الفصل الثاني والعشرون
التخلص والاقتضاب
التخلص هو انتقال الشاعر من فن إلى فن بمناسبة ظاهرة، ويقابله الاقتضاب، ويكثر التخلص
في
شعر المحدثين، كما يكثر الاقتضاب في شعر القدماء. قال ابن رشيق: وأولى الشعر بأن يسمي
تخلصًا ما تخلص فيه الشاعر من معنى، ثم رجع إلى ما كان فيه، كقول النابغة الذبياني في
آخر
قصيدة اعتذر بها إلى النعمان بن المنذر:
وكَفْكفْتُ مِنِّي عَبْرَةً، فرَدَدتُها
إلَى النَّحرِ مِنهَا مُستَهِلٌّ ودَامِعُ
عَلَى حِينَ عَاتبتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبا
وقلتُ: ألمَّا أصحُ والشَّيبُ وَازعُ؟
ثم تخلص إلى الاعتذار فقال:
ولكنَّ هَما دُونَ ذلِكَ شَاغلٌ
مَكان الشَّغَافِ تَبتّغِيهِ الأصَابعُ
١
وعِيدُ أبِي قَابوسَ في غَيرِ كُنهِهِ
أتَانِي ودُونِي رَاكِسٌ فالضَّواجِعُ
ثم وصف حاله عندما سمع ذلك، فقال:
فبتُّ كَأنِّي سَاوَرَتنِي ضَئِيلة
مِن الرُّقْشِ في أنيابِها السُّمُّ نَاقِعُ
يُسَهَّدُ في لَيلِ التَّمامِ سَلِيمُهَا
٢
تُطلّقُهُ طَورًا وطَورًا تُراجِعُ
فوصف الحية والسليم الذي شبه به نفسه ما شاء، ثم تخلص إلى الاعتذار الذي كان فيه،
فقال:
أتاني — أبيتَ اللَّعنَ
٣ — أنَّكَ لُمتَني
وتِلكَ التِي تَستكّ مِنها المَسَامعُ
ثم اطرد ما شاء من تخلص إلى تخلص حتى انقضت القصيدة …
وقد يقع من هذا النوع شيء يعترض في وسط النسيب من مدح من يريد الشاعر مدحه بتلك القصيدة،
ثم يعود بعد ذلك إلى ما كان فيه من النسيب، ثم يرجع إلى المدح، كما فعل أبو تمام، وإن
أتى
بمدحه الذي فيه منقطعًا، وذلك قوله في وسط النسيب من قصيدة له مشهورة:
ظَلَمتك ظَالِمَة البَرِيء ظَلُوم
والظُّلم مِن ذِي قُدرَةٍ مّذمُوم
زَعَمَت هَوَاك عَفَا الغَدَاة كَمَا عَفَت
مِنْهَا طُلُولٌ باللِّوَى ورُسُوم
لا والذِي هُو عالِمٌ أنَّ النوَى
أجلٌ وأنَّ أبا الحُسيْن كريمُ
ما زُلْتُ عَن سَنَن الوِدَاد ولا غَدَت
نَفسِي عَلَى إِلفٍ سِواك تَحوم
ثم قال ذلك:
لِمُحَمَّد بْن الهيْثَم بْن شَبَابَةٍ
مَجدٌ إلى جَنْب السَّمَاك مُقِيم
ويسمى هذا النوع: الإلمام، وكانت العرب لا تذهب هذا المذهب في الخروج إلى المدح، بل
يقولون عند فراغهم من نعت الإبل وذكر القفار وما هم بسبيله:
دع ذا، وعد عن ذا، ويأخذون فيما يريدون، أو يأتون بإنَّ المشددة ابتداء للكلام الذي
يقصدونه، فإذا لم يكن خروج الشاعر إلى المدح متصلًا بما قبله، ولا منفصلًا بقوله: (دع
ذا)،
و(عَدّ عن ذا) ونحو ذلك سمي طفرًا وانقطاعًا، وكان البحتري كثيرًا ما يأتي به نحو
قوله:
لولا الرجاءُ لمتُ من ألمِ الهوى
لكِنَّ قلبي بالرجاءِ موكلُ
إِن الرَّعيَّة لَم تَزَل في سِيرَةٍ
عُمَرِيَّةٍ مُذْ سَاسَهَا المُتَوَكِّل
فلننظر بعد ذلك ما اختاره شعراؤنا الثلاثة من التخلص والاقتضاب.
