الفصل السابع عشر
بين البحتري وشوقي
ولقد أخذ البحتري: بعد مقدمته الوجيزة يتكلم عن إيوان كسرى، ويتحدث عن بناته، ويعرض
بسكان
القفار من الأعراب، فيقول:
أتَسلَّى عنِ الحُظُوظِ وآسَي
لِمَحل مِنْ آلِ سَاسَان دَرْسِ
ذَكَّرَتْنِيهِمُ الخُطُوبُ التَّوَالِي
وَلَقَدْ تُذْكِرُ الخُطُوبُ وتُنْسِي
وُهُمو خافِضونَ في ظِلٍّ عالٍ
مُشْرِفٍ يحْسِرُ العْيون ويْحسِي
مُغْلِقٌ بَابَهُ عَلَى جَبَل الفَبْقِ
إِلَى دارَتَيْ خِلاطٍ وَمَكْسِ
حلَلٌ لَمْ تَكُنْ كَأَطْلاَلِ سُعْدَى
في قِفَارٍ منَ الْبَسَابِسِ مُلْسِ
وَمَسَاعٍ لَوْلاَ المُحَابَاةُ منِّي
لَمْ تُطِقْها مَسْعَاةُ عُنْسٍ وَعَبْسِ
نَقَلَ الدَّهْرُ عَهْدَهُنَّ من الْجِدَّةِ
حَتَّى غَدَوْنَ أَنْضَاءَ لُبْسِ
فَكأنَّ الْجرْمَازَ منْ عَدَمِ الْأُنْسِ
وَإِخْلاقِهِ بَنِيَّةُ رَمْسِ
لَوْ تَراهُ عَلِمْتَ أَنَّ اللَّيالي
جَعَلَتْ فيه مأَثمًا بَعْدَ عُرْسِ
وَهو يُنْبيكَ عَنْ عَجائِبِ قَوْمٍ
لا يُشابُ البَيَانُ فيهِمُ بلبْسِ
وهذا البيت الأخير تمهيد مباشر لوصف ما في الإيوان من النقوش والتهاويل، ولنا إليه
عودة،
فلنلاحظ الآن أن البحتري يتحبس، وهو يبين عن أثر الإيوان في نفسه، ويتوقف وهو يفصح عما
بين
العرب والفرس من شتى الفروق، وترجع هذه الحبسة إلى اتقاء الفتنة، وكبح ما يجمع عن هذه
المقارنة من شهوة التنافر وإثارة الأحقاد؛ ولهذا يقول في هدوء:
حلَلٌ لَمْ تَكُنْ كَأَطْلاَلِ سُعْدَى
في قِفَارٍ منَ الْبَسَابِسِ مُلْسِ
وَمَسَاعٍ لَوْلاَ المُحَابَاةُ منِّي
لَمْ تُطِقْها مَسْعَاةُ عُنْسٍ وَعَبْسِ
وقد صدق، وإن جرح الإيوان، وإلا فما هي أطلال سعدى، ورسوم ليلى ونؤي عفراء! ولم يجد
شوقي
ما يضطره إلى مثل هذه الموارية، إذ كان يتكلم عن مجد المسلمين والعرب، في بلاد إسلامية
مجموعة الأهواء، ومن هنا نراه يقول في وضوح وجلاء:
رُبَّ لَيْلٍ سَرَيْتُ وَالبَرْقُ طِرْفي
وَبِساطٍ طَوَيْتُ وَالرِّيحُ عَنْسي
أَنْظِمُ الشَرْقَ في (الجَزيرَةِ) بِالغَرْ
بِ وَأَطْوي البِلادَ حَزْنًا لِدَهْسِ
في دِيارٍ مِنَ الخَلائِفِ دَرْسٍ
وَمَنارٍ مِنَ الطَّوائِفِ طَمْسِ
وَرُبًا كَالْجِنانِ في كَنَفِ الزَّيْتو
نِ خُضْرٍ وَفي ذَرا الكَرْمِ طُلْسِ
لَمْ يَرُعْنِي سِوَى ثَرىً قُرْطُبِيٍّ
لَمَسَتْ فيه عِبْرَةَ الدَّهْرِ حَمْسِي
يَا وَقَى الله مَا أُصَبِّحُ مِنْهُ
وَسَقَى صَفْوَةَ الْحَيَا مَا أُمَسِّي
قَرْيَةٌ لا تُعَدُّ في الْأَرْضِ كانَتْ
تُمْسِكُ الأَرْضَ أَنْ تَميدَ وَتُرْسي
غَشِيَت ساحِلَ المُحيطِ وَغَطَّتْ
لُجَّةَ الرُّومِ مِنْ شِراعٍ وَقَلْسِ
رَكِبَ الدَّهْر خَاطِري في ثَرَاهَا
فَأَتَي ذلِكَ الْحِمَى بَعْدَ حَدْسِ
فَتَجَلَّت لِيَ القُصورُ وَمَنْ فيها
مِنَ العِزِّ في مَنازِلَ قُعْسِ
