الحركات الدينية المتطرفة

(ورقة موقف)

هل فكر الجماعات الدينية «المتطرفة» هو الفكر الإسلامي الصحيح؟١

يصعب الإجابة على هذا السؤال لسببين: الأول أنه يصعب التعرف على فكر الجماعات الدينية تعرفًا علميًّا دقيقًا، نظرًا لأنها ما زالت في أيدي أجهزة الأمن، تعتبرها خطرًا على الأمن العام، في أحراز القضايا، وفي مِلفات السجون. والقدر الضئيل المعروف عنه لم يُطبع طبعات علمية محققة حتى يمكن التحقق من مصادره، ثم يُقرأ من كافة المتخصصين للحصول على وجهة نظر متكاملة فيه. والانطباعات العامة لدى بعض الباحثين عنه لا تكفي لتكوين رأي علمي دقيق. والثاني أنه لا يوجد شيء يسمى الفكر الإسلامي «الصحيح»؛ لأن الفكر الإسلامي نتاج التاريخ، وحصيلة عدد من القوى السياسية والاجتماعية المتصارعة، كما هو واضح في الفرق الإسلامية، وكلها شرعية، تنتسب إلى الإسلام، وتعتمد على الكتاب والسنة كمصدر أساسي لها، وتعلم قواعد التفسير، وتخلص النية. والنصوص من الاتساع والتنوع إلى حد أنها تسمح بكل هذه الاتجاهات والعقائد والنظريات، أو كما يقول الشاعر: «وكلهم لرسول الله منتسب.» وعادة ما يكون الفكر «الصحيح» هو فكر السلطة في مقابل الفكر «الضال» وهو فكر المعارضة. أو ينقلب الحال فيكون فكر المعارضة هو الفكر «الصحيح» وفكر السلطة هو الفكر «الضال»، وذلك لتقويض السلطة والإحلال محلها، فهو إذن سلاح ذو حدين. وغالبًا ما يصبح الفكر «الضال» بعد أن يصل إلى السلطة هو الفكر «الصحيح»، ويصبح الفكر «الصحيح» للسلطة بعد أن ينهار النظام هو الفكر «الضال». فكلمة «الصحيح» إذن تقوية للذات واتهام للغير، دفاع عن النفس ودرء لأخطار الغير، ويكون المِحَك في النهاية ليس إلى «الصحة النظرية» أو «الخطأ النظري»، بل لمن بيده الأمر ولمن تكون السلطة، ولمن يكون الحكم. وتاريخ البلاد النامية وانقلاباتها المتكررة شاهد على ذلك.

ويؤيد ذلك ما يُعرف في العلوم الإنسانية باسم «نظرية التفسير»، سواء تفسير النصوص أو تفسير الظواهر، وهي جزء من نظرية الفهم أو المعرفة بوجه عام. فلا يوجد معنًى موضوعي للنص مستقل عن القارئ، أو الفاهم، يدركه الجميع في حياد تام وبموضوعية كاملة، فهذا ادعاء وغرور إنساني، وعَود إلى اعتبار فهمي الخاص هو «الموضوعي» وفهم الآخرين هو «الذاتي»، وبالتالي يكون فهمي هو «الصحيح» وفهمه هو «الباطل». فما دام النص مكتوبًا في لغة طابعها الاشتباه على فرض صحة النقل والرواية، وما دام الإنسان محدودًا بظروفه النفسية والاجتماعية والتاريخية، فإن تأويل النص يكون ضروريًّا للفهم. والتأويل ذاته إنما يعكس ظروف الإنسان ووضعه الاجتماعي عن طريق إسقاطها على النص، فيظن الإنسان أنه فهم النص «الموضوعي» في حين أنه قرأ نفسه في الحقيقة، وعبَّر عن احتياجاته وفهم ما توهم أنه هو فقط الفهم «الصحيح». ويحدث الفهم «الصحيح» عندما يتطابق الموقفان الحيان: الموقف الأول الذي خرج منه النص، والموقف الثاني الذي يوجد فيه الإنسان. هذا التطابق بين الماضي والحاضر هو الذي يجعل الفهم ممكنًا. وبالتالي كان فهم النص هو مجرد قراءة الحاضر في الماضي أو التعرف على الماضي في الحاضر. فالحاضر هو الذي يعطي الماضي معناه. وإنما يرجع الخلاف في التفسير أساسًا إلى خلاف في المواقف الحاضرة النفسية والاجتماعية والسياسية والتاريخية.

ولما كان سلاح العقائد في المجتمعات التقليدية من أمضى الأسلحة ومن أقوى العوامل في الحراك الاجتماعي، فإنه سرعان ما يتم استخدامه من كافة القوى الاجتماعية والسياسية، كلٌّ منها يُسقط أهدافه على النص ويقرؤها فيه. فالخلاف في التفسير هو في حقيقة الأمر صراع بين القوى الاجتماعية والسياسية، ولا يوجد واحد منها «صحيح» والبقية «باطل»، إلا لهذا الذي يحسم الصراع لحسابه ويستولي على السلطة فيعم تفسيره، ويفرز اتجاهه، ويسود المذهب الرسمي للدولة في مقابل الاتجاهات الأخرى التي تصبح من قوى المعارضة المناهضة للسلطة. ويشهد على ذلك التاريخ القديم والحديث للفرق الدينية، فقد سادت «الأشعرية» كمذهب رسمي للدولة «السنية» في مقابل فرق الخوارج والشيعة أساسًا، والمعتزلة بدرجة أقل، بعد أن حُسم الصراع بين الدولة الأموية من ناحية والشيعة والخوارج من ناحية أخرى لصالح الأمويين، وانتهت المعارضة من الخارج، ثم حسم الصراع من جديد بين الدولة الأموية وأوائل المعتزلة لصالح الأمويين، وانتهت المعارضة من الداخل.

ويتكرر التاريخ بالنسبة للصراع بين الدولة العلمانية القائمة التي تقوم على الشرعية، وبين قوى المعارضة الإسلامية الممثلة في الإخوان المسلمين أولًا ثم في الجماعات الإسلامية ثانيًا، حزب التحرير الإسلامي، التكفير والهجرة، جماعة الجهاد … إلخ.

ومن التاريخ القديم يمكن إعطاء الأمثلة الآتية:
  • (١)
    بعد انتصار الدولة الأموية ابتداءً من «يزيد» واستقرارها، بدأت تفرز عقائدها ضد معارضيها من الشيعة والخوارج أولًا ثم من المعتزلة ثانيًا. تصور علماؤها التوحيد على أنه أساسًا الإيمان بإلَهٍ قادر قدرة مطلقة، وأنه يخلق الأشياء من عدم بالقدرة، وأنه يسيطر على الطبيعة بالإرادة، وأنه موجود في كل مكان، يرى ويسمع كل شيء، لا يقف أمامه قانون، ولا يستطيع أحد أن يعارضه، كل شيء بمشيئته وبإذنه.٢

    وكان الهدف من هذا التصور هو إعادة البناء النفسي لجماعات المعارضة القائدة لجماهير المسلمين على الخوف من هذه القدرة المطلقة والإرادة النافذة، والتي تتوحد السلطة السياسية بها، وتنفذ إلى قلوب الجماهير من خلالها، فتحثها على الطاعة والتسليم والرضا بالمشيئة، والتي يصعب بعدها التمييز بين مشيئة الله ومشيئة السلطان. في حين أفرزت قوى المعارضة الداخلية من المعتزلة تصورًا آخر يقوي في النفوس المعارضة والاستمرار في المطالبة بالشرعية في نظام الدولة، وهو التصور الذي يجعل من التوحيد الإيمان بالله كمبدأ عام شامل، يتصف بصفات عامة وشاملة مثل «العدل» حتى يمكن به القضاء على تسلط الأمويين وتكبرهم واعتلائهم رقاب الناس، وأمام هذا المبدأ يتساوى الجميع ويعقله كل الناس.

