المعاني والأغراض
قد رأيت حين حدثناك عن الصور الشعرية في القرآن أننا فرقنا بين المعنى والغرض، والآن نعود إلى إيضاح هذا الرأي، الذي نرجو أن يكون له شيء من النفع في عالم البيان.
١
كان النقد يرتكز على وحدة البيت عند نقد الشعر، وعلى وحدة الفقرة عند نقد النثر، بغض النظر عن وحدة الغرض الذي سيق من أجله الكلام، وكانوا يقولون فيمن يندر له بيت: لو قال هذا وسكت لكان أشعر الناس!
ونحن في تعويلنا على «الصور الشعرية» التي تمثل الأغراض، لا ننكر أهمية الألفاظ المختارة، والأخيلة الرائعة، التي تأتي في تضاعيف المنظوم والمنثور فتمثل المعاني أصدق تمثيل.
أما اللفظ المختار فكقول كثيِّر:
وهذه أبيات عادية ولكن كلمة «موفق» في قوله:
كلمة دقيقة بارعة تمثل مراد الشاعر أصدق تمثيل؛ لأنه يري أن يخيل إليك أن عزة كالشمس في الحسن والإشراق، وأنها لو خاصمت الشمس في الحسن لاشتبه الأمر على من يفصل في هذه الخصومة، وأنه لا بد من التوفيق ليحكم بتفوق هذه المحبوبة على الشمس، ولا يحتاج الحكم إلى التوفيق إلا حين يلتبس الحق، ويتعذر الفصل وحسب هذه الحسناء أن تفتن الناظر، وأن تكون في نفس المنصف أولى من الشمس بالجمال.
وأما الخيال الرائع فكقول النابغة الذبياني في وصف الليل:
فقد صور النجوم بصورة الإبل تسرح وتمرح في أديم السماء، وصور الصبح بالراعي الغائب الذي يخشى أن لا يئوب، وفي أوبته صرف هذه النجوم.
اذكر هذا ثم تعالى ننظر: أهذا هو الغرض الذي سيق من أجله الحديث؟ كلا! فإن الغرض أوسع من ذلك، وغرض النابغة أن يشكو إلى محبوبته هجوم الهم على صدره في ظلمة الليل، وقد أفصح عن هذا الغرض في هذه الأبيات:
وهذه صورة شعرية لتمثيل الغرض الذي قصد إليه الشاعر في مطلع قصيدته، فقد تحدث عن همه الممض الموجع، وليله الذي طال بطوله بثه وشجاه، وصدره الذي أراح الليل ما عزب من همه، وهذا أيضًا خيال رائع: فقد صور الهموم بصورة الإبل تسرح نهارًا، ثم تراح ليلًا إلى الحظيرة، وكذلك يشغل المرء عن همومه بالنهار، فإذا انقطعت شواغله بالليل دبت الهموم إلى صدره فاحتلته من جديد.
وهذا المعنى أروع من قول امرئ القيس:
وفي مثل الغرض الذي أفصح عنه النابغة يقول حندج بن حندج المري:
وفي هذه القصيدة يظهر الفرق واضحًا بين المعنى والغرض، ففي كل بيت معنى خاص، ومن مجموع هذه المعاني يتكون الغرض، فليس هناك ريب في أن قوله:
فيه معنى جميل، وخيال رائع، ولكنه لا يمثل الغرض الذي قيلت من أجله القصيدة. وكذلك قوله:
فيه خيال يخلب العقول، وأي خيال أروع من حيرة الليل، وتقييده فوق متن الأرض بشكال! ولكن هب الشاعر قال هذا البيت مفردًا لا سابق له ولا لاحق، فأي تأثير يكون له في النفس وهو في ذلة اليتيم!
وكذلك قول أشجع بن عمرو السلمي في رثاء محمد بن منصور بن زياد:
ففي كل بيت معنى جميل، وفي كل بيت خيال رائع، ولكن الصورة الشعرية لا تتم إلا بضم هذه المعاني بعضها إلى بعض، ومنها يتكون الغرض، وهو ذهاب المجد بفقد هذا الجواد.
