١
وقد نجد للموصوف الواحد صورتين مختلفتين لاختلاف العاطفة عند شاعرين، فمن ذلك قول
ابن
الزيات في برذون أشهب كان المعتصم أخذه منه، وكان أحمد بن خالد ذكره له، ووشى به
إليه:
قالوا: جَزِعْتَ فقُلْتُ إِنَّ مُصِيبَةٌ
١
جَلَّتْ رَزِيَّتُها وَضاقَ المَذْهَبُ
كَيْفَ الْعَزاءُ وَقَدْ مَضَى لِسَبيلِهِ
عَنَّا فَوَدَّعَنا الأَحَمُّ الأَشْهَبُ
دَبَّ الوُشاةُ فَأبْعَدوهُ وَرُبَّما
بَعُدَ الْفَتَى وَهوَ الحَبيبُ الأَقْرَبُ
لِلَّهِ يَوْمَ غَدَوْتَ عَنّي ظاعِنًا
وَسُلِبْتُ قُرْبَكَ أَيَّ عِلْقٍ أسْلّبُ
الآنَ إِذْ كَمَلَتْ أَداتُكَ كُلُّها
وَدَعا العُيونَ إِلَيْكَ لَوْنٌ مُعْجِبُ
وَاخْتيرَ مِنْ سِرِّ الحَدائِدِ خَيْرُها
لَكَ خالِصًا وَمِنَ الحُلِيِّ الأَغْرَبُ
وَغَدَوْتَ طَنَّان اللِّجامِ كَأَنَّما
في كُلِّ عُضْوٍ مِنْكَ صَنْجٌ يُضْرَبُ
وَكَأَنَّ سَرْجَكَ إِذْ عَلاكَ غَمامَةٌ
وَكَأَنَّما تَحْتَ الغَمامَةِ كَوْكَبُ
وَرَأى عَلَيَّ بِكَ الصَّديقُ مَهابَةً
وَغَدا العَدُوُّ وَصَدْرُهُ يَتَلَهَّبُ
أَنْسَاكَ؟ لا بَرِحَتْ إِذنَ مَنسِيَّة
نَفْسي وَلا زالَتْ بِمِثْلِكَ تُنْكَبُ
وهذه صورة شعرية لجواد انتزع من صاحبه، فلنذكر صورة شعرية لحصان لم يفجع صاحبه فيه،
كقول البحتري:
وَأغَرَّ فِي الزَّمَنِ الْبَهِيمِ مُحَجَّلٍ
قَدْ رُحْتُ مِنْه على أغرَّ مُحَجَّلِ
كالْهيْكلِ المَبِّني إلاَّ أنَّهُ
في الحُسنِ جاءَ كَصورةٍ في هَيْكَلِ
وَفي الضُّلوعِ يَشُدُّ عقْدَ حِزامِهِ
يَوْمَ اللِّقاءِ عَلى مُعِمٍّ مُخْوِلِ
أَخْوالُهُ لِلرُّسْتُمين بفارِسٍ
وَجُدودُهُ لِلتُّبَّعين بِمَوكِلِ
٢
يَهْوِى كَما تَهْوَى العُقابُ وَقدْ رَأَتْ
صَيْدًا وَيَنْتصِبُ انْتِصابَ الْأجْدَلِ
ذَنَبٌ كما سُحِبَ الرّشاءُ يذُبُّ عَنْ
عُرْفٍ، وَعُرْفٌ كَالْقِناعِ المسْبَلِ
ذهِبٌ الأعالي حيْث تذْهبُ مُقْلٌة
فيه بناظِرها حَديدُ الأسْفَل
صافي الْأدِيمِ كأنْما عُنيتْ بهِ
لِصَفاءِ نِقْبَتِهِ مَداوِسُ صَيْقلِ
٣
وَتراهُ يَسْطعُ في الْغُبارِ لهيبُهُ
لوْنًا وشدَّاُ كالحَريقِ المُشْعَلِ
هَزِجُ الصَّهيل كَأنَّ في نَغماتِهِ