  • (٢)

    كما أفرزت الدولة القائمة على اللاشرعية عقيدة القضاء والقدر، وأن الإنسان ليس له الخِيرة من أمره، وأنه كالريشة في مهب الريح، وأنه كالجثة الهامدة يقلبه الله كيف يشاء، وأنه لا يستطيع من أمره شيئًا، لا في حياته ولا في مماته. ثم خُففت العقيدة بأخرى أكثر ذكاءً لاحتواء المعارضة، وهي عقيدة «الكسب» الأشعرية التي تعطي للإنسان قدرة على الفعل، ولكنها مشروطة بتدخل الإرادة الإلهية حتى يمكن للفعل أن يتم في لحظة إتيان الفعل، ولكن ليس للإنسان قدرة قبل الفعل أو بعد الفعل على أن يُتمه بنفسه، ومن ثم فهو غير مسئول عن شيء، وما لم تتدخل الإرادة الإلهية في فعله، ويتعلق هو بها كتعلق الراكب بالمركبة، فإنه لن يقدر على فعل شيء. وفي مواجهة هذه العقيدة أكدت قوى المعارضة الداخلية (المعتزلة) والخارجية (الخوارج) على حرية الإنسان، وقدرته على الفعل قبل الفعل وأثناء الفعل وبعد الفعل، كما أثبتت مسئوليته عن أفعاله الداخلية منها (مثل الهداية والتوفيق) أو الخارجية أي أفعال الشعور وأفعال الجوارح.

  • (٣)

    وأكدت الدولة القائمة دور الوحي والنبوة، وطعنت في قدرة الفعل على الاستقلال بالرأي، وأنه في حاجة إلى وحي عليه من النبي، فالنقل أساس العقل. ولما كانت سلطة التأويل للنقل ترجع إلى الدولة، نتج عن ذلك تبعية العقل للنظام القائم، وبالتالي تُمحى حرية التفكير. في حين أكدت قوى المعارضة العقيدة المضادة من أن العقل أساس النقل، وأن العقل قادر على الاستقلال بالرأي، والتمييز بين الحسن والقبيح، وإدراك الغائية في الكون، وأن الحسن والقبيح موضوعيان في الأفعال والأشياء، وليسا مرتبطين بإرادة خارجية، إرادة الله أو إرادة السلطان، وبالتالي يمكن دفع الوصايا عن الإنسان والدفاع عن استقلال عقله وحرية إرادته.

  • (٤)

    كما أفرزت الدولة عقيدة أن هذا العالم لا يحكمه قانون ثابت، وأن قوانين الطبيعة لا تقوى على شيء أمام إرادة الله المطلقة بدليل المعجزات، وأن الشمس قد تشرق من المغرب وتغرب من المشرق بإذن الله، وأن الحجر قد لا يسقط ويظل معلقًا في الفضاء بإذن الله، وأن السهم قد لا يصيب الرمية ويظل معلقًا في الهواء بإذن الله. وكما لا يوجد قانون ثابت في الدنيا كذلك لا يوجد قانون ثابت في الآخرة. فقد يعاقب الله المحسن، ويثيب المذنب، وقد يدخل المؤمن في النار، والكافر في الجنة. في حين أكدت قوى المعارضة قوانين الطبيعة الثابتة، وأنه لا تحدث معجزات إلا طبقًا لقوانين طبيعية أخرى ثابتة لا نعلمها حتى الآن، وأن هذا العالم يسير طبقًا لقانون، وأن العالم الآخر أيضًا يسير طبقًا لقانون، فيُثاب المحسن، ويُعاقب المذنب، ويدخل المؤمن الجنة والكافر النار، وأننا نعيش في عالم يحكمه قانون. وبالتالي يرتبط الحاكم بالمحكوم برباط القانون وليس برباط مشيئة الحاكم المطلقة، وحقه المطلق على المحكوم.

  • (٥)

    ثم نشرت الدولة عقيدة «الإرجاء» على لسان أهل السنة المرجئة وجعلت المسلم بشهادتيه بلسانه حتى ولو أضمر الكفر، ويُرجأ الحكم على أعماله حتى يوم القيامة فالعمل ليس جزءًا من الإيمان بل خارج عنه. كل من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أصبح جزءًا من الأمة الإسلامية. وبالتالي يمكن التغاضي عن عمل الحكام حتى تسقط حجة الشرعية، وأنه لا فرق بين يزيد بن معاوية والحسين بن علي، فالله يتولاهما يوم القيامة. في حين جعلت المعارضةُ، خاصةً الخارجيةَ، العملَ جزءًا لا يتجزأ عن الإيمان، وأن من لا عمل له لا إيمان له. والعمل وحده مقياس الإيمان حتى يمكن الحكم على الحكام طبقًا لأعمالهم وليس طبقًا لأقوالهم.

  • (٦)
    وقد أصدرت الدولة حكمًا شرعيًّا من فقهاء أهل السنة بطاعة أولي الأمر، طبقًا للآية المشهورة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (النساء: ٥٩)، ما دام النظام قد استتب، وملكت الدولة أسباب القوى والمنعة، وأصبح أمل المعارضة ضعيفًا في الوصول إلى الحكم، فالاعتراف بالأمر الواقع هو الأجدى من التمسك بالشرعية النظرية (مالك بن أنس). في حين أصرت المعارضة على الشرعية في صور مختلفة ضد حجة الأمر الواقع، فاستمر الخوارج في قتال أئمة الكفر، وجعل المعتزلة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» أصلًا من أصول الدين حتى تستمر الأمة في مواجهة الحكام، وفصلوا في «عزل» الإمام قدر تفصيلهم في «تنصيب» الإمام.٣

هذه أمثلة من تاريخ الفرق الذي تعلمه الجماعات الإسلامية جيدًا، مما يجعلها استمرارًا للخلاف القديم مع تغيير الظروف السياسية والاجتماعية من حيث الوقائع، وإن لم تتغير الأساليب. فالدولة القائمة لا شرعية لأنها لا تحكم بالكتاب والسنة، ولأن النظام الحالي أتى نتيجة انقلاب عسكري ورث النظام العلماني القديم قبل ١٩٥٢م الذي أتى نتيجة للانفصال عن الخلافة الإسلامية وتمزيقًا لها. وإن عقائد الجماعات الإسلامية لتمثل قوى المعارضة في مواجهة عقائد الدولة التي تمثل النظام المستتب وتفرز المذهب السائد القديم، الأشعري، بالاعتماد على فقهائها الجدد، مشايخ الأزهر، ويدل على ذلك الأمثلة الآتية:

  • (١)

    تتمسك الجماعات الإسلامية الحالية بفكر فقهاء أهل السلف الذين قاوموا فقهاء السلطان، مثل ابن حنبل وابن تيمية، والذين انتهَوا إلى السجون ولاقَوا شتى أصناف التعذيب. ففقهاء السلف هم الحارسون للشرع، المدافعون عن مصالح الأمة، المتصَدُّون للحكام، لم يكن نموذجهم من الفلاسفة أو المتكلمين أو فقهاء «الحيض والنفاس» أو الصوفية، بل كان علماء الأمة على مدى التاريخ من الفقهاء والمصلحين من السلف والخلف منذ أحمد بن حنبل حتى سيد قطب. فقد تمثلوا فكر المعارضة في مواجهة فكر الدولة.

