أو دعوة
اجتماعية أو دعوة أخلاقية بل دعوة «لا إله إلا الله» في
القلوب والعقول، قاعدة الألوهية الواحدة لإزالة أدران
النفوس التي فشلت النظم الأرضية في إزالتها بكل تشريعاتها وقوانينها.»
١٥٩
وفي مقابل حاكمية الله توجد حاكمية البشر، وفي مقابل
المجتمع الإسلامي يوجد المجتمع الجاهلي. المجتمع الإسلامي
هو وحده المجتمع المتحضر، والإسلام هو وحده الحضارة في
مقابل المجتمعات الجاهلية المغلقة. المجتمع الإسلامي لا
يحتاج إلى وصفه بأنه متحضر؛ لأن الإسلام هو التحضر والمجتمع
الإسلامي لا يكون إلا متحضرًا.
١٦٠ حين تكون الحاكمية العليا في مجتمعٍ لله وحده —
متمثلة في سيادة الشريعة الإلهية — تكون هذه هي الصورة
الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحررًا كاملًا وحقيقيًّا من
العبودية للبشر، وتكون هذه الحضارة الإنسانية.
١٦١ فالمجتمع الذي يخضع بعض أفراده للبعض الآخر
إنما هو مجتمع بعضه أرباب وبعضه عبيد، ومن ثم فهو متخلف، أو
بالمصطلح الإسلامي مجتمع جاهلي. فالمجتمع الإسلامي هو
المجتمع المتقدم والمجتمع الجاهلي هو المجتمع المتخلف.
المجتمع الإسلامي مجتمع مهيمن عليه إله واحد، والمجتمع
الجاهلي تتحكم فيه روابط الجنس واللون والقوم والأرض. إذا
كان الناس في الجاهلية يعبد بعضهم بعضًا فإن المجتمع
الإسلامي وحده هو الذي يتحرر فيه الناس جميعًا من عبادة
بعضهم ويعبد الجميعُ اللهَ وحده. هذا هو مفترق الطريق
والتصور الذي أعطاه الإسلام للبشرية ورصيد الأمة وليس من
منتجات الحضارة الغربية ولا العبقرية الأوروبية شرقية أم
غربية. المجتمع الجاهلي هو المجتمع غير المسلم. هذا يعني
موضوعيًّا كل مجتمع لا يُخلص عبوديته لله وحده في التصور
الاعتقادي وفي الشعائر التعبدية وفي الشرائع القانونية،
وبالتالي يدخل فيه جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض
فعلًا. فالإسلام لا يعرف إلا نوعين اثنين من المجتمعات:
مجتمع إسلامي ومجتمع جاهلي. المجتمع الإسلامي هو المجتمع
الذي يُطبَّق فيه الإسلام عقيدة وعبادة وشريعة ونظامًا
وخلقًا وسلوكًا، والمجتمع الجاهلي هو المجتمع الذي لا
يُطبَّق فيه الإسلام ولا تحكمه عقيدته وتصوراته وقيمه
وموازينه ونظامه وشرائعه، وخلقه وسلوكه.
١٦٢
لقد واجه الرسول قديمًا الجاهلية التي تقوم على حاكمية
البشر، والشذوذ بهذا عن الوجود الكوني، والتصادم بين منهج
الجانب الإرادي في حياة الإنسان والجانب الفطري. ولكن
جاهلية اليوم جاهلية أصلية جذرية أساسية؛ لأنها تتعلق
بمقومات الحياة وأنظمتها، لا تخفف منها هذه الخدمات المادية
الضخمة وهذا الإبداع المادي.
«هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله
في الأرض، وعلى أخص خصائص الألوهية، وهي الحاكمية. إنها
تُسند الحاكمية إلى البشر فتجعل بعضهم لبعض أربابًا لا في
الصورة البُدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى،
ولكن في صورة ادِّعاء حق وضع التصورات والقيم، والشرائع
والقوانين، والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله للحياة،
وفيما لم يأذن به الله. فينشأ عن هذا الاعتداء على سلطان
الله اعتداءٌ على عباده. وما مهانة الإنسان في الأنظمة
الجماعية، وما ظلم الأفراد والشعوب بسيطرة رأس المال
والاستعمار في النظم الرأسمالية إلا أثرٌ من آثار الاعتداء
على سلطان الله، وإنكار الكرامة التي قررها الله للإنسان.»
١٦٣ حاكمية البشر إذن اعتداء على الله، أي اعتداء
على الإنسان بفرض نظام غير إلهي عليه.
والحاكمية لا تعني التشريع وحده، بل تعني أيضًا أصول
الاعتقاد وأصول الحكم وأصول الأخلاق وأصول السلوك وأصول
المعرفة. تتمثل في الاعتقاد والتصور، وفي الأوضاع السياسية
والاجتماعية والاقتصادية التي تقوم عليها، وفي التشريعات
القانونية وقواعد الأخلاق والسلوك، بل وفي النشاط الفني
والنشاط الفكري، فالحاكمية تصور في الثقافة تشير إلى مصدرها
الديني. أما في العلوم البحتة فيأخذ المسلم من أي مصدر شاء.
وعليه أن يطلع على آثار الجاهلية ليعرف كيف تنحرف وكيف يصحح
هذا الانحراف، ويرد المجتمع الجاهلي إلى التصور الإسلامي.
«إن اتجاهات الفلسفة بجملتها، واتجاهات تفسير التاريخ
الإنساني بجملتها، واتجاهات علم النفس بجملتها — عدا
الملاحظات والمشاهدات دون التفسيرات العامة لها، ومباحث
الأخلاق بجملتها، واتجاهات دراسات الأديان المقارنة
بجملتها، واتجاهات التفسيرات والمذاهب الاجتماعية بجملتها،
فيما عدا المشاهدات والإحصائيات والمعلومات؛ إن هذه
الاتجاهات كلها في الفكر الجاهلي، أي غير الإسلامي قديمًا
وحديثًا، متأثرة تأثرًا مباشرًا بتصورات اعتقادية جاهلية.»
١٦٤
إن حكاية أن الثقافة تراث إنساني لا وطن له ولا جنس ولا
دين صحيحة في العلم وليس في الثقافة. إن لدى المسلم
الكفايةَ من بيان ربه الصادق عن تلك الشئون، وفي المستوى
الذي تبدو فيه محاولات البشر في هذه المجالات هزيلةً ومضحكة.