٢
على أن الغرض قد يتشعب حين يوجد ما يقتضي ذلك، فقد ذهب الثكل برشد طريف بن أبي وهب العبسى، فقال يرثي ابنه بهذه الكلمات الموجعات التي أصبحت لذهوله كثيرة الأغراض:
فقد تنقل الشاعر من معنى إلى معنى، ومن غرض إلى غرض، تحت وطأة الحزن الذي مشى به من العزاء إلى الجزع، ومن الجزع إلى العزاء، فإنك تراه يروض نفسه على الصبر حين يقول:
ثم تراه يغري بنفسه ثائرة الحزن حين يقول:
ثم يعود فيقول:
وكذلك يطرب المحزون فلا يستقر على حال.
٣
والعلم أطال الله بقاء القاضي شيء كما تعرفه بعيد المرام، لا يصاد بالسهام ولا يقسم بالأزلام، ولا يرى في المنام، ولا يضبط باللحام، ولا يورث عن الأعمام ولا يكتب للئام، وزرع لا يزكو في كل أرض حتى يصادف من الحرص ثرى طيبًا ومن التوفيق مطرًا صيبًا، ومن الطبع جوًّا صافيًا، ومن الجهد روحًا دائمًا، ومن الصبر سقيًا نافعًا، والعلم علق لا يباع ممن زاد، وصيد لا يألف الأوغاد، وشيء لا يدرك إلا بنزع الروح، وغرض لا يصاب إلا بافتراش المدر، واستناد الحجر، ورد الضجر، وركوب الخطر، وإدمان السهر، واصطحاب السفر، وكثرة النظر، وإعمال الفكر، ثم هو معتاص على من ركا زرعه، وكرم أصله وفرعه، ووعى بصره وسمعه، وصفا ذهنه وطبعه. فكيف يناله من أنفق صباه على الفحشاء، وشغل سلوته بالغنى وخلوته بالعناء، وأفرغ جده على الكيس وهزله على الكأس؟ والعلم ثمر لا يصلح إلا للغرس ولا يغرس إلا في النفس، وصيد لا يقع إلا في البذر، ثم لا ينشب إلا في الصدر وطائر لا يخدعه إلا قفص اللفظ، ثم لا يغفله إلا شرك الحفظ، وبحر لا يخوضه الملاح ولا تطيقه الألواح، ولا تهيجه الرياح، وجبل لا يتسنم إلا بخطا الفكر، وسماء لا تصعد إلا بمعراج الفهم، ونجم لا يلمس إلا بيد المجد، أيكفي أن يصبح المرء بين الزق والعود، ويمسي بين موجبات الحدود، حتى يتم شبابه، ويشيب أترابه، ثم يلبس دنيته؛ ليخلع ديبته، ويسوي طيلسانه، ليحرف يده ولسانه، ويقصر سباله؛ ليطيل حباله، ويبدي شقاشقه، ليغطي مخارقه، ويبيض لحيته ليسود صحيفته، ويظهر ورعه، ليخفي طمعه، ويغشي محرابه؛ ليملأ جرابه، ويكثر دعاءه؛ ليحشو وعاءه، ويرجو أن يخرج من بين هذه الأحوال عالمًا، ويقعد حاكمًا! هذا إذا المجد كالوه بقفزان!
ويمكن للناقد أن يجد في بعض هذه المعاني شيئًا من الضعف، ولكنه لن ينكر على الكاتب أنه أفصح عن غرضه، وبلغ دعوته، بل وصل بها إلى قرار القلوب. وأهمية الصور الشعرية كما أسلفنا القول ترجع إلى تمكين المعاني في النفس، والوصول إلى التأثير الذي هو غاية البيان.
وأقسم لو أن اليتيم وقع في أنياب الأسود، بل الحيات السود، لكانت سلامته منها أحسن من سلامته إذا وقع بين غيابات هذا القاضي وأقاربه، وما ظنك بقوم يحملون الأمانة على متونهم، ويأكلون النار في بطونهم، حتى تغلظ قصراتهم من مال اليتامى، وتسمن أكفالهم من مال الأيامى؟ وما ظنك بدار عمارتها حراب الدور وعطلة القدور، وخلاء البيوت، من الكسوة والقوت؟ وما قولك في رجل يعادي الله في الفلس، ويبيع الدين بالثمن البخس، ومن حاكم يبرز في ظاهر أهل السمت وباطن أصحاب السبت، فعله الظلم البحت، وأكله الحرام السحت؟ وما رأيك في سوس لا يقع إلا في صوف الأيتام، وجراد لا يسقط إلا على الزرع الحرام، ولص لا ينقب إلا خزانة الأوقاف، وكردي لا يغير إلا على الضعاف، وذئب لا يفترس عباد الله إلا بين الركوع والسجود، ومحارب لا ينهب مال الله إلا بين العهود والشهود؟! وما زلت أبغض حال القضاء طبعًا وحيلة، حتى أبغضتهم دينًا وملة، وألعنهم دربة حتى لعنتهم قربة، بما شاهدت من هذا الحيري وقاسيت، وعانيت من حطبه وخبطه ما عانيت.
