الفصل الرابع والعشرون
وصف القرآن
لم يُعن البارودي بوصف القرآن كما عُنِي به البوصيري وشوقي، أما البوصيري فقد قال:
دَعنِي ووَصفِي آيَاتٍ لَه ظَهَرَتْ
ظهُورَ نَارِ القِرى ليلًا عَلى علَمِ
فَالدُّرُّ يَزدَادُ حُسنًا وهو مُنتَظِمٌ
ولَيسَ يَنقُصُ قَدرًا غَير مُنتَظمِ
فَمَا تَطَاوَلُ آمَالُ المَدِيحِ إلى
ما فِيهِ مِنْ كَرَمِ الأَخْلاَقِ والشِّيَمِ
وأول هذه الأبيات فيه شيء من السذاجة. وعبارة «دعني ووصفي آيات له ظهرت» عبارة عاميّة.
وقوله:
فَالدُّرُّ يَزدَادُ حُسنًا وهو مُنتَظِمٌ
ولَيسَ يَنقُصُ قَدرًا غَير مُنتَظمِ
غير واضح المدلول؛ لأن الدر الذي يتحدث عنه لا يصح أن يكون صفة القرآن؛ لأنه لا يُهمُّ
بنظم القرآن، ولا يصح أن يكون صفة لتقريظ القرآن، إذ لم تسبق ذلك إشارةٌ ولم يتقدمه دليل،
فلم يبق إلا أن تكون هذه خطرة عرضت للشاعر وعز عليه أن تضيع، فقيدها في ذلك البيت وهو
في
ذاته بيت جميل … أما قوله:
فَمَا تَطَاوَلُ آمَالُ المَدِيحِ إلى
ما فِيهِ مِنْ كَرَمِ الأَخْلاَقِ والشِّيَمِ
فهو بيت يُمدح به شخص، ولا يُقَرَّظ به كتاب، وقد كان الشاعر يرمي إلى وصف القرآن
بأنه
دعوة إلى محاسن الشيم، ومكارم الأخلاق، ولكنه لو يوفّق إلى حسن الأداء …
وقوله بعد ذلك:
آياتُ حقٍّ مِن الرّحمَنِ مُحدَثة
قَدِيمَة صِفَة المَوْصوفِ بِالقِدَم
لم تقترنْ بِزمَانٍ وَهي تُخبرُنَا
عَن المَعَادِ وعَنْ عَادٍ وعَنْ إرَمِ
فيه إشارة إلى ما اختلف فيه المتكلمون عن قدم القرآن وحدوثه، وهي إشارة مبهمة لا تغني
في
دفع ولا تأييد، والبيت الثاني غير جيد المعنى؛ لأن إخبار القرآن عن عاد وعن إرم، ليس
حجة
إلا عند المسلمين، أما جمهور العالم فلا يصدق من أخبار العهود الأولى غير ما تشهد به
الآثار، بَعدَ أمن اللبس والتزوير …
أما قوله:
دَامَتْ لَدَيْنا فَفاقَتْ كُلَّ مُعْجِزَةٍ
مِنَ النَّبِيِّينَ إذْ جَاءَتْ ولَمْ تَدُمِ
فهو بيت القصيد، إذ كان القرآن هو المعجزة الباقية، وكان هو المرجع حين يَجِدُّ الخلاف،
وهو أيضًا المعجزة الصريحة التي يعتز بها العقل، ويصح للمسلمين أن يواجهوا بها العالم
غير
مترددين، أما نبع الماء من بين يدي الرسول، وتظليل الغمام إياه، وسجود الأشجار له، وما
إلى
ذلك من المعجزات، فهي مسائل يحتاج عرضها إلى مخاطرة، وهي مخشيّة الضرّ، قبل أن تكون
مَرجُوَّة النفع، ولكن أكثر الناس لا يفقهون.
