ولنوازن بين قصيدتين لشاعرين كان أحدهما شاعر زمانه في المشرق وهو أبو نواس، وكان
ثانيهما
شاعر زمانه في المغرب وهو ابن دراج: «سابق حَلبة الشعراء العامريين، وخاتمة محاسن أهل
الأندلس أجمعين» كما قال أبو حيان.
وكان الواجب أن نذكر شيئًا عن أبي نواس وعصره، ولكنا رأينا أن نحيل القارئ إلى ما
كتبه في
ذلك الدكتور طه حسين في حديث الأربعاء، ونكتفي بما ذكره جامع الديوان من أن أبا نواس
لما
قدم على الخصيب في مصر صادف في مجلسه جماعة من الشعراء ينشدونه مدائح فيه، فلما فرغوا
قال
الخصيب: ألا تنشدنا أبا علي؟ فقال: أنشدك أيها الأمير قصيدة هي بمنزلة عصا موسى تلقف
ما
يأفكون! قال: هات إذًا. فأنشده رائيته المشهورة:
فاهتز لها الخصيب، وأمر له بجائزة سنية. وقد طار ذكر هذه القصيدة في جميع الأمصار،
وعارضها كثير من الشعراء، منهم أحمد بن دراج القسطلي الأندلسي — وسنبسط عنه القول — ومنهم
حسان بن نمير المعروف بعرقلة الدمشقي، فقد وازن قصيدة أبي نواس بقصيدة مدح بها صلاح الدين
بن يوسف بن أيوب وقصده بها إلى مصر، كما فعل أبو نواس حين توجه بقصيدته إلى الخصيب، وفيها
يقول:
عَسَى مِنْ دِيَارِ الظَّاعِنِين بَشيرُ
ومٍن جَور أَيَّام الفِرَاقِ مُجِيرُ
لَقَد عِيلَ صَبرِي بَعدَهمْ وَتَكَاثَرتْ
هُمُومِي ولِكنَّ المُحِبَّ صَبٌورُ
وكَم بَين أكنَافِ الثُغُورِ مُتَيَّمٌ
كَئِيبٌ غَزَته أعيَنٌ وثُغُورُ
وكم ليلة بالماطرون قطعتها
ويوم إلى الميطور وهو مطير
سَقَى الله مِن سَطرَا ومَقرَا مَنَازٍلًا
بِهَا للنَّدَامَى نَظرَة وسُرُورُ
ولا زَال ظِلُّ «النَّيِّرَينِ» فَإنَّه
طَوِيلٌ ويَومُ المَرِءِ فِيه قَصيرُ
وَيا بَرَدَى لا زَال مَاؤك بَاردًا
ومَاء الحَيَا مِن سَاحَتَيك نَمِيرُ
أبَى العَيشَ إلَّاَّ بَيْنَ أكْنَاف جِلَّقٍ
وَقَد لَاح فِيها أَشمُسُ وبُدُورُ
وكم بِحِمَى جَيرُونَ سِربُ جآذرٍ
حَبَائِلُهُنَّ المَالُ وهو نَفُورُ
ولكِن سَأَحوِيه إِذا سِرت قَاصِدًا
إلى بَلَدٍ فِيه الصَّلاَح أمِيرُ
وعارضها محمود سامي البارودي بقصيدة جيدة نختار منها قوله:
أَلا فَرَعَى اللهُ الصِّبَا مَا أَبَرَّهُ
وحيَّا شَبابًا مَرَّ وَهوَ نَضيرُ
إِذِ الْعَيْشُ أَفْوَافٌ تَرِفُّ ظِلالُهُ
عَلينا وسَلسالُ الوَفَاءِ نَميرُ
وَإِذْ نَحْنُ فيما بَيْنَ إِخْوَانِ لَذَّة
عَلى شِيَمٍ مَا إِنْ بِهِنَّ نَكِيرُ
تُدَارُ عَلَيْنَا الْكَأْسُ بَيْنَ مَلاعِبٍ
بِها اللَّهْوُ خِدْنٌ وَالشَّبَابُ سَمِيرُ
فَأَلْحَاظُنَا بَيْنَ النُّفُوسِ رَسَائلٌ
وَرَيحَانُنَا بَينَ الكُئوسِ سَفِيرُ
