الفصل العشرون
بين البوصيري وشوقي والبارودي
ابتدأ البوصيري قصيدته بالتشبيب، ونحا شوقي منحاه، وتلك عادة عربية قديمة، لم يفكر
الشعراء في تركها إلا في هذا الجيل، وإن كان من قدمائهم من نالها بملام، كالمتنبي إذ
يقول:
إذا كَان مَدحٌ فالنَّسِيب المُقَدَّم
أُكُل فصيحٍ قال شعرًا مُتَّيم؟
وكان للصوفية شيء من الغزل المستملح المقبول، فكان مريدوهم يئولونه فيرونه موجهًا
إلى
الذات الإلهية أو الحضرة النبوية، ولهم في ذلك التأويل أعاجيب يبسم لها ثغر الحزين، فليرجع
إليها من شاء في كتب التوحيد، ليقف على شيء من تصورات أولئك الناس، فقد برروا ما جرى
على
ألسنة شيوخهم، من المجون، وجعلوه نوعًا من الرمز والتمثيل، وتطلف المتأدبون منهم فأجروه
مجرى الاستعارة التمثيلية، وألحقوا ما يجري بين عشاق الأرواح بما يجري بين عشاق الأشباح،
إلى آخر ما لهم في هذا الباب من لطف الاحتيال.
وهذا كله أثر تلك العادة: وهي افتتاح الشعر بالنسيب، وهي عادة لم يقلع عنها شوقي إلى
الآن، وأظرف ما وقع له في هذا المسلك قصيدته في مشروع ملنر، فقد افتتحها بهذه
الأبيات:
اِثنِ عَنانَ القَلبِ وَاسلَم بِهِ
مِن رَبرَبِ الرَملِ وَمِن سِربِهِ
وَمِن تَثَنّي الغيدِ عَن بانِهِ
مُرتَجَّةَ الأَردافِ عَن كُثبِهِ
ظِباؤُهُ المُنكَسِراتُ الظُبا
يَغلِبنَ ذا اللُبِّ عَلى لُبِّهِ
بيضٌ رِقاقُ الحُسنِ في لَمحَةٍ
مِن ناعِمِ الدُرِّ وَمِن رَطبِهِ
ذَوابِلُ النَرجِسِ في أَصلِهِ
يَوانِعُ الوَردِ عَلى قُضبِهِ
زِنَّ عَلى الأَرضِ سَماءَ الدُجى
وَزِدنَ في الحُسنِ عَلى شُهبِهِ
يَمشينَ أَسرابًا عَلى هينَةٍ
مَشيَ القَطا الآمِنِ في سِربِهِ
مِن كُلِّ وَسنانٍ بِغَيرِ الكَرى
تَنتَبِهُ الآجالُ مِن هُدبِهِ
وهي قصيدة طويلة، ثلثها في النسيب. ويذكر شوقي أنه قالها كارهًا ولا يبعد على هذا
أن يكون
ما فتحها به من التشبيب جزءًا من المنحة، التي اجتداها أنصار المشروع إذ ذاك!! وقد رأيت
من
شعراء العصر من يعجب من الحملة التي وجهها النقاد إلى افتتاح الشعر بالنسيب وهو يرى ذلك
نوعًا من الرياضة لقرائح الشعراء، وأذكر أني رأيت في كلام القدماء ما يؤيد هذا المعنى،
فقد
كان منهم من يرى التوفيق إلى إجادة التشبيب بابًا للتوفيق إلى الإجادة في سائر القصيد.
ومهما يكن من شيء فقد سار البوصيري وشوقي على أثر من تقدمهم من الشعراء، ولا تقل: كان
الأدب
يقضي بتجنب هذا النهج في المدائح النبوية، فقد شبب كعب بن زهير بمحبوبته وهو في حضرة
الرسول، فما لامه النبي، ولا أنكرها عليه أصحابه، ولا آخذه بها مؤرخو الآداب.