نَبراتِ مَعْبَد في الثّقيلِ الأوَّلِ
ملكَ العُيونِ فإِنْ بَدا أعْطَيْتَهُ
نَظَرَ المَحِبِّ إلى الحَبيبِ المُقْبِلِ
والموازنة بين هاتين القصيدتين تتوقف على معرفة السبب الذي قيلت فيه القصيدة الأولى،
والسبب الذي قيلت فيه القصيدة الثانية، ومتى عرفنا أن الشاعر الأول: وصف حصانه وهو جازع
محزون، وأن الشاعر الثاني: وصف حصانه وهو فرح مختال، استطعنا أن نعرف السبب فيما بين
القصيدتين من الفروق، فقد ابتدأ ابن الزيات فشرح حزنه على ذلك الحصان المسلوب بما يشبه
أن يكون مرثية لغلام نكب به، وهذا الجزء من القصيدة اقتضته «ظروف» ابن الزيات، فهو في
الوصف غير محسوب ثم انتقل إلى وصف الفرس فابتدأه بأبيات هي أنموذج في الرثاء ألا تراه
يقول:
الْآنَ إذْ كَمُلَتْ أدَاتُكَ كُلُّها
وَدَعا العٌيونَ إليْك لوْنٌ مُعْجبُ
وَاخْتيرَ مِنْ سِرِّ الحَدائِدِ خَيْرُها
لَكَ خالِصًا وَمِنَ الحُلِيِّ الأَغْرَبُ
وَغَدَوْتَ طَنَّان اللِّجامِ كَأَنَّما
في كُلِّ عُضْوٍ مِنْكَ صَنْجٌ يُضْرَبُ
وهذا النمط في التعبير كان شائعًا في الرثاء لذلك العهد، ومنه قول بعض
الشعراء:
الْآنَ لَمَّا صِرْتَ أكْمَلَ مَنْ مَشَى
وَافْتَرَّ نابُكَ عَنْ شَباةِ القارحِ
وَتَكامَلَتْ فِيكَ الشَّمائِلُ كُلُّها
وَغَدَوْتَ رَبَّ مَدائحٍ وَمَنائِحِ
ويدلك على أن ابن الزيات إنما يصف حزنه على ذلك الجواد أنك تراه يطنب في وصف المظاهر
الأخاذة التي تبهر الناظرين؛ ليكشف عن سر التميمة التي رزأه بها ابن خالد عدوه اللدود،
وإلا فما معنى قوله:
وَكَأَنَّ سَرْجَكَ إِذْ عَلاكَ غَمامَةٌ
وَكَأَنَّما تَحْتَ الغَمامَةِ كَوْكَبُ
وَرَأى عَلَيَّ بِكَ الصَّديقُ مَهابَةً
وَغَدا العَدُوُّ وَصَدْرُهُ يَتَلَهَّبُ
وكان ذلك؛ لأن ابن الزيات محنق مغيظ لا يفكر في عتق فرسه أكثر مما يفكر في نكبته بذلك
العدو، الذي سد عليه طريق الخيلاء حين أغرى المعتصم بأخذ برذونه الجميل.
وجملة ما وصف به ابن الزيات برذونه أنه كامل الأداة، وأنه يروق العيون، وأنه اختار
له
من الحديد سره، ومن الحلي أغربه، وأنه طنان اللجام، وأن سرجه كالغمامة، وهو من تحته
كالكوكب، وأنه يكبت العدو، ويسر الصديق.