ما ضَفَت قَطُّ في المُلوكِ عَلى نَذْ
لِ المَعالي وَلا تَرَدَّت بِنَجْسِ
ومن الخير أن ندل على الأبيات المختارة هنا وهناك. ونحن نستجيد قول البحتري:
ذَكَّرَتْنِيهِمُ الخُطُوبُ التَّوَالِي
وَلَقَدْ تُذْكِرُ الخُطُوبُ وتُنْسِي
ولعجز هذا البيت مغزى بديع، ونستجيد كذلك قوله:
نَقَلَ الدَّهْرُ عَهْدَهُنَّ من الْجِدَّةِ
حَتَّى غَدَوْنَ أَنْضَاءَ لُبْسِ
فَكأنَّ الْجرْمَازَ منْ عَدَمِ الْأُنْسِ
وَإِخْلاقِهِ بَنِيَّةُ رَمْسِ
وفي هذين البيتين دقة وخيال، وللقارئ أن يتأمل كيف صارت هذه الحلل: «أنضاء لبس» وكيف
أمسى
الجرماز وكأنه: «بنية رمس». فأما قوله:
لَوْ تَرَاهُ عَلِمْتَ أَن الليَالِي
جَعَلَتْ فيه مَأْتَمًا بَعْدَ عُرْسِ
فهو غاية الغايات في بكاء المغاني، يتحكم فيها البلى، وتبطش بها أيدي العفاء. ونستجيد
قول
شوقي:
لَمْ يَرُعْنِي سِوَى ثَرىً قُرْطُبِيٍّ
لَمَسَتْ فيه عِبْرَةَ الدَّهْرِ حَمْسِي
ولمس العبرة من المعاني الدقيقة. وقد بلغ غاية الرفق، وهو يقول في تحية هذا الثرى:
يَا وَقَى الله مَا أُصَبِّحُ مِنْهُ
وَسَقَى صَفْوَةَ الْحَيَا مَا أُمَسِّي
ونستجيد كذلك قوله:
رَكِبَ الدَّهْر خَاطِري في ثَرَاهَا
فَأَتَي ذلِكَ الْحِمَى بَعْدَ حَدْسِ
يصف تلك البقعة بالدروس، ويذكر أنه ضل ولم يهتد إلا بعد أن ركب خاطره الدهر، ومع هذا
لم
يصل إلا بعد توهم وحدس، وتلك وثبة من وثبات الخيال.
ثم أخذ البحتري يصف ما في الإيوان من صور المعارك فقال:
فَإِذا ما رَأَيْتَ صورَةَ أَنْطا
كِيَّةَ ارْتَعْتَ بَيْنَ رومٍ وَفُرْسِ
وَالْمَنَايا مَواثِلً وأنَوشِرْوانْ
يُرْجِي الصُّفوفَ تَحْتَ الدِّرفْسِ
في اخْضرارٍ مِنَ اللِّباسِ عَلَى
أصْفَرَ يَخْتالُ في صَبيغَةٍ وَرْسِ
وَعِراك الرِّجالِ بَيْنَ يَدَيْه
في خُفوتٍ منْهُمْ وَإِغماضِ جَرْسِ
مِنْ مُشيحٍ يَهْوي بِعامِلِ رُمْحٍ
وَمُليحٍ مِنَ السِّنانً بتُرْسِ
تَصِفُ الْعَيْنُ أَنَّهُمْ جِدُّ أَحْيَا
ءَ لَهُمْ بَيْنَهُمْ إشارَةُ خُرْسِ
يَغْتَلي فيهمُ ارْتيَابِي حَتَّى
تَتَقَرَّاهُمُو يَدَايَ بِلَمْسِ
وهذه القطعة من أدق ما قيل في الوصف، بذكر أنه شهد في الإيوان صورة كسرى، وهو يحاصر
أنطاكية وأنك لو رأيت هذه الصورة لارتعت من حملة الفرس على الروم، وكيف يرتاع المرء،
وهو
يشاهد صورة على الحائط؟ هذا هو وجه الحسن فهو يذكر أنك حين ترى هذه الصورة، لا يخطر ببالك
أنها صورة، وإنما تحسب لصدق التصوير أنك في ميدان القتال، والمنايا مواثل أمامك، فيما
أنوشروان يزجي الصفوف تحت اللواء. ولم يفته أن يصف ما على الجنود من ألوان الثبات، وما
هم
عليه من إيثار الخفوت، بين مشيح بالرمح، ومليح بالسنان، وانظر كيف يقول:
تَصِفُ الْعَيْنُ أَنَّهُمْ جِدُّ أَحْيَا
ءَ لَهُمْ بَيْنَهُمْ إشارَةُ خُرْسِ