  • (٢)

    قرأت الجماعات الإسلامية نفسها في التاريخ، ووجدت في «مجموعة فتاوي ابن تيمية» خير معبر عن حاضرها. فقد كان حكم التتار إسلاميًّا في مظهره لا إسلاميًّا في جوهره «يحكمون بشريعة ملفقة من الديانات السابقة اليهودية والمسيحية والوثنية ومن الشريعة الإسلامية». وقد أفتى ابن تيمية بكفرهم ووجوب قتالهم. وهو نفس الحال اليوم، وحكام اليوم الذين لا يحكمون بالشريعة وإن كانوا يحرصون على مظاهر الإسلام، مثل الشهادتين، والشعائر، وبناء المساجد، فتتار الأمس مثل مسلمي اليوم، وحكام اليوم مثل جنكيز خان!

  • (٣)

    ظهرت فكرة «الحاكمية» تأكيدًا للشرعية في مواجهة النظم اللاشرعية القائمة كما كان الحال بين الحسين ويزيد، والخوارج والشيعة في مواجهة الدولة الأموية. فالحاكمية تمثل سلاح المعارضة العقائدي في مواجهة النظام القائم، وتقوضه من أساسه لأنه لا يحكم بشرع الله.

  • (٤)
    ورفض الموالاة للكفار والمشركين والصليبيين إنما جاء نظرًا لأن النظام القائم قد والاهم على حساب المؤمنين، فاعترف بالصهيونية، وحالف الصليبية، وعادى المسلمين، وهو محرم بنصوص القرآن والحديث التي تحرم الموالاة مثل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (المائدة: ٥١). وإبراز التعارض بين المؤمنين والكفار، بين الإسلام والجاهلية إنما جاء نتيجة لتمييع الأمور، والقضاء على الهُوية الوطنية.
  • (٥)

    إن اعتبار القلة المؤمنة هي القادرة على تغيير النظام إنما جاء نتيجة للأوضاع القائمة التي تعتمد على الكَمِّ دون الكيف، ولكنه كَمٌّ كغثاء السيل، وقد كان ذلك سبب هزيمة المسلمين بحفنة من اليهود. والقرآن ينص على الكيف في مواجهة الكم، فالقلة المؤمنة خير من الكثرة الكافرة.

  • (٦)

    وإذا كان الأمل يعود في قلوب المسلمين بفضل الجماعة الإسلامية من أجل إعادة الدولة الإسلامية، طبقًا لحركة التاريخ ونبوءات الرسول، فإنما ذلك كرد فعل على هزائم المسلمين ورُوح اليأس والاستسلام أمام أعداء الأمة.

    لا يوجد إذن فكر صحيح وفكر خاطئ، بل يوجد فكر في ميدان الصراع بين القوى الاجتماعية والسياسية المتعارضة، ومدى تعبير كلٍّ منها عن الشرعية.

ما معنى ومدى إمكانية تطبيق الشريعة الإسلامية؟

«تطبيق الشريعة الإسلامية» شعار ينادي به فريقان: الأول الدولة القائمة، والثاني الجماعة الإسلامية المعارضة، شعار يرفعه الحاكم، وشعار يرفعه المحكوم. وعند كل فريق له معنًى معين، واستخدام خاص، وهدف يرمي إليه، كلٌّ طبقًا لموقفه من الحكم، الأول: لتدعيم شرعيته والثاني: لانتزاع هذه الشرعية وتقويضها. وقد رُفع هذا الشعار في الآونة الأخيرة من جانب النظام على النحو الآتي:
  • (١)

    احتياج النظام القائم إلى مزيد من الشرعية بعد أن قل رصيدها التاريخي من الشرعية الثورية كما كان الحال في الستينيات، وبعد صراع على السلطة وإقصاء أحد أجنحتها الذي كان يمثل هذه الاستمرارية التاريخية، وبعد اشتداد المعارضة السياسية أولًا والدينية ثانيًا ضد سياسات النظام. ولما كانت الشرعية الرئيسية في البلاد للدين وللشريعة الإسلامية، فقد لجأ النظام لهذه الشرعية الدينية في وجدان الناس لتدعيم شرعيته السياسية الخاصة ونظامه في الحكم بإعلان التزامه بها.

  • (٢)
    المزايدة على المعارضة الدينية الممثلة في الجماعات الإسلامية، والإسراع برفع شعارها حتى لا يكون لها مبرر لوجودها، وحتى لا تستجيب الجماهير لندائها ما دامت الدولة قائمة على تنفيذ هذا المطلب بما لها من قوة وسلطان ومجالس تشريعية ولجان وبنود في الدستور، وتصريحات للقادة، خاصة إذا كان سلوك رئيس الدولة ومظاهره كلها إسلامية.٤
  • (٣)

    تبرئة الذمة، ذمة الحكام، أمام الناس، بأنهم مخلصون للإسلام، ويسعَون لتطبيق الشريعة حتى يُمحى مبرر وجود أية حركة إسلامية تنادي بهذا المطلب، خاصة وأن الحكام يعلمون مدى التخلف في الوعي السياسي للناس، فتقتنع بأن الحكام قد أدَّوا واجبهم وأن البقية على الله! وقد تكون تبرئة الذمة أمام الله أيضًا، فقد قام الحكام بمحاولة تطبيق الشريعة ولكن الواقع كان أقوى منهم، وإنما الأعمال بالنيات، وكأن الله يخفى عليه ما لا ترى الأعين وما تكن الصدور!

  • (٤)

    البعد عن الجانب السياسي والاجتماعي في الشريعة الإسلامية دفاعًا لاشعوريًّا وأحيانًا شعوريًّا عن النظام القائم، واللجوء إلى قانون الأحوال الشخصية فتصول فيه الدولة وتجول، وتقيم المعارك، وتعقد الندوات، وتستفتي الكبار، وتدخل فيه الجمعيات النسائية، وتكثر حوله الأفلام، ما دام الأمر لا يتعدى نطاق الزواج والطلاق، وتعدد الزوجات، والحضانة وملكية الشقة، ومقدار المهر والصداق.

    أما النظام الإسلامي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، نظريته في الملكية، وفي الأجور وفي الزراعة وفي الصناعة، نظريته في الشورى والبيعة، نظريته في وجوب خلع الحكام والخروج عليهم، نظريته في استقلال القضاء وعدم جواز عزل القاضي، نظريته في الحسبة والرقابة على الأسواق، نظريته في بيت المال والخراج، نظريته في تحرير أراضي المسلمين وجهاد الكفار والمعتدين … كل ذلك غير مقصود بتطبيق الشريعة الإسلامية!

  • (٥)

    انتقاء الحدود والدعوة إلى تطبيقها، وكأن الشريعة الإسلامية لا تحتوي إلا على العقوبات والردع والاقتصاص، والقتل، والرجم، والجلد، والتعذيب! وكأن القصد هو إرهاب الناس وتخويفهم من الشريعة الإسلامية وليس تطبيقها! أما إعطاء حقوق الناس قبل مطالبتهم بواجباتهم، وإيجاد عمل للعاطل وقوت للفقير قبل قطع يد السارق، ومنع الإثارات الجنسية في الصحف وأجهزة الإعلام وتوفير سبل استقرار الحياة الزوجية قبل رجم الزاني، فكل ذلك غير وارد! وكأن الغاية من تطبيق الشريعة هو عقاب الناس والقِصاص منهم! أما قطع يد الحاكم إذا سرق، ورجم الشريف إذا زنا فذلك أيضًا غير وارد لأن تطبيق الحدود موجه ضد الأغلبية أولًا دون الأقلية، وأن تحريم شرب الخمر على المصريين المسلمين وليس على الأجانب السياح بما فيهم العرب المسلمون تنشيطًا للسياحة! وأن قتل المرتد إذا أعلن كفره وامتنع عن الصلاة وأداء الشعائر مثل ما تفعل المعارضة السياسية الملحدة!

