ولغة العرب مدينة لجماعة من الشعراء والمفكرين منهم أبو فراس صاحب الروميات، أبو فراس
الذي وصف الضعف الإنساني أجمل وصف، وشرحه أحسن شرح، ومَثَله أصدق تمثيل.
أبو فراس ضحية الكبرياء، والحب والمجد، أبو فراس الوتَر الحنَان الذي خلَد على الدهر
مجد
الألم ومجد الأنين، أبو فراس الذي أبكى كل عين، وأحزن كل قلب، وشغل كل باب، أبو فراس
الأسد
الذي استعذب الدمع بعد الزئير، وعلمته الليالي كيف تعصف الخطوب بأحلام الرجل.
كن كيف شئت من قوة القلب ثم اقرأ روميات أبي فراس، فستعرف أن القوة الإنسانية في حاجة
إلى
من يبكيها حين تزول، وليت القلم يطاوعني لأشرح بعض ما أريد، وأنا أريد أن أقول: إن عنفوان
الرجال من كنوز الحياة، ولكنها كنوز معرّضة للتزييف حين يعروها الخمود، العنفوان في الرجل
الشجاع هو أنضر من الصباحة في الوجع الجميل، والصباحة تجد من يبكيها حين تزول، أما العنفوان
حين يخمد فلا يجد من يشيّعه بطيف من الرثاء.
وما قرأت روميات أبي فراس إلا تمثلت زوال الجبال، تمثلت عُنْفُوان الفارس الفاتك الذي
قضت
الأقدار بأن يمسي وهو في ظلمات من ذلة الأسر، وهزيمة القلب وانصهار الروح.
لا تذكروا آلام المتنبي، ولا أشجان المعرّي، ولا وجد ابن زيدون، كل أولئك أحمالهم
خفاف
بجانب ما حمل أبو فراس، وما ظنكم بقائد عظيم يذله الأسر حتى يعود طفلًا يتوجع من جراحه
ويشكو لأمه فيقول:
مُصابي جَليلٌ وَالعَزاءُ جَميلُ
وَظَنّي بِأَنَّ اللهَ سَوفَ يُديلُ
جِراحٌ تَحاماها الأُساةُ مَخَافَةٌ
وَسُقمانِ بادٍ مِنهُما وَدَخيلُ
وَأَسْرٌ أُقاسيهِ وَلَيْلٌ نُجومُهُ
أَرَى كُلَّ شَيءٍ غَيرَهُنَّ يَزولُ
تَطُولُ بِيَ الساعاتُ وَهيَ قَصيرَةٌ
وَفي كُلِّ دَهْرٍ لايَسُرُّكَ طُولُ
تَناسانِيَ الأَصْحابُ إِلّا عُصَيبَةً
سَتَلحَقُ بِالأُخْرَى غَدًا وَتَحْولُ
وَإِن الَّذي يَبْقَى عَلَى العَهْدِ مِنْهُمُ
وَإِن كَثُرَت دَعْواهُمُ لَقَليلُ
أُقَلِّبُ طَرْفي لا أَرَى غَيْرَ صاحِبٍ
يَميلُ مَعَ النَعْماءِ حَيْثُ تَميلُ
وَصِرنا نَرى أَنَّ المُتَارِكَ مُحْسِنٌ
وَأَنَّ خَليلًا لايَضُرَ وصولُ
أَكُلُّ زَمَانٍ أَنْكَدٌ غَيرُ مُنْصِفٍ
وَكُلُّ زَمانٍ بِالكِرامِ بَخيلُ
فَيا حَسْرَتِي مَن لي بِخِلٍّ مُوافِقٍ
أَقولُ بِشَجْوي مَرَّةً وَيَقولُ
وَإِنَّ وَراءَ السَّتْرِ أُمًّا بُكَاؤُهَا
عَلَيَّ وَإِن طَالَ الزَمانُ طَويلُ
فَيا أُمَّنا لا تُخطِئي الأَجرَ إِنَّهُ
عَلى قَدَرِ الصَبرِ الجَميلِ جَزيلُ
