عود إلى أهواء النقاد
بينت للقارئ في الكلمة الماضية أنه يجب أن لا يخضع الناقد عند الموازنة لغير الحاسة الفنية، وذكرت له بعض الآفات التي تذهب بقيمة النقد: كالتعصب للقديم أو الجديد والتشيع بالأفكار الدينية، أو الصوفية، والدفاع عن الجنس في حكم بعض النساء بين الشعراء.
والآن أسير مع القارئ في هذه السبيل؛ لنعرف بقية الموانع التي تحول بين الناقد وبين الصواب حين يوازن بين الشعراء.
١
لا ينكر أحد أن ابن الرومي كان من الشعراء الفحول، والشاعر أبصر بالشعر من سواه، فلحكمه قيمة خاصة تفوق أحكام المتأدبين من رجال اللغة والرواية، ومع هذا فأنا أستطيع أن أحكم بأن ابن الرومي حكم مرة بالجمال لقطعة من الشعر، وكان في حكمه من الخاطئين، وإليك البيان:
كان ابن الرومي مسرفًا في التطير، وكاد إسرافه فيه يصل به إلى الجنون، فقد كان يلبس أثوابه كل يوم ويتعوذ، ثم يصير إلى الباب والمفتاح معه فيضع عينه على ثقب في خشب الباب فتقع على جار له كان نازلًا بإزائه، وكان أحدب، يقعد كل يوم على بابه، فإذا نظر إليه رجع، وخلع ثيابه، وقال: لا يفتح الباب! فكان بيته يظل مغلق الأبواب إلى أن يشرف من فيه على الهلاك! وعلم معاصروه بإفراطه في التطير، فأقبل عليه أحدهم وأنشده:
فبقي ابن الرومي باهتًا ينظر إليه، ثم تبين الحاضرون أنه شغل قلبه بحفظ هذه الأبيات.
أفيحسب القارئ أن مثل هذه القطعة — وهي وسط في ألفاظها ومعانيها — كانت تشغل مثل ابن الرومي، وتظفر باحتلال قلبه، لولا بغضه للتطير، وملله من تلك الوسوسة التي كدرت عليه موارد الحياة؟
إن الناقد مفروض فيه البرء من جميع الأغراض؛ لأن النقد نوع من القضاء، فإذا سيطرت عليه فكرة خاصة صيرت حكمه طعمة للظنون، وسواء في ذلك الأفكار الدينية، والنزعات الجنسية، والاتجاهات العقلية التي تصبغ التفكير بلون خاص.
٢
إن الشعر الوسط قد يؤثر تأثير الشعر البديع حين تستعد له النفس، ولكن هذا التأثير لا يسمو بالشعر الوسط إلى منزلة الشعر الجيد، ومن أمثلة ذلك ما روي من أن بعض الأعراب تزوج جارية من رهطه وطمع في أن تلد له غلامًا، فولدت له جارية، فهجرها وهجر منزلها، وصار يأوي إلى غير بيتها، فمر بخبائها بعد حول، وإذا هي ترقص ابنتها، وهي تقول:
فلما سمع الأبيات أقبل يعدو نحوها حتى ولج عليها الخباء، فقبلها وقبل ابنتها، وقال: ظلمتكما ورب الكعبة.
وكذلك يجب درس حالة الناقد النفسية قبل الاعتداد بما أصدر من الأحكام؛ لأن الحكم يتبع ما للنقاد من ألوان النفوس، وصور العقول.
٣
ونستطيع كذلك غض النظر عن الأحكام التي يخضع أصحابها لفكرة قومية، أو حزبية، فقد أسرف النقاد في الظلم حين تصدروا للفصل بين شعراء الأحزاب، وإنك لتجد أمثلة ذلك منثورة هنا وهناك: حين ترجع للعصور التي اصطدمت فيها الدولة العباسية بالدولة الأموية، وحين تراجع التنافس الذي كان بين أدباء قرطبة وأدباء بغداد.
وهذا عبد الملك بن مروان كان من أبصر أهل عصره بنقد الشعر، فلما دخل عليه الأخطل وأنشده:
أقول: لما أنشد الأخطل هذه القصيدة طرب عبد الملك وقال: أأنادي في الناس أنك أشعر العرب؟ فقال الأخطل: حسبي شهادتك يا أمير المؤمنين!