١٦٥ بل إن الاتجاه التجريبي ذاته الذي يعتز به
الغرب، والذي قامت عليه الحضارة الصناعية الأوروبية الحاضرة
لم ينشأ ابتداءً في أوروبا بل نشأ في الجامعات الإسلامية في
الأندلس وفي المشرق مستمدًا أصوله من التصور الإسلامي
وتوجيهاته إلى الكون وطبيعته الواقعية، ثم استقلت النهضة
العلمية في أوروبا بهذا المنهج واستمرت تنميه وترقيه بينما
ركد وتُرك نهائيًّا في العالم الإسلامي بسبب بُعد هذا
العالم تدريجيًّا عن الإسلام بفعل عوامل بعضها كامن في
تركيب المجتمع وبعضها يتمثل في الهجوم عليه من الصليبية
والصهيونية. ثم قطعت أوروبا ما بين المنهج الذي اقتبسته
وبين أصوله الاعتقادية الإسلامية وشردت به نهائيًّا بعيدًا
عن الله في أثناء شرودها عن الكنيسة التي كانت تستطيل على
الناس بغيًا وعدوانًا باسم الله، وبالتالي تغيرت نتائج
الفكر الأوروبي. أما الإسلام فإنه لا يفصل بين العلم وصاحب
العلم، فالعلم الذي ينقطع عن العقيدة الإيمانية ليس العلم
الذي يبغيه القرآن. العلم الأوروبي يبعد عن الله. «اتجه
المنهج الأوروبي إلى النهضة العلمية الحديثة مع الأسف بسبب
تلك الملابسات النكدة التي قامت في التاريخ الأوروبي خاصة
بين المشتغلين بالعلم وبين الكنيسة الغاشمة! ثم ترك آثاره
العميقة في مناهج الفكر الأوروبي كلها، وفي طبيعة التفكير
الأوروبي. وترك تلك الرواسب المسممة بالعداء لأصل التصور
الديني جملة — لا لأصل التصور الكنسي وحده ولا للكنيسة
وحدها — في كل ما أنتجه الفكر الأوروبي.»
١٦٦
والمجتمعات الجاهلية أربعة: المجتمعات الشيوعية،
والمجتمعات الوثنية، والمجتمعات اليهودية والنصرانية،
والمجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة. فالمجتمعات
الشيوعية في رأي سيد قطب مجتمعات ملحدة تنكر وجود الله
أصلًا، وتُرجع الفاعلية إلى المادة أو الطبيعة، وفي حياة
الإنسان إلى الاقتصاد أو أدوات الإنتاج، وتقيم نظامًا
العبودية فيه للحزب على فرض أنه ممثل للقيادة الجماعية، وما
يترتب على ذلك من إهدار لكرامة الإنسان باعتبار أن المطالب
الأساسية له هي مطالب الحيوان: الطعام والشراب والملبس
والمسكن والجنس، وحرمانه من حاجاته الرُّوحية: العقيدة في
الله، حرية اختيارها، حرية التعبير عنها وعن فرديته التي
تتجلى في الملكية الفردية واختيار نوع العمل والتخصص، وفي
التعبير الفني عن الذات. فهو مجتمع ينكر وجود الله ويفسر
التاريخ تفسيرًا ماديًّا، ويطبق ما يسميه الاشتراكية
العلمية نظامًا. وعندما تكون المادة في أية صورة هي القيمة
العليا، سواء في النظرية كما في التفسير الماركسي للتاريخ،
أو في صورة الإنتاج المادي كما في أمريكا وأوروبا، فإن هذه
المجتمعات تكون متخلفة، أي بالمصطلح الإسلامي جاهلة.
والمجتمع الإسلامي لا يحقر المادة لا في النظرية؛ لأنها
مكون من مكونات الكون، ولا في الإنتاج؛ لأنه من مقومات
الخلافة في الأرض، ولكنه لا يعتبرها القيمة العليا التي من
أجلها تُهدر قيمة الإنسان. في المجتمع الجاهلي تتغير القيم
وتتبدل، ولا تستقر على حال، ولا ترجع إلى أصل كما يزعم
التفسير المادي للتاريخ والاشتراكية العلمية. وعندما يكون
الجنس هو أساس الأسرة يكون ذلك هو التخلف الحضاري، فالمرأة
ليست زينة أو غواية. لقد تغيرت الأخلاق في المجتمعات
الحديثة وشاعت العَلاقات الجنسية. وواضح من هذا الوصف
للمجتمعات الأوروبية الشيوعية منها والرأسمالية القوالب
التقليدية مثل الإيمان والإلحاد، والتعارض بين المادة
والرُّوح. فالمجتمعات الشيوعية ترفض الدين الذي صورته
الكنيسة وهو ليس بدين، والمجتمعات الأوروبية تلجأ إلى
الطبيعة تكتشف بداخلها عن مكوناتها دون كبت يؤدي إلى
الانهيار أو النفاق. وما زال الدين ينمو نموًّا رأسماليًّا
في التصور والتأكيد على حق الملكية الفردية وحق الإرث، وكأن
«الرد على الدهريين» عند الأفغاني ما زال ساريَ المفعول.
١٦٧
أما المجتمعات الوثنية في الهند واليابان والفلبين
وأفريقيا فيقوم تصورها الاعتقادي على تأليه غير الله، كما
تقدم الشعائر التعبدية لشتى الآلهة والمعبودات، وتقيم
الأنظمة والشرائع المستمدة من المعابد والكهنة والسدنة
والسحرة والشيوخ، أو من هيئات مدنية علمانية تملك سلطة
التشريع دون الرجوع إلى الله، لها الحاكمية العليا باسم
الشعب أو باسم الحزب أو باسم كائنٍ مَن كان، ذلك لأن
الحاكمية العليا لا تكون إلا لله ولا تُزاوَل إلا بالطريقة
التي بلغها عنه رسله.
أما المجتمعات اليهودية والنصرانية في أرجاء الأرض
جميعًا فإنها تقوم على تصور اعتقادي محرف يجعل للألوهية
شركاء بالبنوة أو بالتثليث. كما تنبثق شعائرها التعبدية
ومراسمها وطقوسها عن هذه الاعتقادات الضالَّة. أما أنظمتها
وشرائعها فإنها لا تقوم على العبودية لله وحده بالإقرار له
وحده بحق الحاكمية العليا التي لا تكون إلا لله. وقد وصفهم
الله بالشرك لأنهم جعلوا هذا الحق للأحبار والرهبان
يشرِّعون لهم من عند أنفسهم ويقبلون ما يشرعون لهم.
أما المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة فبالرغم من
أنها تعتقد بألوهية الله وتقدم الشعائر التعبدية له، إلا
أنها لا تَدين بالعبودية له في نظام حياتها، وتعطي أخص
خصائص الألوهية لغير الله، فتدين بحاكمية غير الله، وتتلقى
من هذه الحاكمية نظامها وشرائعها وقيمها وموازينها وعاداتها
وتقاليدها وكل مقومات حياتها تقريبًا.
