الفصل الخامس والثلاثون
الموازنة بين القصيدتين
١
عرفنا ابن زيدون العاشق الذي يحسن التحدث عن مآسي القلوب، ويكاد يعرف أسرار النفوس،
فماذا نقول عن شوقي؟ لقد طال الحديث عن هذا الشاعر في فصول هذا الكتاب، ونخشى أن يتحيّف
حقوق من عرضنا لهم من الشعراء، ولكن كيف لا نستكثر القول في شوقي، وقد ندّ ابن زيدون؟
إن نونية شوقي أعجوبة من الأعاجيب، وقد أرسلها من الأندلس في أعقاب الحرل العالمية فضجّ
لها شعراء مصر وأجابه إسماعيل صبري، وحافظ إبراهيم، وعبد الحليم المصري، ولكنهم عجزوا
جميعًا عن الجري في ميدانه، ولم يُؤثر لهم في معارضته شيء ذو بال بالقياس إلى نونية
أمير الشعراء.
ابتدأ ابن زيدون نونيته بشكوى البين والأعداء والزمان، وكانت الأبيات السبعة التي
تحدث بها عن جواه زفرة محرقة لم يَعبها ما وشيت به من الزخرف، ولكن أين هي من بداية شوق
حين خاطب الطائر الحزين في وادي الطلح بضاحية إشبيلية؟ لقد تمثل الطائر شبيهًا به في
لوعته وجواه فاندفع يقول:
يا نائِحَ الطَّلْحِ أَشباهٌ عَوادينا
نَشْجى لِواديكَ أَم نَأسَى لِوادينا
ماذا تَقُصُّ عَلَيْنا غَيْرَ أَنَّ يَدًا
قَصَّتْ جَناحَكَ جالَتْ في حَواشينا
رَمى بِنا البَينُ أَيْكًا غَيرَ سامِرِنا
أَخا الغَريبِ وَظِلًّا غَيْرَ نادينا
كُلٌّ رَمَتهُ النَوى، ريشَ الفِراقُ لَنا
سَهْمًا، وَسُلَّ عَلَيْكَ البَينُ سِكّينا
إِذا دَعا الشَّوْقُ لَمْ نَبْرَحْ بِمُنْصَدِعٍ
مِنَ الجَناحَينِ عَيٍّ لا يُلَبّينا
فَإِن يَكُ الجِنسُ يا اِبنَ الطَلحِ فَرقنَا
إِنَّ المَصائِبَ يَجْمَعنَ المُصابينا
لَم تَألُ ماءَكَ تَحْنانًا وَلا ظَمَا
وَلا اِدِّكارًا وَلا شَجْوا أَفانينا
تَجُرُّ مِنْ فَنَنٍ ذبْلًا إِلَى فَنَنٍ
وَتَسْحَبُ الذَيلَ تَرْتادُ المُؤاسينا
أُساةُ جِسْمِكَ شَتَّى حينَ تَطْلُبُهُم
فَمَن لِروحِكَ بِالنُطسِ المُداوينا
والشاعر في هذه الأبيات حيران، يجعل الطائر في حالين: حال المغترب وحال المقيم، فما
تدري أيبكي من الغربة أم ينوح من فقد الأليف، ومع حيرة الشاعر وضلاله عن تحديد ما يريد
نراه بلغ غاية الرفق حين قال:
تَجُرُّ مِنْ فَنَنٍ ذبْلًا إِلَى فَنَنٍ
وَتَسْحَبُ الذَيلَ تَرْتادُ المُؤاسينا
وهي حال تشهدها في الطائر المحزون، فقد نرى الطائر يتنقل على غير هُدى من أيْك إلى
أيْك، فنعرف أنه يبحث عمن يواسيه، ولكن أين من يواسي الطائر الحزين؟ إن شوقي نفسه أخطأ
حين قال:
أُساةُ جِسْمِكَ شَتَّى حينَ تَطْلُبُهُم
فَمَن لِروحِكَ بِالنُطسِ المُداوينا
فإن الطائر لا يجد من يأسو جسمه، وإنما يجد من يذبحه ويشويه، والناس ألأم من أن
يطبُّوا لطائر جريح!
وانتقل ابن زيدون من شكوى البين والأعداء والزمان إلى معاتبة حبيبته، فذكر أنه لم
يستمع وشاية ولم يعتقد إلا الوفاء، أما شوقي فقد انتقل من خطاب الطائر إلى بكاء الأندلس
والحنين إلى مصر، فقال:
وَاها لَنا نازِحَي أَيْكٍ بِأَندَلُسٍ
وَإِن حَلَلْنا رَفيقًا مِن رَوابينا
رَسْمٌ وَقَفْنا عَلى رَسْمِ الوَفاءِ لَهُ
نَجيشُ بِالدَمْعِ وَالإِجْلالِ يَثنينا
لِفِتيَةٍ لا تَنالُ الأَرْضُ أَدْمُعَهُم
وَلا مَفَارِقَهُم إِلّا مُصَلِّينا
لَوْ لَم يَسودوا بِدينٍ فيهِ مَنْبَهَةٌ
لِلناسِ كانَتْ لَهُمْ أَخلاقُهُم دينا
لَم نَسْرِ مِن حَرَمٍ إِلّا إِلى حَرَمٍ
كَالخَمرِ مِن بابِلٍ سارَت لِدارينا
لَمّا نَبا الخُلدُ نابَت عَنْهُ نُسْخَتُهُ
تَمَاثُلَ الوَرْدِ خِيرِيًّا وَنَسْرينا
نَسْقي ثَراهُم ثَناءً كُلَّما نُثِرَت
دُموعُنا نُظِمَت مِنْها مَرَاثينا
كادَت عُيونُ قَوافِينا تُحَرِّكُهُ
وَكِدنَ يوقِظنَ في التُربِ السَلاطينا
وللقارئ أن يتأمل الحسن في هذه الأبيات، فالشاعر يغلبه الدمع، وهو يتذكر ملوك
الأندلس، ولكن الإجلال يثنيه عن البكاء؛ لأنه في ديار قوم لم تنل الأرض أدمعهم ومفارقهم
إلا عند السجود، فهم لم يعرفوا الخشوع لغير الله، وذلك من أبعد الغايات في
الثناء.