وقوله:
ما حُورِبَتْ قَطُّ إلاَّ عادَ مِنْ حَرَبٍ
أَعْدَى الأعادي إليها مُلقِيَ السَّلَمِ
رَدَّتْ بلاغَتُها دَعْوى مُعارِضِها
ردَّ الغيور يدَ الجاني عن الحُرمِ
كلمة صدق، ويكفي أن تقرأ القرآن بحيدةٍ ونزاهةٍ لتلمس هذه الحقيقة، فالقرآن كتابٌ
خطرُ
رهيب، يحمل عدوه على الإيمان به، والخشوع لديه. ولو صَحَّت — لا صحّت — أراجيف المُلحدين
من
أن القرآن من إنشاء محمد بن عبد الله لكان محمد هذا أعظم رجل شهده هذا الوجود.
وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ
بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ
بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا
إِلَّا الظَّالِمُونَ
وما أصدق قول البوصيري في آيات الكتاب العزيز:
لهَا مَعانٍ كَمَوْجِ البَحْر في مَدَدٍ
وفَوْقَ جَوْهَرِهِ فِي الحُسْنِ والقِيَمِ
فما تُعَدُّ وَلا تُحْصَى عَجَائبُها
ولا تُسَامُ عَلَى الإكثَارِ بِالسَّأَمِ
قَرَّتْ بِهَا عَينُ قَاريها فَقُلْت لَه:
لَقَد ظَفِرْتَ بِحَبْلِ الله فَاعْتَصِمِ
إنْ تَتْلُها خِيفَة مِنْ حَرِّ نارِ لَظَى
أطْفَأْتَ نارَ لَظَى مِنْ وِرْدِها الشَبمِ
لا تعْجَبَنْ لِحَسُودٍ راحَ يُنكِرُهَا
تَجاهُلًا وهْوَ عَينُ الحَاذِقِ الفَهِمِ
قد تُنْكِرُ العيْنُ ضوْء الشَّمْسِ مِن رَمَدٍ
ويُنْكِرُ الفَمُّ طَعْمَ الماءِ مِنْ سَقَم
وهذا البيت الأخير من فرائد الأمثال، وهو غاية في تقريع المكابرين …
أما شوقي فقد قال:
جاءَ النبِيّونَ بِالآياتِ فَاِنصَرَمَتْ
وَجِئتَنا بِحَكيمٍ غَيرِ مُنصَرِمِ
آياتُهُ كُلَّما طالَ المَدى جُدُدٌ
يَزينُهُنَّ جَلالُ العِتقِ وَالقِدَمِ
يَكادُ في لَفظَةٍ مِنهُ مُشَرَّفَةٍ
يوصيكَ بِالحَقِّ وَالتَقوى وَبِالرَحِمِ
وهذا الوصف على إيجازه جميل، وكنت أود ألا يكتفي شوقي في وصف القرآن بهذه الأبيات
…، وقد
انتقل إلى الإشادة بحديث النبي فقال:
يا أَفصَحَ الناطِقينَ الضادَ قاطِبَةً
حَديثُكَ الشَهدُ عِندَ الذائِقِ الفَهِمِ
حَلَّيتَ مِن عَطَلٍ جِيدَ البَيانِ بِهِ
في كُلِّ مُنتَثِرٍ في حُسنِ مُنتَظِمِ
بِكُلِّ قَولٍ كَريمٍ أَنتَ قائِلُهُ
تُحييِ القُلوبَ وَتُحييِ مَيِّتَ الهِمَمِ
وقول شوقي:
آياتُهُ كُلَّما طالَ المَدى جُدُدٌ
يَزينُهُنَّ جَلالُ العِتقِ وَالقِدَمِ
أروع من قول البوصيري:
فما تُعَدُّ وَلا تُحْصَى عَجَائبُها
ولا تُسَامُ عَلَى الإكثَارِ بِالسَّأَمِ
وقول البوصيري:
إنْ تَتْلُها خِيفَة مِنْ حَرِّ نارِ لَظَى
أطْفَأْتَ نارَ لَظَى مِنْ وِرْدِها الشَّبمِ
فيه ضعف؛ لأنه ينقل القرآن من الغرض الذي أنزل لأجله، وهو تهذيب النفوس، وتثقيف العقول،
إلى غرض ضئيل وهو اتخاذه وردًا من أوراد الصباح أو المساء، كما فعل المتأخرون.