ولم يكن الأخطل أشعر العرب إذ ذاك، فقد كان جرير والفرزدق في الميدان، ولكن عبد الملك خضع في حكمه للمصلحة الذاتية لا الحاسة الفنية، فقد كان الأخطل سليط اللسان، خبيث الهجاء، وكان عبد الملك قد استعان به على لذع من يناوئه من رجال السياسة وشعراء الأحزاب، ومن هنا كانت دالة الأخطل عليه، وكان ما رووا من أنه كان يجيئه وعليه جبة خز، وفي عنقه صليب ذهب، وفي ملامحه نشوة الصهباء، مع أن عبد الملك خليفة المسلمين، والدين في عنفوانه، والناس على نصره حراص، ولكن السياسة، وحاجة الملك إلى الدعاة من كُتَّاب وخطباء وشعراء، والحرص على تحقير المعارضين، كل أولئك أغرى عبد الملك بحب الأخطل، والحكم بأنه أشعر الناس!.
ولو أن ابن رشيق تنبه لهذا الغرض لما ظن أن المسلمين سكنوا عن الأخطل لجمال شعره، ولما عجب من جهره بتحقير الفرائض الإسلامية حين قال:
ولكن ابن رشيق حسب عبد الملك سكت عن هذا الشاعر لحسن شعره، وتقدمه على معاصريه؛ ولذلك قال: «ومن الفحول المتأخرين الأخطل، واسمه غياث بن غوث، وكان نصرانيًّا من تغلب، بلغت به الحال في الشعر إلى أن نادم عبد الملك بن مروان وأركبه ظهر جرير بن عطية الخطفي، وهو تقي مسلم». ثم قال: «وهجا الأنصار ليزيد بن معاوية لما شبب عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بعمته فاطمة بنت أبي سفيان، وقيل: بل بأخته هند بنت معاوية، ولولا شعره لقتل دون أقل من ذلك، وقد رد على جرير أقبح رد، وتناول من أعراض المسلمين وأشرافهم، ما لا ينجو مع مثله علوي فضلًا عن نصراني».
وقد بينت لك أن الشعر وحده لم يكن كافيًا لنجاة الأخطل من أن يؤخذ بجرائره، ولكن دفاعه عن بني أمية، وهجاءه لخصومهم، كانا سببًا في تعصب الأمويين له حتى حكم عبد الملك بتقدمه على الشعراء.
٤
وكما كان عبد الملك يؤثر شعر الأخطل كان الرشيد يؤثر شعر منصور النميري، ولكن لا تنس أن رجال السياسة لا يحبون الشعر للشعر، ولا العلم للعلم، وإنما يتخذون الشعراء والعلماء مطايا لأغراضهم السياسية، فمن البله أن نظن أن جودة الشعر هي التي أدنت النميري من الرشيد، أو أن اتصال النسب كان سبب تلك الحظوة كما توهم بعض مؤرخي الآداب العربية، وإنما أدنى الرشيد هذا الشاعر لميله إلى إمامة العباس وأهله ومنافرته لآل علي بن أبي طالب، فقد ذكروا أنه قال في تسفيههم هذه الأبيات:
يريد قوله تعالى في سورة الأحزاب مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّي. ويذكرون أن الرشيد قال له: ما عدوت ما في نفسي ثم أمره أن يدخل بيت المال فيأخذ ما أحب، كما قال صاحب زهر الآداب، مع أن الآية وجهًا غير هذا الوجه، وتأويلًا غير هذا التأويل.
ويؤيد ما أسلفناه أن الرشيد لما بلغه قوله:
وأنا أكتفي بهذين المثالين في تعرض من يوازن بين الشعراء للظنة حين تسيطر عليه حزبية، أو قومية، ولولا أني أعرف في شعراء العصر ضيق الصدر لذكرت لك نماذج من شعرهم في مسايرة الأحزاب، خوفًا من النقد والموازنة تحت وحي الأغراض، ولهم العذر في هذا الدهاء، فإن الأمة التي تكاد تصدق أكثر ما يقال، إنما تحمل الشعراء على أن يحسبوا حسابًا لما يكتب عنهم في الصحف التي لا تعرف الفرق بين الشخصية الأدبية، والشخصية السياسية؛ فقد أكون عدوك لأنك تناصر حزبًا غير الحزب الذي أناصره، وأكون في الوقت نفسه نصيرك كعالم أو أديب، أو فنان.