  • (٦)

    الغاية إذن من رفع هذا الشعار «تطبيق الشريعة الإسلامية» هو الحد من التغير الاجتماعي، وإيقاف عملية التطور الطبيعي للمجتمعات، والدفاع عن النظام القائم وإرهاب الناس، والمزايدة على الجماعات الإسلامية، والتغطية على المشاكل الاجتماعية والسياسية الجوهرية والتستر عليها والابتعاد عنها لأنها حِكر على السلطة تقرر فيها ما تشاء، أو لأنها سياسة صرفة، ولا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، أو لأنها من عند الله الحاكم فيها بما يشاء! يُستخدم هذا الشعار في معرِض «النفاق» الديني مما يسبب غضب الجماعات الإسلامية وثورتها على من يتمسح بالدين لضرب الدين.

    ولما كانت المجتمعات الإسلامية كلها حكامًا ومحكومين تمر بمرحلة من التخلف، نظرًا لطبيعة المرحلة التي تمر بها بعد ألف عام من سيادة الأشعرية الممزوجة بالتصوف، منذ هجوم الغزالي على العلوم العقلية والدعوة للتصوف كطريق للخلاص، حتى الدولة العثمانية وقبيل الإصلاح الديني الأخير، فإن «تطبيق الشريعة الإسلامية» يعني عند الجماعات الإسلامية المعارضة نفس المعنى الذي يعنيه عند الحكام بهدف سياسي آخر وهو تقويض النظام، لما كانت الدولة تحكم بالقانون الوضعي وليس بالشريعة الإسلامية، بالرغم مما تضعه الدولة في دساتيرها وقوانينها ومؤسساتها من مظاهر للنفاق الديني. ونظرًا لنقصٍ في وعيها السياسي والاجتماعي فإن تطبيق الشريعة الإسلامية ظل أيضًا مجرد تعبير عن الحاكمية استنباطًا من مبدأ عام دون أن يقدم برنامجًا اجتماعيًّا سياسيًّا محددًا لمعرفة مدى اتفاقه واختلافه مع برامج الاتجاهات والقوى والأحزاب الأخرى. مما يدل على أن هذا الشعار ما زال موجهًا أساسًا ضد النظام القائم كمِعول لتقويض كيان الدولة. أي أن جانبه الهدمي أكبر بكثير من جانبه البنائي، وأن الرفض والمعارضة فيه أقوى من الوضع والإثبات.

ومع ذلك فإن تطبيق «الشريعة الإسلامية» الذي لا تفرضه الجماعات الإسلامية لأنه يحقق شعارها بوعي سياسي حاضر ودون رغبة في تقويض نظام الدولة القائم أو الثأر منها، والذي لا تفرضه الدولة القائمة لأنه لا ينافسها في السلطة، ولا يبغي القضاء عليها بل يساعدها على تكوين مشروع قومي لها يحمي الشباب، ويجدد طاقاته، ويكون عونًا لها لا خارجًا عليها، هذا التطبيق يجمع بين مبادئ الإسلام ومتطلبات الثورة، ويصوغ الإسلام من خلال رُوح العصر ومطالب الجماعة ومصلحة الأمة، ويعني الآتي:
  • (١)
    تأسيس مجتمع يقوم على الحرية والديمقراطية تنفيذًا لقول الله لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ وتأكيدًا على مبادئ الإسلام في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، ووظيفة «الحسبة» وهو ما يعني بلغة العصر ضرورة المعارضة السياسية، وحرية الصحافة، وضرورة الرقابة على مؤسسات الدولة، وانتخاب مجالس نيابية، والتزام الحاكم بإرادة الأمة ومصلحة الشعب. فأي قهر للحريات وأي منع للرأي، وأي تكفير لاجتهاد يخرج عن الحكم الإسلامي.
  • (٢)

    تحقيق نظام اجتماعي يقوم على أكبر قدر ممكن من العدالة والمساواة. فمشكلة المسلمين الثانية، بعد مشكلة القهر والتسلط والطغيان، هي مشكلة الفقر والجوع والحرمان وسوء التغذية، حتى يُضرب بمجتمعاتهم المثل في الفقر والغنى في آنٍ واحد، فقر الأغلبية وهلاكها من الجوع والقحط وغَناء الأقلية وبطانتهم وتكديسهم الأموال في البنوك الأجنبية. فالمال مال الله على ما هو معروف في نظرية «الاستخلاف» أودعه كوديعة بين أيدي الإنسان، له حق التصرف، والاستثمار، والانتفاع، ولكن ليس له حق الاستغلال أو الاحتكار أو الاكتناز. وما تعم به البلوى ويمس صالح المسلمين يكون مشاعًا بين الناس، ويوجه لصالح الأمة مثل الماء والكلأ (أي الزراعة) والنار (أي الصناعة). أما التجارة فكما يقول ابن خلدون لا تزيد إنتاجًا، ومن يعيش عليها يكون طُفَيْليًّا على المجتمع. لا يسمح الإسلام بنظام اجتماعي يقوم على التفاوت بين الطبقات، فالمجتمع الواحد الذي فيه إنسان واحد جائع تبرأ ذمة الله منه.

  • (٣)

    توجيه الأمة كلها إلى الوقوف في مواجهة أعدائها، الاستعمار والصهيونية، فقد أخذ الاستعمار أشكالًا متعددة منذ الحروب الصليبية حتى أشكال الأحلاف العسكرية والتسهيلات والمعونات الحالية. والصهيونية ما زالت تحتل أراضي المسلمين بالتعاون مع الاستعمار. وبالتالي تكون المواجهة بين الحق والباطل، بين العدل والظلم، بين الإيمان والكفر، بين الإسلام والجاهلية. ويتحول هذا التقابل في الوعي الإسلامي المعاصر إلى وجهته الصحيحة ضد الأعداء في الخارج بدل أن يتوجه نحو قسمة المجتمع في الداخل إلى قسمين وشق الجبهة الوطنية، وإحداث الفتن، وضياع الشوكة.

  • (٤)

    تجنيد الجماهير لتحقيق هذا المشروع بدل التسيب والتميع والسعي وراء الدنيا وحظوظها، أو الهجرة وترك البلاد، وبالتالي يكون للجهاد معنًى، ويتحقق كفريضة كما تنادي به الجماعة الإسلامية، وتُجنَّد طاقات الشباب، ويتدرب على القتال للذود عن البيضة، وحماية الديار، وتقوية الثغور، وحراسة الحدود، وتشييد الحصون، وتكوين الكتائب وإرسال السرايا، والنداء للجهاد، وطلب الشهادة.

  • (٥)
    توحيد الأمة بعد أن تقطعت أوصالها، وتمزقت إرْبًا إرْبًا حتى يسهل ابتلاعها من أعدائها إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (الأنبياء: ٩٢). وبالتالي تتحقق الوحدة بين مشروع الأمة القومي في قيام الوحدة بين شعوب المنطقة وبين مطلب الجماعة في توحيد الأمة الإسلامية، ويتوحد مطلب الواقع ومطلب المبدأ، فلا خلاف بين القومية والإسلام، فالوحدة القومية إحدى مراحل الوحدة الإسلامية الشاملة.
  • (٦)
    الدفاع عن استقلال الأمة وحيادها وعدم انحيازها شرقًا أو غربًا، فالشرق والغرب كلاهما يريد نهب ثروات المسلمين واحتلال أراضيهم، والقضاء على هُويتهم، ومحو تاريخهم، وبالتالي يتحقق مطلب الدولة في عدم الانحياز ويتحقق مطلب الجماعة الإسلامية في مواجهة الأمة لأعدائها «لا شرقية ولا غربية» وقد كانت الحركة الإسلامية أول من اكتشف فكرة الآسيوية الأفريقية وعدم الانحياز.٥
    وعلى هذا النحو يصبح شعار «تطبيق الشريعة الإسلامية» ممكن التطبيق لا خلاف عليه بين الدولة أو أي نظام قائم وبين الجماعة الإسلامية الحالية أو أية دعوة إسلامية في المستقبل.٦