وهذه أوصاف لا تماثل ولا توازن بأوصاف البحتري لجواده، فقد ذكر أنه أغر محجَّل، وأنه
في تكوينه:
كالْهيْكلِ المَبِّني إلاَّ أنَّهُ
في الحُسنِ جاءَ كَصورةٍ في هَيْكَلِ
وأنه وافي الضلوع، وأنه أصيل: أخواله في بلاد الأكاسرة، وأجداده في بلاد التبايعة،
وأنه يهوي هوي العقاب حين الصيد، ثم ينتصب انتصاب الأجدل، وأنه براق الجوانب: تتوهم في
جبينه البدر، وفي أرساغه الجوزاء، وأن ذنبه لطوله كالرداء المسحوب، وأنه صافي الأديم
كأنما سهرت على لونه الصياقل، وأنك تحسب بريق سنابكه في الغبار نارًا يعلوها دخان، وأنه
هزج الصهيل حتى لتحسب في نغماته نبرات معبد في صوته الرخيم، وأنه ملك العيون، حتى لتنظر
إليه نظر المحب إلى الحبيب المقبل.
وليس عجبًا أن يجيد البحتري هذه الإجادة في وصف جواد كان يهتك بغرته ظلمة الليل،
وينحدر به في الفضاء، كما تنحدر الصخرة الصماء عن القمة الشماء. أما ابن الزيات فهو
حريب سليب، لم يذكر من جواده غير شياته الظاهرة، التي أججت في صدر حسوده نار العداوة
والبغضاء.
٢
ذلك هو اختلاف الصورة الشعرية، وفي مقدور الناقد أن يتبين الصورة الموحدة عند شاعرين،
ثم يوازن بين براعتهما في التصوير، ولنضرب المثل بوصف الحمامة الباكية، فقد أكثر منه
الشعراء، فنجد قول أبي محلم الشيباني من قصيدة اقترحها عليه طاهر بن الحسين، وقد كبرت
سنه، وطالت غربته:
وَأَرَّقني بِالرَّيِّ نَوْحُ حَمَامَة
فَنُحْتُ وذُو الشَّجْوِ الغَرِيب يَنُوحُ
عَلَى أَنَّها ناحَتْ ولَمْ تُذْرِ دَمْعَةً
ونُحْتُ وأَسْرابُ الدُّمُوعِ سُفُوحُ
وناحَتْ وفَرْخاها بِحَيْثُ تَراهُما
وَمِنْ دُونِ أَفْراخِي مَهامِهُ فِيحُ
٤
وتجد قول ابن الدمينة:
أَلَا يَا حَمَامَاتِ اللِّوَى عُدْن عَوْدَةً
فإِنّى إِلَى أَصوَاتِكُنَّ حَزينُ
فَعُدْنَ فَلَمَّا عُدْنَ كِدْنَ يُمِتْنَني
وَكِدْتُ بأَشْجانِى لَهُنَّ أُبينُ
فَلَمْ تَرَ عَينى مِثْلَهُنَّ بَواكيًا
بَكَيْنَ وَلَمْ تَذْرِفْ لَهُنَّ عُيونُ
ونجد قول ديك الجن:
حَمَائِمُ وُرْقٌ في حِمَى وَرَقٍ خُضْرِ
لها مُقَلٌ تُجْرِي الدُّمُوعَ ولا تَجْرِي
تَكَلّفْنَ إِسْعادَ الغَرِيبَةِ إنْ بَكَتْ
وإِنْ كُنَّ لا يَدْرينَ كيفَ جَوَى الصَّدرِ
لها حُرَقٌ لَوْ أَنَّ خَنْساءَ أَعْوَلَتْ
بِهِنَّ لأَدَّتْ حَقَّ صَخْرٍ إلى صَخْرِ
فقلتُ لِنَفْسي ها هُنا طَلَبُ الأسَى
ومَعْدِنُهُ إِنْ فاتَني طَلَبُ الصَّبْرِ
ونحن إذا تأملنا أبيات أبي محلم، وأبيات ابن الدمينة، وأبيات ديك الجن لم نجد فيها