ولنا أن نلاحظ أن البوصيري جرى في تشبيبه مجرى المحاكاة والتقليد، فإنا نراه يقول
في مطلع
البردة:
أمِنْ تَذَكُّرِ جيرَانٍ بِذِي سَلَمِ
مزجتَ دمعًا جرى من مقلة بدمِ
أمْ هبَّتِ الرِّيحُ مِن تِلقَاءِ كاظِمَةٍ
وأوْمَضَ البَرْقُ في الظلْماءِ مِنْ إضَمِ
وذو سلم: واد ينحدر عن النائب في أرض بني البكّاء على طريق البصرة إلى مكة كما ذكر
ياقوت،
وفيه يقول كثيِّر:
أمِن آلِ سَلْمى دِمنَة الذنَّائِبِ
إلى المِيت مِنْ رَيعانَ ذَاتِ المطارِبِ
يلُوحُ بأطْرَافِ الأَجِدَّة رَسْمُها
بذي سَلَمٍ أطلالُها كالمذاهِبِ
وكاظمة: جو على سيف البحر في طريق البحرين من البصرة، وفيه يقول بعض الشعراء:
يا حَبَّذَا البَرق أكنَاف كَاظِمَة
يَسعى عَلَى قَصَرات المرخ والعُشَر
لله دَرُّ بُيوتٍ كَان يَعُشَقُهَا
قَلبي وَيَألفُهَا إن طُيبت بصري
فَقَدتهَا فَقدَ ظَمآنٍ إدَاوَتَه
والقَيظَ بَقْذِف وَجه الأرض بالشَّرر
أُمنِيَّةُ النَّفس أن تزْدَاد ثَانَيِةً
وَحَالنَا وَالأمَانِي حُلْوة الثَمر
وإضم: واد بجبال تهامة، وهو الوادي الذي فيه المدينة، وفيه يقول سلامة بن جندل:
يا دَارَ أسمَاءَ بِالعَليَاءِ مِن إِضَمٍ
بينَ الدَّكادِكِ مِن قَوٍّ فمَعْصُوبِ
كَانتَ لَهَا مَرَّة دَارًا فَغَّيَّرَهَا
مَرُّ الرَّياحِ بسَاقي التُّربَ مجلوبِ
وذكر البوصيري لهذه المواطن، وشغفه بها، وحنينه إليها، ينافي مصريته، وكان له أن يتشوق
إلى أحبابه في بلبيس أو فاقوس، كما يتشوف بعض الناس إلى أحبائه في سنتريس وأسيوط، ولكن
يظهر
أن المغاني العربية كانت احتلت رءوس الشعراء، فكان من ذلك أن أكثروا من ذكر نجد، وسلع،
وأروند، وإن لم يكن لهم بهذه المواطن هوى، ولم ينعموا فيها باصطباح ولا اغتباق؛ ولذلك
نجد
التكلف ظاهرًا في حديث البوصيري عن جيرانه بذي سلم، ونحسبه اختارها للقافية، كما اختار
إضم
لهذا الغرض، وأين هذا الوجد المتكلف من قول من شغل عن أروند ببغداد:
وقَالت نِسَاء الحَيَّ أَّين ابْن أُختنَا؟
ألا خَبَّرُونا عَنْه حُيِّيتمُو وفدا
رَعَاه ضمَان الله هَل في بِلادِكُم
أَخو كَرَمٍ يَرْعَى لِذِي حَسَب عهدا
فإنَّ الَّذي خَلَّفتُمُوه بأرضِكم
فَتَى مَلأ الأحشاء هِجرانه وجدا
أَبَغدَادَكُم تُنسِّيه أَروَندَ مَربَعًا
ألا خاب من يشْري بِبغداد أَرَّوندا
فَدَتهُنَّ نَفسِي! لو سَمِعن بِما أَرَى
رَمَى كل جِيدٍ من تنهُّده عقدا
ومن الناس من يعتذر عن صاحب البردة بأنه تشوق إلى تلك المواطن لصلتها بمدينة الرسول،
وهذا
الاعتذار يؤيد ما أشرنا إليه من أنه يتغزل محاكاة وتقليدًا، ولو كان صادق اللوعة لشبب
بغادة
مصرية، وحن إلى معنى من معاني النيل
١، ولم يتقيد شوقي بهذا القيد حين قال:
ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ
أَحَلَّ سَفكَ دَمي في الأَشهُرِ الحُرُمِ
وإنما أطلق نفسه من ربقة التقليد، فلم يتحدث عن نجد، ولا عن تهامة، وإن غلبت عليه
بعض
الأخيلة العربية، فإن سفك الدم في الأشهر الحرم بقية من خيال الأعراب، فقد كانوا يأمنون
فيها مقارعة السيوف، ويظلون لا عاصم لهم من فتك العيون.