ويأبى شوقي إلا أن يحرص على المعاني الشعرية، فهو في الأندلس لا يسري من حرم إلا إلى
حرم، ولكن كيف؟ كالخمر سارت من بابل إلى دارين! وقدسية الخمر لا تجوز في غير مذاهب
الشعراء.
ثم قال في الحنين إلى وطن النيل:
لَكِنَّ مِصْرَ وَإِن أَغْضَت عَلَى مِقَةٍ
عَيْنٌ مِنَ الخُلْدِ بِالكافورِ تَسْقينا
عَلى جَوانِبِها رَفَّت تَمائِمُنا
وَحَوْلَ حافاتِها قامَتْ رَواقينا
وهذا معنى قديم سبقه إليه من قال:
أحَبُ بِلادِ الله ما بَيْنَ مِنْعِجٍ
إليَّ وسَلْمى لَو يَصوبُ سَحَابُها
بِلادٌ بَها نِيطَتْ عَليَّ تَمائمي
وأوَّلُ أرْضٍ مَسَّ جِسْمي تُرابُها
والبِكْر هو قول شوقي:
مَلاعِبٌ مَرَحَتْ فيها مَآرِبُنا
وَأَربُعٌ أَنِسَت فيها أَمانينا
وإنما كان هذا معنى بكرًا لما فيه من طرافة الخيال، أرأيتم كيف تمرح المآرب، وكيف
تأنس الأماني؟
لقد رأيت شوقي أول ما رأيته سنة ١٩٢١م، وكان دعاني للغداء عنده بالمطرية مع الأصدقاء
الأكرمين مصطفى القشاشي، وسعيد عبده، وأحمد علام، فعجبت يومئذ لذلك المبْسم الساحر،
وسألت نفسي: كيف كان ذلك الملاك في صِباه!
إن حنين شوقي إلى مصر حنين عميق؛ وإنما كان كذلك لأن الشاعر شهد في مصر دنيا من الحب
والمجد لم يظفر بها إلا الأقلون، ودنيا شوقي لم تكن مثل دنيا الناس في هذا الزمان، كانت
الدنيا في شباب شوقي تفيض بالبشر والإيناس، وكان الشاعر يعيش فيها عيشة مُضمخَةً بالسحر
والفتون، وكان للجمال قدسيةُ، وكان للصبا سُلطان، وكانت خطوب الزمان لا تهد النفوس كما
تفعل هذه الأيام.
ومن البكر أيضًا قول شوقي:
بِنَّا فَلَمْ نَخْلُ مِن رَوْحٍ يُراوِحُنا
مِن بَرِّ مِصْرَ وَرَيحانٍ يُغادينا
كَأُمِّ موسى عَلَى اِسمِ اللهِ تَكْفُلُنا
وَبِاِسمِهِ ذَهَبَتْ في اليَمِّ تُلقينا
يريد أن يقول: إن مصر لم تلقه في يم النفي إلا خوفًا عليه من كيد فرعون، فرعون القرن
العشرين المستر جون بول!
٢
تذكرون قول ابن زيدون:
يا سارِيَ البَرْقِ غادِ القصْرَ فَاسقِ به
مَنْ كانَ صِرْف الهَوى وَالوُدَّ يَسقينَا
وَاسألْ هُنالِكَ هَلْ عَنَّى تَذكُّرُنا
إلْفًا تذكُّرُهُ أمْسَى يُعنّينَا
وهذا شعر جميل، ولكن انظروا كيف عارضه شوقي فقال:
يا سارِيَ البَرْقِ يَرمي عَن جَوانِحِنا
بَعدَ الهُدوءِ وَيَهمي عَن مَآقينا
لَمّا تَرَقْرَقَ في دَمْعِ السَّماءِ دَمًا
هاجَ البُكا فَخَضَبْنا الأَرْضَ بَاكينا
اللَّيْلُ يَشْهَدُ لَم نَهْتِك دَياجِيَهُ
عَلَى نِيامٍ وَلَم نَهْتِف بِسالينا
وَالنَجْمُ لَم يَرَنا إِلّا عَلَى قَدَمٍ
قِيامَ لَيلِ الهَوَى لِلعَهْدِ راعينا
كَزَفرَةٍ في سَماءِ اللَّيْلِ حائِرَةٍ
مِمَّا نُرَدِّدُ فيهِ حينَ يُضْوينا
بِاللهِ إِن جُبتَ ظَلْماءَ العُبابِ عَلَى
نَجائِبِ النُّورِ مَحْدُوًّا (بِجرِّينا)
تَرُدُّ عَنْكَ يَداهُ كُلَّ عادِيَةٍ
إِنسًا يَعِثْنَ فَسادًا أَو شَياطينا
حَتَّى حَوَتكَ سَماءُ النِّيلِ عالِيَةٍ
عَلى الغُيوثِ وَإِن كانَت مَيامينا
وَأَحْرَزَتكَ شُفوفُ الَّلازَوَردِ عَلَى
وَشْيِ الزَبَرْجَدِ مِن أَفوافِ وادينا
وَحازَكَ الرِّيفُ أَرجاءً مُؤَرَّجَةً
رَبَت خَمائِلَ وَاِهتَزَّت بَساتينا
فَقِفْ إِلى النيلِ وَاِهتُف في خَمائِلِهِ
وَاِنزِل كَما نَزَلَ الطَلُّ الرَّياحينا
وَآسِ ما بَاتَ يَذْوي مِن مَنازِلِنا
بِالحادِثاتِ وَيَضْوى مِن مَغانينا
انظروا. ابن زيدون يسأل البرق أن يسقي القصر، وشوقي يسأل البرق أن يأسو المنازل
الذاوية، والمغاني الضاوية، والمعنيان مقتربان، ولكن شوقي أعطانا صورة شعرية لتنقل
البرق من أفق إلى أفق، وانحداره من أرض إلى أرض، وأعطى صورًا من ريف مصر وخمائل النيل
لا تشوق إلا شاعرًا ودَّع دنياه حين وَدع النيل.
