حنين شوقي إلى مصر
قد رأيت في الكلمة الماضية أن البحتري ابتدأ سينيته بالتبرم بالعيش وشكوى الزمان، والتنكر لظلم الأقربين؛ وكان ذلك لأن نزعته لم تكن اجتماعية، وإنما كانت فردية. أما شوقي فقد ابتدأ سينيته بقطعة وجدانية، تفيض بالحنين إلى مصر، وتزخر بالشوق إلى النيل، وهو كأنما يتكلم عن نفسه، ويحدث الناس عن شجونه، ولكنه في الواقع يتوجع لما يعاني وطنه من وطأة الظلم، ويتفجع لما تقاسي بلاده من قسوة الاضطهاد، وإنه ليبكي ملاعب شبابه، وعهود صباه، حين يقول في مطلع هذه السينية:
ثم يأخذ في الحديث عن مصر، فيقول:
ولا أحب أن أنتقل إلى خطاب شوقي للباخرة قبل أن أنبه القارئ إلى روعة الحسن في قوله:
فقد جعل حبه لبلاده أعز من أن تنال منه الليالي، وجعل جرحه في هوى مصر أعضل من أن يطب له الزمان، وانظر كيف وصف قلبه حين قال:
وهو هنا لم يذكر أن قلبه كان يخفق كلما أومض البرق، أو هب النسيم، كما كان يتحدث الأعراب، وإنما يصف ما يحسه الغريب على شواطئ المحيط. وأين وميض البرق، وهبوب الريح، من أصوات البواخر في غسق الليل؟ — ثم قال:
والقارئ يتلقى هذه الأبيات الآن بشيء من الطمأنينة، أما الذين قرءوها يوم قالها شوقي فلهم فيها رأي، ومن كان في ريب من هذا فليذكر الأحكام العرفية، لا قدر الله لها رجعة، ولا كتب لها أوبة، فقد كنا نتغنى بقول شوقي:
ثم تتمثل مصر في صورة الشجرة الوريقة، نفرت عنها البلابل المغردة، ثم صارت مأوى للبوم، ومقيلًا للغربان، وكذلك كانت مصر في ذلك الحين، فكان شهيد الحرية محمد بك فريد، يرسل الأماني عساها تقبل ثرى مصر، وتنهل من سلسبيل النيل، ثم لا تجاب له طلبة، ولا يدنو منه مأمول، في حين أن بلاد الفراعنة كانت مفتحة الأبواب لكل أثيم القلب، وقاح الوجه، خبيث اللسان!! وسيظل قول شوقي:
سيظل هذا البيت مثارًا للشجى والأسى، حتى تغدو تلك الشجرة ذات الظلال والأفنان، وهي للبلابل مأوى وللطواويس مقيل. أما قوله:
فهو رمية مسددة في صدر الظلم، ونحر الاستبداد، وسيظل غصة يشجي بها بعض الحلوق — ثم قال في خطاب الباخرة:
وأي نفس يمثلها شوقي في هذا الشعر البديع، إنه والله يمثل النفس المصرية، وحسبي أن أقول: النفس المصرية، وهل في الدنيا — ولولا التقى لأضفت إليها الآخرة — وطن خليق بأن يعذب في سبيله أبناؤه مثل وادي النيل؟
إن الذي يعيش في مصر، وله ذوق شوقي وإحساسه، ليس بكثير عليه أن يقول:
ولقد كانت مصر، ولا تزال بابا من الفتنة لكل من يمسي وله فيها رأي مطاع وبفضلها يقول فرعون:
أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ
ولقد يذكرون أن المأمون قال لجنوده، وهو يشاهد الأهرام: «أبهذه كفر فرعون بربه!». فقال له أحد وزرائه: يا أمير المؤمنين إن الله يقول:
وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ
فإذا كانت هذه بقايا ما دمر الله فلفرعون العذر إن غلب عليه الضلال.
وطغيان ملوك مصر دليل على ما تورت أهلها من العزة، وتغرس فيها من الجبروت، كالسيف الصقيل يحمل صاحبه على الفتك، ويحبب إليه العدوان. وسبحان من لو شاء لرزقنا قسطًا من أسباب الفتنة في هذه البلاد.