وقوله:
حَلَّيتَ مِن عَطَلٍ جِيدَ البَيانِ بِهِ
في كُلِّ مُنتَثِرٍ في حُسنِ مُنتَظِمِ
غير جيد المعنى، وهو لا يزيد عن قول بعض الناس «أما القرآن فهو زينة البيان، وقلائد
العقيان»، وعيب هذا النوع من الوصف يرجع إلى ما فيه من الشمول، وجودة الوصف لا تتم إلا
بتجديد الموصوف.
وصف الهيجاء
عُنَي العرب كثيرًا بوصف الحرب، فأفاض شعراؤهم في الإشادة بذكر الغزاة، والتمدح بآثار
المجاهدين، وهذا كتاب (الحماسة) شاهدٌ عدلٌ على تلك النزعة الحربية التي سيطرت على نفوس
العرب زمنًا غير قليل، فقد اختار أبو تمام قطعًا قليلة في الحديث عن أدب النفس ومكارم
الأخلاق، وفعل مثل ذلك في الفكاهات والمُلح والنسيب، ثم ملأ كتابه بالحماسة والهجاء
والمديح: وهي الفنون التي تترجم النفس العربية، وتكشف عما فيها من مطويّ النوازع،
ومكنون الميول، وكذلك مُهِّدت السبيل الشعرائنا الذين أرادوا التنويه بما خاض النبي من
المعارك، وما اقتحم من الحروب، وإن اختلفت مناحيهم في وصف الهيجاء.
أما البوصيري فقد تحدث عن الحرب بطريقة مجملة ولم يميز بعض الغزوات عن بعض، وهو يتكلم
عن أخبار القتال، فوصفُه للحرب وصفٌ فَضفاضٌ يصلح لبوسًا لكل موصوف. وانظر كيف
يقول:
راعتْ قلوبَ العدا أنباءُ بعثتهِ
كَنَبْأَة أَجْفَلَتْ غَفْلًا مِنَ الغَنَمِ
ما زالَ يلقاهمُ في كلِّ معتركٍ
حتى حَكَوْا بالقَنا لَحْمًا على وضَم
وَدُّوا الفِرَار فَكَادُوا يَغبِطونَ بهِ
أشلَاءَ شَالَتْ مَع العِقبَانِ والرَّخمِ
تَمضِي اللَّيالِي ولا يَدرونَ عدَّتَهَا
ما لَمْ تَكُنْ مِنْ لَيَالِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ
كَأنَّمَا الدِّينُ ضَيْفٌ حَلَّ سَاحَتَهُمْ
بِكلِّ قَرْمٍ إلَى لَحْمِ العِدَا قَرِم
يَجُرُّ بَحْرَ خَمِيسٍ فوقَ سابِحَةٍ
يَرمِي بِمَوجٍ من الأبطَالِ مُلتَطمِ
مِن كُلِّ مُنتَدِبٍ لله مُحتَسِبٍ
يَسْطو بِمُسْتَأْصِلٍ لِلْكُفْرِ مُصطَلِم
حَتَّى غَدَتْ مِلَّة الإسلاَم وهْيَ بِهِمْ
مِنْ بَعْدِ غُرْبَتِها مَوْصُولَة الرَّحِم
وإنه ليحسن أن نسجل إعجابنا بقوله في وصف المجاهدين من أصحاب الرسول:
هُم الجِبالُ فَسَلْ عنهمْ مُصادِمَهُمْ
ماذا رأى مِنْهُمُ في كلِّ مُصطَدَم
وَسَل حُنَينًا وَسَلْ بَدرًا وَسَلْ أُحُدًا
فُصُولَ حَتْفٍ لهُمْ أدْهَى مِنَ الوَخَم