وقال ابن زيدون:
وَيَا نَسيمَ الصَّبَا بلِّغْ تَحيّتَنَا
مَنْ لَوْ عَلى البُعْدِ حَيّا كان يُحيِينا
عارضه شوقي فقال:
وَيا مُعْطِّرَةَ الوادي سَرَت سَحَرًا
فَطابَ كُلُّ طَرُوحٍ مِن مَرامينا
ذَكِيَّةُ الذَّيْلِ لَو خِلنا غِلالَتَها
قَمِيصَ يوسُفَ لَم نُحْسَب مُغالينا
جَشِمْتِ شَوْكَ السُرَى حَتَّى أَتَيتِ لَنا
بِالوَردِ كُتْبًا وَبِالرَّيَّا عَناوينا
فَلَو جَزَيْناكِ بِالأَرْواحِ غالِيَةً
عَن طيبِ مَسْراكِ لَم تَنهَضْ جَوازينا
هَل مِن ذُيولِكِ مَسْكِيٌّ نُحَمِّلُهُ
غَرائِبَ الشَّوقِ وَشْيًا مِن أَمالينا
إِلى الَّذينَ وَجَدنا وُدَّ غَيرِهِمُ
دُنْيا وَوُدَّهُمو الصَّافي هُوَ الدِّينا
إن ابن زيدون لم يزد على أن قال: «يا نسيم الصبا» وهو تعبير ورد في مئات القصائد،
أما
شوفي فراح يفتن افتتانًا يدل على قوة الشاعرية، وبرعة الخيال، فوصف السمة بأنها معطرة
الوادي وأنها سارت في السحر فطاب بمسراها كل مرمى سحيق، وأنها ذكية الذيل كأنها قميص
يوسف، وأنها جَشمت شوك السرى حتى أتت بالورد مجسمًا في رسائل، وأتت بالرَّيا ممثلة في
عناوين، وشكر لها النُعمى فقال:
فَلَو جَزَيْناكِ بِالأَرْواحِ غالِيَةً
عَن طيبِ مَسْراكِ لَم تَنهَضْ جَوازينا
وابن زيدون يقول: «بلغ تحيَتَنا» وهي عبارة جافية؛ لأنها وردت في صورة الأمر، أما
شوقي فيترفق، ويقول:
هَل مِن ذُيولِكِ مَسْكِيٌّ نُحَمِّلُهُ
غَرائِبَ الشَّوقِ وَشْيًا مِن أَمالينا
وابن زيدون يصف أحبابه بالقدرة على إحيائه لو أسعفوه بتحيّة، وشوقي يجعل كل هوى غير
هوى أحبابه بمصر صورة من الدنيا، أما هوى أحبابه الذين يتشوق إليهم فهو في صفاء
الدين.
ولا ننكر أن بعض أخيلة شوقي مقتبس من ابن زيدون، فقول شوقي:
يا سارِيَ البَرْقِ يَرمي عَن جَوانِحِنا
بَعدَ الهُدوءِ وَيَهمي عَن مَآقينا
اختلس برفق وحِذْق من قول ابن زيدون:
بِنْتُم وَبِنّا فَما ابتَلّتْ جَوَانِحُنَا
شَوْقًا إلَيكُمْ وَلا جَفّتْ مآقِينَا
والمعنى الذي عرضه ابن زيدون في ثلاثة بسطه شوقي في ثمانية عشر بيتًا؛ وإنما اتفق
له
ذلك لأنه كان يعارض ابن زيدون، فكان لا بدّ له من توشيةٍ بارعة تعفي على النظرة الفطرية
في أبيات ابن زيدون. ولابن زيدون فضل السبق، ولشوقي فضل البراعة في تلوين الصور
الشعرية، وهو فضل ليس بقليل.