ثم يقول شوقي وهو يتمثل الجزيرة والنيل:
وهذا خيال وادع جميل، ولكن شوقي لم يصبر عليه، بل عاد إلى هجيراه من النوح على مجد خوفو ورمسيس، وأخذ يقول:
وكذلك يحسب شوقي، وهو يندب مجد الفراعنة، أن ما في الطبيعة من ماء ونبات وجماد يبكي معه ذلك الملك الذي بطش به القدر وعدا عليه القضاء.
والشاعر حين يرضى يحسب الكون يبتسم لابتسامه؛ وحين يغضب يحسب الكون يكتئب لاكتئابه، ولعل هذه السذاجة هي أظرف ما في الشعراء؛ إذ كانت سمة من سمات الطفولة البريئة، وكم في الطفولة من معان تسكن إليها شوارد النفوس.
ثم انتقل شوقي إلى الحديث عن أبي الهول فقال:
وهذا أيضًا خيال شعراء، فهو يتوهم أن المقادير ركبت عيني أبي الهول لنقد الحوادث، وأعدت مخلبيه لافتراس الطغاة، ولكن هيهات لما يظن هيهات، والويل لأمة تنتظر في خمود حتى يثأر لها قعيد الصحراء.
على أن من الحق أن نبين أن شوقي لم يسق هذه الخرافة، وهو يحسبها حقيقة، إنما هو الفن يقتضي على صاحبه باستغلال موارد الخيال، وأبو الهول — رضي الله عنه — إن كان وليًّا، — وجل جلاله — إن كان إلهًا — معبود قديم طالما قدمت له القرابين، ولا يزال المصريون يتيمنون بما كان يتيمن به آباؤهم من قبل، ويتشاءمون مما كانوا يتشاءمون منه، كما لا يزال العرب يحسبون حساب السائح والبارح، أسوة بما كان يفعل آباؤهم الأقدمون، ولولا اتقاء الفتنة لذكرت نماذج من أساطير الأولين ترينا كيف كان «هداة الأمم» يثيرون ما ركد فيها من العواطف بالإشادة بما عرف لهم من المعبودات، وعلى هذا المنهج جرى شوقي فسبح بحمد أبي الهول في جملة من قصائده الطوال، والشاعر كالخطيب لا تهمه العقول إذا ظفر بالقلوب.
ثم عاد شوقي إلى قلبه، وقد غمره الحزن، فأخذ يناجيه بهذا الترجيع الحزين، وانظر كيف يقول:
وقفة قصيرة
لاحظنا أن شوقي تحدث عن نفسه قليلًا في بداية القصيدة، ثم اندفع في الحديث عن شوقه إلى مصر، وتفجعه لما تقاسي من عاديات الخطوب، فرأيناه يصور الجزيرة ويمثل استحياءها حين قدها النيل، ثم رأيناه يذكر أن الجيزة لا تزال في أثواب الحداد على رمسيس، وأن السواقي لا تبرح ترسل على ذكره الدموع والأنين، وأن النخيل تجردت في الحزن عليه، فلم يبق عليها غير الشعور والأطواق، ورأيناه كذلك يتكلم عن أبي الهول وعن الأهرام، ويتخيل أبا الهول قارعة عتيدة لإهلاك الطغاة، ثم رأيناه وقد عاوده القلق على مصر ولم يقنعه السكون إلى الخيال، فأخذ يزفر من جديد ويقول:
وأين هذا القرار، يا بلبل النيل! هاته، هاته، وخد من أرواحنا ما تشاء!
ثم شرع يصف القدر بهذه الصورة الشعرية البديعة وهو يقول:
ولم تظفر النفس الإنسانية برثاء أبرع من هذا الرثاء، ولا جدت العقول من يذرف عليها مثل هذه الدمعة، وهي على جبروتها ألعوبة وأضحوكة القضاء، ومن ذا الذي وقف على القبر الذي ثوت فيه آمال الأمم المعذبة، ثم جاد عليها بمثل هذه الدمعة الغالية، يذرفها مثل شوقي على تلك العقول التي عقلتها لجة الخطوب، والتي غرقت حيث لا يصاخ لحس، ولا يصاح بطاف أو غريق.