أما البوصيري فقد آثر التخلص إذ قال في محاورة العذول:
إني اُتهمتُ نصيحَ الشَّيبِ في عَذَلٍ
والشَّيْبُ أَبْعَدُ في نُصْحٍ عَنِ التُّهَم
فإنَّ أمَّارَتي بِالسُّوءِ مَا اتَّعَظَتْ
مِن جَهلِهَا بِنَذِيرِ الشَّيبِ والهَرمِ
ولا أَعَدَّتْ مِنَ الفِعْلِ الجَمِيلِ قِرَى
ضَيفٍ أَلَمَّ بِرَأسِي غَير مُحتَشِمِ
لو كُنت أعلم أنِّي مَا أُوَقِّرُه
كَتَمت سِرًّا بَدَا لِي مِنه بِالكَتَم
مَن لي بِرَدِّ جِمَاحٍ مِن غَوَايتِهَا
كَمَا يُرَدُّ جَمَاحُ الخَيلِ بِاللُّجُمِ
فلا تَرُمْ بالمعاصِي كَسْرَ شَهْوَتِها
إنَّ الطعامَ يُقَوِّي شهوة النهمِ
والنفسُ كالطِّفلِ إن تُهمِلهُ شَبَّ عَلى
حُبِّ الرَّضَاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم
فاصرفْ هَوَاهَا وحَاذِرْ أنْ تُوَلِّيَهُ
إنَّ الهَوَى ما تَوَلَّى يُصمِ أوْ يَصمِ
وَراعِهَا وهِيَ في الأعمَالِ سَائِمة
وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فَلَا تُسِم
كَمْ حَسَّنَتْ لَذَّة لِلْمَرءِ قاتِلَة
مِن حيثُ لم يَدرِ أنَّ السُّمَّ في الدَّسَمِ
وَاخْشَ الدَّسائِسَ مِن جُوعٍ وَمِنْ شِبَع
فَرُبَّ مَخْمَصَة شَرٌّ مِنَ التُّخَمِ
واسْتَفْرِغ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنٍ قد امْتَلأتْ
مِنَ المَحارِمِ وَالْزَمْ حِمْيَة النَّدَمِ
وخَالفِ النَّفسَّ والشَّيطانَ واعصِهما
وَإنْ هُمَا مَحَّضاكَ النُّصحَ فَاتَّهم
وَلا تُطِعْ مِنهُمَا خَصْمًا وَلا حَكمَا
فأنْتَ تَعْرِفُ كيْدَ الخَصْمِ وَالحَكمِ
أسْتَغْفِرُ الله مِنْ قَوْلٍ بِلاَ عَمَلٍ
لقد نَسبتُ بِه نسْلًا لِذِي عُقُمِ
أمَرتُكَ الخَيْرَ لكِنْ مَا ائتمَرتُ بِهِ
ومَا استقمتُ فمَا قولِي لكَ استقِمِ
ولا تَزَوَّدْتُ قَبْلَ المَوْتِ نافِلة
ولَمْ أُصَلِّ سِوَى فَرْضٍ ولَمْ أَصُمِ
ظَلمْتُ سُنَّة مَنْ أحيَا الظَّلامَ إلَى
أنِ اشْتَكَتْ قَدَماهُ الضُّرَّ مِنْ وَرَم
وهذا النوع من التخلص غير مقبول، إذ لاحظنا أنه تخلص من النسيب إلى المدح، أما إذا
لاحظنا
أنه تخلص من النسيب إلى حساب النفس، ثم إلى مدح الرسول فإنا نغفر له هذه الإطالة؛ لأنها
في
غرض من أغراضه الأساسية، وهو الدعوة إلى تهذيب النفس، وتطهير الوجدان.
ومن الخير أن نذكر أن البوصيري لا يفعل ذلك في جميع قصائده، فقد رأيناه يواجه الغرض
بلا
مقدمة في همزيته، فيقول:
كيفَ تَرقَى رُقِيَّكَ الأَّنْبيَاءُ
يا سَمَاءً ما طَاوَلتْها سَمَاءُ
لمْ يسَاووك في عُلاك وقد حَا
لَ سَنًا مِنك دُونَهُم وسَناءُ
إنَّمَا مَثَّلُوا صِفاتِك للِنَّا
س كمَا مَثَّلَ النُّجومَ المَاءُ
وكأنما جاراه شوقي في افتتاح همزيته فقال:
وُلِدَ الهُدى فالكائِناتُ ضِيَاءُ
وفَمُ الزَّمَانِ تبَسُّمٌ وثناءُ
الرُّوحُ والمَلأُ المَلائِكُ حَولَهُ
للدِّينِ والدُّنْيِا بِه بُشَراءُ
والعَرْشُ يَزهو والحَظِيرَةُ تزدَهِي
والمُنتهى والسِّدرَةُ العَصْمَاءُ
ولكن أين ابتداء شوقي من ابتداء البوصيري؟ إن الفرق لبعيد! وإن كان في تعبير البوصيري
شيء
من الجفاء، في حق الأنبياء.