١٦٨ هي المجتمعات التي لا تنكر وجود الله، ولكن
تجعل له ملكوت السموات وتعزله عن ملكوت الأرض فلا تطبق
شريعته في نظام الحياة وتبيح للناس أن يعبدوا الله في
البِيَع والكنائس والمساجد ولكن تُحرِّم عليهم أن يطالبوا
بتحكيم شريعة الله في حياتهم، وهي بذلك تنكر أو تعطل
الألوهية، ألوهية الله في الأرض التي نص القرآن عليها:
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ
إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ (الزخرف: ٨٤)،
إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ
أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ (يوسف: ٤٠). وتعلن هذه
المجتمعات إما العلمانية وعدم عَلاقتها بالدين أصلًا، وإما
احترام الدين ولكن تخرجه من نظامه الاجتماعي لأنها تنكر
الغيب وتقيم نظمها على العلمية التي تناقض الغيب، وإما تكون
الحاكمية فيها لغير الله يشرع ما يشاء ويدعي أنها من عند
الله. والإسلام يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها
وشرعيتها. فالحياة فيها لا تقوم على العبودية الكاملة لله
وحده وتلتقي مع سائر المجتمعات في صفة الجاهلية. وليس لأحد
أن يقول بشرع يشرعه هذا شرع الله إلا أن تكون الحاكمية
العليا لله معلَنة، وأن يكون مصدر السلطات هو الله لا الشعب
ولا الحزب ولا أيٌّ من البشر. ولا يكون هذا لكل من يريد أن
يُدعى سلطانًا باسم الله، الذي عرفته أوروبا ذات يوم باسم
الثيوقراطية أو الحكم المقدس، ليس شيء مِن هذا في الإسلام،
وما يملك أحد أن ينطق باسم الله إلا رسوله. «ليس المجتمع
الإسلامي هو الذي يضم ناسًا ممن يسمون أنفسهم مسلمين بينما
شريعة الإسلام ليست هي قانون هذا المجتمع الإسلامي، وإن صلى
وصام وحج البيت الحرام. وليس المجتمع الإسلامي هو الذي
يبتدع لنفسه إسلامًا من عند نفسه يسميه الإسلام المتطور.»
١٦٩
وعَلاقة المجتمع الإسلامي بالمجتمع الجاهلي عَلاقة
انفصال وتضاد وحرب، فلا وجود لأحدهما مع وجود الآخر. ولا
واسطة بينهما ولا أنصاف حلول ولا تعايش سلمي. ليست وظيفة
الإسلام إذن أن يصطلح مع التصورات الجاهلية السائدة في
الأرض ولا الأوضاع القائمة في كل مكان. لم تكن هذه وظيفته
يوم جاء ولن تكون هذه وظيفته اليوم ولا في المستقبل.
فالجاهلية هي الجاهلية، هي الانحراف عن العبودية لله وحده
وعن المنهج الإلهي في الحياة واستنباط للنظم والشرائع
والقوانين والعادات والتقاليد والقيم والموازين من مصدر آخر
غير المصدر الإلهي. الإسلام هو الإسلام ووظيفته هي نقل
الناس من الجاهلية إلى الإسلام. الجاهلية هي عبودية الناس
للناس بتشريع بعض الناس للناس بما لم يأذن به الله، كائنة
ما كانت الصورة التي يتم بها هذا التشريع. والإسلام هو
عبودية الناس لله وحده بتلقيهم منه وحده تصوراتهم وعقائدهم
وشرائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم، والتحرر من عبودية
العبيد … إن الإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية، لا
من ناحية التصور، ولا من ناحية الأوضاع المنبثقة من هذا
التصور، فإما إسلام أو جاهلية. وليس هناك وضع آخر نصفه
إسلام ونصفه جاهلية فيقبله الإسلام ويرضاه. فنظرة الإسلام
واضحة في أن الحق لا يتعدد وأن ما عدا هذا الحق فهو الضلال،
وهما غير قابلَين للتلبس والامتزاج، وأنه إما حكم الله وإما
حكم الجاهلية، وإما شريعة الله وإما الهوى. فهما أمران لا
ثالث لهما: إما الاستجابة لله والرسول، وإما اتباع الهوى،
إما حكم الله وإما حكم الجاهلية، إما الحكم بما أنزل الله
وإما الفتنة عما أنزل الله. وظيفة الإسلام إذن هي إقصاء
الجاهلية من قيادة البشرية وتولي هذه القيادة على منهجه
الخاص. هذه الجاهلية خبثت قديمًا وخبثت حديثًا. لا يوجد شيء
اسمه ديمقراطية الإسلام أو اشتراكية الإسلام. إن الانتقال
من الجاهلية للإسلام نقلة بعيدة لا واسطة ولا ترقيع. والنفس
البشرية فيها الاستعداد للانتقال الكامل من حياة إلى حياة.
إن الإسلام لا يتخذ المبررات له من النظم الجاهلية.
١٧٠
ولا يمكن الالتقاء بين المجتمعين؛ لأن المسألة في
حقيقتها مسألة كفر وإيمان، مسألة شرك وتوحيد، مسألة جاهلية
وإسلام. إن الناس ليسوا مسلمين كما يدَّعون وهم يحيَون حياة
الجاهلية. والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهلين إلى
الإسلام ولتجعل منهم مسلمين من جديد … إننا نحن الذين نقدم
الإسلام للناس، ليس لنا أن نجاري الجاهلية في شيء مِن
تصوراتها ولا شيء من أوضاعها ولا شيء من تقاليدها التي يشتد
ضغطها علينا. إن وظيفتنا الأولى هي إحلال التصورات
الإسلامية والتقاليد الإسلامية في مكان الجاهلية، ولن يتحقق
هذا بمجاراة الجاهلية والسير معها خطوات أول الطريق … لن
يكون هذا بأن نجاري الجاهلية في بعض الخطوات … إننا نعيش
وسط جاهلية، وإننا أهدى طريقًا من هذه الجاهلية، وإنها
هُوَّة فاصلة لا يُقام فوقها معبر للالتقاء في منتصف
الطريق، ولكن ينتقل عليه أهل الجاهلية إلى الإسلام، سواء
كانوا ممن يعيشون في الوطن الإسلامي ويزعمون أنهم مسلمون،
أو كانوا يعيشون في غير الوطن الإسلامي … إن المعركة بين
المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة وليست شيئًا آخر
على الإطلاق، وإن خصومهم لا ينقِمون منهم إلا الإيمان ولا
يسخطون منهم إلا العقيدة. إنها ليست معركة سياسية ولا معركة
اقتصادية ولا معركة عنصرية، بل معركة عقيدة، إما كفر وإما
إيمان، إما جاهلية وإما إسلام. فإذا اضطُّر المسلم إلى
التعامل مع الجاهلية دون أن يقاطعها وينزوي وينعزل عنها
فإنما هي المخالطة مع التميز، والأخذ والعطاء مع الترفع،
والصدع بالحق في مودة، والاستعلاء بالإيمان في تواضع،
والتعامل بالبدن مع الانفصام بالرُّوح. المؤمن هو الأعلى
سندًا ومصدرًا وإدراكًا وتصورًا للحقيقة والوجود، وتصورًا
للقيم والموازين، وضميرًا وشعورًا، وخُلقًا وسلوكًا، وشريعة ونظامًا.