تَأَسّي كَفاكِ اللهُ ما تَحْذَرينَهُ
فَقَد غالَ هَذا الدَّهْر قَبلَكِ غولُ
لَقِيتُ نُجومَ اللَّيْل وَهيَ صَوارِمٌ
وَخُضْتُ سَوَادَ اللَيلِ وَهوَ خُيولُ
وَلَم أَرْعَ لِلنَفسِ الكَريمَةِ خِلَّةً
عَشِيَّةَ لَم يَعطِف عَلَيَّ خَليلُ
وَلَكِن لَقيتُ المَوتَ حَتّى تَرَكتُها
وَفيها وَفي حَدِّ الحُسامِ فُلولُ
أترون كيف صحَّ للفارس المغوار أن يبكي كما يبكي الطفل؟ إن التوجع لآلام الأمهات شريعة
إنسانية لا يعرفها أبطال الحروب إلا يوم ينهزمون أو يُؤسرون، وكذلك قضت الدنيا على أبي
فراس
أن ينهزم وأن يُؤسر، وقضت عليه أن ينتظر من يَفديه فلا يظفر بالفداء، قضت عليه الدنيا
أن
يعاني آلام الجروح فلا يسعفه طبيب، ولا يواسيه رفيق، قضت عليه الدنيا أن يتمثل أمه باكيةً
مُلتاعةً لا يرْقأ لها دمع، ولا يهدأ لها فؤاد، ويا ويل من تضعف نفسه فيرق لأحزان
الأمهات!
على أن أبا فراس كان يتجلد أحيانًا في أسره فلا يزيدنا ذلك التجلد إلا علمًا بما وصل
إليه
من فقد الصبر وانعدام العزاء، كان يتجلد فيستطيع أن يقرع سيف الدولة بمثل هذا
العتاب:
أَما لِجَميلٍ عِنْدَكُنَّ ثَوابُ
وَلا لِمُسيءٍ عِنْدَكُنَّ مَتَابُ
لَقَد ضَلَّ مَنْ تَحْوِي هَواهُ خَريدَةٌ
وَقَد ذَلَّ مَن تَقْضي عَلَيهِ كَعابُ
وَلَكِنَّني وَالحَمْدُ لِلَّهِ حازِمٌ
أَعِزُّ إِذا ذَلَّت لَهُنَّ رِقابُ
وَلا تَملِكُ الحَسناءُ قَلبِيَ كُلَّهُ
وَإِن مَلَّكَتْهَا رَوْقَةٌ وَشَبابُ
٢
إِذا الخِلُّ لَمْ يَهجُركَ إِلّا مَلالَةً
فَلَيسَ لَهُ إِلّا الفِراقَ عِتابُ
إِذا لَم أَجِدْ في بَلْدَةٍ ما أُرِيدُهُ
فَعِندي لِأُخرى عَزمَةٌ ورِكابُ
فَلَيسَ فِراقٌ ما اِستَطَعتُ فَإِن يَكُن
فِراقٌ عَلى حالٍ فَلَيسَ إِيابُ
صَبُورٌ وَلو لَم تَبقَ مِنّي بَقِيَّةٌ
قَئولٌ وَلَو أَنَّ السُّيوفَ جَوابُ
وَقورٌ وَأَهْوَالَ الزَمانِ تَنوشُني
وَلِلمَوتِ حَولي جيئَةٌ وَذَهابُ
وَأَلحَظُ أَحوالَ الزَمانِ بِمُقلَةٍ
بِها الصُدقُ صِدقٌ وَالكِذابُ كِذابُ
بِمَن يَثِقُ الإِنْسانُ فيما يَنُوبُهُ
وَمِن أَينَ لِلحُرِّ الْكَريمِ صِحابُ
وَقَد صارَ هَذا الناسُ إِلّا أَقَلَّهُمْ
ذِئابًا عَلى أَجسادِهِنَّ ثِيابُ
تَغابَيتُ عَن قَومي فَظَنّوا غَباوَتي
بِمَفرِقِ أَغْبَانا حَصًا وَتُرابُ
وَلَو عَرَفوني حَقَّ مَعرِفَتي بِهِم
إِذًا عَلِموا أَنِّي شَهِدْتُ وَغابوا
وَما كُلُّ فَعّالٍ يُجازَى بِفِعْلِهِ