وهذه صورة شعرية تمثل الظالمين من القضاة في جميع الأقطار، وفي جميع العصور؛ لأن نزعات الإنسانية واحدة، أو كأنها واحدة في الخير والشر. والوصف الصادق يعذب ويستملح في كل قطر وفي كل جيل.
٤
ولك أن تتخطى النثر المحبر إلى الكلمات المأثورة التي جادت بها البديهة؛ لترى كيف تكون المعاني والأغراض.
فمن ذلك ما ذكره الجاحظ عن تمني يزيد الرقاشي وقد تمنى بحضرته قوم فقال: أتمنى كما تمنيتم؟ قالوا: تمنه! قال: «ليتنا لم نخلق، وليتنا إذا خلقنا لم نعص، وليتنا إذ عصينا لم نمت، وليتنا إذ متنا لم نبعث، وليتنا إذا بعثنا لم نحاسب، وليتنا إذ حوسبنا لم نعذب، وليتنا إذ عذبنا لم نخلد».
وفي مثل هذا المعنى يقول الحجاج: «ليت الله إذ خلقنا للآخرة كفانا أمر الدنيا فرفع عنا الهم بالمأكل والمشرب والملبس والمنكح، أو ليته إذ أوقعنا في هذه الدار كفانا أمر الآخرة، فرفع عنا الاهتمام بما ينجي من عذابه».
وفي هاتين الأمنيتين وصف دقيق لحيرة النفس الإنسانية التي ما زالت تكد وتكدح في استكناه أسرار الغيب، ثم سقطت صريعة الإعياء، بعد مرارة الإخفاق!
وأحب أن لا يغفل القارئ عن دقة الترتيب في هذه الصورة الشعرية، وأريد بالترتيب السير مع حركات النفس، فقد ابتدأ الرقاشي بهذه الصرخة «ليتنا لم نخلق!»، وهي أول نفثة يجود بها المكروب، ثم أخذ يجيل نظر الحيرة، ويتمنى إذ خلق لو وقاه الله المعصية، ويتمنى إذ عصا لو نجا من الموت، إلى آخر ما قال.
وقيل لبعض العرب: أي شيء تتمنى، وأي شيء أحب إليك؟ فقال: لواء منشور، والجلوس على السرير، والسلام عليك أيها الأمير!
وهذه صورة يبسم لها القارئ، ولكنها على ذلك صورة صادقة لكثير من النفوس. وأدق منها قول الآخر، وقد قبل له، أجزعت من الموت؟ وقد صلى ركعتين فأطال، وكان أمر بقتله. فأجاب «إن أجزع فقد أرى كفنًا منشورًا، وسيفًا مشهورًا، وقبرًا محفورًا».
وهذه صورة دقيقة لذلك الموقف الرهيب!
وقال أعرابي لسليمان بن عبد الملك: إني أكلمك يا أمير المؤمنين بكلام فاحتمله، فإن وراءه إن قبلته ما تحبه. قال هاته يا أعرابي فنحن نجود بسعة الاحتمال على من لا نأمن غيبته، ولا نرجو نصيحته، وأنت المأمون عيبًا، الناصح جيبًا. قال: فإني سأطلق لساني بما خرست عنه الألسن تأدية لحق الله تعالى: إنه قد اكتنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، وخافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب للآخرة وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، فإنهم لم يألوا الأمانة تضييعًا، والأمة كسفًا وخسفًا. وأنت مسئول عما اجترموا وليسوا مسئولين عما اجترمت. فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك: فإن أعظم الناس عند الله غبنًا من باع آخرته بدنيا غيره. فقال سليمان: أما أنت يا أعرابي، فقد سللت لسانك وهو سيفك. قال: أجل يا أمير المؤمنين لك لا عليك!
وفي هذا الحوار كما يرى القارئ طائفة من المعاني يتكون منها غرض واحد. وكذلك نستطيع حين نوازن بين الكتاب والخطباء والشعراء أن نفرق بين المعاني والأغراض.