ولم يوفق البوصيري إلى حسن الأداء حين قال:
أمِنْ تَذَكُّرِ جيرَانٍ بِذِي سَلَمِ
مزجتَ دمعًا جرى من مقلة بدمِ
فإن قوله: «جرى من مقلة» حشو لا قيمة له، ولا وجه لما يقوله بعض الشيوخ من أن ذلك
تأكيد،
فإنه لم يشك أحد في أن الدم يجري من العين.
ومن رجال الأدب من لا تروقه كلمة «على القاع» في قول شوقي:
ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ
أما قوله:
أَحَلَّ سَفكَ دَمي في الأَشهُرِ الحُرُمِ
ففيه مقابلة يستملحها علماء البديع، وفيه براعة استهلال، وهو كذلك غاية في حسن
الأداء.
وقول البوصيري:
فما لعينيكَ إن قلتَ اكففا هَمَتا
ومَا لِقَلْبِك إنْ قُلْتَ اسْتَفِقْ يَهِمِ
فيه ضعف وابتذال، وهو غير موصول بسابقيه، وقد انتقل قبل أن يتم المعنى، فقال:
أَيَحْسَبُ الصَّبُّ أنَّ الحُبَّ مُنْكتِمٌ
ما بَيْنَ مُنْسَجِم منهُ ومضطَرِمِ
لولاَ الهَوَى لَمْ تُرِقْ دَمْعًا عَلَى طَلَلٍ
ولا أرقتَ لذكرِ البانِ والعلم
وقد حار الشراح في ربط هذه الأبيات.
وقد يستجاد قوله:
فكيفَ تُنْكِرُ حُبَّا بعدَ ما شَهِدَتْ
بهِ عليكَ عدولُ الدَّمْعِ والسَّقَم
وَأثْبَتَ الوجْدُ خَطَّيْ عَبْرَةٍ وضَنًى
مِثْلَ البَهارِ عَلَى خَدَّيْكَ والعَنَمِ
وشوقي أبرع من البوصيري في الحديث عن طيف الخيال، فإنا نجد البوصيري يقول:
نعمْ سرى طيفُ من أهوى فأرقني
والحُبُّ يَعْتَرِضُ اللَّذاتِ بالأَلَمِ
٢
وهو بيت مفرد لم يتم به المعنى. أما شوقي فقد أفصح عن مراده حين قال:
يا ناعِسَ الطَرفِ لا ذُقتَ الهَوى أَبَدًا
أَسهَرتَ مُضناكَ في حِفظِ الهَوى فَنَمِ
أَفديكَ إِلفًا وَلا آلو الخَيالَ فِدًى
أَغراكَ باِلبُخلِ مَن أَغراهُ بِالكَرَمِ
سَرى فَصادَفَ جُرحًا دامِيًا فَأَسا
وَرُبَّ فَضلٍ عَلى العُشّاقِ لِلحُلُمِ
والفرق بعيد بين قول البوصيري:
نعمْ سرى طيفُ من أهوى فَأرَّقَني
وبين قول شوقي:
سَرى فَصادَفَ جُرحًا دامِيًا فَأَسا
وشوقي يجيد هذا النوع من الترتيب، وهو صاحب هذا البيت البديع:
نَظرَةٌ فَابِتسَامَةٌ فَسَلامُ
فكَلَامٌ فمَوعِد فَلِقاءَ
وقول شوقي «ورب فضل على العشاق للحلم» أرفق من قول البوصيري: «والحب يعترض اللذات
بالألم»
— أما قول شوقي:
يا ناعِسَ الطَرفِ لا ذُقتَ الهَوى أَبَدًا
أَسهَرتَ مُضناكَ في حِفظِ الهَوى فَنَمِ
فهو عندي أغزل بيت قاله المحدثون … وفي قوله:
أَفديكَ إِلفًا وَلا آلو الخَيالَ فِدًى
أَغراكَ باِلبُخلِ مَن أَغراهُ بِالكَرَمِ
صورة صادقة لعبث العشق بالقلوب: فهو يغري المحبوب بالبخل، ويغري طيفه بالجود، وسماحة
الطيف بابٌ إلى اضطرام الفؤاد.
