بكاء الممالك عند البحتري وشوقي
كانت عواطف الشعراء عواطف فردية، لا اجتماعية، فكان الشاعر يبكي وجده ونعيمه وهو يندب الرسوم ويتوجع للطلول، ولم يهتم العرب ببكاء الممالك، والتفجع للشعوب، إذ كانوا في بداية الحياة وكان الرجل منهم قلما يعني بغير نفسه، وأهله، وذويه، فكانوا في شغل بأنفسهم عن بلايا الإنسانية التي تصرخ من حولهم وهم عنها غافلون.
ثم جاء القرآن فسلك في الحديث عن الممالك البائدة مسلك التخويف والترهيب، فلم يعطف عليها بكلمة، ولم يستر لها عورة؛ لأن القرآن لم يكن كتاب شعر، يرمي إلى روعة الفن وجمال الخيال، وإنما كان كتاب حكمة وموعظة، فكان من حقه أن يقول بحزم ورزانة:
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللهِ مِن وَاقٍ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ ۚ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ
ولو لم يكن الزجر والردع من أغراض القرآن الأساسية، لكان له شأن غير هذا الشأن، وهو يتحدث عن فرعون وإبليس، ومن إليهم من الجبابرة والطغاة، فقد جرى حديثه عنهم مجرى الشماتة، وكانوا ينبوع سحر لا ينضب ولا يغيض لو كان القرآن كتاب فن وكتاب خيال.
على أن العرب لم يغفلوا عن الإشادة بما طوى الدهر لهم من حضارة، ولم يفتهم التغني بما كان لأسلافهم من ضخامة المدنية، وإن شابوا ذلك بالتحسر على ما درس من معالم اللهو، والتحزن لما عفا من ملاعب الشباب، فمن ذلك قول الأسود بن يعفر النهشلي:
ثم يقول في بكاء من ساد من الذاهبين:
ثم عاد إلى بكاء شبابه، فقال:
ونحا هذا المنحى متمم بن نويرة في عبنينه التي يقول فيها:
وكذلك نجد في خطب العرب وأشعارهم شذرات في التوجع لما انقرص من الممالك والشعوب، لكنها لا تمثل الوقفات الفنية التي تشد إليها الرحال، كوقفة البحتري عند رسوم الإيوان، ووقفة شوقي عند أطلال الحمراء.
إيوان كسرى
وقد يجمل أن نذكر أن إيوان كسرى، الذي استلم البحتري أحجاره، وطاف بأركانه، كان مضرب المثل عند الأعراب، فقد قيل لأعرابي: كيف نصنع بالبادية إذا انتصف النهار، وانتعل كل شيء ظله؟ فأجاب: وهل العيش إلا ذاك؟ يمشي أحدنا ميلًا فيرفض عرفًا كأنه الحمان، ثم تنصب عصاه، ويلقي عليها كساءه، وتقبل الرياح من كل جانب، فكأنه في إيوان كسرى.
وقد حُكيَ فيما نقل ياقوت أن المنصور لما أراد بناء بغداد استشار خالد بن برمك في هدم الإيوان وإدخال آلته في عمارة بغداد، فقال له: لا تفعل يا أمير المؤمنين! فقال: أبيت إلا التعصب للفرس! فقال: ما الأمر كما ظن أمير المؤمنين، ولكنه أثر عظيم يدل على أن ملة ودينًا وقومًا أذهبوا ملك بانيه لدينٌ وملكٌ عظيمٌ، فلم يصغ إلى رأيه وأمر بهدمه، فوجد النفقة عليه أكثر من الفائدة بنقضه فتركه، فقال خالد: الآن أرى يا أمير المؤمنين أن تهدمه؛ لئلا يقال: إنك عجزت عن خراب ما عمره غيرك، ومعلوم ما بين الخراب والعمارة!
وقد تكون هذه الحكاية صحيحة، وقد تكون خرافة تناقلها الناس، ولكنها على كل حال دليل على منزلة الإيوان في صدور العرب لذلك العهد.
أما قصر الحمراء الذي بكاه شوقي فهو من قصور الأندلس، والأندلس هي الفردوس المفقود، الذي يبكيه المسلمون، ولننظر فسيحدثنا شوقي عنه أصدق الحديث.