وَلا كُلُّ قَوّالٍ لَدَيَّ يُجابُ
وَرُبَّ كَلامٍ مَرَّ فَوْقَ مَسامِعي
كَما طَنَّ في لَوْحِ الْهَجيرِ ذُبابُ
إِلى اللهِ أَشْكْو أَنَّنا بِمَنَازِلٍ
تَحَكَّمُ في آسَادِهِنَّ كِلابُ
تَمُرُّ اللَيالي لَيْسَ لِلنَفعِ مَوضِعٌ
لَدَيَّ وَلا لِلمُعتَفينَ جَنابُ
وَلا شُدَّ لي سَرْجٌ عَلَى ظَهرِ سابِحٍ
وَلا ضُرِبَت لي بِالعَرَاءِ قِبابُ
وَلا بَرَقَت لي في اللِقاءِ قَواطِعٌ
وَلا لَمَعَت لي في الحُروبِ حِرابُ
سَتَذْكُرُ أَيّامي نُمَيْرٌ وَعامِرٌ
وَكَعْبٌ عَلى عَادَاتِها وَكِلابُ
أَنا الجَارُ لا زادِي بَطِيءٌ عَلَيهُمُ
وَلا دونَ مالي لِلحَوادِثِ بابُ
وَلا أَطلُبُ العَوْراءَ مِنهُم أُصِيبُها
وَلا عَوْرَتي لِلطَّالِبينَ تُصابُ
وَأَسطو وَحُبّي ثابِتٌ في قُلوبِهِم
وَأَحلَمُ عَن جُهّالِهِم وَأُهابُ
بَني عَمِّنا لا تَتْرُكوا الحَرْب إِنَّنا
شِدادٌ عَلى غَيرِ الهَوانِ صِلابُ
بَني عَمِّنا ما يَصْنَعُ السَيْفُ بَيْنَنا
إِذا فُلَّ مِنهُ مَضْرِبٌ وَذُبَابُ
بَني عَمِّنا نَحنُ السَواعِدُ وَالظُبَا
وَيوشِكُ يَومًا أَنْ يَكونَ ضِرابُ
وَإِنَّ رِجالًا ما اِبنَهُمْ كَاِبنِ أُخْتِهِم
حَرِيُّونَ أَن يُقْضَى لَهُ وَيُهابُ
فَعَن أَيِّ عُذْرٍ إِن دُعُوا وَدُعِيتُمُ
أَبَيتُم بَني أَعمامِنا وَأَجَابوا
وَما أَدَّعي ما يَعلَمُ اللهُ غَيرَهُ
رِحابُ عَلِيٍّ لِلعُفاةِ رِحابُ
وَأَفعالُهُ بِالراغِبينَ كَريمَةٌ
وَأَموالُهُ لِلطالِبينَ نِهابُ
وَلَكِن نَبا مِنهُ بِكَفَّيَّ صارِمٌ
وَأَظلَمَ في عَينَيَّ مِنهُ شِهابُ
وَأَبطَأَ عَنّي وَالمَنايا سَريعَةٌ
وَلِلمَوتِ ظُفرٌ قَد أَظَلَّ وَنابُ
فَإِنْ لَم يَكُن وُدٌّ قَديمٌ نَعُدُّهُ
وَلا نَسَبٌ بَينَ الرِجالِ قُرابُ
فَأَحوَطُ لِلإِسلامِ أَنْ لا يُضيعَني
وَلي عَنهُ فيهِ حَوْطَةٌ وَمَنابُ
وَلَكِنَّني راضٍ عَلَى كُلِّ حالَةٍ
لِنَعْلَمَ أَيُّ الخُلَّتَيْنِ سَرابُ
وَما زِلتُ أَرْضَى بِالقَليلِ مَحَبَّةً
لَدَيهِ وَما دُونَ الكَثيرِ حِجابُ
وَأَطلُبُ إِبقاءً عَلى الوُدِّ أَرضَهُ
وَذِكري مُنَىً في غَيرِه وَطِلابُ
كَذاكَ الوِدادُ المَحْضُ لا يُرتَجى لَهُ
ثَوابٌ وَلا يُخْشى عَلَيْهِ عِقابُ
وَقَد كُنْتُ أَرْضَى الهَجرَ وَالشَّمْلُ جامِعٌ
وَفي كُلِّ يَوْمٍ لقيةٌ وَخِطابُ
فَكَيفَ وَفيما بَينَنا مُلكُ قَيصَرٍ
وَلِلبَحرِ حَولي زَخرَةٌ وَعُبابُ
أَمِن بَعدِ بَذلِ النَفسِ فيما تُريدُهُ