ويقول البوصيري في مدافعة اللائمين:
يا لائِمِي في الهَوَى العُذْرِيِّ مَعْذِرَة
منِّي إليكَ ولو أنصفتَ لم تلُمِ
ويقول شوقي:
يا لائِمي في هَواهُ وَالهَوى قَدَرٌ
لَو شَفَّكَ الوَجدُ لَم تَعذِل وَلَم تَلُمِ
وبيت شوقي أجمل، وقوله: «الهوى قدر» من أبدع ما قيل في دفع العذل والملام
٣.
أما قوله: «لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم»، فهو أجود في معناه من قول الشريف
الرضيّ:
أقُولُ للاّئِمِ المُهْدِي مَلامَتَهُ:
ذُق الهَوَى وإن اسْطَعْت الملاَم لُم
ومن قول ابن الفارض:
دَعَ عَنْكَ تَّعَنِيْفِيّ وَذُقْ طَعْمَ الْهَوَى
فَإِذَا عَشِقْت فَبَعد ذلِك عَنِّفِ
ولكن البوصيري كان أرق، وهو يحاور اللائم بقوله:
عَدَتْكَ حالِيَ لا سِرِّي بمُسْتَتِرٍ
عن الوُشاةِ وَلا دَائي بمنحسمِ
أما شوقي فقد غلبت عليه الحكمة، وهو يقول في حوار لائمه:
لَقَد أَنَلتُكَ أُذنًا غَيرَ واعِيَةٍ
وَرُبَّ مُنتَصِتٍ وَالقَلبُ في صَمَمِ
وشوقي يخلق الفرص ليقذف بالكلمة الحكيمة، وتلك إحدى سماته، ولكنها قد تزحزحه عن إصابة
الغرض في بعض الأحيان، على أن من الحق أن نذكر أن شوقي يعتز بالوجد وهو يدفع لائمه، فكان
له
أن يصرح بأنه منح العاذل أذنًا غير واعية، وقلبًا غير سميع، ولا كذلك البوصيري فقد جعل
الوجد داء ترجى منه السلامة، ووصف لائمه بنصح الجيب حين قال:
مَحَّضَتْنِي النُّصْحَ لكِنْ لَسْتُ أَسْمَعُهُ
إنَّ المُحِبَّ عَن العُذَّالِ في صَمَمِ
إلى هنا فرغ البوصيري من النسيب، فلنقف قليلًا عند المعاني التي انفرد بها شوقي، وإنا
لنستجيد قوله:
رَمى القَضاءُ بِعَينَي جُؤذَرٍ أَسَدًا
يا ساكِنَ القاعِ أَدرِك ساكِنَ الأَجَمِ
وهذا معنى قديم، والطريف فيه هو تصوير العينين بصورة السهم يرمي به القضاء، فهو لا
يذكر
أن الجوذر رماه، وإنما يذكر أن القضاء رماه بعيني جؤذر، والقضاء خبير بأنواع النصال!
وقد بلغ الرفق في قوله:
لَمّا رَنا حَدَّثَتني النَفسُ قائِلَةً
يا وَيحَ جَنبِكَ بِالسَهمِ المُصيبِ رُمي
جَحَدتُها وَكَتَمتُ السَهمَ في كَبِدي
جُرحُ الأَحِبَّةِ عِندي غَيرُ ذي أَلَمِ
رُزِقتَ أَسمَحَ ما في الناسِ مِن خُلُقٍ
إِذا رُزِقتَ اِلتِماسَ العُذرِ في الشِيَمِ
والبيت الأخير يمت إلى ما قبله بصلة ضعيفة؛ لأن النظرة الفاتنة أعز وأمنع من أن تعد
من
جملة الذنوب، والذي يكتم جرح الحب لا يصفح لمحبوبه عن جناية، فما هذا المن على
الجمال!