المُصدِرِي البِيضَ حُمرًا بِعدَ ما وَرَدَت
مِن العِدَا كُلَّ مُسْوَّدٍ مِن اللِّمَمِ
وَالكَاتِبِينَ بِسُمْرِ الخَطِّ مَا تَرَكَتْ
أقلاَمُهُمْ حَرفَ جِسمٍ غَيرَ مُنعَجِمِ
شَاكِي السِّلَاحِ لَهُم سِيمَا تٌمَيِّزُهُمْ
والوَردُ يَمتَازُ بِالسِّيما مِن السَّلمِ
تُهدِى إلَيكَ رِياحُ النَّصرِ نَشرَهمُ
فَتَحسبُ الزَّهرَ في الأكمَامِ كُلَّ كَمي
وقد يستضعف قوله:
كَأنَّهُمْ في ظُهُورِ الخيلِ نَبتُ رُبًا
مِنْ شِدَّة الحَزْمِ لاَ مِنْ شِدَّة الحُزُم
طَارَت قُلُوبُ العِدَا مِن بأسِهِمِ فَرَقًا
فما تُفَرِّقُ بين البَهم والبُهمِ
أما البارودي — جعل الله له لسان صدقٍ في الآخرين — فقد وصف الحرب وصفًا حيًّا صارخًا
يبعث ميت العزم، ويثير مدفون الصّيّال، وما ظنك بجندي سفاح نشأ في أرض الفراعنة الذين
همُوا ببناء الصروح الشوامخ؛ ليبلغوا أسباب السماوات وليحاربوا المقتدر القهار، وإنه
لضلال أجمل من الهدى، وغي أهدى من الرشاد!
ولننظر كيف يقول:
قامَ النَّبِيُّ لِنَصرِ الحَقِّ مُعتَزِما
بِجَحفَلٍ لِجُمُوعِ الشِّركِ مُحْتَرِمِ
تَبدُو بِهِ البِيضُ وَالقَسطالُ مُنتَشِرٌ
كَالشُّهبِ في اللَّيلِ أَو كَالنّارِ فِي الفَحَمِ
لَمعُ السُّيُوفِ وَتَصهالُ الخُيولِ بِهِ
كَالبَرقِ وَالرَّعدِ في مُغدَودِقٍ هَزِمِ
عَرمرَمٌ يَنسِفُ الأَرضَ الفَضاءَ إِذا
سَرى بِها وَيَدُكُّ الهَضبَ مِن خِيَمِ
فِيهِ الكُماةُ الَّتي ذَلَّت لِعِزَّتِها
مَعاطِسٌ لَم تُذَلَّل قَبلُ بِالخُطُمِ
مِن كُلِّ مُعتَزِمٍ بِالصَّبرِ مُحتَزِمٍ
لِلقِرنِ مُلتَزِمٍ في البَأسِ مُهتَزِمِ
طالَت بِهِم هِمَمٌ نالُوا السِّماكَ بِها
عَن قُدرَةٍ وَعُلُوُّ النَّفسِ بِالهِمَمِ
بِيضٌ أَساوِرَةٌ غُلبٌ قَساوِرَةٌ
شُكسٌ لَدى الحَربِ مِطعامونَ في الأُزُمِ
طابَت نُفُوسُهُمُ بِالمَوتِ إِذ عَلِمُوا
أَنَّ الحَياةَ الَّتي يَبغُونَ في العَدَمِ
ساسُوا الجِيادَ فَظَلَّت في أَعِنَّتِها
طَوعَ البَنانَةِ في كَرٍّ وَمُقتَحَمِ
تَكادُ تَفقَهُ لَحنَ القَولِ مِن أَدَبٍ
وَتَسبِقُ الوَحيَ وَالإِيماءَ مِن فَهَمِ
كَأَنَّ أَذنابَها في الكَرِّ أَلوِيَةٌ
عَلَى سَفِينٍ لِأَمرِ الرِّيحِ مُرتَسِمِ
مِن كُلِّ مُنجَرِدٍ يَهوي بِصاحِبِهِ
بَينَ العَجاجِ هوِيَّ الأَجدَلِ اللَّحِمِ
وَالبِيضُ تَرجُفُ في الأَغمادِ مِن ظَمَأٍ