١٧١ ويتكون المجتمع الإسلامي بثلاثة أنفار، وحين
يبلغ المؤمنون بهذه العقيدة ثلاثة نفر فإن هذه العقيدة
ذاتها تقول لهم أنتم الآن مجتمع، مجتمع إسلامي مستقل، منفصل
عن المجتمع الجاهلي الذي لا يَدين لهذه العقيدة ولا تسود
فيه قيمها الأساسية … والثلاثة يصبحون عشَرة، والعشَرة
مائة، والمائة ألفًا، والألف اثني عشر ألفًا، ويبرز ويتقرر
وجود المجتمع الإسلامي، وفي الطريق تقوم المعركة بين
المجتمع الوليد، والذي انفصل بعقيدته وتصوره ووجوده عن
المجتمع الجاهلي الذي أخذ منه أفراده. وهكذا ينشأ المجتمع
الإسلامي ويتكون المجتمع المسلم. وينشأ من انتقال أفراد
ومجموعات من الناس من العبودية لغير الله إلى العبودية لله،
وإقامة نظام حياة هذه الجماعة على العبودية. عندئذٍ يُولد
مجتمع جديد من المجتمع الجاهلي القديم. وقد ينضم المجتمع
الجاهلي القديم إلى المجتمع الإسلامي الجديد وقد لا ينضم.
وقد يهادن المجتمع المسلم الجديد أو يحاربه وإن كانت
السُّنة قد جرت على أن يشن المجتمع الجاهلي حربًا لا هوادة
فيها، سواء على طلائع هذا المجتمع في مرحلة نشوئه، أو على
المجتمع نفسه بعد قيامه فعلًا. طبيعي ألا ينشأ المجتمع
المسلم ويتقرر وجوده إلا إذا بلغ درجة من القوة يواجه بها
المجتمع الجاهلي القديم بقوة الاعتقاد والتصور، وقوة الخلق
والبناء النفسي، وقوة التنظيم والبناء الجماعي.
١٧٢
وجنسية المسلم عقيدته. وجاء الإسلام ليرد الإنسان إلى
ربه وليجعل هذه السلطة الوحيدة التي يتلقى منها موازينه
وقيمه. هناك حزب واحد لا يتبدد هو حزب الله، وأحزاب أخرى
كلها للشيطان وللطاغوت. وهناك طريق واحد يصل إلى الله، وليس
كل طريق يؤدي إليه. هناك نظام واحد هو النظام الإسلامي وما
عداه من النظم فهو جاهلية
أَفَحُكْمَ
الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ
حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (المائدة: ٥٠). هناك
شريعة واحدة هي شريعة الله، وما عداها فهو هوًى. وهناك حق
واحد لا يتعدد وما عداه هو الضلال. وهناك دار واحدة هي دار
السلام وما عداها فهو دار حرب، عَلاقة المسلم بها إما
القتال وإما المهادنة على عهد أمان. كل أرض تحارب المسلم في
عقيدته، وتصده عن دينه، وتعطل عمل شريعته فهي دار حرب ولو
كان فيها أهله وعشيرته، قومه وماله وتجارته. وكل أرض تقوم
فيها عقيدته وتعمل فيها شريعته فهي دار السلام، ولو لم يكن
له فيها أهل ولا عشيرة ولا قوم ولا تجارة. الوطن دار تحكمها
عقيدة ومنهاج حياة وشريعة من الله. لا وجود لشعب مختار،
إنما الشعب المختار الأمة المسلمة. لا إسلام في أرض لا
يحكمها الإسلام، ولا تقوم فيها شريعته، ولا دار إسلام إلا
تلك التي يهيمن عليها الإسلام بمنهجه وقانونه. وليس وراء
الإيمان إلا الكفر، وليس دون الإسلام إلا الجاهلية، وليس
بعد الحق إلا الضلال.
١٧٣
الإسلام إذن في حالة جهاد دائم ضد الجاهلية. والجهاد
ليس، كما يقول المدافعون عنه ضد اتهام المستشرقين له،
للدفاع فقط وليس الهجوم، فيخلطون بين منهج هذا الدين في
النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم
القوى السياسة المادية التي تحول بين الناس وبينه، والتي
تعبِّد الناس للناس وتمنعهم من العبودية لله. إن هذا الدين
إعلان عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد ومن
العبودية لهواه أيضًا وهي من العبودية للعباد، وذلك بإعلان
ألوهية الله وحده سبحانه — وربوبيته للعالمين! إن إعلان
ربوبية الله وحده للعالمين معناها الثورة الشاملة على
حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها
والتحرر الكامل من كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر
بصورة من الصور، أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر
في صورة من الصور؛ ذلك أن الحكم الذي مردُّ الأمر فيه إلى
البشر ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل
بعضهم لبعض أربابًا من دون الله. إن هذا الإعلان معناه
انتزاع سلطان الله المغتصب وردُّه إلى الله وطرد المغتصِبين
له، الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم فيقومون منهم
مقام الأرباب، ويقوم الناس منهم مكان العبيد. أن معناه
تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض.
١٧٤ فالجهاد إذن من طبيعة الإسلام لتحرير الوجدان
البشري وإعلان حرية العقيدة ضد الغفلة والقهر الذي يسود نظم
البشر. فقد تعهدنا
أَلَّا نَعْبُدَ
إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا
يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ
اللهِ (آل عمران: ٦٤). ومملكة الأرض لا تقوم بأن
يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم — وهم رجال الدين —
كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم
الآلهة كما كان الحال فيما يُعرف باسم الثيوقراطية أو الحكم
الإلهي المقدس، ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي
الحاكمة، وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة
مبينة … وقيام مملكة الأرض وإزالة مملكة البشر، وانتزاع
السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده،
وسيادة الشريعة الإلهية وحدها، وإلغاء القوانين البشرية؛ كل
أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان؛ لأن المتسلطين على
رقاب العباد والمغتصبين لسلطان الله في الأرض لا يسلِّمون
في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان … إن هذا الإعلان العام
لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله،
بإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين، لم يكن إعلانًا
نظريًّا فلسفيًّا سلبيًّا، إنما كان إعلانًا حركيًّا
واقعيًّا إيجابيًّا، إعلانًا يُراد له التحقيق العملي في
صورة نظام يحكم البشرَ بشريعة الله ويخرجهم بالفعل من
العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك.
