الموازنة بين الرائيتين
١
ونشرع في الموازنة بين الرائيتين فنقول:
يظهر أن البارودي لم يحتفل بقصيدته على نحو ما احتفل أبو فراس، فقصيدة البارودي خمسة وعشرون بيتًا، وقصيدة أبي فراس جاوزت الأربعين.
قد يقال: وما قيمة الكمية؟ ونجيب بأن البارودي حين عارض ميمية أبي نواس نظر فرآها عشرين بيتًا، فجعل قصيدته أربعين، وذلك من شارات الاهتمام والاحتفال.
والنسيب في قصيدة أبي فراس عشرون بيتًا، وهو في قصيدة البارودي أحد عشر بيتًا.
ومن الفوارق بين الشاعرين أن أبا فراس اقتضب فانتقل فجأة من النسيب إلى الفخر، أما البارودي فترفق في التخلص حين قال:
وابتدأ أبو فراس قصيدته بحوار بينه وبين رفيق موهوم عاب عليه التجلد فقال:
وهذان البيتان غاية في وصف أقدار الرجال، فإن الرجل لا يعاب عليه الحب، وإنما يعاب عله أن يصير أحبابه مضغة الأفواه، ثم جعل الشكوى بينه وبين الليل، فقال:
وقد عارض البارودي مطلع أبي فراس فجعل أمره في الحب أخطر من أن يُدارَى بالكتمان، وتمثل نفسه محبًّا جامحًا لا يصدّه تهيب، ولا يردعه إشفاق، وكذلك قال:
فالبارودي لم يصنع صنيع أبي فراس الذي حدثنا أنه عرف كيف يكتم أسرار الحب، وأنه لا يشكو بثَّه إلا إلى ظلمات الليل، وإنما سلك البارودي مسلكًا آخر، حين جعل هواه فوق التجلد وفوق الكتمان، وحين أعلن أن ما به أخطر من السحر وأخطر من الجنون، وحين أعلن العجز عن مقاومة الحب؛ لأن الحب في رقته ولطف مداخله لا يُرد بالسيوف وبالرماح، وهي كل ما يملك ذلك الفارس الذي كانت مواقعه مما يشيب ناصية الزمان:
وهذا من أصدق ما قال المحبون، فلا يعلم أحد إلى اليوم كيف تستطيع العيون النواعس أن تفعل بالرجال ما لا تفعل الصهباء، لا يعلم أحد كيف يتفق للرجل أن يَذلْ ويخضع في ميدان الحب، لا يعلم أحد كيف يستطيع الخد الأسيل — وهو أرق من الورد — أن ينال من قلب الرجل ما لا ينال السيف الصقيل.
لقد يخطر ببال الخليِّين أن الشعراء يبالغون حين يرون الحب أعنف من الجمر، وأفتك من الخمر، وأقتل من الداء العُضال، ولكن الذي مارس دنيا الصباحة، وعرف ما فيها من مهالك ومعاطب، لا يزال يعجب من هذه المصاير المحزنة: مصاير الرجال الذين يعيشون بعزائم من الصخر وقلوب من الهواء.
لقد كان البارودي ولا ريب من أقوياء الرجال، ولكنه مع ذلك عاش في الحب عيش الأطفال، وأخذ يحمل قلبه الجريح من أرض إلى أرض، وظل يهذي بأحلام حُلوان هذيان المحموم، فلم تفارقه لوعته في سفر ولا حضر، ولم يرحمه جواه في شدة ولا رخاء، ومن أجل ذلك نراه يحس بلواه كل الإحساس، وهو يقول:
وللقارئ أن يتأمل هذه الصورة الشعرية، له أن يتصور كيف تتعلق شرارة الحب بالجمر، فيحترق الجمر، فالجمر يحرق ولكنه حين يمس الحب يحترق، وتلك من وثبات الخيال.
وقد عز على البارودي أن يكون أقل جلدًا من أبي فراس وأن يصبح حديث الشامتين، وكذلك استدرك فقال:
ونحن نحمد الله تعالت أسماؤه على أن لطف بعباده فعصم هذا الشاعر من الضعف وأسبغ عليه نعمة الصبر الجميل، ولولا لطف الله لغرف الناس في بحر من الدموع وهي ملح أجاج.
لقد أعجبني من البارودي أن يغرب في الوهم، فيقول:
وعبارة: ما شك امرؤ عبارة طريفة لأنها تدل على أن الشاعر يفطن إلى أنه مقبل على أكاذيب، والكاذب في حاجة إلى القسم وإلى التأكيد.