وَالسُّمرُ تَرعدُ في الأَيمانِ مِن قَرَمِ
مِن كُلِّ مُطَّرِدٍ لَولا عَلائِقُهُ
لَسابَقَ المَوتَ نَحوَ القِرنِ مِن ضَرَمِ
كَأَنَّهُ أَرقَمٌ في رَأسِهِ حُمَةٌ
يَستَلُّ كَيدَ الأَعادي بِابنَةِ الرَّقَمِ
فَلَم يَزَل سائِرًا حَتّى أَنافَ عَلى
أَرباضِ مَكّةَ بِالفُرسانِ وَالبُهَمِ
وَلَفَّهم بِخَمِيسٍ لَو يَشُدُّ عَلى
أَركانِ رَضوى لَأَضحى مائِلَ الدِّعَمِ
فَأَقبَلوا يَسأَلُونَ الصَّفحَ حِينَ رَأَوا
أَنَّ اللَّجاجَةَ مَدعاةٌ إِلى النَّدَمِ
رِيعُوا فَذَلُّوا وَلَو طاشُوا لَوَقَّرَهُم
ضَربٌ يُفَرِّقُ مِنهُم مَجمَعَ اللِّمَمِ
وهذه صورة شعرية قليلة الأمثال، وإنك لتعجب حين ترى البارودي يَفتنّ في تصوير الحرب،
وهو يتحدث عن الغزوات غَزوةً، غَزوةً وانظر كيف يقول مثلًا في يوم بدر:
يَومٌ تَبَسَّمَ فيهِ الدِّينُ وَانهَمَلَت
عَلَى الضَّلالِ عُيونُ الشِّركِ بِالسَّجَمِ
أَبلَى عَلِيٌّ بِهِ خَيرَ البَلاءِ بِما
حَباهُ ذُو العَرشِ مِن بَأسٍ وَمِن هِمَمِ
وَجالَ حَمزَةُ بِالصَّمصامِ يَكسؤُهُم
كَسًا يُفَرِّقُ مِنهُم كُلَّ مُزدَحَمِ
وَغادَرَ الصَّحبُ وَالأَنصارُ جَمعَهُمُ
وَلَيسَ فيهِ كَمِيٌّ غَيرُ مَنهَزِمِ
تَقَسَّمَتهُم يَدُ الهَيجاءِ عادِلَةً
فَالهامُ لِلبِيض وَالأَبدانُ لِلرَّخَمِ
كَأَنَّما البِيضُ بِالأَيدي صَوالِجَةٌ
يَلعَبنَ في ساحَةِ الهَيجاءِ بِالقِمَمِ
لَم يَبقَ مِنهُم كَمِيٌّ غَيرُ مُنجَدِلٍ
عَلى الرّغامِ وَعُضوٌ غَيرُ مُنحَطِمِ
فَما مَضَت ساعَةٌ وَالحَربُ مُسعَرَةٌ
حَتّى غَدا جَمعُهُم نَهبًا لِمُقتَسِمِ
قَد أَمطَرَتهُم سَماءُ الحَربِ صائِبَةً
بِالمَشرَفِيَّةِ وَالمُرّانِ كَالرُّجُمِ
فَأَينَ ما كانَ مِن زَهوٍ وَمِن صَلَفٍ
وَأَينَ ما كانَ مِن فَخرٍ وَمِن شَمَمِ
جاءُوا وِللشَّرِّ وَسمٌ في مَعاطِسِهِم
فَأُرغِمُوا وَالرَّدى في هَذِهِ السِّيَمِ
مَن عارَضَ الحَقَّ لَم تَسلَم مَقاتِلُهُ
وَمَن تَعَرَّضَ لِلأَخطارِ لَم يَنَمِ
أما شوقي فقد وصف النبي في الحرب وصفًا رقيقًا لا يلائم ما تقضي به الحروب من غَلَبة
الغضب وشمول العبوث، ولننظر كيف يقول:
البَدرُ دونَكَ في حُسنٍ وَفي شَرَفٍ
وَالبَحرُ دونَكَ في خَيرٍ وَفي كَرَمِ
شُمُّ الجِبالِ إِذا طاوَلتَها انخَفَضَتْ
وَالأَنجُمُ الزُهرُ ما واسَمتَها تَسِمِ