ما هي العوامل التي أدت إلى ظهور الجماعات الدينية «المتطرفة»؟

إن الحكم «بالتطرف» على الجماعات الإسلامية هو حكم مسبق أو حكم قيمة يحتوي على الرغبة في إدانة المعارضة لصالح النظام السياسي القائم. فالتطرف هنا يعني الخروج على النظام لما كانت طاعة النظام هي مقياس السلوك الاجتماعي الرشيد! وأحيانًا يكون التطرف رد فعل على تطرف آخر، فالتطرف في الجهاد رد فعل على التمايع والمصالحة والتسليم بأهداف الأعداء، والتطرف لصالح الفقراء رد فعل على نهب الأغنياء، واستعمال العنف رد فعل على عنف مضاد تقوم به الدولة بأجهزتها القمعية أو بسيطرتها على وسائل الإعلام فتمنع الحوار، وتقهر الرأي المعارض فلا يجد وسيلة أخرى للتعبير عن نفسه إلا تغيير الوضع بالقوة.

ومع ذلك يمكن رصد بعض العوامل التي أدت إلى ظهور الجماعات الإسلامية على النحو التالي:
  • (١)

    إن المُطَّلع على تاريخ الإسلام ويكون في نفس الوقت غيورًا عليه، ويكون شابًّا طاهرًا لم تُغرِه مطامع الدنيا، بفكرها وممارستها الحالية، ولم تُفسده أوضاع المجتمع، لَيحزن أشد الحزن، ويشعر بالمرارة والأسى إذا ما قارن الماضي بالحاضر، ماضي الإسلام التليد، وحضارته الزاهرة، ومجده وآثاره وفتوحاته وانتصاراته، إذا ما قارن ذلك كله بأوضاع المسلمين اليوم، بهزائمهم وتخلفهم، بضياع دولتهم وشوكتهم، بنظمهم التسلطية القائمة على القهر والطغيان، وبأوضاعهم الاجتماعية المزرية، وبتقدم غيرهم من الشعوب التي كانت تتعلم من المسلمين بالأمس فأصبحوا سادة لهم اليوم يتعلم المسلمون منهم، وينسَون دينهم. هذه القراءة المتطهرة للتاريخ هي التي دفعت أعضاء الجماعة الإسلامية إلى الانضمام إلى أية دعوة تهدف إلى العودة إلى عزة الإسلام، ونصرة المسلمين، وتتجاوز أحداث العصر، وتنهي عصر الانهيار والانحطاط، وتعيد إلى الإسلام مكانته ودولته، تحقيقًا لنبوءة الرسول أنه لا يصلح آخرُ هذه الأمة إلا بما صلح به أولُها. وكلما ازدادت الأزمات، وتوالت الهزائم زاد الارتباط بالإسلام كمنقذ وحيد للمسلمين والشاهد في التاريخ والآثار. فلو اتبع الخلَف آثار السلف لنهض من جديد، وقام من كبوته. هذا الإحساس بدورة التاريخ هو الأساس الوجداني الذي تقوم عليه الصحوة الإسلامية في قلوب الناس، والتي منها تتبلور الجماعات الإسلامية وتأخذ أشكالها الحالية التي تفرضها الظروف الوقتية في الماضي القريب.

  • (٢)
    ولقد قام الإصلاح الديني من نفس الدافع ولنفس الهدف. وبدأ بداية طيبة منذ الأفغاني الذي حدد مشروع نهضة المسلمين وشروط قيام دولتهم بمواجهة الاستعمار في الخارج والتسلط في الداخل، والدعوة إلى وحدة الأمة، وجاهد لتحقيق ذلك المشروع، وقامت حركات وطنية في كل أرجاء العالم الإسلامي، وأسس في مصر الحزب الوطني، وقامت الثورة العرابية على مبادئه، ودبت الحياة في الأمة الإسلامية من جديد. ولكن الإصلاح الديني هبط إلى النصف عند محمد عبده بإيثاره الوطنية الضيقة على الجامعة الإسلامية الشاملة، وبتفضيله مناهج التربية والتعليم الطويلة المدى على مناهج الانقلابات السياسية وتغيير السلطة القصيرة المدى، وبتراجعه عن الثورة العرابية وتعاونه مع أعدائها في الداخل وفي الخارج بعد أن انضم إليها وشارك فيها، وتفرقته بين الدين والسياسة في قوله المشهور: «لعن الله ساس ويسوس»! ثم هبط إلى النصف مرة أخرى على يد رشيد رضا، ووضع واقع المسلمين كله في القرآن في تفسير المنار، بدلًا من أن يضع واقع القرآن في واقع المسلمين فتتفجر الثورة، وتحول الإصلاح على يديه إلى سلفية وقل ارتباطها بحياة الناس اليومية. وعاد الإصلاح من جديد يأخذ٧ دورة جديدة على يد حسن البنا تلميذ رشيد رضا في دار العلوم من أجل إعادة إصدار المنار. ولكن الصحوة الإصلاحية الجديدة ظهرت في حركة «الإخوان المسلمين» عقائد واضحة بسيطة، وإسلام كلي شامل، وتنظيم جماهيري فعال، وتدريب وإعداد لجند الإسلام. واستطاعت الحركة الجديدة أن تفرض نفسها على الساحة الوطنية المصرية في الأربعينيات وفي أوائل الخمسينيات، وكانت أحد روافد الضباط الأحرار، وقبل الثورة في ١٩٥٢م كانت قاب قوسين أو أدنى من النصر لولا جماهيرية الوفد وشعبيته الكاسحة في انتخابات ١٩٥١م. فالجماعات الإسلامية، وليد الإخوان المسلمين، استمرار لهذه الصحوة الإسلامية ولكن من خلال الصيغ والأشكال التي فرضتها الظروف.
  • (٣)
    ولكن بعد اضطهاد الإخوان إبان الثورة المصرية (١٩٥٢–١٩٧١م) وحدوث أبشع صدام بين أنجح تنظيم سياسي حديث عقد آمال الأمة عليه وأنجح تنظيم عسكري تحققت الثورة عليه في مارس ١٩٥٤م ظهر الإسلام والثورة نقيضين، وتحول الإسلام إلى داخل السجون، يلاقي أعضاؤه أبشع أنواع التعذيب البدني والمعنوي، فنشأ ثأر مبدئي بين الإسلام والثورة، وظهر الإسلام معاديًا للثورة، والثورة معادية للإسلام بصرف النظر عن أدبيات الدِّعاية حول الاشتراكية في الإسلام التي كثرت في الستينيات، وتحول داعية الإسلام الأول، وأكبر مفكر شهده العالم الإسلامي منذ أبي الأعلى المودودي، وهو الإمام الشهيد سيد قطب، تحول من «العدالة الاجتماعية في الإسلام» ومن «معركة الإسلام والرأسمالية» ومن «السلام العالمي والإسلام» حيث كان قد بدأ في صياغة الإسلام الثوري أو الثورة الإسلامية كملتقى لكافة الاتجاهات الوطنية، وكبوتقة للحركة الوطنية المصرية في أواخر الأربعينيات، تحول ذلك كله إلى «معالم في الطريق»، وقسمة العالم إلى أبيض وأسود، والناس إلى مؤمنين وكافرين، والمجتمع إلى إسلام وجاهلية، تعبيرًا عن «سيكولوجية الاضطهاد» وأنه لا سبيل إلى اللقاء أو التعاون أو التوسط بين الطرفين، وأنه لا بقاء لأحدهما إلا بفناء الآخر، وأن الحاكمية لله وليست للبشر، وأن لا إله إلا الله تحرير لوجدان البشر من رق الطاغوت، وأن المنوط بتحقيق هذه المُثل هم القلة المؤمنة، الجيل القرآني الجديد، الصفوة المختارة.٨ وفي داخل السجون وعلى البُرش تكونت الجماعات الإسلامية من نقاش حول مصير الإخوان وأسباب محنتهم واضطهادهم، واستحالة التعاون مع الدولة الكافرة أو نظم الحكم التي لا تقبل تطبيق شرع الله. فلولا اضطهاد الإخوان، ولولا توقف نشاطها لما خرجت الجماعات الإسلامية شاردة على الحركة الإسلامية وتعبر عن ظروف اضطهادها.
  • (٤)