وكنا نود لو اعتذرنا عنه، ولكن هذا الغلو المكشوف لم يُوشَّ بصورة شعرية على نحو ما وشى البيت البكر الذي جعل به الجمر وَقودًا لنار الحب، والدنيا كلها وقودٌ لتلك النار التي يعذب الله بها من يشاء من عباده الشعراء.
٢
لم يمض البارودي في حديث هواه، أما أبو فراس فقدم صورًا من النسيب، عاتب حبيبته، فقال:
وهذا البيت عرض له شوقي في مقدمة الطبعة الأولى من الشوقيات، فرآه من صُور الأثرة وفضل عليه قول أبي العلاء:
ونحن نرى أبا فراس أصدق من أبي العلاء، فإن الأثرة من مظاهر الحيوية، والشاعر الحي لا يفكر إلا في نفسه؛ لأن الحياة تفرض الاستبداد، ونظرة أبي العلاء فيها كرم ولكنها تمثل الضعف، والأثرة هي سر كل شيء، فالشجرة العظيمة لم تعظم إلا بفضل ما استبدت في مص الأرض واستنشاق الهواء وهي لا تعظم إلا بعد أن تقتل ما حولها من شجر ونبات، والرجل العظيم لا يعظم إلا بفضل ما يغير على معاصريه، فهو لا يظهر إلا بعد أن يُحمل الألوف والملايين، والشمس لم تعظم إلا منذ استطاعت أن تكسف بضيائها جميع الكواكب فلا ترى العين غيرها في كبد السماء، وكان القمر أقل عظمة من الشمس؛ لأنك ترى بجانبه نجومًا يخطئها العد فتحكم بأنه عجز عن الاستبداد بملك السماء، وقد يتفق أحيانًا أن نرى القمر نهارًا، ولكن كيف نراه؟ نراه في صورة التابع الذليل، وهو لم يظهر إلا بفضل ما أفاءت عليه الشمس، ولو كفت برَّها عنه لعاش وهو مجهول.
فقول أبي فراس:
من الكلمات القوية التي لا تصدر إلا عن رجل يحمل قلب الملوك، أما كرم أبي العلاء فهو كرم العاجز الذي لا يتصرف في شيء، وإنما يبذل عطايا الوَهم بلا حساب، والأنس بنعيم الناس لا يكون إلا ممن يملك الإفضال على الناس، أما الذي يسره أن يجود المطر جميع الوهاد والنجاد فهو يُسر بما لا يبذل، والسرور بما لا تبذل سرور الضعفاء.
وقد فرح ناس بملاحظة شوقي فراحوا يعيدونها في كل مجتمع، وهم لا يفقهون!
ومضى أبو فراس فأمتعنا بهذين البيتين:
وهذا شعر بديع حقًا، وإن كان البيت الأول مأخوذ من قول جميل:
وكان البيت الثاني أخذ برفق من قول جميل في كلمة ثانية:
ولننص على أن البيت الأول عند أبي فراس أروع من بيت جميل، أما البيت الثاني من شعر جميل فهو أقوى وأعمق من البيت الثاني من شعر أبي فراس.
ثم انظروا هذا البيت:
انظروا هذا البيت وتأملوه، فعبارة وفي بعض الوفاء مذلة تصور ما يلقي الرجل في الحب، والوفاء في الحب ذلة يقبل عليها الرجال وهم كارهون، والرجل لا يحب إلا وهو مخبول، ولو كان يملك من أمره شيئًا لعرف أن نعيم الحب نعيم صغير بالإضافة إلى ما يُذال فيه عز النفوس.
وهذا البيت:
هذا بيت نادر، وهو قليل الأمثال عند من يفهم دقائق البيان، ولك أن تتذكر وقار العقلية المليحة التي تحيا برزانة الجبال، ثم يستفزها الصبا فتجنح إلى التعقب والتغضب، ولبعض الملاح غضبات كلها سحر وفُتون، وهي أملح في العين وأندى على القلب من بسمات الرضا ونغمات الحنين.
وانظروا هذا الحوار الطريف:
وهذا أيضًا شعر، ولكن أي شعر! إنه من أقوى لَفحات الصبابة، وأطيب نَفحات الوجدان، والدنيا هكذا تصنع بالرجال، فذلك الفارس الذي فتك بمن فتك من الأبطال، وهدم ما هدم من الحصون، هذا الجبل يقف خاشعًا ذليلًا أمام إنسانة تقول: من أنت؟ فيقول: عاشق! فتقول: ولكن من أنت من العشاق؟ فيقول في ذلة المهزوم: أنتِ تعلمين!