٣
وأراد ابن زيدون أن يتذكر أيام الأنس فقال:
حَالَتْ لِفقدِكُمُ أيّامُنا فغَدَتْ
سُودًا وكانتْ بكُمْ بِيضًا لَيَالِينَا
إذْ جانِبُ العَيشِ طَلْقٌ مِنْ تألُّفِنا
وَمَرْبَعُ اللّهْوِ صَافٍ مِنْ تَصَافِينَا
وَإذْ هَصَرْنَا فُنُونَ الأنْسِ دانيةً
قُطُوفُهُ فَجَنَيْنَا مِنْهُ ما شِينَا
ليُسْقَ عَهْدُكُمُ عَهْدُ السُّرُورِ فَما
كُنْتُمْ لأروَاحِنَا إلاّ رَياحينَا
وهذا شعر صافي الديباجة، رائع المعاني، ولكن انظروا كيف عارضه شوقي فجمع بين الأسى
والفخر حين قال:
سَقْيًا لِعَهْدٍ كَأَكْنافِ الرُبَا رِفَةً
١
أَنَّى ذَهَبْنا وَأَعْطافِ الصَّبا لينا
إِذِ الزَّمانُ بِنا غَيْناءُ زاهِيَةٌ
تَرِفُّ أَوْقاتُنا فيها رَياحينا
الوَصْلُ صافِيَةٌ وَالعَيْشُ ناغِيَةٌ
وَالسَعْدُ حاشِيَةٌ وَالدَهْرُ ماشينا
وَالشَّمْسُ تَخْتالُ في العِقيانِ تَحْسَبُها
بَلْقيسَ تَرفُلُ في وَشْيِ اليَمانينا
وَالنِّيلُ يُقْبِلُ كَالدُّنْيا إِذا اِحْتَفَلَت
لَو كانَ فيها وَفاءٌ لِلمُصافينا
وَالسَعْدُ لَو دامَ وَالدُنْيَا لَوِ اِطَّرَدَت
وَالسَّيْلُ لَو عَفَّ وَالمِقْدارُ لَو دينا
أَلقى عَلى الأَرْضِ حَتَّى رَدَّها ذَهَبًا
ماءً لَمَسْنا بِهِ الإِكْسيرَ أَو طينا
أَعداهُ مِن يُمنِهِ (التَّابوتُ) وَاِرتَسَمَت
عَلَى جَوانِبِهِ الأَنوارُ مِن سينا
لَهُ مَبالِغُ ما في الخُلقِ مِن كَرَمٍ
عَهدُ الكِرامِ وَميثاقُ الوَفِيّينا
لَم يَجْرِ لِلدَهرِ إِعْذارٌ وَلا عُرُسٌ
إِلّا بِأَيّامِنا أَو في لَيالينا
٢
وَلا حَوى السَّعْدُ أَطْغى في أَعِنَّتِهِ
مِنّا جِيادًا وَلا أَرخَى مَيادينا
نَحنُ اليَواقيتُ خاضَ النَّارَ جَوْهَرُنا
وَلَم يَهُن بِيَدِ التَّشْتيتِ غالينا
وَلا يَحولُ لَنا صِبْغٌ وَلا خُلُقٌ
إِذا تَلَوَّنَ كَالحِرباءِ شانينا
والقارئ حين يوازن بين هاتين القطعتين لا يدري أيهما أجود؛ لأن ابن زيدون على قصر
نَفسه في هذا الشوط بلغ غاية الرشاقة حين قال:
وَإذْ هَصَرْنَا فُنُونَ الأنْسِ دانيةً
قُطُوفُهُ فَجَنَيْنَا مِنْهُ ما شِينَا
وبلغ غاية الدقة حين قال:
إذْ جانِبُ العَيشِ طَلْقٌ مِنْ تألُّفِنا
وَمَوردُ اللّهْوِ صَافٍ مِنْ تَصَافِينَا
والدقة في هذا البيت تؤخذ من صدق التعليل، فالعيش لم تتسع جوانبه إلا بفضل التألف،
تألف القلبين، واللهو لم يصف مورده إلا بفضل التصافي، تصافي الحبيبين، والدنيا لا كدر
فيها ولا صفاء، وإنما تصفو حين تصفو النفوس، وتقسو حين تقسو القلوب، فالزهر الذي يبسم
لك لا يبسم لك وحدك؛ وإنما تراه يخصك بالرفق لأن الدنيا صّفْت لك، وقد يراه غيرك في
ابتسامة صورة من صور العبوس، والنهر الذي تنظر إليه في الليالي المقمرة، فتراه عاشقًا
يغازل القمر ويتلقى دعابته في حنان، هذا النهر لا يتمثل لك كذلك؛ إلا لأنك تشاهد أمواجه
الفضية بقلب مَرح وحسنٍ طروبٍ، وهو نفسه قد يبدو للمحزون صورة من صور الاكتئاب.
ويروقنا قول شوقي:
سَقْيًا لِعَهْدٍ كَأَكْنافِ الرُبَا رِفَةً
أَنَّى ذَهَبْنا وَأَعْطافِ الصَّبا لينا
إِذِ الزَّمانُ بِنا غَيْناءُ زاهِيَةٌ
تَرِفُّ أَوْقاتُنا فيها رَياحينا
الوَصْلُ صافِيَةٌ وَالعَيْشُ ناغِيَةٌ
وَالسَعْدُ حاشِيَةٌ وَالدَهْرُ ماشينا
وَالنِّيلُ يُقْبِلُ كَالدُّنْيا إِذا اِحْتَفَلَت
لَو كانَ فيها وَفاءٌ لِلمُصافينا
يروقنا هذا الشعر؛ لأن الشاعر جعل عهده في نضرة الزهر الذي يتفتح في أكناف الربوات؛
ولأنه رأى اللين في أيام الأنس شبيهًا باللين في أعطاف الصبا، وأعطاف الصبر جوهر نبيل
لا يعرف طيب لينها إلا شاعرٌ أمكنته من أعطاف الصبا سَورة الصبَوات، ويروقنا أيضًا
لطرافة هذا الخيال:
تَرِفُّ أَوْقاتُنا فيها رَياحينا
ورفيف الأوقات معنىً يعرفه العشاق الذين دار بهم الزمن في أرجوحة اللهو
الجَموح.