يَغْتَلي فيهمُ ارْتيَابِي حَتَّى
تَتَقَرَّاهُمُو يَدَايَ بِلَمْسِ
فهو يراهم جد أحياء، وإن لم يسمع لهم صوت؛ لأن في سماتهم ما يدل على اكتفائهم بالإشارة
كما يكتفي الخرس، ثم يعود إلى نفسه فيذكر أنه أمام صورة، ثم يغلب على حسه فيرتاب فيما
يراه:
فيلمس الصورة بيده ليعرف أحقيقة هي أم خيال!، والمصور الحاذق هو الذي يسبغ على صوره أثواب
الحياة. ولقد أذكر أني شهدت في أطلال الفراعنة بالأقصر صورة سمكة، ولم أكد أملأ منها
عيني
حتى خلتها تتقلب، وكذلك يسحر الفن الجميل.
ولقد نحا شوقي منحى البحتري في الوصف، وإن اختلف الموصوف، فقال وقد تجلت له تلك
القصور:
وَكَأَنّي بَلَغْتُ لِلعِلْمِ بَيْتًا
فيهِ مالُ العُقولِ مِنْ كُلِّ دَرْسِ
قُدُسًا في الْبِلادِ شَرْقًا وَغَرْبًا
حَجَّهُ القَوْمُ مِنْ فَقيهٍ وَقَسِّ
وَعَلَى الْجُمْعَةِ الْجَلالةُ و(النَّا
صِرُ) نُورُ الْخَمِيسِ تَحْتَ الدّرِفْسِ
يُنْزِلُ التَّاجَ عَنْ مَفارِقِ (دونٍ)
ويُحَلِّي بِه جَبينَ (الْبرْنِس)
سِنَةٌ مِنْ كَرىَّ وَطَيْفُ أَمَانٍ
وَصَحَا الْقَلْبُ مِنْ ضَلاَلٍ وَهَجْسِ
وَإِذَا الدَّارُ مَا بِهَا مِنْ أَنيسٍ
وَإذَا الْقَوْمُ مَا لَهُمْ مِنْ مُحسِّ
وَرَقيقٍ مِنَ الْبُيوتِ عَتيقٌ
جاوَزَ الأَلْفَ غَيْرَ مَذْمُومِ حَرْسِ
أَثَرٌ مِن (مُحَمَّدٍ) وَتُراثٌ
صارَ (لِلرُّوحِ) ذي الْوَلاءِ الْأَمَسِّ
بَلَغَ النَّجْمَ ذِرْوَةً وَتَناهَى
بَيْنَ (ثَهْلانَ) في الأَساسِ و(قُدْسِ)
مرْمَرٌ تَسْبَحُ النوَاظِرُ فِيه
وَيَطُولُ المَدَى عَلَيْهَا فَتُرْسِي
وَسَوَار كَأَنَّهَا في اسْتوَاءٍ
أَلِفَاتُ الْوَزِيرِ في عَرْضِ طرْسِ
فَتْرَةُ الدَّهْرِ قَدْ كَسَتْ سَطَرَيْها
ما اِكْتَسَى الهُدْبُ مِنْ فُتورٍ وَنَعْسِ
وَيْحَها كَمْ تَزَيَّنَتْ لِعَليمٍ
واحِدِ الدَّهرِ وَاِسْتَعدَتْ لِخَمْسِ
وَكَأَنَّ الّرَفيفَ في مَسْرَحِ العَيْـ
ـنِ مُلاءٌ مُدَنَّراتُ الدِمَقْسِ
وَكَأَنَّ الآياتِ في جانِبَيْهِ
يَتَنَزَّلْنَ مِنْ مَعارِجِ قُدْسِ
مِنْبَرٌ تَحْتَ (مُنْذِرٍ) مِنْ جَلالٍ
لَمْ يَزَلْ يَكْتَسيهِ أَو تَحْتَ قُسِّ
وَمَكَانُ الْكِتَابِ يُغْرِيكَ رَيَّا
وَرْدِه غَائبًا فَتَدْنُو لِلَمْسِ
وهذه القطعة على طولها لا تسمو إلى ما وصلت إليه النفثة البحترية من فتنة القلب والوجدان،
ولعل السر في هذا أن البحتري وجد في الإيوان صورة الحرب بين الفرس والروم، وصورة الحرب
يهز
النفس، وتثير ما كمن فيها من عناصر القوة والفتوة. أما شوقي فقد وجد بالقصر آيات من القرآن،
لم يذكر أكانت في وصف الجنة، أم في الدعوة إلى القتال؟ والفن الذي يستمد قوته من الأصول
الدينية، الوادعة الهادئة، لا يصلح إلا للكهول، والويل للأمم إذا لم تغلب عليها نزعات
الفروسية، ولم يستبد بها ما في الشباب من نشاط وجنون.
