أنفس الشعراء
١
قد رأيت أن الموازنة نوع من النقد، وهي كذلك نوع من الوصف، فالذي يوازن بين شاعرين إنما يصف ما لكل منهما وما عليه بأدق ما يمكن من التحديد، فمن واجب الناقد إذًا أن يتعمق في دراسة حياة الشاعر الذي يضع شعره في الميزان، وأن يجتهد في أن يرى الأشياء بعينه، ويدركها بشعوره؛ ليستطيع وزن ما يقول، فإن الشاعر إنما يؤدي «رسالته» إلى جيل خاص في قطر خاص، ومن التحكم أن تطالبه بأن يرى الأشياء بعينك، ويدركها ببصيرتك، ويتذوقها بوجدانك، مع أن بينك وبينه مئات الفروق، وهو لم يعك معك ولا لك، وإنما خضع في شعوره لغير ما تخضع له من ظروف الزومان والمكان.
وقد رأيت من الأدباء من يستنكر قول زهير في دار محبوبته، وقد نال منها العفاء:
وهو يرى أن هذا وصف ضئيل للدروس والعفاء، وذلك غفلة ظاهرة فإن منازل الأعراب تعفو وتدرس في أقل من عشرين سنة، فكيف يطلب لدروسها عشرات العقود؟
ورأيت من يستهجن ابتداء كعب بن زهير بقوله:
وذلك أن هذه القصيدة أنشدت في حضرة النبي ﷺ فمن الأدب أن لا تبدأ بالنسيب؛ وهذا أيضًا خطأ لأن بدء الشعر بالغزل كان من التقاليد العربية المستملحة، ولم يكن أحد ينكرها إذ ذاك حتى ينسب كعب إلى ما هو منه براء.
٢
وكان الجاحظ يقول: لا أعرف شعرًا يفضل قول أبي نواس:
ثم جاء صاحب المثل السائر، فقال: «فصاحة هذا الشعر عندي هي الموصوفة لا هذا المعنى، فإنه لا كبير كلفة فيه؛ لأن أبا نواس رأى كأسًا من الذهب ذات تصاوير فحكاها في شعره، والذي عندي في هذا أنه من المعاني المشاهدة، فإن هذه الخمر لم تحمل إلا ماءً يسيرًا، وكانت تستغرق صور هذه الكأس إلى مكان جيوبها، وكان الماء فيها قليلًا بقدر القلانس التي على رءوسها، وهذا حكاية حال مشاهدة بالبصر».
فانظر كيف صغرت قيمة الشعر في عين هذا الناقد حين كان: «حكاية حال مشاهدة البصر». مع أنه إنما عظم لذلك في عين الجاحظ.
ورأيت من ينكر قول ابن الدمينة:
واستند في إنكاره إلى أن هذه (عبارة فقهية)، وكان عليه أن يذكر أن روح الشاعر مصبوغ بصبغة دينية، وأنه قال هذه الكلمة العذبة، قبل أن يوجد التكلف في الفقه، وقبل أن تثقل أرواح الفقهاء!
ومن النقاد من فضل قول مسلم بن الوليد:
واستقبح قول أبي نواس:
استنادًا إلى أن المال لا صوت له. وهذا أيضًا خطا: لأن أبا نواس قريب العهد بمال الأعراب، ومال الأعراب ناطق، وطالما اضطربت الإبل لسكين الجزار عند قدوم الضيفان.
٣
فعلى الناقد أن يتبين العهد الذي عاش فيه الشاعر، وأن يعنى فوق ذلك بمعرفة ما درسه من الأدب القديم لما لذلك من الأثر في أذواق الشعراء.
فقد أنكروا على شوقي قوله:
مع أن أم المحسنين إنما ركبت يومئذ سيارة تنهب الأرض، ولكن هكذا بقي الهودج في ذهن شوقي، لإمعانه في دراسة الشعر القديم …
وأنكروا عليه قوله في سيارة الدكتور محجوب:
واستخفوا كلمة: «حديث الجار والجارة». وفاتهم أن الدكتور محجوب يسكن في حي قد لا يعرف أهله غير الخيل، والبغال، والحمير!