عَقَدنَا جناحي لَيلِنَا بِنَهَارِنَا
وَطِرنَا مَعَ اللَّذَّات حَيثُ تَطيرُ
وقُلنا لِساقينا أدِرها فإنَّما
بَقاءُ الفتى بَعدَ الشَبابِ يَسيرُ
فَطَافَ بِها شَمسيَّة لَهبيَّة
لَهَا عِنْدَ أَلْبَابِ الرِّجالِ ثُئُورُ
إذا ما شَرِبناها أقمنا مَكاننا
وَظَلَّتْ بِنَا الأَرْضُ الْفَضَاءُ تَدُورُ
ويعجبنا منها قوله في وصف الحمائم الساجعة:
وَكَمْ لَيْلَة أَفْنَيْتُ عُمْرَ ظَلاَمِها
إِلى أَنْ بَدَا للِصُّبْحِ فيهِ قَتِيرُ
شَغَلْتُ بِها قَلْبِي وَمَتَّعْتُ نَاظِرِي
ونَعَّمتُ سَمعِى والبَنَانُ طَهورُ
صَنَعتُ بِها صُنعَ الكَرِيمِ بِأهلهِ
وجِيرتِهِ والغَادِرونَ كَثِيرُ
فَمَا رَاعَنَا إِلَّا حَفِيفُ حَمَائِمٍ
لَها بينَ أطرافِ الغُصونِ هَديرُ
تُجَاوِبُ أَتْرَابًا لَهَا فِي خَمَائِلٍ
لَهُنَّ بِهَا بَعدَ الحَنينِ صَفيرُ
نَوَاعِمُ لا يَعْرِفْنَ بُؤْسَ مَعِيشَة
ولا دائِراتِ الدَّهرِ كَيفَ تَدورُ
تَوَسَّدُ هَامَاتٌ لَهُنَّ وَسَائِدًا
مِنَ الرِّيشِ فِيهِ طَائِلٌ وَشَكِيرُ
كَأنَّ على أعطافِها مِن حَبيكِها
تَمائمَ لَم تُعقَد لَهُنَّ سُيورُ
خَوَارِجُ مِنْ أَيْكٍ دَواخِلُ غَيْرِهِ
زَهاهنَّ ظِلٌّ سَابِغٌ وغَديرُ
إذا غازَلَتهَا الشَمسُ رَفَّت كأنَّما
على صَفَحَتَّيهَا سُندُسٌ وَحرِيرُ
فلمَّا رَأيتُ الصُبحَ قَد رفَّ جِيدهُ
وَلَمْ يَبْقَ مِنْ نَسْجِ الظَلامِ سُتُورُ
خَرَجْتُ أَجُرُّ الذَّيْلَ تِيهًا وَإِنَّمَا
يَتِيهُ الْفَتَى إِنْ عَفَّ وَهْوَ قَدِيرُ
ومن الوفاء أن ننّوه بهذه القطعة الجزلة التي وصف بها نفسه، وهو يقول:
وَلِي شِيمَة تَأْبَى الدَّنَايَا وَعَزْمَة
تَرُدُّ لُهامَ الجيشِ وَهوَ يَمورُ
إِذَا سِرْتُ فَالأَرْضُ الَّتِي نَحْنُ فَوْقَهَا
مَرادٌ لِمُهري والمَعاقِلُ دُورُ
فَلا عَجبٌ إن لَم يَصُرنى مَنزِلٌ
فَليسَ لِعِقبَانِ الهَوَاءِ وُبُكُورُ
هَمامَة نَفسٍ ليسَ يَنقى رِكابَها
رَواحٌ عَلى طُولِ المَدى وبُكورُ
مُعَوَّدة ألاَّ تَكُفَّ عِنانَهَا
عَنِ الجِدِّ إلاَّ أن تَتِمَّ أُمُورُ
لَها مِنْ وَراءِ الغَيبِ أُذنٌ سَميعَة
وعَينٌ تَرَى ما لا يَرَاهُ بَصيرُ
وَفيتُ بِما ضَنَّ الكِرامُ فِراسة
بِأَمْرِي وَمِثْلِي بِالْوَفَاءِ جَدِيرُ
وَأَصْبَحْتُ مَحْسُودَ الْجَلالِ كَأَنَّنِي
عَلى كُلِّ نَفسٍ في الزَمَانِ أَميرُ
إذا صُلتُ كَفَّ الدَّهرُ مِن غُلَوَائهِ
وإِن قُلتُ: غَصَّت بِالقُلُوبِ صُدورُ
وفي هذه المعارضات دليل على مبلغ ما ظفرت به قصيدة أبي نواس من تقدير الشعراء، فلنضعها
في
الميزان لنعرف بالتحديد ما فيها من مواطن الحسن ومظانّ الابتذال.