أُثابُ بِمُرِّ العَتبِ حينَ أُثابُ
فَلَيتَكَ تَحْلُو وَالحَياةُ مَريرَةٌ
وَلَيْتَكَ تَرضَى وَالأَنامُ غِضابُ
وَلَيتَ الَّذي بَيْني وَبَينَكَ عامِرٌ
وَبَيني وَبَينَ العالَمينَ خَرابُ
وإنما نقلنا هذه القصيدة على طولها لنمكن القارئ من التعرف إلى روح أبي فراس، فذلك
رجل
أسير ضَعْضعه اليأس، ولكنه لا يزال مشغول البال بمكايد الأحزاب، وهو يتكلم كلام الطليق،
لا
كلام الأسير، ويعتب على هذا وذاك عتب من يملك الضر والنفع، والعقاب والثواب، ويسمو إلى
أبعد
آفاق الرجولة حين يقول:
وأقسى ما يعاني الرجل أن يمسي لا يملك الضر، ولا يملك النفع، وغايات الفتوّة أن يكون
الرجل نَفَّاعًا ضرّارًا يخشاه العدو ويرجوه الصديق، وشكاية أبي فراس في قصيدته هذه شكاية
رجال، أما شكايته في القصيدة الماضية فشكاية أطفال، ومعاذ الأدب أن يتجنى عليه، فنحن
لا
نعرف كيف كان يعامل الأسرى في بلاد الروم، ولا نعرف كيف كان يرى الدنيا وهو أسير، ولا
نعرف
ما قُوبل به أسره في بلاط سيف الدولة، فقد يكون أسره قوبل بالشماتة من بعض الأمراء، وذلك
إن
وقع شيءٌ منه كافٍ لأن ينقل الرجل من الصبر إلى الجزع، يحوله إلى إنسان لا يعرف غير الندم
على ما قدّم في الحرب من حسن البلاء.
قلت: إن الشاعر يتكلم في هذه القصيدة كلام الطليق. ألم تر كيف ابتدأها بالنسيب؟ ألم
تر
كيف دعا إلى مواصلة الحرب؟ ألم تر كيف يمتدح بأنه يتجاهل أقوال القادحين فيقول:
ولنتذكر أن كل شعره في الأسر لم يكن إلا حديث النفس إلى النفس، فمن المستبعد جدًّا
أن
نتصور أن الرجل كان يراسل قومه من يوم إلى يوم، أو من أسبوع إلى أسبوع، فالدنيا في ذلك
العصر لم تكن تسمح بأن يكون للأسرى بريد، وهل سمحت الدنيا في هذا العصر بأن يكون للأسرى
بريد حتى تسمح لأبي فراس بأن يعاتب سيف الدولة ويخاشن أنصاره بمثل ما رأينا في هذا
القصيد؟
إن الصلة بين القصيدين الماضيتين ليست بعيدة، فالأولى توجع، والثانية تجلد، وليس بين
التوجع والتجلد إلا فرق ضئيل.
والشاعر في القصيدتين غير متكلف، وإنما هو يمثل ما يمر بالنفس الإنسانية من صور وأطياف،
والنفس الإنسانية فيها قوة وضعف، وفيها جبروت واستخذاء، والشاعر الحق هو الذي لا يكذب
على
الطبع: وإنما يبتهج ويبتئس، ويقسو ويلين، وفقًا لبسمات العيش أو نكد الزمان.
قد يقول معترض: وكيف صح لأبي فراس أن ينظم أشعار الحماسة وهو في القَيد؟
ونجيب بأن الليث المأسور في حديقة الحيوان يتمثل أحداث الغابة في كل حين.