    ولما احتاجت الدولة إلى الشرعية، واحتاج النظام الجديد في مايو ١٩٧١م إلى نوع من التأييد الشعبي، خاصة وأنه لم يكن له رصيد تاريخي كما كان للنظام في الستينيات، اعتمدت على أعداء النظام السابق، أي الإخوان المسلمين وشكلهم الجديد الذي تكون داخل جدران السجون أي الجماعات الإسلامية. وكلما كشف النظام الجديد عن مرحلة من مراحل الردة عن النظام السابق ازداد اعتماده على ضحاياه تدعيمًا لأركانه ضد معارضيه من الطلاب آخر أجيال الناصرية في الجامعة. وحدث نوع من اتفاق المصالح بين الدولة والجماعات، الدولة تستخدم الجماعات لتصفية الجامعة من التكتلات والتنظيمات والأندية الناصرية والتقدمية بوجه عام، أي ضد خصومها السياسيين، والجماعات تستعمل الدولة وسلطانها تأكيدًا لسلطتها، وتقوية لنظامها، ونشرًا لدعوتها، وتأسيسها لجماعتها، فنشأت الجماعات بتدعيم من الدولة وعلى مرأى ومسمع منها.

  • (٥)

    استعمال الدولة للمحافظة الدينية، خاصة بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣م كدليل على النصر وأحد أسبابه، لما كان البعد عن الدين أحد أسباب هزيمة يونيو ١٩٦٧م. وظهرت الحمية الدينية في أجهزة الإعلام. وكثرت الشعائر والمظاهر، وإقامة الشعائر، وزيادة البرامج الدينية، وصفحات الفكر الديني. وصاغت الدولة أيديولوجية لها تعتمد في أساسها على الإيمان، وأطلقت شعار «العلم والإيمان»، وركزت على قيم الأصالة والصلابة، ودعت إلى احترام التقاليد، وسنت قانون العيب.

  • (٦)

    ولكن منذ معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في مارس ١٩٧٨م انتهى عصر الوفاق بين الدولة والجماعات الدينية وبدأ الخلاف. فقد أراد كل فريق أن يقوم بدوره الخاص، وتحقيق أهدافه الخاصة، استمرار الدولة استعمالها لتأييد سياساتها ضد خصومها السياسيين، واستمرار الجماعات في الحصول على تأييد الدولة. فقد أدت المعاهدة إلى إصرار المجتمع والقوى الوطنية في مصر على رفضها، سواء الليبراليون (الوفد) أو الناصريون أو الماركسيون أو الحركات الإسلامية. وكان هناك حد للتعاون بين الدولة والجماعات لا يصل إلى حد التعاون على التسليم بالصهيونية والوقوع في براثن الاستعمار وتحت مناطق النفوذ، وفي سياسة الأحلاف. واتفقت جميع قوى المعارضة على برنامج عملي واحد وهو رفض المعاهدة المصرية الإسرائيلية وما يتبعها من إجراءات التطبيع، ورفض التحالف مع الاستعمار، ورفض سياسة الانفتاح ونتائجها على الاقتصاد الوطني ومستوى الحياة الاجتماعية للأغلبية، ورفض جميع الإجراءات الاستثنائية المكبلة للحريات وجميع مظاهر الفساد والانحلال في الدولة ورفض عزلة مصر عن محيطها العربي والإسلامي. نشطت الجماعات الإسلامية كأحد فصائل المعارضة. ولما كانت أكثرها تنظيمًا وإقناعًا وقدرة على الفعل فقد حدث على يدها انفجار ٦ أكتوبر ١٩٨١م.

  • (٧)
    نهاية الأيديولوجيات العلمانية للتحديث مثل الليبرالية (قبل ١٩٥٢م) والاشتراكية العربية (بعد ١٩٥٢م) والماركسية وفشلها في إحداث تغييرات جذرية في تاريخ البلاد ونهضة شاملة تحمي الأمة. فقد تعاونت الليبرالية مع الغرب وأصبحت موالية له، ومن خلالها نشأ الإقطاع وازدهرت الرأسمالية، وتدخل القصر والاستعمار في الحياة النيابية. كما انتهت الاشتراكية العربية إلى مزيد من احتلال الأراضي، وتكوين طبقة جديدة، وتعذيب في السجون، واضطهاد للحركة الإسلامية، وقضاء على الحريات، وسيادة الانحلال والفساد. أما الماركسية فإنها مجتثة الجذور من تاريخ الأمة، تدين بالولاء للغير، ولا تجد لها رصيدًا في قلوب الناس. لم يبقَ إذن إلا الجناح الآخر، الحركة الإسلامية لما لها من رصيد تاريخي، وتعاطف شعبي، وإمكانيات تربوية وأخلاقية، وقدرة على التنظيم والمقاومة، وأهداف عليا. وبالتالي ظهرت الجماعات الإسلامية كبديل محتمل لنظام الحكم السابق، والأكثر احتمالًا من الليبرالية والقومية والماركسية. وبدأ الناس يتساءلون: لقد جربنا كل شيء فلماذا لا نجرب الإسلام هذه المرة، وهو ما نعرفه أكثر من غيره؟٩
  • (٨)
    كان لانتصار الثورة الإسلامية في إيران أثر غير مباشر على ثقة الحركات الإسلامية بقدرتها على الفعل. فقد حيت الجماعة الإسلامية الثورة الإسلامية في إيران ونشرت صور الخميني على غلاف مَجلاتها، وتظاهرت ضد قدوم الشاه إلى مصر، وحيت نضال المجاهدين في أفغانستان. وبالرغم من ضيق أفق الجماعات واعتبار أن الخلاف العقائدي بين الشيعة والسنة مانعٌ من التحالف الثوري، إلا أن نمط الثورة الإسلامية في إيران التعاون بين الجيش والشعب كان أحد نماذج الثورة الإسلامية المقبلة في مصر.١٠

ما هو العمل والحل؟

ليست الجماعات الإسلامية مرضًا خبيثًا يجب اجتثاثه، أو داء عُضالًا يجب القضاء عليه، أو ظاهرة مرضية تجب معالجتها، أو تنظيمًا إجراميًّا لا بد من تقديمه للمحاكمة وإنهائه داخل السجون والمعتقلات. فلو كانت هذه هي النظرة لاستمرت الجماعات ولقويت، ولازدادت شوكتها. والتاريخ القريب شاهد على ذلك منذ واقعة الاستيلاء على الفنية العسكرية على يد حزب التحرير الإسلامي في ١٩٧٤م إلى مقتل الشيخ الذهبي على يد جماعة التكفير والهجرة في يوليو ١٩٧٧م حتى اغتيال الرئيس السابق على يد جماعة الجهاد في أكتوبر ١٩٨١م. وفي كل مرة يزداد عدد المتهمين، ويتسع انتشار الجماعات. وليس الهدف هو القضاء عليها، ومنعها من الانتشار وانتشال أعضائها من الضلال وإرجاعهم إلى حظيرة المسلمين، وذلك بإرشاد رجال الدين الذين يقومون بواجبهم، وبحل مشاكل الشباب، وزيادة عدد الأندية الرياضية! فالجماعات الإسلامية ظاهرة صحية في مضمونها، وإن كان الشكل هو الذي فرضته الظروف، ظروف الحركة الإسلامية، خاصة إبان الثورة المصرية. وإن الحل الوحيد، فيما يبدو، هو إعادة النظر في العوامل التي ساعدت على نشأتها، ثم تحويل هذه العوامل نحو أشكال أكثر صحية وأكثر شرعية من الأشكال التي ظهرت فيها الجماعات حتى الآن.