١٧٥
ويواجَه هذا التحرير بعقبات اعتقادية وتصورية، وأخرى
مادية واقعية، وثالثة سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية
وطبقية. وفي مقدمتها عقبات السلطان السياسي القائم على
العوامل الاعتقادية التصورية والعنصرية والطبقية الاجتماعية
والاقتصادية. وليس المهم البيان بل الحركة. هذا الدين يرد
العالمين إلى ربهم وينتزعهم من العبودية لغيره، فالعبودية
الكبرى في نظر الإسلام هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس
من البشر، وهذه هي «العبادة» التي يقرر أنها لا تكون إلا
لله، وأن من يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله مهما
ادعى أنه في هذا الدين. وقد نص الرسول على أن الاتباع في
الشريعة والحكم هو العبادة التي صار بها اليهود والنصارى
مشركين مخالفين لما أُمروا به من عبادة الله وحده … الإسلام
إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد. فهو يهدف
ابتداء إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس
حاكمية البشر للبشر وعبودية الإنسان للإنسان … إن النظام
الذي يحكم البشر في الأرض يجب أن تكون قاعدته العبودية لله
وحده، وذلك بتلقي الشرائع منه وحده.
١٧٦ الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف
إلى جانب الجهاد بالبيان ليس حركة دفاعية فقط بل حركة
اندفاع وانطلاق لتحرير الإنسان في الأرض دفاعًا عن الإنسان
ذاته ورد العدوان البشري عليه. الجهاد إذن هو إعلان عام
لتحرير الإنسان من العبودية للعباد، وتقرير ألوهية الله
وحده وربوبيته للعاملين، وتحطيم مملكة الهوى البشري في
الأرض وإقامة مملكة الشريعة الإلهية في عالم الإنسان.
١٧٧ لا بد من إزالة العقبات بالقوة، فالجهاد ضرورة
للدعوة كي تكون عبودية الناس كلهم فيها لله.
والناس ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل ذمة، وأهل
حرب، القسم الأول مسلم مؤمن به، والثاني مسالِم له آمن،
والثالث مخالِف له محارب دعاه أهل الصلح والهدنة للإسلام،
فصار الناس قسمين: أهل ذمة ومحاربين له. ولما كان أهل الذمة
تحت أمن الإسلام أصبح هناك مجتمعان: مجتمع الإسلام ومجتمع
الحرب، وكلاهما ضدان لا يجتمعان: «لا يتعايش الحق والباطل
في هذه الأرض، وإنه متى قام الإسلام بإعلانه العام لإقامة
ربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من العبودية للعباد،
رماه المغتصبون لسلطان الله في الأرض ولم يسالموه قط،
وانطلق هو كذلك يدمر عليهم ليُخرج الناس من سلطانهم ويدفع
عن الإنسان في الأرض ذلك السلطان الغاصب».
١٧٨
إن الجهاد في الإسلام لا يحتاج إلى مبررات أدبية، بل
مبرراته فيه ذاته. «تقرير ألوهية الله في الأرض، وتحقيق
منهجه في حياة الناس، ومطاردة الشياطين، وتحطيم سلطان البشر
الذي يتعبد الناس، والناس عبيد الله وحده. لا يجوز أن
يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه
ورأيه … إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض …
إخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك.»
١٧٩ وكان جواب المسلمين إذا ما سألهم أحد عن
الإسلام: الله ابتعثنا لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى
عبادة الله وحده … وهذا المبرر الذاتي قائمٌ ابتداءً ولو لم
يوجد خطر الاعتداء على الأرض الإسلامية وعلى المسلمين فيها.
إنه مبرر في طبيعة المنهج وواقعيته وطبيعة المعوقات الفعلية
في المجتمعات البشرية، لا من مجرد ملابسات دفاعية محدودة
وموقوتة. فالإسلام يبدأ بتحرير البشر مما وقع عليهم من
اعتداءٍ من سلطان البشر الممثل في الأنظمة السياسية. إن
الانطلاق بالمذهب الإلهي تقوم في وجهه عقبات مادية من سلطة
الدولة ونظام المجتمع وأوضاع البيئة، وهذه كلها هي التي
ينطلق الإسلام ليحطمها بالقوة كي يخلو له وجه الأفراد من
الناس يخاطب ضمائرهم وأفكارهم بعد أن يحررها من الأغلال
المادية، ويترك لها بعد ذلك حرية الاختيار.
١٨٠ إن النظم الجاهلية بمعاداتها النظام الإسلامي
إنما تدافع عن بقائها بالهجوم عليه. حقًّا إنه لم يكن بد
لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له. لأن مجرد وجوده في صورة
إعلان عام لربوبية الله للعاملين، وتحرير الإنسان من
العبودية لغير الله، وتمثُّل هذا الوجود في مجتمع تنظيمي
حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية، وميلاد مجتمع
مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية لأن الحاكمية
فيه لله وحده؛ إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد
أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله — القائمة على قاعدة
العبودية للعباد — أن تحاول سحقه دفاعًا عن وجودها ذاته،
ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفاع عن نفسه، هذه ملابسة
لا بد منها تُولد مع ميلاد الإسلام ذاته، وهذه معركة مفروضة
على الإسلام فرضًا ولا خيار له في خوضها. وهذا صراع طبيعي
بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلًا … لا بد للإسلام
أن يدافع عن وجوده، ولا بد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة
عليه فرضًا … إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرك
إلى الأمام ابتداءً لإنقاذ الإنسان في الأرض من العبودية
لغير الله … هذه طبيعة هذا الدين، وهذه وظيفته بحكم أنه
إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من كل
عبودية لغير الله في الناس أجمعين … القضية هي قضية ألوهية
الله وعبودية العباد.
١٨١
إن من حق الإسلام
أن يبدأ الهجوم على الجاهلية إن لم تبادئه الجاهلية
بالهجوم. حتى إذا لم تهاجم الجاهلية الإسلام فإن الإسلام لا
يتركها تزاول عبودية البشر للبشر، ولا يدعها دون أن يمد
إليها دعوته إلى التحرير العام. لا يهادنها الإسلام إلا أن
تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية ضمانًا لفتح
أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها …
كان الإسلام مضطرًّا لخوض معركة لا اختيار له فيها بحكم
وجوده الذاتي ووجود المجتمعات الجاهلية الأخرى التي لا بد
أن تهاجمه. والإسلام بذاته يتحرك ابتداءً فيدخل المعركة.
الإسلام منهج إلهي جاء ليقرر ألوهية الله في الأرض وعبودية
البشر جميعًا لإله واحد. ويصب هذا التقرير في قالب واقعي،
هو المجتمع الإنساني الذي يتحرر فيه الناس من العبودية
للعباد بالعبودية لرب العباد. فلا تحكمهم إلا شريعة الله
التي يتمثل فيها سلطان الله أو بتعبير آخر تتمثل فيها
ألوهيته. فمن حقه أن يزيل العقبات كلها من طريقه ليخاطب
وجدان الأفراد وعقولهم دون حواجز أو موانع مصطنعة من نظام
الدولة السياسي أو أوضاع الناس الاجتماعية … إن من حق
الإسلام أن يتحرك ابتداء، فالإسلام ليس نِحلة قوم ولا نظام
وطن، ولكنه منهج إله ونظام عالم، ومن حقه أن يتحرك ليحطم
الحواجز من الأنظمة والأوضاع التي تغُل من حرية الإنسان في
الاختيار. وحسبه أنه لا يهاجم الأفراد ليُكرههم على اعتناق
عقيدته إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع ليحرر الأفراد من
التأثيرات الفاسدة المفسِدة للفطرة المقيدة لحرية الاختيار.