وأعود فأذكر أني أستملح قول البوصيري في رياضة النفس:
وَاخْشَ الدَّسائِسَ مِن جُوعٍ وَمِنْ شِبَع
فَرُبَّ مَخْمَصَة شَرٌّ مِنَ التُّخَمِ
وجمال هذا البيت يرجع إلى ما فيه من صدق الدعوة: فإن النفس يضر بها الزهد، كما يطغيها
الترف، كالجسم ترديه المسغبة، كما تضره البطنة.
وأستجيد كذلك قوله:
أمَرتُكَ الخَيْرَ لكِنْ مَا ائتمَرتُ بِهِ
ومَا استقمتُ فمَا قولِي لكَ استقِمِ
وحسن هذا البيت يرجع إلى سماحة الشاعر ورفقه، وخلوص دعوته من شوائب الصلف والكبرياء،
وهذا
أدب يحتاج إلى مثله أطباء النفوس.
وقد آثر البارودي أيضًا حسن التخلص إذ قال:
لَيتَ القَطا حِينَ سارَت غُدوَةً حَمَلَت
عَنّي رَسائِلَ أَشواقي إِلى إِضَمِ
مَرَّت عَلَينا خِمَاصًا وَهيَ قارِبَةٌ
مَرَّ العَواصِفِ لا تَلوي عَلى إِرَمِ
لا تُدركُ العَينُ مِنها حينَ تَلمَحُها
إِلا مِثالًا كَلَمْحِ البَرقِ في الظُّلَمِ
كَأَنَّها أَحرُفٌ بَرقِيَّةٌ نَبَضَت
بِالسِّلكِ فَانتَشَرَت فِي السَّهل وَالعَلَمِ
لا شيء يسبقها إلا إذا اعتقلت
بنانتي في مديح المصطفى قلمي
وهذا تخلص مستملح مقبول، ومضيّ الشاعر في وصف القطاة إيثارٌ للأسلوب القديم الذي نوهنا
به
في الكلمة الماضية، ونريد أن نقرر أن هذا الأسلوب جزء من الفن الشعري عند الجاهليين
والمخضرمين، ومن سايرهم من المحدثين، وبيان ذلك أن الشاعر يرى من الفن أن يصف ما يعرض
له
وصفًا يحيله صورة شعرية تكاد تستقل عما تتصل به نوعًا من الاستقلال، وتكون لهذا الوصف
قيمة
أيَ قيمة حين يراد به تأكيد معنى من المعاني المقصودة. ومن أمثلة قول أبي صعترة
البولاني:
فمَا نُطفَةٌ من حَبِّ مُزنٍ تَقَاذَفَت
بِه جَنبَتَا الجُودِيّ واللَّيل دَامِس
٤
فلمَّا أقرَّتهُ اللِّصَاب تنفسَّتْ
شمَالٌ بِأعلى مَائِهِ فهو فارِسُ
٥
بأطيَبَ مِن فِيها وما ذُقتُ طعمَهُ
ولكنَّنِي فِيما ترَى العَينُ فارِسُ
فإن للشاعر من المبالغة في وصف ماء المزن غرضًا خاصًّا هو الإشادة بعذوبة ذلك الثغر
الشهّي المذاق، ويماثل هذا قول عاتكة المرية، وكانت كما قال صاحب زهر الآداب عشقت ابن
عم
لها فراودها عن نفسها:
ومَا طَعْمُ مَاءٍ أَيُّ مَا تَقُولُهُ
تَحَدَّرَ مِنْ غُرٍّ طُوَالِ الذَّوَائِبِ
بِمُنْعَرِجٍ مِنْ بَطْنِ وَادٍ تَقاَبَلتْ
عَلَيْهِ رِيَاحُ الصَّيْفِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ
نَفَتْ جَرْيَةُ الْمَاءِ الْقَذَى عَنْ مُتُونِهِ
فَمَا إِنْ بِهِ عَيْبٌ تَرَاهُ لِشَارِبِ
بأَطْيَبَ مِمَّن يَقْصُرُ الطَّرَفُ دُونَهُ
تُقَى اللهِ وَاسْتِحْيَاءُ بَعض الْعَوَاقِبِ
فإن لها من وصف الماء في عذوبته وجمال موقعه، وحاجة الأعراب إليه غرضًا خاصًّا هو
الإشادة
بجمال الحياء وطيب العفاف.