وأخطأ شارح القصيدة حين استأنس بقول المتنبي:
إنْ كانَ سَرّكُمُو ما قالَ حاسِدُنَا
فَمَا لجُرْحٍ إذا أرْضاكُمُ ألَمُ
ثم أخذ شوقي يصف هذا السرب الذي صحب حبيبته، فقال:
مَنِ المَوائِسُ بانًا بِالرُبى وَقَنًا
اللاعِباتُ بِروحي السافِحاتُ دَمي
السافِراتُ كَأَمثالِ البُدورِ ضُحًى
يُغِرنَ شَمسَ الضُحى بِالحَليِ وَالعِصَمِ
القاتِلاتُ بِأَجفانٍ بِها سَقَمٌ
وَلِلمَنِيَّةِ أَسبابٌ مِنَ السَقَمِ
العاثِراتُ بِأَلبابِ الرِجالِ وَما
أُقِلنَ مِن عَثَراتِ الدَلِّ في الرَسَمِ
المُضرِماتُ خُدودًا أَسفَرَتْ وَجَلَتْ
عَن فِتنَةٍ تُسلِمُ الأَكبادَ لِلضَرَمِ
الحامِلاتُ لِواءَ الحُسنِ مُختَلِفًا
أَشكالُهُ وَهوَ فَردٌ غَيرُ مُنقَسِمِ
مِن كُلِّ بَيضاءَ أَو سَمراءَ زُيِّنَتا
لِلعَينِ وَالحُسنُ في الآرامِ كَالعُصُمِ
يُرَعنَ لِلبَصَرِ السامي وَمِن عَجَبٍ
إِذا أَشَرنَ أَسَرنَ اللَيثَ بِالعَنَمِ
وَضَعتُ خَدّي وَقَسَّمتُ الفُؤادَ رُبًى
يَرتَعنَ في كُنُسٍ مِنهُ وَفي أَكَمِ
وهذه القطعة من البيان المشرق الجميل، وأستلمح منها قوله:
العاثِراتُ بِأَلبابِ الرِجالِ وَما
أُقِلنَ مِن عَثَراتِ الدَلِّ في الرَسَمِ
فقد جعلهن يمشين على القلوب، فيعثرن بقلب بعد قلب، وإن لم يسلمن من عثرات الدلال،
وهن
يتخطرن في الضحى، وعند الأصيل …
وأستجيد كذلك قوله:
يُرَعنَ لِلبَصَرِ السامي وَمِن عَجَبٍ
إِذا أَشَرنَ أَسَرنَ اللَيثَ بِالعَنَمِ
فقد وصفهن بالخفر والحياء، وذكر أنهن يرعن حين تسمو إليهن العين، والسحر كل السحر
في
الحسن الحذر الهيوب، وكان من العجب أن يأسر هؤلاء الخفرات الليث إذا أشرن إليه بالبنان
المخضوب … وما أروع قوله بعد ذلك في خطاب محبوبته:
يا بِنتَ ذي اللَبَدِ المُحَميِّ جانِبُهُ
أَلقاكِ في الغابِ أَم أَلقاكِ في الأُطُمِ
ما كُنتُ أَعلَمُ حَتّى عَنَّ مَسكَنُهُ
أَنَّ المُنى وَالمَنايا مَضرِبُ الخِيَمِ
٤
مَن أَنبَتَ الغُصنَ مِن صَمصامَةٍ ذَكَرٍ
وَأَخرَجَ الريمَ مِن ضِرغامَةٍ قَرِمِ
بَيني وَبَينُكِ مِن سُمرِ القَنا حُجُبٌ
ومِثلُها عِفَّةٌ عُذرِيَّةُ العِصَمِ
لَم أَغشَ مَغناكِ إِلا في غُضونِ كِرًى
مَغناكَ أَبعَدُ لِلمُشتاقِ مِن إِرَمِ
وفي هذه الأبيات صورة فاتنة لذلك الشذوذ الذي تحوكه الطبيعة، وإنها لصناع! ومن ذا
الذي لم
يفكر في الرجل يقطر من جوانبه اليأس، وتعبس الدنيا حين يعبس، ويثور الوجود حين يثور،
وفي
بيته فتاة من صلبه تحسبها لرقتها وحيائها ظبية تنثني أو غصنًا يميد.