ويروقنا هذا الشعر مرة ثالثة؛ لأن الشاعر يرى إقبال النيل كالدنيا حين تحتفل وانظروا
كيف تكون الدنيا حين تحتفل، ثم تأملوا روعة هذا الاستدراك:
لَو كانَ فيها وَفاءٌ لِلمُصافينا
ولكن هذه الطرافة في أخيلة شوقي لا تنسينا براعة ابن زيدون حين جعل محبوبته كل شيء
حين قال:
يا رَوْضَة طالَما أجْنَتْ لَوَاحِظَنَا
وَرْدًا جَلاهُ الصِّبا غضًّا وَنَسْرِينَا
ويَا حَيَاةً تَمَلّيْنَا بِزَهْرَتِهَا
مُنىًّ ضُروبَا وَلَذّاتٍ أفانينَا
ويَا نَعِيمًا خَطَرْنَا مِنْ غَضَارَتِهِ
في وَشْيِ نُعْمَى سَحَبنا ذَيْلَه حينَا
إن لم يكن هذا هو الشعر فما عسى الشعر أن يكون؟ أترون العذوبة في الهاتف بالروضة التي
«طالَما أجْنَتْ وردا جلاه الصبا» تأملوا عبارة «أجْنَتْ لَوَاحِظَنَا»، وانظروا كيف
تغزونا الروضة فتقهرنا على تذوق جناها المرموق، والشاعر لا ينتظر حتى تهفو نفسه إلى
مناعم الروضة، وإنما تهجم الروضة عليه فتعلمه كيف يبصر الأفنان، وكيف يجني القطوف.
وعبارة جَلاهُ الصِّبا ما رأيكم فيما تحويه من سحر أخاذ؟ ثم ما هذا التعبير
الطريف:
مُنىًّ ضُروبَا وَلَذّاتٍ أفانينَا
أتعرفون كيف يكون للمُنى ألوانٌ وللذات أفانين؟ إن هذا خيال شاعر غرق مرة في كوثر
الوصال.
وانظروا هذا البيت:
ويَا نَعِيمًا خَطَرْنَا مِنْ نَضَارَتِهِ
في وَشْيِ نُعْمَى سَحَبنا ذَيْلَه حينَا
أتحسون قوة هذا المعنى؟ ألا يُريكم الخيال صورة فتىً منعم يسحب ذيل النعيم؟ إن ابن
زيدون في هذه الأبيات أقوى من شوقي في الحسر على ما ضاع من دنيا الهوى المفقود.
٤
واشترك شوقي وابن زيدون في التفجع والحنين، أما ابن زيدون فيقول:
يا جَنَّة الخُلْدِ أُبْدِنْنا بِسَلْسَلِها
والكَوْثَرِ العَذْبِ زَقّومًا وَغِسْلينَا
كأنّنَا لَمْ نَبِتْ والوَصْلُ ثالِثُنَا
وَالسَّعْدُ قَدْ غَضَّ مِنْ أجْفانِ وَاشينَا
سِرّانِ في خاطِرِ الظُّلْماءِ يَكتُمُنا
حَتَّى يَكادَ لِسانُ الصُّبْحِ يُفْشينَا
لا غَرْوَ في أنْ ذَكَرْنا الحُبًّ حينَ نهتْ
عَنْهُ النُّهَى وَتَرَكْنا الصَّبْرَ ناسِينَا
إنّا قَرَأنا الأسَىَ يَوْمَ النَّوَىَ سُورَا
مَكْتوبَةً وَأخَذْنَا الصّبرَ تَلْقِينَا
أمَّا هَواكِ فَلَمْ نَعْدِلْ بمَنْهَلِهِ
شُرْبًا وَإنْ كانَ يُرْوِينَا فيُظمِينَا
لمْ نَجْفُ أفْقَ جَمالٍ أنْتِ كَوكبُهُ
سَالِينَ عَنْهُ وَلَم نَهْجُرْهُ قالِينَا
وَلا اخْتِيارًا تَجَنّبْناهُ عَنْ كَثَبٍ
لكِنْ عَدَتْنَا عَلَى كُرْهٍ عَوَادِينَا
والشاعر في هذه الأبيات يصف أيام الوصل أجمل وصف، ويرى نفسه انتقل من كوثر الخلد إلى
الزقوم والغسْلين، ويرى ورْد الهوى القديم شربًا لا يعدله شرب، وإن كان يرويه فيظميه.
ونعيم الوصل يُرهف الحس فيزيد القلب ظمأ إلى ظمأ والتياعًا إلى التياع. وتحدث الشاعر
عن
البين فذكر أنه لم يقع عن سلوة ولا صدود، وإنما أكرهته العوادي.
ويروقنا هذا التعبير المونق:
لمْ نَجْفُ أفْقَ جَمالٍ أنْتِ كَوكبُهُ
فكأن الدنيا لعهده أفقًا من المفاتن، وكانت محبوبته كوكب ذلك الأفق المطلول بأنداء
الفُتون.