ويمكن تحديد ذلك على النحو الآتي:
  • (١)
    ضرورة عودة الإخوان المسلمين كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة، والوريث الشرعي لحركة الإصلاح الديني، والباعث على نهضتها من جديد، والتي أحيت في قلوب المسلمين أمل الدولة الإسلامية وعزة الإسلام، ونصرة المسلمين. جهادهم التربوي من أجل إعداد الشباب معروف ومشهود، وجهادهم في فلسطين أثار إعجاب الجيش النظامي، وحربهم الإنجليز في قناة السويس في ١٩٥١م بالتعاون مع الضباط الأحرار كان فخرًا للحركة الوطنية المصرية. وتوطيد أواصر الصداقة والتعاون بين أرجاء العالم الإسلامي كان بداية الحركات الحالية للوحدة العربية وللجامعة الإسلامية.١١

    وقد كان الإخوان قاب قوسين أو أدنى من النصر قُبَيل الثورة المصرية وبعدها لولا حدوث الشقاق بين أعضاء مجلس قيادة الثورة، ووقوع الصراع على السلطة بين الثورة والإخوان، وحدوث أكبر مأساة في تاريخ مصر الحديث التي شقت الأمة إلى قسمين، وقسمت وجدانها شقين: الإسلام والثورة، الدين والوطنية، حاكمية الله وحاكمية البشر. فلا يمكن في مصر أو في أي بلد إسلامي أن يغيب تنظيم إسلامي شرعي قادر على التعبير عن الإسلام باعتباره تاريخ الأمة ورُوحها، والمعبر عن مطالبها، ووعاء وحدتها الوطنية، وبوتقة اتجاهاتها السياسية. فالجماعات الإسلامية هي الجماعات الشاردة نظرًا لغياب التنظيم الأم القادر على احتواء أبنائه. ويمكن للجماعة الإسلامية أن تكون جناحًا جذريًّا داخل التنظيم الأم كما يمكن لجماعات الهداية والرشاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجمعية الشرعية، وأنصار السنة المحمدية، والأزهر وغيره أن تكون جناحًا لينًا طيعًا في مقابل جناح الشباب الذي تمثله الجماعات الإسلامية. ولكن يظل تنظيم الإخوان المسلمين هو التنظيم الأم القادر على احتواء أجنحته، والقادر على أن يعقد حوارًا داخليًّا بين فرق المسلمين من منطلق واحد وهو الإسلام ونحو هدف واحد وهو إقامة الدولة الإسلامية. ولكن قبل ذلك لا بد من حدوث مصالحة رسمية وعلنية بين الثورة والإخوان، بين الدولة والحركة الإسلامية، وأن يتم اعتذار رسمي من الدولة عما حدث لكبرى الحركات الإسلامية من اضطهاد وتعذيب دون ذنب اقترفه الأبرياء. وأن تُلغيَ قرار الحل الصادر في ١٩٥٤م، وأن يُعاد إليهم المركز العام الذي اشتراه الإخوان بأموالهم وبحُلِيِّ نسائهم، والذي انقلب من مركز للهداية والدعوة الإسلامية، وقلب نابض للعالم الإسلامي، إلى قسم الدرب الأحمر يُسجَن فيه المتسولون والمجرمون والقوادون! وعلى هذا النحو يمكن أن تُمحى الغصة من الحلق والأسى من القلب والحزن من النفس، والثأر القديم بين الإخوان والثورة. ويبدأ كلٌّ منهما صفحة جديدة من أجل مصر وصالح الأمة ونصرة الإسلام وعزة المسلمين.