ومن كانت هذه الإنسانة التي عناها أبو فراس؟
ولكن ما قيمة هذا السؤال؟ أكان من الحتم أن يكون لمثلها شأن حتى تكوي مثله على الجمر المشبوب؟ إن من أعجب تصاريف القدر أن لا ينبت الحسن المرموق إلا في المراتع التي لا يُنصب حول حماها حصن، ولا يرفرف فوقها لواء.
إن أبا فراس لا يكذب في مثل هذا التحرق، ولكن من كان يحب! كان يحب إنسانة هي اليوم في ضمير شعره، لا في ضمير صدره، إنسانة أنطقته بهذه اللوعة الخالدة، ثم اندرجت في أكفان الفناء.
ثم انظروا هذا المصير المحزن، مصير كل عاشق حبله الهوى فضاع:
هذا مَصير كل عاشق: لغيره أن يُذنب وعليه أن يعتذر. والعشق ذاته خروجٌ على المنطق، منطق الحياة التي تسمو بصاحبها إلى الترفع عن كل دنية، إلا أن يثبت البحث أن الحب أسلوبٌ من الظفر بمكنونات الجمال، وأن مدامع العشاق في عالم المعقول كالمخلب والناب في عالم المحسوس، فالأسد يفترس، والعاشق يفترس، وإن اختلفت وسائل الافتراس.
نحن إذن نبكي لنخدر الفريسة، وعلى ذلك يكون الدمع في عين العاشق كالسم في ناب الثعبان! أترونني كشفت سر المهنة؟ لا تراعوا أيها العشاق فلأهل الجمال غفلة هي أعجب الغفلات، هم يرون الشرك ويتجاهلون، لحكمة يعلمها من يصل القلوب بالقلوب، وينقل الظباء طائعة إلى مرابض الأسود.
وكأن أبا فراس لحظ هذه النظرة الفلسفية حين قال:
وهو خيال بدوي أطاف به كثير من الشعراء، والمليحة هكذا خُلقت تأمن وتخاف، وبين الخوف والأمن يكون جحيم الهجر ونعيم الوصال.
٣
ننتقل إلى الموازنة بين الشاعرين في الفخر فنقول:
يُحس البارودي أن أيامه انتهت، أيام المجد الحربي، فيزفر:
وعبارة «لولا العوائق» فيها تحفظ معقول: لأنه كان في القيد، أما أبو فراس فيشمخ:
وحال الشاعرين مختلف، فالبارودي كان انهزم وانهزمت أمته فاحتل الإنجليز بلاده ونفوه إلى جزيرة نائية لا يُرجى له منها معاد، فهو خليق بأن يراعي ذلك في فخره. أما أبو فراس فكان لابن عمه ولقومه دولة وكان لهم جيش، وكان ينتظر أن يُفك من الأسر، وفي ذلك ما يفسح أمام نفسه مجال القوة فيزهى ويختال، ويتمجد فيقول:
وهذا نهاية الفخر، والخيال هنا بارع، فالفارس يظل صديان حتى نرتوي الرماح والسيوف، ويظل جوعان حتى تشبع النسور والذئاب من لحوم الأعداء.
وأبو فراس لا يذكر غير نفسه، أما البارودي فيجعل مجده من مجد قومه:
والبيت الثاني وثبة هائلة من وثبات الخيال، ولا يخلو البيت الأول من حسن مرموق.
ونحن نفهم لماذا سكت أبو فراس عن التمدح بقومه، فقد بُحَّ صوته وهو يستنجد بهم ليفدوه فلم يلتفتوا إليه، أما البارودي فلم تكن له بقيةٌ من مجدٍ غير آبائه الذين وصفهم بالجود والبأس فقال:
والجود في هذه الأبيات وضع في أخيلة بدوية، فإقامة النار لهداية السارين لا يعرفها القاهريون، وقوم البارودي الذين يتمدح بهم كانوا سادة مصر من المماليك، وكان للبارودي فيما يقال أجداد من المماليك، وكان هذا النسب الصحيح أو المصنوع يغريه بالفتك، ويحبب إليه الصِّيال.
وعبارة: وَخَيْلٌ يَرُجُّ الْخَافِقَيْنِ صَهِيلُهَا عبارة قوية جدًّا، وهي لا تقل جمالًا عن تلفت الدهر وتفزع الأفلاك.
والبارودي يجعل قومه «مُعَوَّدَة قَطْعَ الفْيافى»، وهو تعبير طريف فهي ليست من الخيل المدللة التي تحيا في نعيم المرابض وتمسح أعرافها مسح التلطف والترفق، على نحو ما يقع في مرابض الوادعين الذين يقتنون الخيل للزينة لا للحرب.