هذا جزعٌ من صنع الدهر صرخ به ابن زيدون، وعارضه شوقي يصف قسوة الليل وقسوة
الفراق:
وَنابِغي كَأَنَّ الحَشْرَ آخِرُهُ
تُميتُنا فيهِ ذِكْراكُم وَتُحْيينا
نَطْوي دُجاهُ بِجُرحٍ مِن فُراقِكُم
يَكادُ في غَلَسِ الأَسْحارِ يَطْوينا
إِذا رَسا النَجْمُ لَم تَرقَأ مَحاجِرُنا
حَتّى يَزولَ وَلَم تَهْدَأ تَراقينا
بِتنا نُقاسي الدَواهي مِن كَواكِبِهِ
حَتّى قَعَدْنا بِها حَسْرى تُقاسينا
يَبدو النَهارُ فَيَخْفيهِ تَجَلُّدُنا
لِلشّامِتينَ وَيَأسْوهُ تَأَسّينا
وهذا من الشعر الرفيع، ومن العجز أن لا نجد غير هذا الوصف، وإلا فكيف نصل إلى بيان
الفتنة في هذا البيت:
نَطْوي دُجاهُ بِجُرحٍ مِن فُراقِكُم
يَكادُ في غَلَسِ الأَسْحارِ يَطْوينا
أترون كيف يطوى الدجى بالجرح؟ أترون كيف تكون الجراح أعظم من ظلمات الليل؟
ثم ما هذه الوثبة الشعرية حين يقاسي الشاعر بطء الكواكب، ثم ينظر فيراها ابتُليَت
به
فباتت تقاسيه، وهي حسرى لواغب؟ والشاعر قد يعظم سلطانه على الوجود فيرى الدنيا تجزع
لجزعه وتأسى لأساه.
وكان الشعراء الأقدمون يرون النهار يبدد الأشجان بفضل ما فيه من الشواغل، أما شوقي
فيرى أشجانه لا تهدأ نهارًا إلا بفضل التأسي والتجلد للشامتين.
٥
بقي النظر فيما تفرد به الشاعران.
ونحن نرى ابن زيدون تفرد بهذين البيتين في خطاب حبيبته التي أقصاه عنها
الزمان:
نأسَى عَليْكِ إذا حُثَّتْ مُشَعْشَعَة
فِينا الشَّمُولُ وغنَّانَا مُغنّينَا
لا أكْؤسُ الرَّاحِ تُبْدي مِنْ شَمَائِلِنَا
سِيّما ارْتياحٍ وَلا الأوْتارُ تُلْهِينَا
وهذا من أدق المعاني النفسية، فالشراب والغناء يهيجان العواطف الغافية، ويبعثان الوجد
الدفين، وللشوق في أمثال هذه اللحظات لدغات أعنف من الجمر المشبوب، وأين الجمر بجانب
ما
يثور في القلب عند الشراب والسماع؟ إن هذه لحظات تكشف المُقنَّع من سرائر النفوس، وتصنع
ما تصنع الحمَّى العاتية حين تُنطق المحموم بأسماء لم يهذ بها لسانه ولا وجدانه منذ
سنين.
وقول ابن زيدون:
وَلَوْ صَبَا نَحْوَنَا مِنْ عُلوِ مَطْلَعِه
بَدْرُ الدُّجَى لَمْ يَكًنْ حاشاكِ يًصْبِينَا
هو أصل المعنى الذي ساقه شوقي في السينية:
وَطَني لَوْ شُغِلْتُ بِالخُلْدِ عَنْهُ
نازَعَتني إِليْهِ في الخُلْدِ نَفْسي
وهو أخذٌ رفيقٌ لا يحاسب على مثله الشعراء.
وتفرد شوقي بالفخر، الفخر بنفسه وبأمجاد النيل، فقال:
لَم يَجْرِ لِلدَهرِ إِعْذارٌ وَلا عُرُسٌ
إِلّا بِأَيّامِنا أَو في لَيالينا
وَلا حَوى السَّعْدُ أَطْغى في أَعِنَّتِهِ
مِنّا جِيادًا وَلا أَرخَى مَيادينا
نَحنُ اليَواقيتُ خاضَ النَّارَ جَوْهَرُنا
وَلَم يَهُن بِيَدِ التَّشْتيتِ غالينا
وَلا يَحولُ لَنا صِبْغٌ وَلا خُلُقٌ
إِذا تَلَوَّنَ كَالحِرباءِ شانينا
لَم تَنْزِلِ الشَّمْسُ ميْدَانًا وَلا صَعَدَت
في مُلْكِها الضَّخْمِ عَرْشًا مِثْلَ وادينا
أَلَم تُؤَلَّه عَلَى حافاتِهِ وَرَأَتْ
عَلَيهِ أَبناءَها الغُرَّ المَيامينا
إِن غازَلَت شاطِئَيهِ في الضُّحَى لَبِسا
خَمائِلَ السُّنْدُسِ المَوْشِيَّةِ الغينا
٣
وَباتَ كُلُّ مُجاجِ الْوادِ مِن شَجَرٍ
لَوافِظَ القَزِّ بِالخيطانِ تَرمينا
وبهذا دافع الشاعر عن الوثنية المصرية أجمل دفاع، وهل عبد المصريون الشمس إلا لأنهم
عرفوا فضل الشمس؟ وما الدنيا بدون الشمس إلا وجود تافه سخيف!