من حق الإسلام أن يُخرِج الناس من عبادة العباد إلى عبادة
الله وحده ليحقق إعلانه العام بربوبية الله للعاملين وتحرير
الناس أجمعين. وعبادة الله وحده لا تتحقق في التصور
الإسلامي وفي الواقع العملي إلا في ظل النظام الإسلامي، فهو
وحده النظام الذي يشرِّع الله فيه للعباد كلهم … تشريعًا
واحدًا يخضع له الجميع على السواء. أما في سائر الأنظمة
فيعبد الناس العباد لأنهم يتلقَّون التشريع لحياتهم من
العباد، وهو من خصائص الألوهية، فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان
التشريع للناس من عند نفسه، فقد ادَّعى الألوهية اختصاصًا
وعملًا، سواء ادعاها قولًا أم لم يعلن هذا الادعاء. وأيما
بشر آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق
الألوهية سواء سماها باسمها أم لم يسمها … الإسلام منهج
يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس، والتجمعات
الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو. ومن
ثَم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات
للتحرير العام. وهذا معنى أن يكون الدين كله لله، فلا تكون
هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته كما هو الشأن في
سائر الأنظمة التي تقوم على عبودية العباد للعباد.
١٨٢
قد يتأجل الجهاد إلى حينٍ لمقتضيات المعركة، ولكن ذلك
لا يعني إيقافه أو التخلي عنه. الإسلام منهج الله للحياة
البشرية. وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية
متمثلة في الحاكمية، وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها
اليومية … وحيثما وُجد التجمع الإسلامي الذي يتمثل فيه
المنهج الإسلامي فإن الله يمنحه حق الحركة والانطلاق
لتسلُّم السلطان وتقرير النظام، مع ترك مسألة العقيدة
الوجدانية لحرية الوجدان. فإذا كف الله أيدي الجماعة
المسلمة فترة عن الجهاد فهذه مسألة خطة لا مسالة مبدأ،
مسألة مقتضيات حركة لا مسألة عقيدة.
١٨٣
ولتحقيق ذلك لا بد من قيادة. فالعالم الآن على حافة
الهاوية. والمجتمع في حاجة إلى قيادة جديدة. والمعسكران
الغربي والشرقي على حافة الإفلاس في عالم القيم بالرغم من
الازدهار المادي، وبالرغم من تعاونهما معًا واقتباس كل نظام
ما ينقصه من النظام الآخر، فقد استعارت النظم الغربية بعض
الأنظمة الاقتصادية مثل الاشتراكية، كما انتهت النظم
الشرقية بعقيدتها الجماعية إلى اقتصارها على الدولة؛ لأنها
نظم تعارض الفطرة البشرية وتقوم على التسلط والدكتاتورية.
لقد قام الغرب بنهضته العلمية التي أدت دورها منذ القرن
السادس عشر حتى بلغت الذروة في القرن التاسع عشر، ولكنها لم
تعد قادرة على أن تقدم جديدًا، بل ظهرت مآسي العلم
وتطبيقاته في القرن العشرين. كما أدت الوطنية والقومية
أدوارها وأفلست بفعل حربين أوروبيتين طاحنتين. كما فشل
النظامان الرأسمالي والشيوعي، الفردي والجماعي ولم يعودا
يقدمان للبشرية أي تقدم وازدهار. فقيادة الغرب أوشكت على
الزوال، والإنسانية في حاجة إلى قيادة جديدة.
١٨٤
والإسلام وحده هو القادر على هذه القيادة الجديدة؛ لما
يملكه من قيم ومنهج، فهو المنقذ للبشرية من حافة الهاوية.
ولما كانت الجاهلية سائدة في الأرض ولا خلاص منها إلا
بالربانية، فإن مهمة القيادة الإسلامية رد الناس إلى ألوهية
الله وحده وربوبيته وقِوامته وحاكميته وسلطانه وشريعته،
ونزع المجتمع من قيادته الجاهلية الوثنية مثل الكهنة
والسدنة والسحرة والعرافين، أو القيادة السياسية
والاجتماعية والاقتصادية.
١٨٥ وفي الإسلام وحده تتوافر شروط القيادة. فهو
أولًا لا يتنكر للإبداع المادي في الأرض؛ لأن الإنسان خليفة
الله في الأرض، فالخلافة هنا تعني الإبداع المادي والإنتاج
والسيطرة على قوانين الطبيعة. ثانيًا: بعث الأمة من جديد
لأن الإسلام لا يقوم إلا بأمة. فالعقائد المجردة لا تقود
البشرية قبل أن تتمثل في مجتمع. الأمة ليست قومًا أو أرضًا
بل جماعة بشرية تتحد بتصوراتها للكون وبأنظمتها وقيمها. وقد
انقطع وجود هذه الأمة منذ توقف الحكم بشريعة الله. وبالتالي
لا بد وأن تعود هذه الأمة وأن يستمر وجودها عن طريق بعثها
من جديد. ثالثًا: أن تكون لهذه الأمة القيادة بعد البعث،
بالرغم من المسافة الشاسعة بين مرحلة البعث ومرحلة القيادة،
وبالرغم من رصيد الغرب الضخم من العلم والثقافة والتي لا
يمكن للبشرية التنازل عنها بسهولة. رابعًا: مؤهلات الأمة لا
يمكن أن تكون الإبداع المادي في هذه المرحلة، وهو الضرورة
الذاتية لوجودها باعتبارها خليفة الله في الأرض، أي عبادة
الله وتحقيقًا لغاية الوجود الإنساني. لا بد من مؤهل
العقيدة والمنهج الذي يسمح بالحفاظ على نتاج الإبداع المادي.
١٨٦
وهذا كله يتطلب قيادة، يتطلب طليعة تعقد العزم وتسير في
الطريق، تمضي في خضم الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء
الأرض جميعًا. تمضي وهي تزاول نوعًا من العزلة من جانب
ونوعًا من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة.
١٨٧ وتحتاج هذه الطليعة إلى «معالم في الطريق»
لتعرف طبيعة دورها، وحقيقة وظيفتها، وصُلب غايتها، ونقطة
البدء، وتعرف حقيقة موقفها من الجاهلية، أين تلتقي مع الناس
وأين تفترق؟ وتعرف خصائصها وخصائص الجاهلية من حولها: كيف
تخاطب الجاهلية بلغة الإسلام؟ وفيم تخاطبها؟ ومن أين تتلقى
هديها وكيف؟ فالكتاب إذن يصف الخطوات العملية لتحقيق حاكمية
الله وتدمير حاكمية البشر. بالرغم من أنه يحتوي على مجرد
مبادئ عامة دون إعداد تنظيم انقلاب فعلي. يعطي فقط الرُّوح
والفكر ويعبر عن القصد والهدف.