واستنكروا قول حافظ على لسان اليتيم:
واستضعفوا قول مطران في رثاء إسماعيل صبري:
لأن مقام الرثاء يجل عن ذكر الحبب والكأس، وليس لك أن تشبه الشهاب حين يغيب، بالحبب حين يذوب، ولكن يجب أن نعرف كيف يعيش مطران؛ لنعرف قيمة هذا التشبيه في نفسه الممراح.
وكذلك نقول في توجيه كلمة شوقي في رثاء محمد تيمور:
فإن تشبيه الموتى بصرعى الشراب لا يدل على غفلة الشاعر عن رعاية مقتضى الحال، وإنما يشير بطرف خفي إلى ما لحياته من شتى الألوان، كما أفصح شعره عن ألوان حياته في قوله من كلمة ثانية:
وقال أحد أنصار ابن الرومي يلومه: لم لا تشبه كتشبيهات ابن المعتز؟ فقال: أنشدني من قوله الذي استعجزتني عن مثله. فأنشده قوله في الهلال:
فقال له زدني، فأنشده:
فصاح: وا غوثاه! لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. ذلك إنما يصف ماعون بيته؛ لأنه ابن خليفة، وأنا أي شيء أصف؟ ولكن انظر إذا وصفت أين يقع قولي من الناس، فهل لأحد قط مثل قولي في قوس الغمام:
وقولي في صانع الرقاق:
فليس لك أن تقدم ابن المعتز على ابن الرومس؛ لأنه استطاع تشبيه الآذريون بعد المطر بمداهن الذهب فيها بقايا الغالية، وليس لك أن تقدم ابن الرومي على ابن المعتز؛ لأنه أجاد وصف الخباز، وهو يدحو الرقاق، فإن السبق هنا وهناك يرجع إلى الظروف التي أتيحت لكل من الشاعرين، ومهدت السبيل إلى الوصف الدقيق، وإنما يجب عليك أن نعمد إلى الشاعر وتسير أغوار نفسه لترى مبلغ شعوره بما وصفه من الأشياء، فقد يكون ابن الرومي في وصف الرقاق أشعر من ابن المعتز في وصف الهلال.
٤
وكذلك ليس لك أن تقدم الأوصاف الحضرية على الأوصاف البدوية؛ لأن الحضارة في ذوقك أنضر من البداوة، فقد يكون البدوي في بداوته أشعر من الحضري في حضارته، كما قال أستاذنا المهدي، ومعنى ذلك أن البدوي قد يكون شعوره بالريح السموم في مجاهل البيداء أقوى من شعور الحضري بالنسيم العليل في الروضة الغناء.
فليس قول خزيمة بن نهد في ريق محبوبته:
بأقل من قول الشريف الرضي:
ولا يفضلهما من قال: «كأني ألتقط من فيها حب الرمان»؛ لأن الأمر في ذلك يرجع إلى قوة إدراك الشاعر، بغض النظر عن تفاوت الأوصاف، فقد يكون الزنجبيل أجمل ما تعطر به الأفواه في البادية كما تكون الخمر، أو حب الرمان، أحلى ما تعطر به الثنايا في الحاضرة، ولكل شعب وجهة في تناول الأشياء.
ألم تر إلى المتوكل وقد أنشده ابن الجهم في مدحه:
لقد طرب المتوكل لهذا الشعر، وإن كان جاسي اللفظ بادي الخيال؛ لأنه أعجب بما له من قوة الشاعرية، وهي روح البيان، ثم أسكنه قصرًا من قصور بغداد، واستدعاه بعد ذلك، وقد صقلته الحضارة، فأنشده تلك الرائية البديعة التي يقول في أولها:
والخلاصة: أن الناقد إنما يوازن بين عبقرية وعبقرية، ويفاضل بين بصيرة وبصيرة، ويقارن بين إدراك وإدراك، بغض النظر عن الفروق الموضعية التي يقضي بها اختلاف الأقاليم، والفوارق الزمنية التي يوجبها اختلاف العصور. وهذا يتطلب من الناقد تضحية خطيرة، ولكنها ضرورية: يتطلب هذا أن ينسى الناقد شخصيته، وأن يفنى في شخصية الشاعر الذي يدرسه: بحيث يبصر بعينه، ويسمع بأذنه، ويفقه بقلبه، ليسبُر كما قلت، أغوار نفسه؛ وليرى مبلغ شعوره بما وصفه من الأشياء.