نفسية البحتري
وأريد بنفسية البحتري ذلك الخاطر الذي استولى عليه حين همّ بوصف الإيوان، وقد رأيناه يذكر لذلك علتين: إحداهما في بداية القصيدة، والثانية في النهاية، أما الأولى فهي الهرب من الهموم، ومن ظلم الأقارب، بالفزع إلى طلول الإيوان، ينسى في أكنافها حزنه وبثه، ويستودعها أساه وشجاه، وذلك حيث يقول:
ثم انتقل إلى الموضوع مباشرة، فقال:
ونراه في نهاية القصيدة يذكر أنه بكى الإيوان، وليست الدار داره ولا الجنس جنسه؛ لأن لأهله نعمى عند أهله؛ ولأنهم أيدوا ملكهم وشدوا قواه، بما أمدوهم به من الكتائب في أيام القتال، وذلك حيث يقول:
وفي هذا البيت الأخير يذكر أنه يكلف بالأشراف من كل جنس، ويبكي المجد الذاهب، وإن تقطعت بينه وبين أهله الأسباب.
نفسية شوقي
لما وضعت الحرب الشومى أوزارها، وفضحها الله بين خلقه وهتك إزارها، ورم لهم ربوع السلم وجدد مزارها، أصبحت وإذا العوادي مقصرة، والدواعي غير مقصرة، وإذا الشوق إلى الأندلس أغلب، والنفس بحق زيارته أطلب، فقصدته من برشلونة، وبينهما مسيرة يومين بالقطار المجد، والبخار المشتد، أو بالسفن الكبرى الخارجة من المحيط، الطاوية القديم نحو الجديد من هذا البسيط، فبلغت النفس بمرآة الأرب، وكحلت العين في تراه بآثار العرب، وإنها لشتى المواقع، متفرقة المطالع، في ذلك الفلك الجامع، يسري زائرها من حرم إلى حرم، كمن يمسي بالكرنك ويصبح بالهرم، فلا يتقارب غير العتق والكرم، طليطلة تطل على جسرها البالي، واشبيلية تشبل على قصرها الخالي، وقرطبة منتبذة ناحية بالبيعة الغراء، وغرناطة بعيدة مزار الحمراء، وكان البحتري رحمه الله رفيقي في هذا الترحال، وسميري في الرحال، والأحوال تصلح على الرجال، كل رحل لحال، فإنه أبلغ من جلَّى الأثر، وحيا الحجر، ونشر الخبر، وحشر العبر، ومن قام في مأتم على الدول الكبر، والملوك البهاليل الغرر، عطف على الجعفري حين نحمل عنه الملا، وعطل من الحلى، ووكل بعد المتوكل للبلى، فرفع قواعده في السير، وبنى ركنه في الخبر، وجمع معالمه في الفكر، حتى عاد كقصور الخلد امتلأت منها البصيرة وإن حلا البصر، وتكفل بعد ذلك لكسرى بإيوانه، حتى زال عن الأرض إلى ديوانه، وسينيته المشهورة في وصفه ليست دونه، وهو تحت كسرى في رصه ورصفه، وهي تريك حسن قيام الشعر على الآثار، وكيف تتجدد الديار في بيوته بعد الاندثار. قال صاحب (الفيح القسي في الفتح القدسي) بعد كلام: «فانظروا إلى إيوان كسرى وسينية البحتري في وصفه، تجدوا الإيوان قد حرث شعفائه وعفرت شرفاته، وتجدوا سينية البحتري قد بقى بها كسرى في ديوانه، أضعاف ما بقي شخصه في إيوانه»، وهذه السينية هي التي يقول في مطلعها:
والتي اتفقوا على أن البديع الفرد من أبياتها قوله:
فكنت كلما وقفت بحجر، أو طفت بأثر، تمثلت بأبياتها، واسترحت من مواثل العبر إلى آياتها، وأنشدت فيما بيني وبين نفسي:
ثم جعلت أروض القول على هذا الروي، وأعالجه على هذا الوزن، حتى نظمت هذه القافية المهلهلة، وأتممت هذه الكلمة الريضة، وأنا أعرضها على القراء، راجيًا أن يلحظوها بعين الرضاء، ويسحبوا على عيوبها ذيل الإعضاء.
وتلك والله عبادة صريحة لآثار الفراعنة على ضفاف النيل.
وهي كذلك تمثل رأيه في شعر البحتري، فهو عنده «أبلغ من جلى الأثر، وحيا الحجر، ونشر الخبر، وحشر العبر»، وتصور لنا تلك الكلمة ما كان يجول في نفس شوقي، وكيف كان روح البحتري يُطيف به وهو يطوف بالحمراء.
ولا يدري من هم الذين يذكر شوقي أنهم اتفقوا على أن البديع الفرد من قصيدة البحتري هو قوله:
وكنا نحب لو ينبه لقوله في وصف الإيوان:
وقوله في بكائه:
ولشوقي رأيه، فقد يختلف النقد أحيانًا باختلاف الأذواق.