وقول شوقي:
ما كُنتُ أَعلَمُ حَتّى عَنَّ مَسكَنُهُ
أَنَّ المُنى وَالمَنايا مَضرِبُ الخِيَمِ
مَن أَنبَتَ الغُصنَ مِن صَمصامَةٍ ذَكَرٍ
وَأَخرَجَ الريمَ مِن ضِرغامَةٍ قَرِمِ
أجود في معناه من قول الطغرائي:
إني أُريدُ طروقَ الحَيِّ من إضَمٍ
وقد حماهُ رماةٌ من بني ثُعلِ
يحمونَ بالبِيض والسُّمْرِ اللدانِ بهمْ
سودَ الغدائرِ حُمْرَ الحَلْي والحُلَلِ
وإنما كان أجود لتلك النظرة الدقيقة التي سجل بها شوقي عجبه من أن ينبت الغصن من السيف
الذكر، ويخرج الريم من الضرغامة القرم!
وقول شوقي:
بَيني وَبَينُكِ مِن سُمرِ القَنا حُجُبٌ
ومِثلُها عِفَّةٌ عُذرِيَّةُ العِصَمِ
لَم أَغشَ مَغناكِ إِلا في غُضونِ كِرًى
مَغناكَ أَبعَدُ لِلمُشتاقِ مِن إِرَمِ
أصرح في معناه وأجود من قول الطغرائي:
تؤم ناشئة بالجزع قد سُقيت
نِصالُها بمياه الغَنْجِ والكَحَلِ
٥
قد زادَ طيبَ أحاديثِ الكرامِ بها
ما بالكرائمِ من جُبنٍ ومن بُخُلِ
تبيتُ نارُ الهَوى منهنَّ في كَبِدٍ
حرَّى ونار القِرى منهم على القُلَلِ
يقتُلنَ أنضاءَ حبٍّ لا حَراكَ بها
وينحرونَ كرامَ الخيلِ والإِبِلِ
قصيدة البارودي
ونريد أن نلم إلمامة بقصيدة البارودي التي سماها «كشف الغمة في مدح سيد الأمة»، وهي
ميمية طويلة ضمنها سيرة النبي ﷺ من حين مولده إلى يوم انتقاله إلى جوار ربه،
وبناها كما قال على سيرة ابن هشام. والبارودي شاعر فحل، يعتز به تاريخ الأدب في مصر،
وقد نوازن بينه وبين أبي فراس. ولم نفكر في الموازنة بينه وبين البوصيري؛ لأنا لم نتأكد
من أنه رمى إلى معارضته، ولكن رأينا من الواجب أن نقدم للقارئ نماذج من قصيدة (كشف
الغمة) في المواطن التي يعرض لمثلها البوصيري وشوقي؛ ليكون الموضوع أوفى، وليجد القارئ
في تعدد الصور الشعرية مجالًا للنقد والتمييز … فلنذكر الآن ما بدأ به البارودي قصيدته
من النسيب قال:
يا رَائِدَ البَرقِ يَمّمِ دارَةَ العَلَمِ
وَاحدُ الغَمامَ إِلى حَيٍّ بِذِي سَلَمِ
وَإِن مَرَرتَ عَلى الرَّوحاءِ فَامرِ لَها
أخلافَ سارِيَةٍ هَتّانَةِ الدِّيَمِ
مِنَ الغِزارِ اللَّواتي في حَوالِبِها
رِيُّ النَّواهِلِ مِن زَرعٍ وَمِن نَعَمِ
إِذا استَهَلَّت بِأَرضٍ نَمْنَمَتْ يَدُهَا
بُرْدًا مِنَ النَّوْرِ يَكسُو عارِيَ الأَكَمِ
تَرى النَّباتَ بِها خُضْرًا سَنابِلُهُ