وشوقي لم يعن إلا نفسه حين قال:
نَحنُ اليَواقيتُ خاضَ النَّارَ جَوْهَرُنا
وَلَم يَهُن بِيَدِ التَّشْتيتِ غالينا
وقد صدق، فقد قامت في وجه الرجل أحداث تهد الجبال، وانتاشه الخصوم أسوأ انتياش، ولكن
من كان يملك مثل قلبه وإحساسه وشاعريته يصعب عدمه، وإن تكاثرت المعاول واستحصدت سواعد
الهادمين.
وتفرد شوقي بالحديث عن الأهرام، فقال:
وَهَذِهِ الأَرضُ مِن سَهْلٍ وَمِن جَبَلٍ
قَبلَ القَياصِرِ دِنّاها فَراعينا
وَلَم يَضَعْ حَجَرًا بانٍ عَلى حَجَرٍ
في الأَرضِ إِلّا عَلَى آثارِ بانينا
كَأَنَّ أَهْرامَ مِصْرٍ حائِطٌ نَهَضَت
بِهِ يَدُ الدَهرِ لا بُنيانُ بانينا
إيوانُهُ الفَخمُ مِن عُلْيا مَقاصِرِهِ
يُفني المُلوكَ وَلا يُبقي الأَواوينا
٤
كَأَنَّها وَرِمالًا حَولَها اِلْتَطَمَت
سَفينَةٌ غَرِقَت إِلّا أَساطينا
كَأَنَّها تَحْتَ لَألاءِ الضُّحى ذَهَبًا
كُنوزُ فِرعَوْنَ غَطَّيْنَ المَوازينا
وللقارئ أن يتأمل هذه الأبيات، له أن يتأمل قوة الفخر في هذا البيت:
وَلَم يَضَعْ حَجَرًا بانٍ عَلى حَجَرٍ
في الأَرضِ إِلّا عَلَى آثارِ بانينا
وله أن يعجب من روعة الخيال في هذا البيت:
كَأَنَّ أَهْرامَ مِصْرٍ حائِطٌ نَهَضَت
بِهِ يَدُ الدَهرِ لا بُنيانُ بانينا
وله أن يتأمل دقة التشبيه في هذا البيت:
كَأَنَّها وَرِمالًا حَولَها اِلْتَطَمَت
سَفينَةٌ غَرِقَت إِلّا أَساطينا
ذلك شوقي، وتلك آياته البينات.
٦
وتفرد ابن زيدون بوصف الجمال الإنساني، وتفرد شوقي بوصف الجمال الطبيعي، أعطى ابن
زيدون محبوبته صورة هي تحفةٌ في الصور الإنسانية، وأعطى شوقي مفاتن النيل صورةٌ هي غرةٌ
في الصور الطبيعية، أما صورة النيل فقد رآها القارئ من قبل، وأما محبوبة ابن زيدون فقد
صورها بهذه الأبيات:
رَبيبُ مُلْكٍ كَأنّ اللهَ أنْشَأهُ
مِسْكًا وَقَدّرَ إنْشاءَ الوَرَى طِينَا
أوْ صَاغَهُ وَرِقًا مَحْضًا وَتَوّجهُ
مِنْ نَاصِعِ التّبْرِ إبْداعًا وتَحْسِينَا
إذَا تَأوّدَ آدَتْهُ رَفاهِيّة
تُومُ العُقُودِ وَأدمتَهُ البُرَى لِينَا
كانتْ لَهُ الشّمسُ ظَئرًا في أكِلّته
بَلْ ما تَجَلّى لها إلاّ أحايِينَا
كأنّما أثبتَتْ في صَحْنِ وجْنتِهِ
زُهْرُ الكَوَاكِبِ تَعْوِيذًا وَتَزَيِينَا
ما ضَرّ أنْ لَمْ نَكُنْ أكْفَاءَهُ شرَفًا
وَفي المَوَدَّة كَافٍ مِنْ تَكَافِينَا
وهذه نظرة شاعر يعرف جواهر الصباحة. وفي الحسن ألوف من الأفانين يعرفها الراسخون
في
علم الجمال، فالجمال المنعَّم غير الجمال المحروم، والزهر النضير الذي يضاحك الشمس في
حديقة غناء بقصر من قصور الملك غير الزهر الظمآن المنسي الذي يتفتح وهو مهجور في رَبوةٍ
قاصية لا يعرفها غير الذئاب. إن جواهر الجمال تختلف أشد الاختلاف، ولكل لون من ألوان
الجمال وحْيٌ خاص. وجوهر الشعر يتبع جوهر الجمال، وهل يمكن أن يكون ما يوحيه الجمال
المُحجب شبيهًا بما يوحيه الجمال المباح؟ إن الطبيعة قد يبدو لها أحيانًا أن تكايد
الناس فتنشئ من الحسن في حي بولاق ما تغيظ به الناس في حي القصر العالي
٥. ولكنها لا تفلح، فالجمال الذي ينبت في البيئات السوقية يظل سوقَّي الشمائل
والنوازع، أما الجمال الذي يتفتح في البيائت المنعمة فيظل ملحوظ المشارب
والميول.
فمعشوقة ابن زيدون ربيبة ملك، وربيبة الملك تألف السيطرة منذ أيام المهد، ويظل دلالها
طول الحياة دلالًا سماويًّا يأخذ فيضه من قوة الطبع، لا من لؤم التمنع، وينزل رضاهًا
على القلب نزول الظل على الريحان، وابن زيدون يتمثل محبوبته خلقت من المسك، ويرى الناس
ما عداها خلقوا من طين، وكلمة (طين) وقعت قبيحة في شعر ابن زيدون، إلا أن يكون أراد
الإشارة إلى بعض الناس، والمرء حين يغضب يرى الناس خلقوا من طين، وإن كان الطين أشرف
من
بعض ما ترى من المخلوقات، والطين تربةً يحيا بها الزهر ويتغذى منها الشوك، وفوقه تتخطر
الظباء، وعليه تزحف الأفاعي والصَّلال.