وما أبعد الفرق بين قول البحتري:
والمنايا مَوَاثِلٌ وَأَنُوشِروانْ
وَأنُ يُزْجِي الصُّفُوفَ تَحْتَ الدِّرَفْس
وبين قول شوقي:
وَعَلَى الْجُمْعَةِ الْجَلالةُ و(النَّا
صِرُ) نُورُ الْخَمِيسِ تَحْتَ الدّرِفْسِ
وشوقي يصف ما رآه، فلا لوم عليه ولا تثريب، وصدق من قال:
فَلَوْ أنَّ قَوْمِي أَنْطَقَتْنِي رَمَاحُهُمْ
نَطَقْتُ وَلكِنَّ الرِّمَاحَ أجَرَّت
وقد لا نجد في هذا العصر من يسمح بأن توضع في المساجد والمعابد صور المعارك والحروب.
ولم
يظلم أحد أهل الشرق، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون: فقد حولوا جهودهم العلمية والفنية إلى
الآخرة، كما بينا ذلك في كتاب «الأخلاق عند الغزالي»، وتركوا الدنيا لمن هم أحق بها من
شياطين الغرب، وحيا الله أولئك الشياطين، فهم ملائكة هذا الجيل، وإن رذائل القوة لخير
من
فضائل الضعف، لو يعلم الشرقيون.
ولشوقي أن يذكر أن جلالة الدين كانت لذلك العهد من أقوى البواعث على حراسة الملك،
ولم تكن
صورة رسمية يستبق إليها طلاب الرزق، وللرزق أبواب! يدل على هذا قوله:
سِنَةٌ مِنْ كَرىَّ وَطَيْفُ أَمَانٍ
وَصَحَا الْقَلْبُ مِنْ ضَلاَلٍ وَهَجْسِ
وَإِذَا الدَّارُ مَا بِهَا مِنْ أَنيسٍ
وَإذَا الْقَوْمُ مَا لَهُمْ مِنْ مُحسِّ
فهو يأسى على أن تبين أن ذلك الحرم ومن فيه من الملوك، وما فيه من آثار العقول، ليس
إلا
سنة من الكرى، وطيفًا من الأماني.
ويعجبني قوله في وصف القصر:
مرْمَرٌ تَسْبَحُ النوَاظِرُ فِيه
وَيَطُولُ المَدَى عَلَيْهَا فَتُرْسِي
وَسَوَار كَأَنَّهَا في اسْتوَاءٍ
أَلِفَاتُ الْوَزِيرِ في عَرْضِ طرْسِ
وإن كان تشبيه سواري القصر بألفات ابن مقلة فيه شيء من الضعف إذ كان جمال الخط لا
يتعدى
الحسن إلى الجلال، والفرق بعيد بين الحس الفاتن، والجمال الرائع، فجمال النهر في الليالي
المقمرة فيه حسن وفتنة، وفيه أيام السرار، روعة وجلال.
وقول شوقي:
وَمَكَانُ الْكِتَابِ يُغْرِيكَ رَيَّا
وَرْدِه غَائبًا فَتَدْنُو لِلَمْسِ
مأخوذ من قول البحتري:
يَغْتَلي فيهمُ ارْتيَابِي حَتَّى
تَتَقَرَّاهُمُو يَدَايَ بِلَمْسِ
وبيت البحتري أجود في معناه، وهو كذلك يقتضيه السياق، أما بيت شوقي فهو في مكانه
غريب.
وقول شوقي بعد ذلك الوصف:
صَنْعَةُ (الدَّاخِلِ) المُبارَكِ في الْغَرْ
بِ وَآلٍ لَهُ مَيامينَ شُمْسِ
فيه ضعف، وكأنه لم يقله إلا على سبيل التكملة، وما أغنى الشعر عن مثل هذا
التذييل!!