أغراض القصيدة
الغرض الأول لهذه القصيدة هو مدح الخصيب، وقد استتبع هذا عند الشاعر أن يتحدث قليلًا
عن نفرة جارته منه، وانصرافها عنه، وأن يذكر ما دار بينه وبين زوجه من الحوار حين همَّ
بالرحيل، وأن يصف كيف سار الشعراء إلى مصر، وكيف نسوا من أجل واليها جنات الشام ورياض
العراق، وقد فرق مدحه للخصيب بين أجزاء القصيدة، فتكلم عن سؤدده وجوده وبصره بالعواقب
وتنكيله بالمفسدين ثم عادّ فتكلم عن هيبته، وما أعد للسلم والحرب، وما له من طيب العنصر
وكرم الأخلاق، ثم اختتم القصيدة بهذين البيتين:
وإنِّي جَديِرٌ إِذ بَلَغْتُكَ بالمُنى
وأنْتَ بِما أمَّلْتُ فِبكَ جَدِيرُ
فَإنْ تُولِني مِنك الجَمِيلَ فَأهْلُهُ
وإلاّ فإِنِّي عَاذِرٌ وشَكُورُ
ولنأخذ في نقد القصيدة وتحليلها، فنذكر أولًا أنه حاور جارته بقوله:
أجَارَة بَيتَينَا أَبُوكِ غَيُور
وَمَيسُور مَا يُرْجَى لَدَيك عَسِير
وإن كٌنتِ لا حِلما ولا أنتِ زَوْجة
فَلا بَرِحَتْ دُونِي عَليكِ سُتُورُ
وليس في صدر البيت الأول أثر لحسن الأداء، وعبارة «أجارة بيتينا» ثقيلة على السمع،
وهي كذلك غير واضحة المدلول، أو هي تحتاج على الأقل إلى أن نذكر أن الشاعر قد يريد
ببيتي جارته بيت السكن وبيت النسب وقد يريد غير ذلك، ولقد أذكر — من باب الفكاهة — أني
كنت أناقش الأستاذ محمد الههياوي مرة في قيمة المنفلوطي وفهمه للأدب، فقال: كيف وقد مات
ولم يفهم قول أبي نواس: أجارة بيتينا أبوك غيور لقد كان يكسر التاء من بيتينا ظنًا منه
أن هذا اسم مكان
١!!