والنفس تجتر ماضي النعيم في أيام الحرمان، وصور النعيم السالف هي القبَس الذي يبدد
غياهب
البؤس، ويمحق ظلمات البأساء.
وكيف تحتاج إلى شرح هذه النزعة النفسية وعندنا البارودي، البارودي رجل السيف، الذي
لم
يصوّر أيام الحرب والفتوة إلا بعد أن ألقته الحوادث منفيًّا في جزيرة سيلان.
إن إحساس البارودي بمجده الحق لم يتم له إلا بعد أن نزعت عنه الحوادث شارات المجد،
وكل
إنسان حساس لا يدرك ما كان عليه من قوة وفتوة ونعمة إلا بعد أن تسطو عليه الخطوب، وتريه
الدنيا كيف تصوح الأزهار، وكيف تجف الأنهار، وكيف تذبل الرياحين.
إن إحساس أبي فراس والبارودي بعظمة المجد بعد الهزيمة هو إحساس طبيعي مألوف، فقد رأينا
ورأى الناس أن المرء لا يتمدح بماضيه إلا حين يصبح حاضره لا يكبت العدو ولا يسر
الصديق.
ومن عجيب التشابه بين البارودي وأبي فراس أنهما ظلا في أيام المحنة واليأس يتذكران
الأحباب ويشكوان سفه الراشين، وقد مرّ شاهد من شعر أبي فراس، فلنذكر بجانب ذلك قول
البارودي:
رُدًّوا عليَّ الصّبا منْ عصْريَ الخالِي
وَهَلْ يَعُودُ سَوَادُ اللِّمَة الْبَالِي
مَاضٍ مِنَ العَيْش ما لاحتْ مخايلهُ
في صفحةِ الْفكرْ إلاَّ هاجَ بلبالي
سَلَتْ قُلُوبٌ فَقَرَّتْ في مَضاجِعِها
بَعْدَ الْحَنِينِ وَقَلْبِي لَيْسَ بِالسَّالِي
لمْ يدْرِ مَنْ بَاتَ مَسْرُورًا بِلْذَّتْهِ
أَني بنَارِ الأسَى مِنْ هِجْرهِ صالِ
يا غاضِبينَ عَلينْا هَلْ إلَى عِدَةٍ
بِالْوَاصْلِ يَوْمٌ أُنَاغي فيهِ إِقْبَالي
غِبْتُمْ فَأَظْلَمَ يَوْمِي بَعْدَ فُرْقَتِكُمْ
وَسَاءَ صُنْعُ اللْيَالي بَعْدَ إِجْمالِ
قَدْ كُنْتُ أَحْسِبُني مِنْكُمْ عَلَى ثِقَة
حَتى مُنيتُ بِما لَمْ يَجرِ في بالي
لَمْ أَجْنِ فِي الْحُبِّ ذَنْبًا أَسْتَحِقُّ بِهِ
عَتْبًا ولَكنَّها تَحْريفُ أَقْوَالِ
وَمَنْ أَطاعَ رُواة السُّوءِ نَفَرَهُ
عَنِ الصَّدِيقِ سَمَاعُ الْقِيلِ وَالْقَالِ
أدْهَى المَصائبِ غَدْرٌ قَبْلَهُ ثِقَةٌ
وَأَقْبَحُ الظُّلْمِ صَدٌّ بَعْدَ إِقْبَالِ
فماذا ترون في هذه الأبيات؟ إن البارودي يصنع كما يصنع أبو فراس، هو يتكلم كلام الطليق،
هو يرجو ألا يسمع أحبابه كلام الواشين والمرجفين ولم يكن في دنيا النفي ما يتسع لوشاية
ولا
إرجاف.
تلك نزوات نفسية، هي نزوات الطائر المحبوس في القفص، وهو مع ذلك يتوثب من ركن إلى
ركن
كأنه من ملوك الهواء.
وإنما توغلت في هذه المسالك لأدلّ القارئ على أسرار التناقض فيما يقرأ للبارودي، وما
يقرأ
لأبي فراس. هما شاعران يشتركان في كثير من النوازع، ويشتركان في كثير من الصفات، وبَليّة
النفي والأسر بلية واحدة وإن اختلفت الصور والظروف.