وَاللَيثُ دونَكَ بَأسًا عِندَ وَثبَتِهِ
إِذا مَشَيتَ إِلى شاكي السِلاحِ كَمي
تَهفو إِلَيكَ وَإِن أَدمَيتَ حَبَّتَها
في الحَربِ أَفئِدَةُ الأَبطالِ وَالبُهَمِ
مَحَبَّةُ اللهِ أَلقاها وَهَيبَتُهُ
عَلى اِبنِ آمِنَةٍ في كُلِّ مُصطَدَمِ
كَأَنَّ وَجهَكَ تَحتَ النَقعِ بَدرُ دُجًى
يُضيءُ مُلتَثِمًا أَو غَيرَ مُلتَثِمِ
بَدرٌ تَطَلَّعَ في بَدرٍ فَغُرَّتُ
كَغُرَّةِ النَصرِ تَجلو داجِيَ الظُلَمِ
وهذا شعر جميل، لكنه أرَقُّ من أن يُوصَف به ذوو البأس وهم يقارعون الهول في ميدان
الجلاد، ويعجبني قوله في وصف الغزاة:
مَهما دُعيتَ إِلى الهَيجاءِ قُمتَ لَها
تَرمي بِأُسْدٍ وَيَرمي اللهُ بِالرُجُمِ
عَلى لِوائِكَ مِنهُم كُلُّ مُنتَقِمٍ
للهِ مُستَقتِلٍ في اللهِ مُعتَزِمِ
مُسَبِّحٍ لِلِقاءِ اللهِ مُضطَرِمٍ
شَوقًا عَلى سابِخٍ كَالبَرقِ مُضطَرِمِ
لَو صادَفَ الدَهرَ يَبغي نَقلَةً فَرَمى
بِعَزمِهِ في رِحالِ الدَهرِ لَم يَرِمِ
بيضٌ مَفاليلُ مِن فِعلِ الحُروبِ بِهِمْ
مِن أَسيُفِ اللهِ لا الهِندِيَّةُ الخُذُمُ
كَم في التُرابِ إِذا فَتَّشتَ عَن رَجُلٍ
مَن ماتَ بِالعَهدِ أَو مَن ماتَ بِالقَسَمِ
لَولا مَواهِبُ في بَعضِ الأَنامِ لَما
تَفاوَتَ الناسُ في الأَقدارِ وَالقِيَمِ
حكمة الجهاد
لم يفصح البوصيري عن السر في مشروعية القتال، وأشار إليها البارودي إشارة خفيفة حين
قال:
ذَاقُوا الرَّدَى جُرَعًا فَاستَسلَموا جَزَعًا
للِصُّلح والحَرب مَرقَاةٌ إلى السَّلَمِ
أما شوقي فقد أبان عن حكمة الجهاد، وأفصح عنها إفصاحًا يُرضي المنصف ويَكبَح جهل
الكَنُود، ولننظر كيف يقول:
قالوا غَزَوتَ وَرُسلُ اللهِ ما بُعِثوا
لِقَتلِ نَفسٍ وَلا جاءوا لِسَفكِ دَمِ
جَهلٌ وَتَضليلُ أَحلامٍ وَسَفسَطَةٌ
فَتَحتَ بِالسَيفِ بَعدَ الفَتحِ بِالقَلَمِ
لَمّا أَتى لَكَ عَفوًا كُلُّ ذي حَسَبٍ
تَكَفَّلَ السَيفُ بِالجُهّالِ وَالعَمَمِ
وَالشَرُّ إِن تَلقَهُ بِالخَيرِ ضِقتَ بِهِ
ذَرعًا وَإِن تَلقَهُ بِالشَرِّ يَنحَسِمِ
وقد رأى لتأييد حجته أن يضرب المثل بالمسيحية، فقد كانت دين سلام وإخاء، ولكنها لم
تقم إلا بالسيف، وفي هذا يقول:
سَلِ المَسيحِيَّةَ الغَرّاءَ كَم شَرِبَتْ
بِالصابِ مِن شَهَواتِ الظالِمِ الغَلِمِ
طَريدَةُ الشِركِ يُؤذيها وَيوسِعُها