وإنك لتكاد تلمس التناقض حين تقرن بيته الأول بقوله:
وإن كٌنتِ لا حِلما ولا أنتِ زَوْجةٌ
فَلا بَرِحَتْ دُونِي عَليكِ سُتُورُ
فهو أولًا يشكو عسر ما يرجو من هذه الجارة، وذلك يوجب أن تكون مرجع هواه، ثم يصرح
بأنها لست زوجة ولا صديقة، فيضطرك إلى أن تسأله: وإلامَ تقصد حين تقول: «فلا برحت دوني
عليك ستور»؟ ثم يغلب عليه ضيق الصدر وقلق النفس، فيقول:
وجَاوَرْتُ قوْمًا لا تَزاوُرَ بَيَنَهمْ
ولا وَصْلَ إلَّا أن يَكُونَ نُشُورُ
فَمَا أنا بالمَشْغُوفِ ضَرْبَـة لازِبٍ
ولا كلّ سُلطَانٍ عَلَيَّ قَدِيرُ
وهو بهذا يتململ من أسر فؤاده وحبس أمانيه في تلك البقعة التي لم يقرّ لقلبه فيها
قرار، ولم تنعم عينه فيها بغير لألاء النجوم، حين تأنس العيون بالعيون، وتسكن القلوب
إلى القلوب …! ثم أخذ يحدثنا عن علمه بحركات الأهواء وخطرات النفوس، فقال:
وإنِّي لِطَرْفِ العَينِ بالعينِ زَاجِرٌ
فَقَد كدْتُ لا يَخْفَى عَلَيّ ضَمِيرُ
والزجر هنا ليس معناه الردع، وإنما هو من زجر الطير. وأصله أن يرمي الرجل الطائر
بحصاة أو يصيح به، فإن ولَّاه في طيرانه ميامنه تفاءل به، وإن ولاه مياسره تطاير منه،
ويريد أنه يقرأ ما في الصدر بملاحظة العين، وهذا البيت تأكيد لما قرره قبل من عنف جارته
به وقسوتها عليه، وإن لم تصرح بالقطيعة، ولم تعلن الصدود … ولم يقف أبو نواس عند هذا
الحد في وصف نفسه بصدق الفراسة، بل شبّه نظرته بنظرة العُقاب في سكون الريح، وقد طوت
القوت ليلتين عن فرخها الأزغب، فقال:
كَما نَظَرَتْ والرِّيحُ سَاكِنَة لَهَا
عُقَابٌ بأرسَاغِ اليدَيْن نَدُورُ
طوَتْ لَيلَتين القُوتَ عَن ذِي ضَرُورَة
أُزَيْغِبَ لَم يَنْبُتْ عَلَيهِ شَكِيرُ
فأوْفَتْ عَلَى عَلْياءَ حِينَ بَدَا لَها
مِن الشَّمْسِ قَرْنٌ والضَّرِيبُ يَمُورُ
تُقَلِّبُ طَرْفا في حِجَاجَيْ مَغَارَة
مِن الرَّأس لَم يَدْخُلْ عَلَيه سُرُورُ
وهذه اللفتة من أبي نواس فيها خروج على فطرته، إذ هي تقليد صريح لأسلوب الأعراب،
ويظهر أن أبا نواس كان يُعني في المواقف الرسمية بمراعاة الأساليب القديمة، ابتغاء
مرضاة الرواة واللغويين، كما كان ينقاد لفطرته كل الانقياد وهو يتحدث عن الصهباء، ويشيد
بذكر الندامى والسقاة والمغنين، من كل رخيم الصوت، أو أصبح الوجه، أو عذب الحديث، وهو
الذي يقول:
قَد أسحَب الزِّقَّ يَأبَانِي وأكرِهُه
حَتَّى لَه في أدِيم الأرض أُخدُود
لا أرحِل الرّاح إلا أن يَكُون لَهَا
حَادٍ بِمُنتَحل الأشعِار غِرِّيد
فاستَنطِق العُوّد قَد طَال السُّكُوت بِه