والبارودي كان يئس من كل شيء، يئس من نفسه؛ لأن الذين نفوه كانوا مُنتصرين؛ ولأن قومه انهزموا هزيمة انتهت بتجريدهم من السيوف، والقوم الذين أعنيهم أنا هُم المصريون، أما القوم الذين تحدث عنهم البارودي فهم أسلافه القدماء، وهؤلاء لم تبق منهم بقية؛ ولذلك بكاهم فقال:
ونهاية هذا الشوط ختمت بضعف؛ لأن الشاعر كان من اليائسين.
أما أبو فراس فقد انفسح أمامه مجال القول، فتحدث عن أدب الحرب فقال:
ومن أشرف آداب الحرب أن تُسبق بالنذير فلا يكون فيها تبييتٌ ولا اغتيال، وبلغ غاية الفخر حين قال:
وكلمة «لَمْ تَخَفْني» وكلمة «مَنيعَةً» من الكلمات الأصلية في هذا البيت، وعبارة:
فيها رشاقة وفيها خيال.
ولم يفت أبا فراس أن يتمجد بأدب النفس، وأن يذكر أنه كان يعفو ويصفح حين تتقدم حسناء فتشفع لقومها عند ذلك المُغير البطَاش:
وهذا استطراد إلى محاسن نفسية يتمدح بها كرام الرجال.
وانتقل أبو فراس إلى الحديث عن أسره، فقال:
والكلام عن القضاء والقدر هو العلالة الباقية التي يفزع إليها الأبطال المنهزمون، والقدر له في الأدب الشرقي مكان، فنراه عند العرب ونراه عند الهنود، وفي كتاب كليلة ودمنة فقرات كثيرة عن القدر وتصريفه لشئون الناس، وما نحب أن نفعل كما يفعل كتاب العرف فنقول: إن هذا دليل على ضعف النفس الشرقية، هيهات، فالناس في الشرق والغرب ضعفاء، وإن فتنهم النصر في بعض الأحيان، والإنسان حيوانٌ لئيم فهو لا يَذكر القَدر إلا حين يُغلب، وهو عند العاقبة يتسامى إلى منزلة الإله المعبود.
وما أخطر ما يلقى الرجال في مآزق الكَرب والضيم، حين يُخبر في الحرب بين بليتين: بلية الفرار، وبلية الهلاك، وقد صوّر هذا أبو فراس أصدق تصوير حين قال:
وما رأيت كلمة صغرت بحق كما صغرت في هذا الموطن كلمة «أصيحاب»، فإن لم يكن الوزن هو الذي قضى بذلك فأبو فراس إذن من أبصر الشعراء بصياغة الكلام.
وتلفت أبو فراس فرأى آسريه يمنون عليه بأن لم يخلعوا ثيابه كما يصنعون بالأسرى، ولعلهم لاحظوا أنه أمير، وأن الأمراء لهم في الأسر مقامٌ ملحوظ، فقرَّعهم بهذين البيتين:
ويكاد هذا الشعر يفصح عن الوقت الذي قيل فيه هذا القصيد، وأغلب الظن أنه قاله في الأسبوع الأول من الأسر، وإن كان في بقية القصيدة ما يشعر بالعتب على قومه إذ قال:
فإن في هذين البيتين دلالةً على أنهم أبطئوا في افتدائه، وكانوا من الآثمين، ثم قال:
وفي هذه الأبيات رجعة إلى قومه الذين تجاهلهم في صدر القصيد.
٤
«لَنا الصَّدْرُ دُونَ العالَمِينَ أو القَبْرُ»
يحفظها كل أديب … والبيت:
كتب ألف مرة ومرة في دفاتر الإنشاء.
أما قصيدة البارودي فقد نسيت مع الأسف الموجع، ولم يُحفظ منها غير هذا البيت:
وكذلك نكب البارودي مرتين: نُكِب حين نُفيَ ولم يَرجعه قومه بقوة السيف، ونُكِب حين نسي الناس شعره في منفاه.
وأكاد أحكم بأن البارودي كان في الحرب أفتك من أبي فراس، والحرب بين الجيش المصري ومن ساوره من الجيوش كانت أخطر من الحروب التي اشترك فيها أبو فراس.
ولكن البارودي لظروف كثيرة فقد الحظَّين معًا، فلم ينتصر سيفه، ولم يسر شعره، والدنيا حظوظ، وإلا فكيف انخفضت هامة البارودي وكان عزمه يدْكُّ الجبل.
أيها البارودي العظيم!
لست أتكلف الغضب لك، والإشفاق عليك، أنت عبقريةٌ أضاعها المصريون وأضاعها الزمان، ولكن لا تأس، ولا تحزن، فلست أول من أضاعهم المصريون وأضاعهم الزمان!