  • (٢)
    ضرورة عقد حوار مفتوح بين كافة الاتجاهات الوطنية، والأحزاب السياسية، والقوى الاجتماعية، حول القضايا المصيرية في البلاد، وعلى رأسها كيفية مواجهة الاستعمار والصهيونية في الخارج والقضاء على التسلط والفقر في الداخل، وأن تكون هذه المحاور الأربعة هي قلب الحياة الوطنية وليس اتحاد الكرة أو أخبار الدوري أو المسلسلات التلفزيونية أو إعلانات البضائع المستوردة. وعلى هذا النحو تواجه الدعوة الإسلامية التحديات الحقيقية، وتشحذ ذهنها في صياغة برامج اجتماعية وسياسية تستطيع أن تتمايز بها عن بقية الاتجاهات السياسية في البلاد، ولربما يظهر على يديها أن الإسلام هو النظرية الأكثر اتساعًا والأقدر على إكمال البرامج الوطنية الأخرى، وعلى أن يكون بوتقة الوحدة الوطنية كما حدث في الثورة الإسلامية في إيران. فما دام هذا الحوار الوطني قد عُقد على الملأ علنًا، وفي سرائر الناس وضمائرهم، فلن تتحول الطاقات إلى الداخل في تنظيمات سرية ومنشورات مناهضة للحكم. وما دام الناس قد عبروا عن آرائهم بصورة صحيحة، وظهر الخلاف في الرأي علنًا، وعلى الملأ، وأمام أعين الجميع، فلن يحتاج أحد إلى أن يدير ظهره للنظام وأن يعمل بطريقته الخاصة ضد النظام، وأن يجد خير معبر عنه هذه المرة ليس الفكر بل المدفع والقنبلة، وفي هذه الحالة، لن يرى الآخرين مخالفين له في الرأي يحاورهم وهم أحياء ويحزن على فراقهم وهم أموات، بل أعداء ينهي حياتهم ويفرح لمماتهم. فالعنف أو التطرف إنما هو نتيجة طبيعية لغياب الحرية والديمقراطية، وانعدام الحوار العلني المفتوح بين كافة القوى السياسية، وتحويل للطاقات المختزنة للشباب ولقواهم النظرية والعلمية من العلن إلى السر، ومن الخارج إلى الدخل، ومن مواجهة النظام إلى طعنه في الظهر. فالفكر ليس جريمة، والرأي ليس جناية، والإسلام أكثر الاتجاهات شرعية في البلاد، وأكثرها عمقًا وأبعدها تاريخًا، وأوسعها انتشارًا، وأقواها ضمانًا، وأحرصها على هُوية الناس. لكل اتجاه لسان حاله، جريدته اليومية ومَجلته الأسبوعية أو الشهرية، وكتابه السنوي، ونشراته ومؤلَّفاته بل ومطابعه ومعاهده وتنظيماته، وكل ذلك ترعاه الدولة وتؤيده، وما الدولة إلا كِيان صوري وفكرة مجردة لا وجود لها إلا من خلال الجسم الحي للمواطنين، دمائهم وعظامهم ولحمهم وحياتهم. فإن عادت الدولة قواها واتجاهاتها فإنها تقضي على حياتها بيدها وتنتحر دون أن تدري. إن حرية الفكر هي شرط التقدم، وقد يكون خطؤنا الحديث أننا بدأنا بالضباط الأحرار وليس بالمفكرين الأحرار، وبالتالي نكون قد وضعنا العربة أمام الحصان.١٢
  • (٣)
    وضع نهاية لكافة مظاهر النفاق الديني في أجهزة الإعلام ومؤسسات الدولة، وإعطاء المؤسسات الدينية استقلالها عن السلطة. والصيام الذي يكلف الدولة مئات الملايين من الجنيهات بالعملة الصعبة لتوفير المواد الغذائية واستيراد كماليات رمضان، والشهادتان اللتان لا تتعديان تمتمة الشفاه، وتحويل الدور الأرضي من عمارات من عشرات الطوابق، لإعفائها من العوائد، لبناء المساجد من الفنانين والفنانات ورجال الأعمال ووجهاء الدولة، والتكسب من الكتب الدينية والبرامج الإذاعية والأحاديث التلفزيونية، والإثراء من قراءة القرآن والمناصب الدينية، وطبعات القرآن وتغليفه بالقطيفة الحمراء ثم لا تُفتح أو تُقرأ، بل نتبادلها كالهدايا أمام عدسات التصوير تعبيرًا عن الإيمان، وجعل الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع في نطاق الحدود والأحوال الشخصية، وممارسة الانفتاح الاقتصادي وكبت الحريات، والتسليم بالصهيونية والتحالف مع الاستعمار، وتكوين لجان لتقنين الشريعة من المهربين وتجار الحشيش والمقاولين والسماسرة والمضاربين، وتكوين هيكل عظمي يُسَمَّى جامعة الشعب العربية والإسلامية لسد فراغ الجامعة العربية، وإصدار «العروة الوثقى» كلسان حال للنظام السياسي، وتأييد مجاهدي أفغانستان لا حبًّا في الإسلام ولكن عداءً للاتحاد السوفييتي وتعاونًا مع الاستعمار الذي أصبح بين يوم وليلة مؤيدًا للمسلمين وكأن شعب فلسطين ليس مسلمًا، ومعاداة الثورة الإسلامية في إيران باسم المحبة وكراهية للدم، واستعمال فقهاء السلطان وفقهاء الحيض والنفاس لتحليل ما يريد الحاكم وتحريم ما لا يريده. فلا يجوز الصلح أو المفاوضة أو الاعتراف بإسرائيل باسم الإسلام بعد هزيمة ١٩٦٧م تأييدًا للخط السياسي آنذاك، ويجوز الصلح والاعتراف والتفاوض مع إسرائيل بدليل صلح الحديبية تأييدًا للخط السياسي بعدها بعشرة أعوام، والفتويان من نفس المكان ومن نفس الرجال وبالاعتماد على نفس النصوص! فلماذا لا يثور الشباب المسلم إذن ضد مظاهر النفاق الديني ويحرمون الصلاة في مساجد الأوقاف ويشقون عصا الطاعة على رجال الدين، ويصلون في مساجدهم الأهلية ويثقون بأنهم الشرفاء؟١٣
  • (٤)
    دخول البلاد في مشروع قومي واحد حتى يمكن تجنيد كل القوى الوطنية حوله، ويُجنَّد الشباب المسلم الطاهر فيه تعبيرًا عن معارك الإسلام ونداءً للجهاد وطلبًا للشهادة. لم تظهر الجماعات الإسلامية في الستينيات عندما كانت البلاد مجندة في مشروع قومي واحد، بناء الاشتراكية في الداخل ومواجهة الصهيونية والاستعمار في الخارج، ووجد الشباب كله البديل الوطني الذي لم يُوجد في السبعينيات، فظهرت الجماعة الإسلامية كبديل واحد وجذبت الشباب نحوها بعيدًا عن الانفتاح والاستهلاك والعمالة والتسليم والاستسلام. فالجهاد فريضة لا شك فيها، وإقامة الدولة الإسلامية مطلب إسلامي يقيني والشباب ما زال طاهرًا يود الولاء لقضية عامة، وبالتالي تكون مسئولية الدولة في غياب مشروع قومي واحد يمكن إطلاق طاقات الشباب فيه، وتحويل المشروع الإسلامي إلى مشروع مرحلي، وتحويل المشروع القومي إلى أحد جوانب المشروع الإسلامي. وعلى هذا النحو يمكن إعادة الجماعات الإسلامية إلى الوطنية كدعامة لها، وتيار أصيل فيها، كما يمكن للحياة الوطنية أن تجد جذورها في التراث الإسلامي، ولا غرابة في أن يكون ذلك هو تراث الحزب الوطني القديم، وأن يكون الأفغاني رائد الحركة الإسلامية الحديثة هو رافع شعار «مصر للمصريين».١٤
١  إجابة على أسئلة في الندوة الرابعة لبحث الحركات الدينية المتطرفة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية يوم الأربعاء ١٢ / ٥ / ١٩٨٢م.
٢  هناك لوحة فنية على مدخل مبنى مباحث أمن الدولة بها عين مفتوحة مثل عيون قدماء المصريين ومكتوب عليها من أسفل: «عين الله الساهرة.»
٣  انظر مقالنا: «اليمين واليسار في الفكر الديني»، الطليعة، أكتوبر ١٩٧٦م؛ الجزء السابع: اليمين واليسار في الفكر الديني.
٤  لذلك كان سؤال المحققين باستمرار في قضية اغتيال الرئيس السابق، عن مدى الخلاف بينه وبين الجماعات إذا كان قد كون لجنة في مجلس الشعب لتقنين الشريعة، وجعلها المصدر الرئيسي للتشريع في الدستور، وجعل الإسلام الدين الرسمي للدولة … إلخ. انظر دراستنا: «الأصولية الإسلامية جذورها التاريخية، وروافدها الفكرية، وانفجاراتها السياسية» (دراسة في التحقيقات حول اغتيال الرئيس) الجزء الخامس.
٥  مالك بن نبي: فكرة الآسيوية الأفريقية.
٦  وقد حاولنا تحقيق هذا المشروع في «اليسار الإسلامي». انظر العدد الأول، ١٩٨١م.
٧  حسن البنا: مذكرات الدعوة والداعية ص٢٥٤-٢٥٥، الشهاب، القاهرة.
٨  انظر بحثنا: أثر الإمام الشهيد سيد قطب على الحركات الإسلامية المعاصرة في هذا الجزء.
٩  انظر بحثنا: نشأة الاتجاهات المحافظة في وطننا العربي الراهن، قضايا عربية، يناير ١٩٨٠م، الجزء الخامس.
١٠  هذا واضح من أقوال عبود الزمر في قضية اغتيال السادات، الجزء السادس: الأصولية الإسلامية.
١١  انظر مقالينا: «ماذا خسرت مصر بالقضاء على الإخوان؟» و«ماذا كسبت مصر من جماعة الإخوان؟»، الجمهورية، ٢٠ / ٣ / ١٩٧٦م، ١٠ / ٥ / ١٩٧٦م، الجزء السابع، اليمين واليسار في الفكر الديني.
١٢  انظر مقالنا: الضباط الأحرار أم المفكرون الأحرار؟ قضايا عربية، سبتمبر ١٩٧٩م؛ وأيضًا الجزء الثاني: الدين والتحرر الثقافي. ولذلك وضع سبينوزا عنوانًا فرعيًّا لرسالته في اللاهوت والسياسة: «في أن حرية الفكر ليست خطرًا على التقوى ولا على سلامة الدولة، بل إن القضاء على حرية الفكر فيه خطر على التقوى ويهدد سلامة الدولة.» انظر ترجمتنا وتقديمنا للرسالة، الطبعة الثانية، الأنجلو المصرية، ١٩٧٨م.
١٣  انظر مقالنا: الوثنية الجديدة، الجمهورية، ١٦ / ٧ / ١٩٧٦م؛ الجزء السابع: اليمين واليسار في الفكر الديني.
١٤  انظر بحثنا: مخاطر السلام، قضايا عربية، الجزء الثالث، الدين والنضال الوطني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