لَن يَنطِق اللَّهو حَتى يَنطِق العُود
ولنذكر بعد هذا أن أبا نواس انتقل من الحديث عن نفرة جارته، وصدق فراسته، إلى الحديث
عن حوار زوجه، فقال:
تَقُولُ التي مِن بَيتهَا خَفَّ مَرْكبَي:
عَزِيزٌ عَلينَا أن نَرَاكَ تَسِيرُ
أمَا دُونَ مِصْرٍ للِغنَى مُتَطَلّبٌ؟
بَلَى إنّ أسْبابَ الغِنَى لَكَثيرُ
فَقُلتُ لَها واستَعجَلَتْها بَوَادِرٌ
جَرتْ فَجَرى مِن جَرْيِهِنَّ عبَيرُ:
ذَرِيني أكَثّرْ حَاسِدِيكِ بِرِحْلَة
إلى بَلَدٍ فِيه الخَصِيبُ أميرُ
وهذه القطعة من الشعر المختار، ويرجع جمالها إلى ما فيها من وضوح الفكرة وسلامة
التعبير، وانظر الصدق في قوله:
أمَا دُونَ مِصْرٍ للِغنَى مُتَطَلّبٌ؟
بَلَى إنّ أسْبابَ الغِنَى لَكَثيرُ
ولكن الشعراء في ذلك العهد لم يطب لهم من أسباب الغنى غير مدح الملوك والأمراء، وكان
هذا بابًا لحصر العبقرية في ناحية واحدة هي خلق المحامد والمناقب، لكل من جُنَّ له
الدهر فظفر بإثارة من الملك أو زاد بسطة في المال — وقوله:
ذَرِيني أكَثّرْ حَاسِدِيكِ بِرِحْلَة
إلى بَلَدٍ فِيه الخَصِيبُ أميرُ
من الأبيات المختارة، والتعبير عن وفرة المال بكثرة الحساد من الكنايات المستملحة،
وقد قال له الخصيب حين أنشد هذا البيت: إذًا يكثر حسادها، وتبلغ أملها. وأمر له بألف
دينار، ثم قال في مدح الخصيب:
إذَا لَم تَزُرْ أرْضَ الخَصِيبِ رِكابُنا
فَأيّ فَتَّى بَعدَ الخَصِيبِ تَزُورُ
فما جَازَهُ جُودُ ولا حَلَّ دُونَه
ولكِنْ يَصيرُ الجُودُ حَيثُ يَصيرُ
وليس لهذين البيتين قيمة أدبية، ومن السهل أن يزعم الشاعر أن ممدوحه خير الناس على
الإطلاق، وأن الجود لا يجوزه، ولا يحل دونه، وإنما يصير حيث يصير، إلى ما هناك من وثبات
الخيالا، وقد نال منه الضعف والإسفاف حين قال:
فلمْ تَرَ عَيني سُؤدُدًا مِثلَ سُؤدَدٍ
يحِلّ أبو نَصْرٍ بِه ويَسِيرُ
ولكنه وُفق كل التوفيق حين قال:
فَتًى يَشْتَري حُسْنَ الثَنَاءِ بِمَالِهِ
ويَعْلَمُ أنَّ الدَّائِرَاتِ تَدُورُ
فإنه يصف الخصيب بالسعي لنيل السمعة الحسنة، والصيت البعيد، ويصفه مع هذا بضبط النفس،
والحذر من عاديات النوائب، وجائرات الخطوب، ولا تطيب الدنيا لملك أو أمير إلا إذا خطا
في حكمه وملكه خطوات الحذِر الهيوب، الذي يتوقع في كل لحظة أن يتنكر له الدهر، وأن تثور
من حوله الأقدار … ثم أخذ يصف بطشه بالمفسدين، وتنكيله بالعابثين بأمن الناس،
فقال:
وأَطرَق حَيَّات البِلاَد لَحَبّةٍ
خَصيبيَّة التَّصمِيم حِين نَسور
سَمَوتَ لِأهلِ الجَوْرِ في حَال أمنِهمْ
فَأضحَوا وكُلٌّ في الوَثَاق أسِيرُ