ويشبه هذين المثالين ما أنشده ابن دريد:
ما وَجد أعرَابيةٍ قَذَفت بها
صُرُوف النَّوى مِن حَيث لم تك ظَنَّت
تَمنَّت أحَاليبَ الرِّعاء وَخيمَةً
بِنْجدٍ فلم يُقدر لها ما تمَنَّت
إذا ذكرَت مَاء العِضاه وَطيبِه
وبَرد الحصى من نحوِ نجدٍ أرَنَّت
بِأوجَدَ مِن وَجدٍ بِريَّا وَجَدتُه
غَدَاة غَدَونا غُدوَةً وإطمَأنَّت
فإن يَك هذا عَهْد رَيَّا وأهلهَا
فَهذا الَّذي كُنّا ظَنَنَّا وظَنَّت
وأروع من هذا قول الأبيوردي
٦:
وما أُمُّ ساجي الطَّرْفِ مالَ بِهِ الكَرى
على عَذَباتِ الجزعِ تَحسَبُهُ قُلبا
تُراعي بإحدى مُقْلَتَيْها كِناسَها
وَتَرْمي بِأُخْرى نَحْوَهُ نَظَرًا غَرْبا
فَلاحَ لَها مِنْ جانِبِ الرَّمْلِ مَرْتَعٌ
كَأَنَّ الرَّبيعَ الطَّلْقَ ألبَسَهُ عَصْبا
فَمالَت إليهِ، وَالحَريصُ إذا عَدَت
بهِ سَورَهُ الأطماعُ لم يَحْمَد العُقْبى
وَآنَسَها المَرْعى الخصيب وَصادَفَتْ
مدى العينِ في أرجائه بلدًا خصبا
فَلَمّا قَضَتْ مِنْهُ اللُّبانَة راجَعَتْ
طَلاها فَأَلْفَتْهُ قَضى بَعْدَها نَحْبا
أُتيحَ لَها عاري السَّواعِدِ لَمْ يَزَلْ
يَخوضُ إِلى أَوْطارِهِ مَطْلَبًا صَعْبا
فولَّتْ على ذعرٍ وبالنِّفسِ ما بها
من الكربِ لا لقِّيِت في حادثٍ كربا
بِأَوجَدَ مِنّي يَومَ عَجَّتْ رِكابُها
لِبَيْنٍ فَلَمْ تَتْرُكْ لِذي صَبْوَة لُبّا
وكان يكفي أن يشبه الشاعر وجده بفراق محبوبته بلوعة الظبية يعتال رشأها الذئب، ولكن
هذه
الصورة الشعرية التي وضعها للغزالة المروّعة الملتاعة جعلت المعنى أوقع في النفس، وأملك
للقلب، وأروع للوجدان.
ولننتقل بعد ذلك إلى شوقي، وإنا لنراه صدف عن التخلص وآثر الاقتضاب، فانتقل فجأة من
ذلك
النسيب المونق المشرق إلى الحديث عما تضمر الدنيا من المبكيات، وما تُجن من ظلمات الخطوب،
وتدرج من هذا إلى الحديث عن غفلة النفس وفقرها إلى الأخلاق، وكذلك يقول:
يا نَفسُ دُنياكِ تُخفى كُلَّ مُبكِيَةٍ
وَإِن بَدا لَكِ مِنها حُسنُ مُبتَسَمِ
فُضّي بِتَقواكِ فاهًا كُلَّما ضَحِكَتْ
كَما يَفُضُّ أَذى الرَقشاءِ بِالثَرَمِ
مَخطوبَةٌ مُنذُ كانَ الناسُ خاطِبَةٌ
مِن أَوَّلِ الدَهرِ لَم تُرمِل وَلَم تَئَمِ
يَفنى الزَمانُ وَيَبقى مِن إِساءَتِها
جُرحٌ بِآدَمَ يَبكي مِنهُ في الأَدَمِ
لا تَحفَلي بِجَناها أَو جِنايَتِها
المَوتُ بِالزَهرِ مِثلُ المَوتِ بِالفَحَمِ
كَم نائِمٍ لا يَراها وَهيَ ساهِرَةٌ
لَولا الأَمانِيُّ وَالأَحلامُ لَم يَنَمِ
طَورًا تَمُدُّكَ في نُعمى وَعافِيَةٍ
وَتارَةً في قَرارِ البُؤسِ وَالوَصَمِ