وتتحقق هذه القيادة عن طريق تربية الصفوة وإعدادها.
والصفوة ظاهرة تاريخية يمثلها جيل الصحابة، هذا الجيل
القرآني الفريد. وليس المهم شخص الرسول كمركز للدعوة لا
تقوم بدونه، بل تربية جيل قادر على الاستمرار بها. وقد تحقق
هذا الجيل في ثلاث مراحل عن طريق القرآن وتوجيهاته؛ أولًا:
إلى التصور في نفوس الصفوة، ثانيًا: إلى تغيير مجرى
التاريخ.
-
أولًا: كان النبع الأول هو القرآن، والحديث من آثار
ذلك النبع. لم يكن الرصيد حضارة أو ثقافة أو علمًا
أو مؤلفات أو دراسات. كانت هناك حضارة اليونان
والرومان التي ما زالت أوروبا تعيش عليها اليوم،
وكانت هناك حضارة الفرس والهند والصين، وكلها تحيط
بالجزيرة العربية، كما كانت اليهودية والنصرانية
تعيش في قلبها. ولكن للأسف اختلطت الينابيع فضاعت
الأجيال وأخذ المسلمون تصوراتهم من فلسفة اليونان
والرومان وأساطير الفرس وإسرائيليات اليهود ولاهوت
النصارى، واختلط ذلك بتفسير القرآن وعلم الكلام
والفقه والأصول، وتخرجت أجيال تختلف عن الجيل
الأول.
-
ثانيًا: في منهج
التلقي لم يقرأ الجيل الأول القرآن بقصد الثقافة
والاطلاع أو التذوق والاستمتاع، بل لتلقي أوامر
الله وللعمل بها فور سماعها كما يتلقى الجندي في
الميدان الأمر اليومي؛ لذلك لم يطلب أحدٌ الاستكثار
من الآيات، بل طلب أقل قدر منها للعمل بها أولًا.
كان لدى هذا الجيل شعور التلقي للتنفيذ، وكان هذا
الشعور العملي هو الذي يفتح لهم فيما بعد آفاق
المعرفة والبحث والاطلاع. لم يكن المهم نقل
التكاليف بل كان المهم اختلاط القرآن بذواتهم
وتحويله إلى منهج لحياتهم وإلى طاقة وحركة. ليس
القرآن كتاب معرفة نظرية بل منهاج حياة وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ
لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ
وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (الإسراء:
١٠٦). نزل وَفقًا للحاجات المتجددة والنمو المطرد
في الأفكار والتصورات وفي المجتمع والحياة، وفقًا
للمشكلات العملية في حياة المسلمين الواقعية.
فالآية وصف لواقع، وتحديد لمسار حركة، وإطلاق
للطاقات ورسم لمنهج عمل. منهج القرآن منهج للتنفيذ
والعمل. وفي الطريق يلتقي الإنسان بالجمال الفني في
القرآن، وبالقصص الرائع في القرآن، وبمشاهد
القيامة، وبالمنطق الوجداني بالتبعية وليس بالأصالة.١٨٨
-
ثالثًا: بداية عهد جديد في حياة الفرد، وقلب من
الجاهلية إلى الإسلام وفصل بينهما. «كانت هناك عزلة
شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في
إسلامه، تنشأ عنها عزلة كاملة في صِلاته بالمجتمع
الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية. فهو قد انفصل
نهائيًّا من بيئته الجاهلية واتصل نهائيًّا ببيئته
الإسلامية، حتى ولو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي
في عالم التجارة والتعامل اليومي. فالعزلة الشعورية
شيء والتعامل اليومي شيء آخر. وكان هناك انخلاع من
البيئة الجاهلية، وعُرفها وتصورها، وعاداتها
وروابطها، ينشأ عن الانخلاع من عقيدة الشرك إلى
عقيدة التوحيد، ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام
عن الحياة والوجود، وينشأ من الانضمام إلى التجمع
الإسلامي الجديد بقيادته الجديدة، ولمنهج هذا
المجتمع وهذه القيادة كلُّ ولائه وكل طاعته وكل تبعيته.»١٨٩
والجاهلية الأولى التي قضى الإسلام عليها عادت من جديد:
«نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو
أظلم، كل ما حولنا جاهلية: تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم
وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم
وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع
إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرًا إسلاميًّا، هو كذلك من
صنع هذه الجاهلية.»
١٩٠
وكما قضى الإسلام على الجاهلية الأولى فإن المطلب
الحالي هو القضاء على هذه الجاهلية الثانية. ثم لا بد لنا
من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي والتصورات الجاهلية
والتقاليد الجاهلية والقيادة الجاهلية في خاصة نفوسنا …
ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي ولا أن
نَدين بالولاء له. فهو بهذه الصفة، صفة الجاهلية، غير قابل
لأن نصطلح معه. إن مهمتنا أن نغير أنفسنا أولًا لنغير هذا
المجتمع أخيرًا. إن مهمتنا الأولى هي تغيير واقع هذا
المجتمع. مهمتنا هي تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه، هذا
الواقع الذي يصطدم اصطدامًا أساسيًّا بالمنهج الإسلامي
وبالتصور الإسلامي، والذي يحرمنا بالقهر والضغط أن نعيش كما
يريد لنا المنهج الإلهي أن نعيش. إن أولى الخطوات في طريقنا
هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته، وألا
نعدِّل نحن في قيمنا وتصوراتنا قليلًا أو كثيرًا لنلتقي معه
في منتصف الطريق. كلا، إننا وإياه على مفترق الطريق. وحين
نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق،
وسنلقى في هذا عنتًا ومشقة، وستُفرض علينا تضحيات باهظة،
ولكننا لسنا مُخيَّرين، إذا نحن شئنا أن نسلك طريق الجيل
الأول الذي أقر الله به منهجه الإلهي ونصره على منهج الجاهلية.
١٩١
ومن هذه المرحلة الرابعة والأخيرة في حياة الإمام
الشهيد نستخلص النتائج الآتية:
- (١)
تأثرت
الحركات الإسلامية المعاصرة — مع الأسف — بهذه
المرحلة الرابعة والأخيرة في حياة سيد قطب، والتي لا
تمثل إلا جانبًا ضئيلًا في فكره؛ نظرًا لأنها تعبر عن
نفس المواقف النفسية التي مر بها الاثنان من اضطهاد
وسجن وتعذيب وبراءة وظلم. توحدت في هذه المرحلة
وأسقطت من حسابها المراحل الأدبية والاجتماعية
والفلسفية، فأعضاؤها ليسوا أدباء وليسوا ثوارًا
وليسوا فلاسفة. ليس منهم من يمثل حركة الأدباء الشبان
كما كان سيد قطب في بداية حياته مع جيله من الأدباء،
وليس منهم من نزل في الشوارع دفاعًا عن الجياع
والمحرومين والمَعِدات الخاوية كما كان ينادي الإمام
الشهيد في المرحلة الاجتماعية، وليس منهم من طور
خصائص التصور الإسلامي، أو أكمل مقوماته التي لم
تسعفه حياته لإكمالها، أو حقق مشروعه لنقد الغرب
وإعادة كتابة التاريخ الإسلامي.