وبلغ ابن زيدون نهاية الترفق حين قال:
إذَا تَأوّدَ آدَتْهُ رَفاهِيّة
تُومُ العُقُودِ وَأدمتَهُ البُرَى لِينَا
والجمال الذي تؤذيه العقود والدمالج والأساور والخلاخيل جمال غض رقيق يشبه في رقته
نواظر العيون، ولفائف القلوب، وهذا الجمال منثور في المدائن نثر الزهر واللؤلؤ، ولولا
وجوده في هذه الدنيا لما عرف شاعر قيمة النعمة العظيمة، نعمة البصر والحس والذوق، لولا
الجمال المنعم المصون الذي لا يطمع في تفيؤ ظلاله غبي ولا لئيم لأقفرت الدنيا من الشعر
وخلت من الأنفاس العطرة أنفاس الشعراء، لولا الجمال المنعم المصون الذي لا يطمع في تفيؤ
ظلاله غبي ولا لئيم لما استطاب شاعرٌ سهر الليل، وألم الجفون، وهل يُعني القلب في سبيل
الجمال المبتذل الذي ترنو إليه جميع العيون؟ إن الجمال المبتذل شبيه بالكوكب المتهالك
الذي لا تألم من النظر إليه عينٌ رمداء، أما الجمال المنعم المصون فشبيهٌ بالشمس لا
يقوى على النظر إليه إلا الفحول من الشعراء، والأقطاب من الكتاب، هو الجمال الفرد، ولا
يصاوله إلا الرجل الفرد، وإن كان يتواضع فيقول:
ما ضَرّ أنْ لَمْ نَكُنْ أكْفَاءَهُ شرَفَا
وَفي المَوَدَّة كَافٍ مِنْ تَكَافِينَا
هذا تواضعٌ، فإن جوهر الحب في قلب الشاعر أنفس من جوهر الحسن في وجه الجميل، وهل
تعربد معاني الصباحة في الوجه المليح كما تعربد عرائس الشعر في قلب الشاعر، الذي يلقي
الأنوار والظلمات وحوله جيشٌ من الهوى المتمرد والوجد المشبوب؟
إن قلب الشاعر جوهر نفيس، ولولا فضله على الدنيا ما عرف أحدٌ جمال الصبح المشرق، ولا
تنبه مخلوق إلى لمح الكواكب ولألاء النجوم، ولا تلفت باحث إلى شعر ابن زيدون، وقد طمره
الزمن بتسعة أحجار تسمى تسعة قرون.
٧
ثم ماذا؟ بقي أن نشرب صبابة الكأس من نونية شوقي، وكل صبابة في الكأس صاب، بقي أن
نتَوَجع لبلواه، وهو يتشوق إلى مصر فيقول:
أَرضُ الأُبُوَّةِ وَالميلادِ طَيَّبَها
مَرُّ الصِّبا في ذُيولٍ مِن تَصابينا
كانَت مُحَجَّلَةٌ فيها مَواقِفُنا
غُرًّا مُسَلسَلَةَ المَجْرَى قَوافينا
فَآبَ مِن كُرَةِ الأَيّامِ لاعِبُنا
وَثابَ مِن سِنَةِ الأَحْلامِ لاهينا
وَلَم نَدَع لِلَيالي صافِيًا فَدَعَت
(بِأَن نَغَصَّ فَقالَ الدَهْرُ آمينا)
لَوِ اِستَطَعنا لَخُضْنا الجَوَّ صاعِقَةً
وَالبَرَّ نارَ وَغىً وَالبَحرَ غِسْلينا
سَعْيًا إِلى مِصْرَ نَقْضي حَقَّ ذاكِرِنا
فيها إِذا نَسِيَ الوافي وَباكينا
أرأيتم هذا الشعر؟ أرأيتم الخيال في هذا البيت:
فَآبَ مِن كُرَةِ الأَيّامِ لاعِبُنا
وَثابَ مِن سِنَةِ الأَحْلامِ لاهينا
أرأيتم صورة الهول المقتحم في هذا البيت:
لَوِ اِستَطَعنا لَخُضْنا الجَوَّ صاعِقَةً
وَالبَرَّ نارَ وَغىً وَالبَحرَ غِسْلينا
ثم ماذا؟ بقي ختام القصيدة، وهي أبيات ما قرأتها إلا بكيت على أمِّي يرحمها الله،
وانظروا كيف هفا قلب الشاعر إلى أمه في حلوان:
كَنْزٌ بِحُلوانَ عِنْدَ اللهِ نَطلُبُهُ
خَيرَ الوَدائِعِ مِن خَيْرِ المُؤَدّينا
لَو غابَ كُلُّ عَزيزٍ عَنْهُ غَيْبَتَنا
لَم يَأتِهِ الشَوْقُ إِلّا مِن نَواحينا
إِذا حَمَلنا لِمِصْرٍ أَو لَهُ شَجَنًا
لَم نَدْرِ أَيُّ هَوى الأُمَّينِ شاجينا
طيّب الله ثراك أيها الشاعر، ورحم والدي ووالديك، فالدعاء في أعقاب شعرك كالدعاء في
أعقاب الصلوات.