كَم ضَلَّلَتكَ وَمَن تُحجَب بَصيرَتُهُ
إِن يَلقَ صَابًا يَرِد أَو عَلقَمًا يَسُمُ
يا وَيلَتاهُ لِنَفسي راعَها وَدَها
مُسوَدَّةُ الصُحفِ في مُبيَضَّةِ اللَمَمِ
رَكَضتُها في مَريعِ المَعصِياتِ وَما
أَخَذتُ مِن حِميَةِ الطاعاتِ لِلتُخَمِ
هامَت عَلى أَثَرِ اللَذّاتِ تَطلُبُها
وَالنَفسُ إِن يَدعُها داعي الصِبا تَهِمِ
صَلاحُ أَمرِكَ لِلأَخلاقِ مَرجِعُهُ
فَقَوِّمِ النَفسَ بِالأَخلاقِ تَستَقِمِ
وَالنَفسُ مِن خَيرِها في خَيرِ عافِيَةٍ
وَالنَفسُ مِن شَرِّها في مَرتَعٍ وَخِمِ
تَطغى إذا مُكِّنَت مِن لَذَّةٍ وَهَوًى
طَغيَ الجِيادِ إِذا عَضَّت عَلى الشُكُمِ
إِن جَلَّ ذَنبي عَنِ الغُفرانِ لي أَمَلٌ
في اللهِ يَجعَلُني في خَيرِ مُعتَصِمِ
أَلقى رَجائي إِذا عَزَّ المُجيرُ عَلى
مُفَرِّجِ الكَرَبِ في الدارَينِ وَالغَمَمِ
إِذا خَفَضتُ جَناحَ الذُلِّ أَسأَلُهُ
عِزَّ الشَفاعَةِ لَم أَسأَل سِوى أُمَمِ
وَإِن تَقَدَّمَ ذو تَقوى بِصالِحَةٍ
قَدَّمتُ بَينَ يَدَيهِ عَبرَةَ النَدَمِ
لَزِمتُ بابَ أَميرِ الأَنبِياءِ وَمَن
يُمسِك بِمِفتاحِ بابِ اللهِ يَغتَنِمِ
وهذه قطعة مختارة، الجيد فيها أكثر وأجود مما يقابله في كلام البوصيري وإن قول
شوقي:
لا تَحفَلي بِجَناها أَو جِنايَتِها
المَوتُ بِالزَهرِ مِثلُ المَوتِ بِالفَحَمِ
لأشرف معنى وأسمى خيالًا من قول البوصيري:
وَاخْشَ الدَّسائِسَ مِن جُوعٍ وَمِنْ شِبَع
فَرُبَّ مَخْمَصَة شَرٌّ مِنَ التُّخَمِ
ولك أن تلاحظ أن البوصيري وقف موقف الناصح الأمين، فلما وصل إلى نفسه ذكر أنه لم يُصلِّ
ولم يَصُم سوى الفرض، وأنه يَاسى على أن لم يتزود نافلة قبل الموت، وأنه لذلك ظلم سُنة
من
أحيا الظلام حتى تورمت قدماه، ومن هنا لم تكن الفرصة سانحة؛ ليذرف ما ذرف شوقي من
الدمع.
وأين شوقي من البوصيري؟ لقد كان البوصيري من أئمة الصوفية، أما شوقي فقد كان حين نظم
قصيدته من رجال البلاط، وكان يحسن أن يقول:
رمضان وَلَّى هَاتِهَا يا سَاقِي
مُشتَاقَةً تَسعَى إلى مُشتَاقِ
ومن هنا سنحت له الفرصة ليزفر تلك الزفرة الحرة، ويرمي بذلك الدم الموجع الذي يذيب
لفائف
القلوب، وانظر كيف يقول:
إِن جَلَّ ذَنبي عَنِ الغُفرانِ لي أَمَلٌ
في اللهِ يَجعَلُني في خَيرِ مُعتَصِمِ
وكان شوقي أوفر الناس إحساسًا بخطر ذنبه، وكرم ربه، حين قال:
وَإِن تَقَدَّمَ ذو تَقوى بِصالِحَةٍ
قَدَّمتُ بَينَ يَدَيهِ عَبرَةَ النَدَمِ
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا
تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