في كُلِّ حينٍ قِتالًا ساطِعَ الحَدَمِ
لَولا حُماةٌ لَها هَبّوا لِنُصرَتِها
بِالسَيفِ ما انتَفَعَت بِالرِفقِ وَالرُحَمِ
ثم عاد إلى تأكيد فضيلة الجهاد، فقال:
عَلَّمتَهُمْ كُلَّ شَيءٍ يَجهَلونَ بِهِ
حَتّى القِتالَ وَما فيهِ مِنَ الذِّمَمِ
لَولاهُ لَم نَرَ لِلدَولاتِ في زَمَنٍ
ما طالَ مِن عُمُدٍ أَو قَرَّ مِن دُهُمِ
تِلكَ الشَواهِدُ تَترى كُلَّ آوِنَةٍ
في الأَعصُرِ الغُرِّ لا في الأَعصُرِ الدُهُمِ
بِالأَمسِ مالَت عُروشٌ وَاعتَلَتْ سُرُرٌ
لَولا القَذائِفُ لَم تَثلَمْ وَلَم تَصُمِ
المدنية الإسلامية
وقد انفرد شوقي بالإفصاح عن جلال المدنية الإسلامية، وتقديمها على مدنية المصريين
واليونان والرومان، وفي ذلك يقول:
دَع عَنكَ روما وَآثينا وَما حَوَتا
كُلُّ اليَواقيتِ في بَغدادَ وَالتُوَمِ
وَخَلِّ كِسرَى وَإيوانًا يَدِلُّ بِهِ
هَوى عَلى أَثَرِ النيرانِ وَالأَيُمِ
وَاترُك رَعمَسيسَ إِنَّ المُلكَ مَظهَرُهُ
في نَهضَةِ العَدلِ لا في نَهضَةِ الهَرَمِ
دارُ الشَرائِعِ روما كُلَّما ذُكِرَتْ
دارُ السَلامِ لَها أَلقَتْ يَدَ السَلَمِ
ما ضارَعَتها بَيانًا عِندَ مُلتَأَمٍ
وَلا حَكَتها قَضاءً عِندَ مُختَصَمِ
وَلا احتَوَت في طِرازٍ مِن قَياصِرِها
عَلى رَشيدٍ وَمَأمونٍ وَمُعتَصِمِ
مَنِ الَّذينَ إِذا سارَت كَتائِبُهُمْ
تَصَرَّفوا بِحُدودِ الأَرضِ وَالتُخَمِ
وَيَجلِسونَ إِلى عِلمٍ وَمَعرِفَةٍ
فَلا يُدانَونَ في عَقلٍ وَلا فَهَمِ
يُطَأطِئُ العُلَماءُ الهامَ إِن نَبَسوا
مِن هَيبَةِ العِلمِ لا مِن هَيبَةِ الحُكُمِ
وقد مضى الشاعر في وصف خلفاء الإسلام، وما كان لهم من الأثر في حياطة الدين. ولا
يعجبني من ذلك كله غير قوله:
وَاترُك رَعمَسيسَ إِنَّ المُلكَ مَظهَرُهُ
في نَهضَةِ العَدلِ لا في نَهضَةِ الهَرَمِ
فإنه من فرائد الأمثال … ولنسجّل بعد هذه الموازنة المفصلة أن البوصيري سمى في
المدائح النبوية سُموَّا لم يُوفق إلى معشَارِه في سائر شعره؛ وهذا أثرٌ لصدق العاطفة،
بخلاف صاحبيه، فإن شعرهما في هذا الباب دون ما يعرف الناس لهما من الشعر البليغ، وصدق
شوقي حين قال:
المادِحونَ وَأَربابُ الهَوى تَبَعٌ
لِصاحِبِ البُردَةِ الفَيحاءِ ذي القَدَمِ
مَديحُهُ فيكَ حُبٌّ خالِصٌ وَهَوًى
وَصادِقُ الحُبِّ يُملي صادِقَ الكَلَمِ