يَختَالُ في حُلَّةٍ مَوشِيَّةِ العَلَمِ
أَدعُو إِلى الدَّارِ بِالسُّقيا وَبِي ظَمَأٌ
أَحَقُّ بِالرِّيِّ لَكِنّي أَخُو كَرَمِ
مَنازِلٌ لِهَواها بَينَ جانِحَتي
وَدِيعَةٌ سِرُّها لَمْ يَتَّصِلْ بِفَمِي
إِذا تَنَسَّمتُ مِنها نَفحَةً لَعِبَت
بِيَ الصَبابَةُ لِعبَ الريحِ بِالعَلَمِ
أَدِر عَلى السَّمعِ ذِكراها فَإِنَّ لَها
في القَلبِ مَنزِلَةً مَرعِيَّةَ الذِمَمِ
عَهدٌ تَوَلّى وَأَبقى في الفُؤادِ لَهُ
شَوقًا يَفُلُّ شَباةَ الرَأيِ وَالهِمَمِ
إِذا تَذَكَّرتُهُ لاحَت مَخائِلُهُ
لِلعَينِ حَتّى كَأَنّي مِنهُ في حُلُمِ
فَما عَلى الدَّهرِ لَو رَقَّت شَمائِلُهُ
فَعادَ بِالوَصل أَو أَلقَى يَدَ السَّلَمِ
تَكاءَدَتني خُطُوبٌ لَو رَمَيتُ بِها
مَناكِبَ الأَرض لَم تَثبُتْ عَلى قَدَمِ
في بَلدَةٍ مِثلِ جَوفِ العَير لَستُ أَرى
فيها سِوَى أُمَمٍ تَحنُو عَلَى صَنَمِ
لا أَستَقِرُّ بِها إِلاّ عَلى قَلَقٍ
وَلا أَلَذُّ بِها إِلاّ عَلَى أَلَمِ
إِذا تَلَفَّتُّ حَولي لَم أَجد أَثَرًا
إِلا خَيالي وَلَم أَسمَع سِوى كَلِمي
فَمَن يَرُدُّ عَلى نَفسي لُبانَتَها
أَو مَن يُجيرُ فُؤادِي مِن يَدِ السَّقَمِ
وهذا شعر جزل رصين، تغلب عليه سمة الجاهلية في المنحى وفي الأسلوب، فهو يستسقي
للروحاء وما إليها من المعاني العربية، ويجمع بين شتى الأغراض في الموضوع الواحد، ويعرض
له المعنى تبعًا فيتحول إليه لتحسبه نسي المعنى الأصيل. ألا ترى كيف استسقى للروحاء؟
وهذا هو الغرض الأول، ثم مضى في وصف السارية الهتانة الديم، فقال:
مِنَ الغِزارِ اللَّواتي في حَوالِبِها
رِيُّ النَّواهِلِ مِن زَرعٍ وَمِن نَعَمِ
إِذا استَهَلَّت بِأَرضٍ نَمْنَمَتْ يَدُهَا
بُرْدًا مِنَ النَّوْرِ يَكسُو عارِيَ الأَكَمِ
تَرى النَّباتَ بِها خُضْرًا سَنابِلُهُ
يَختَالُ في حُلَّةٍ مَوشِيَّةِ العَلَمِ
وكان يتمنى لو رقت شمائل الدهر فعاد بالوصف، أو ألقى يد السلم، فانتقل من هذا الغرض
إلى وصف ما تكاءده من الخطوب، وما مني به من الإقامة في بلد مثل جوف العير يعبد أهله
الأصنام، لا يستقر به إلا على قلق، ولا يلذ به إلا على ألم، إذا تلفت حوله لم يجد سوى
خياله، ولم يسمع غير أصداء.
وهذا بحث مجمل نرجو أن نعود إليه في الكلمة الآتية بشيء من التفصيل.