إذا قَام غَنَّتْهُ عَلَى السّاقِ حِلَيَة
لَهَا خُطوة عِند القِيَام قَصِيرُ
وفي هذه الأبيات إشارة إلى أن مصر في ذلك العهد كانت تقاسي شيئًا من الاضطراب، وكانت
لذلك طعمةً لاستبداد الحكام وسخرية الشعراء، وأي سخر آلم للنفس، وأوجع للقلب، من قول
أبي نُواس في أحد فتيان مصر وهو يوسف في الصّفاد:
إذا قَام غَنَّتْهُ عَلَى السّاقِ حِلَيَةٌ
لَهَا خُطوة عِند القِيَام قَصِيرُ
وقد أحسن أبو نواس في وصف الخصيب بنصح الجيب حين قال:
فَمَـنْ يَـكُ أمْـسَى جَـاهِـلًا بِمَـقَـالَتي
فَإنَّ أمِيرَ المُؤمِنينَ خَبِيرُ
ومَا زِلتَ تُولِيهِ النَّصِيحَة يَافِعا
إلى أن بَدَا في العَارِضَينِ قَتِيرُ
إذا غَالَهُ أمرٌ فإمَّا كَفَيْتَهُ
وإمَّا عَلَيه بالكِفاءِ تُشِيرُ
وهذا من أجمل ما يوصف به الرجل المخلص للحق حين يظفر بأسرار الملوك، وفي هذه القصيدة
قطعة أخرها الشاعر، وكانت أولى بالتقديم، وهي وصف رحلة الشعراء إلى الخصيب، ونحن نسرد
هذه القطعة تتميمًا للموضوع، ونصرح بأنها رديئة في العبارة، وفي السياق. قال:
رَحَلْنَ بِنَا مِن عَقْرقُوفَ وَقَد بَدَا
مِن الصُّبْحِ مَفتُوقُ الأدِيمِ شَهيرُ
فَمَا نَجَدَتْ بالمَاءِ حَتى رَأيتُهَا
مَعَ الشَّمسِ في عَينيْ أبَاغَ تَغُورُ
وغُمّرْنَ مِن مَاءِ النُّقِيبِ بِشَرْبَة
وَقَد حَانَ مِن دِيك الصَّباحِ زَميرُ
ووَافَينَ إشْرَاقا كَنَائِسَ تدْمُرٍ
وهُنّ إلى رُعْنِ المُدَخِّنِ صُورُ
يُؤمَّمْنَ أهْلَ الغُوطَتَينِ كأنّمَا
لَهَا عِند أهلِ الغُوطَتينِ ثُئورُ
وقاسَيْنَ لَيْلًا دونَ بَيْسانَ لم يكَدْ
سنَا صُبْحِهِ، للناظرينَ، يُنِيرُ
وأصْبَحنَ بالجوْلَان يَرْضَخن صَخرَها
وَلَم يَبْقَ من أجْرَاحِهِنّ شُطُورُ
وأصْبحنَ قد فوّزْنَ من نهرِ فُطرُسٍ
وَهُنَّ عَنِ البَيْتِ المُقَدَّسِ زُورُ
طوالبَ بالرّكْبانِ غَزَّة هَاشِمٍ
وَفي الفَرَمَا مِن حَاجِهِنّ شُقُورُ
واستأنف مدح الخصيب، فقال:
ولَمّا أتَتْ فُسْطاطَ مِصْر أجارها أجارَهَا
على رَكبِهَا أن لا تَزَالَ مُجِيرُ
مِن القَوْمِ بَسّامٌ كأنَّ جَبِينَهُ
سَنَا الفَجْرِ يَسْري ضَوءه ويُنيِرُ
زَهَا بالخَصِيبِ السّيْفُ والرُّمحُ في الوَغَى
وفي السِّلْمِ يَزْهُو مِنْبَرٌ وسَرِيرُ
جَوَّادٌ إذَا الأيْدِي كَفَفْنَ عَن النَّدَى
ومِن دونِ عَوْرَاتِ النَّسَاءِ غَيُورُ
لَهُ سَلَفٌ في الأعجَمِين كَأنَّهُمْ
إذَا اسْتُؤذِنُوا يَوْمَ السَّلامِ بدُورُ
وسنعود إلى تحليل هذه القطعة الأخيرة حين نوازن بينها وبين ما يماثلها في قصيدة ابن
دَرّاج.