صورة شعرية، ويظهر الفرق واضحًا إذا قابلناها بقول الطغرائي من قصيدة طويلة:
أَيْكِيَّةٌ صَدَحتْ شَجْوًا عَلَى فَنَنٍ
فأشْعَلَتْ ما خَبا مِنْ نارِ أشْجاني
ناحتْ وما فَقَدتْ إِلْفًا ولا فُجِعَتْ
فَذَكَّرَتْنيَ أَوْطاري وَأَوْطاني
طَليقَةٌ مِن إِسارِ الْهمِّ ناعِمَةٌ
أضْحَتْ تُجَدِّدُ وَجْدَ الْموثَقِ الْعَاني
تشَّبَّهَتْ بيَ في وَجدي وفي طَرَبي
هَيْهاتَ ما نَحْنُ في الحالَيْنِ سِيِّانِ
ما في حَشاها ولا في جَفْنِهَا أثرٌ
مِن نارِ قَلْبي ولا مِن ماءِ أجْفاني
يا رَبَّةَ الْبانَةِ الْغَنَّاءِ تَحْضُنُها
خَضْرَاءُ تَلْتفُّ أغْصانًا بِأغْصانِ
إِنْ كان نَوْحُكِ إسْعادًا لِمُغْتَرِبٍ
ناءٍ عَنِ الْأهْلِ مَمْنُوٍّ بِهِجْرانِ
فَقارِضيني إِذا ما اعْتادَني طَرَبٌ
وَجْدًا بِوَجْدٍ وسُلْوانًا بُسُلْوانِ
أوْ لا فَقَصْرَكِ حَتَّى أسْتَعينَ بِمَنْ
يَعْنِيهِ شأَني وَيَأسُو كَلْمَ أحْزَاني
ما أنتِ مِنِّي ولا يَعْنيكِ ما أخَذَتْ
مِنِّي الهُمومُ وما تَدْرينَ ما شاني
كِلِي إِلَى الغَيْمِ إِسْعادِي فَإِنّ لَهُ
دَمْعًا كَدَمْعي وَإِرْنانًا كَإِرْناني
وهذه صورة شعرية بديعة تمثل حال الموجع الحزين، وقد هاجته الحمامة الباكية، وإنك لترى
الشاعر يوازن بين حاله وبين حال تلك الأيكية الساجعة موازنة دقيقة تروع القلب، وتهيج
الوجدان، وانظر كيف يقول:
طَليقَةٌ مِن إِسارِ الْهمِّ ناعِمَةٌ
أضْحَتْ تُجَدِّدُ وَجْدَ الْموثَقِ الْعَاني
وهذا غاية في وصف الحزن، واليأس من السلوان، فإن وصف الحمامة بالتصنع في بثها وشجاها
أدل على لوعة الشاعر وأساه، ولا كذلك الاقتناع بحزن الحمائم الشاديات، فإن فيه شيئًا
من
الراحة لأنس الحزين بالحزين.
ولك أن تذكر أن هنا شيئًا من اختلاف الصورة، فإن أبا محلم يأسى لغربته، ويتفجع لبعد
أطفاله، في حين إن الحمامة تبكي وقد جمع بينها وبين أفراخها غصن واحد، فماذا تبغي وقد
وقاها الله تبديد الشمل وفرقة الأحباب!
وابن الدمينة يراجع حمامات اللوى، ويسألهن العودة، ثم يذكر أنه كاد يفصح عن أسراره
حين بكين بجانبه، وإن لم تذرف لهن عيون، وديك الجن يردد معنى قريبًا من معنى ابن
الدمينة، أما الطغرائي فقد أتى بفكرة طريفة، وسلك مسلكًا يدل على عنايته بتحديد ما
يقول.
وأريد بهذا الفصل الوجيز أن ألفت نظر الناقد إلى ما يجب عليه من اختيار الصور الشعرية
وإدراك ما بينها من دقائق الاختلاف والائتلاف: فإن الموازنة نوع من الوصف وبيان ما بين
الصور من مختلف الفروق.