ولقد كانت هذه النفثات مقدمة جميلة لرثاء الحمراء، فقد مهد شوقي لوقفته على أطلالها تمهيدًا هو غاية الغايات في إعداد النفس لبكاء المجد الذاهب، والملك السليب. والنفس المصرية يذكرها مجد الفراعنة بمجد العرب، كما يذكرها ملك العرب بملك الفراعنة، والشجى ببعث الشجى، وهذا كله قبر مالك، لو يعلم اللائمون.
ولم يصنع البحتري هذا الصنيع وإنما حدثنا عما طفقت الأيام من صبابة عيشه، وما كان من غبنه حين باع الشام واشترى العراق، وكيف رابه نُبُوُّ ابن عمه بعد أن كان أنيس المحضر، لين الجانبين، ثم قال:
وهذا هو عين الاقتضاب، ولا يبعد عندي أن يكون الزمن قضى على جزء من هذه القصيدة، وإن لم يوجد ما يرجح هذا الظن، فقد كانت هذه القصيدة بلا ريب موضع عناية الرواة، ولكن المريب هو أن يزهد البحتري في حسن التخلص وهو يجبر قصيدة من أروع قصائده إن لم تكن أجمل ما قال. وكان من عادته كذلك أن يخير للبداية ما يمت بصلة وثيقة إلى ما سينتقل إليه، وأشهر ما له في هذا الأسلوب قصيدته الميمنة في عتاب الفتح بن خاقان، فقد ابتدأها بقطعة من النسيب هي أيضًا عتاب، وذلك حيث يقول:
وفي هذه القصيدة يقول:
نقول: إن البحتري لم يؤثر التخلص في قصيدته السينية، وإنما آثر الاقتضاب، ولا كذلك شوقي، فقد أخذ يتكلم عن ويلات الممالك ونكبات الشعوب، ثم دخل في الموضوع برفق وهو يقول:
نقرر هذا، ثم نذكر أن البحتري لا لوم عليه في أن خلت قصيدته من مثل المقدمة الممتعة التي افتتحت بها قصيدة شوقي؛ لأن ظروف البحتري، وقد ضاق به عيشه، وظلمه أهله، غير ظروف شوقي وهو يحاول العودة إلى وطن أسير تحالفت عليه الرزايا وتنكر له الزمان، وأصلاه أهله نار العقوق، وهو قد خلف في هذا الوطن أحلام شبابه وأوهام صباه، وترك فيه ما كان يملك من أسباب الحياة، ثم هو لا يدري إذا عاد أيقر قراره فيلقي عصا التسيار، أم تعصف به وشاية جديدة، تحمله إلى المنفى من جديد … ولو كان للبحتري مثل هذا القلب المشرد، وهو يشد رحال إلى الإيوان، لكان له شأن آخر، ولكانت شكواه مضرب الأمثال، ولكن الشاعر له «رسالة» يؤديها إلى أهل عصره، ولا مفر له من أدائها ما دام له قلب ووجدان، وكان «رسالة» شوقي حين قال سينيته أن يصف ما يلاقي أهل مصر من الكمد، وهم يودعون كل يوم فريقًا من أبنائهم الأحرار، ويستقبلون بالرغم منهم ما يلقي إليهم البحر من نفايات الأمم وأوشاب الأقطار، وكان له في ذلك هذا البيت الذي يصلح لكل أمة ولكل جيل:
وفي مقابله البحتري، وهو يتحدث عن نفسه:
ولكن أين هذا من ذاك؟ وأين قول البحتري في عنف الدهر وجوره:
من قول شوقي في المعنى نفسه:
فإن هذه صورة شعرية نادرة المثال.
ومطلع البحتري:
فيه ضعف وانحلال، وليس بقاطع الدلالة على الإباء، وخير منه مطلع شوقي:
وإن كنا لا ندري بمن يستنجد، وقد نسي أيام صباه، ورحم الله ابن الأحنف إذ يقول:
ويذكرون أن لورد كرومر حضر عرسًا مصريًّا وسمع المغني يقول: «حبيبي غاب، هاتوه لي يا ناس»، فلما سأل المترجم عن معنى هذا الصوت ووقف على مدلوله قال: «إن المصري لكسول، وإنه ليطلب حتى من يعينه على رد محبوبه الغائب». وكذلك يطلب شوقي من يحدثه عن أيام الأنس في عهد الشباب، وإنه لمطلب عجيب!