- (٢)
إن الحركات الإسلامية المعاصرة بعد ما أصابها من
اضطهاد وقهر، نتيجة أخطاء في التحليل السياسي، نشأ
فيها صراع على السلطة مع النظم القائمة. هذه الحركات
هي التي أثرت في الإمام الشهيد بعد أن انضم إليها وهو
في خضم المرحلة الاجتماعية، وهي التي فرضت عليه
تجارِبها النفسية، تجارِب الاضطهاد والظلم والبراءة،
فخرج فكره الأخير يعبر عن فكر المضطهَدين، وأعاد
قراءة فكره القديم من خلال سيكولوجية الاضطهاد، فأسقط
تجرِبته الحاضرة، تجرِبة الاضطهاد، على ماضيه الحافل
بالنضال الأدبي والاجتماعي والفكري، واستقطب كل شيء
فيه حتى خرج «معالم في الطريق» ليكشف عن صورة هذه
الحركات في نفسه، وإن لم يكن هو الذي أخرج هذه
الصورة. بهذا المعنى لم يؤثر سيد قطب في الحركات
الإسلامية المعاصرة، بل هي التي أثرت فيه. ويدل على
ذلك ظهور هذه الفكرة واختفاؤها «في ظلال القرآن» الذي
يشمل الخمسينيات كلها، إذ تختفي الفكرة في الأجزاء
الأولى قبل أن يتحول فكره إلى فكر المضطهدين، ثم تعظم
وتظهر الإشارة إلى المودودي في الأجزاء التالية
تباعًا، ويظهر بصورة واضحة ابتداءً من الأجزاء ٨–١١
(المجلد الثالث) أثناء الاعتقال الأول، كما يقتبس منه
فقرات طويلة في صلب تفسيره (ج٨، ج٩).
- (٣)
ظهرت الحاكمية عند سيد قطب كإعلان تحرري للإنسان،
فالحاكمية حركة انطلاق وتحرير وثورة وتغير، حركة
إبداعية شاملة من أجل حرية الاعتقاد وحرية الاختيار،
ولكن للأسف تحولت الحاكمية في الحركات الإسلامية
المعاصرة إلى كبت وقهر وطغيان وتزمت وطاعة عمياء. كما
أن التحرر عند سيد قطب يبدأ من الفرد وليس من الدولة
في حين أن الحركات الإسلامية المعاصرة بدأت من الدولة
وتركت الأفراد في تخلفهم وتزمتهم وعمائهم.
- (٤)
لا يفرق هذا التحرير العام بين مسلم وذمي، بل
الحاكمية تحرير للإنسان من حيث هو إنسان بصرف النظر
عن عقيدته وجنسه، وقد تراجعت الحركات الإسلامية
المعاصرة عن هذا التصور الشامل ووقعت في الطائفية
والحصار العقائدي، وكأنها ليست مطالبة بإعلان التحرير
الشامل. وقد يشارك أهل الذمة في العالم الإسلامي في
التصور الإسلامي للإنسان والحياة والكون نظرًا
لمعايشتهم حضارة واحدة.
- (٥)
الجاهلية عند سيد قطب تشير أساسًا إلى النظم
الغربية الاقتصادية الرأسمالية والشيوعية، أو
السياسية مثل القومية والوطنية، أو الاجتماعية مثل
العلمانية، أو الفلسفية مثل الوضعية والمثالية
والتجريدية. ولا تشير إلى مجتمعاتنا الحالية إلا بقدر
تبعيتها لهذه النظم الغربية وتقليدها لها. أما
الحركات الإسلامية المعاصرة فإنها جعلت الجاهلية
مجتمعاتنا الإسلامية ونظمنا القائمة وحولت المعركة من
الإسلام في مواجهة الغرب إلى الإسلام في مواجهة
المسلمين. وكان نقد الغرب عند سيد قطب قائمًا على علم
بالثقافة الغربية وانفتاح عليها وتقدير لجهدها
ولظروفها، في حين انعزلت الحركات الإسلامية المعاصرة
عن ثقافة الغرب، وعادَتْها عن جهل بها وبظروفها. وإذا
كان سيد قطب قد وصف المجتمعات الشرقية بأنها ملحدة
لأن تصورها للإنسان وللكون وللحياة لا ينبثق عن
التصور الإسلامي، فإن الحركات الإسلامية المعاصرة
جعلت هذا الوصف سلاحًا فتاكًا لأنظمة الغير واتهامًا
يبيح دماء أصحابه.
- (٦)
إذا كان سيد قطب قد وصف عَلاقة المجتمع الإسلامي
بالمجتمع الجاهلي على أنها عَلاقة تضاد وتعارض، فإن
المسلمين لا ينعزلون عن المجتمعات الجاهلية إلا
شعوريًّا، ولكنهم يظلون فيها إلى أن تحين الفرصة
لتغييرها، لا يسايرونها وفي نفس الوقت لا يقاطعونها
أو ينزوون وينعزلون عنها، بل «المخالطة مع التمييز»
والأخذ والعطاء مع الترفع، والصدع بالحق في مودة،
والاستعلاء بالإيمان في تواضع. ولكن الحركات
الإسلامية المعاصرة — خاصة جماعة التكفير والهجرة —
حولت هذه العزلة الشعورية إلى عزلة جسدية اجتماعية،
ومنعت كل صور التعامل مع المجتمع الجاهلي إمعانًا في
الانفصال. إن العزلة الشعورية التي يصفها سيد قطب شرط
الاستعلاء، وهي عزلة صحيحة خلاقة تمنع من الذوبان
والتسطيح والتوضع، تحولت إلى عزلة مرضية وانعزال عن
المجتمع وكراهية وعداء للآخرين. تحول الاستعلاء إلى
غرور، والتمايز إلى انفصال.
- (٧)
ظهرت النزعة العملية واضحة عند سيد قطب، فالإسلام
حركة ونشاط، وجهد، والمنهج الإسلامي منهج حركي يهدف
إلى التغيير والتطوير. ولكن الحركات الإسلامية
المعاصرة حولت هذه النزعة العملية إلى خروج فعلي على
النظم القائمة، وإلى نشاط دائب وحركة مستمرة تظهر وسط
السكون والخراب. فالحركة الإسلامية حياة وتطور ونماء،
وحركة الجماعة الإسلامية موت وسكون وذبول.