بين أبي نواس وابن المعتز والخليع
كان من حظ أبي نواس أن يسيطر على أهل عصره، وأن يتخطى زمانه فيسيطر على أخيلة الشعراء من جيل إلى جيل، وكان أهم ما اشتهر به وصف الصهباء؛ وإنما برع في هذا الفن لأنه نشأ في العراق، والعراق منذ الزمن القديم قطر مرح طروب، استطاع أن يكون ملتقى الروحين العظيمين: روح العرب وروح الفرس، ولو نشأ أبو نواس في بلد مثل مصر لما استطاع أن يظفر بكل هذه الشهرة الأدبية: لأن مصر لم تكن من الأقطار ذوات الخطر في صنع الخمر، ولم يكن أهلها يومًا من كبار الشاربين، وإن زعموا أنها تفردت بشراب «المريوتيك» الذي أسكرت به كليوباترا من أسكرت من عشاقها الأبطال.
ولم يكن لمصر شأن يذكر في زراعة الأعناب؛ لأن جوّها لا يصلح كثيرًا لصنوف العنب الجيد الذي يحمل أهلها على الاهتمام بصناعة الخمر، على نحو ما يتفق ذلك في بعض الأقطار الشرقية والغربية، ومن أجل هذا ظل المصريون أجيالًا طوالًا وهم لا يعرفون من الخمر إلا صنوفًا رديئة يحتفظ بها جماعة من الأقباط توارثوها عن أجدادهم، فكانوا شرّ ورثة لأقبح ميراث!
ولا كذلك العراق، فقد عرف الخمر منذ عهد الآشوريين والكلدانيين وظل يفنن في تقطيرها أظرف افتنان. وقصائد ابن الرومي في وصف العنب تدل على أن العراقيين كانوا ينظرون إلى العنب نظرة تقديس؛ لأنهم كانوا يتمثلون فيه ما يضمر من أسرار الصهباء.
وحرمان مصر من جيد الخمر يشرح جانبًا مهمًّا في حياتها العقلية، فقد نبغت مصر نبوغًا عظيمًا في التأليف، وكانت هي القطر الإسلامي الوحيد الذي أنتج أعظم المؤلفات في الأدب واللغة والتاريخ والتشريع؛ وإنما كان الأمر كذلك لأن «الصحو» من أقوى الشواهد على سلامة العقل، أما الأقطار العربية التي عرفت الخمر، فكانت لها ميادين غير التأليف، كان لها الشعر والخيال، على نحو ما نرى في الأندلس، والشام، والعراق.
وهذا الحكم لا نريد به التعميم، فمن التعسف أن نقول: إن الشعر انعدم في مصر، أو أن التأليف انعدم في غير مصر، لا، وإنما نحكم بأن الخصائص الأساسية تختلف هنا وهناك، فالمصريون يعيشون في بلد محافظ على التقاليد منذ خلق، فلم يكن فيهم فاجر، ولا زنديق، على نحو ما توثب الفجور واستطارت الزندقة في بلد مثل العراق.
والشاهد أمامي واضح صريح: هو هذه الهمزيات الثلاث لابن المعتز والخليع، وأبي نواس، ففي هذه القصائد أخيلة يجهلها المصريون.
وإليكم الحديث.
وصف أبو نواس الخمر فقال:
وعارضه الخليع فقال:
وعارضه ابن المعتز فقال:
والشاهد هنا هو المشكلة التي أثارتها الهمزية النواسية، فأغلب الظن أن أبا نواس لو خاطب بها أهل مصر لخاطبهم بما لا يفهمون، ولكنه خاطب أهل العراق فخاطب قومًا يعرفون من الخمر ما يعرفون.
كانت همزية أبي نواس من المشاكل العراقية، وكانت الموازنة بينها وبين همزية ابن الضحاك مما يشغل الناس، ومضى الحديث إلى مكة، مكة المكرمة التي شرعت للعالم بغض الصهباء، نعم في مكة وجدوا فقيهًا يفصل بين همزية ابن الضحاك، وهمزية أبي نواس.
انظروا في هذا، واسألوا أنفسكم: أيمكن نقل الحديث من مكة المكرمة إلى الأزهر الشريف؟
هيهات، هيهات!
وإنما جاز في مكة ما لم يجز في مصر؛ لأن مصر كما حدثتكم لا تعرف الخمر، وإن كان الخواجة خرالمبو فتح فيها عشرات الحانات.
مصر فضولية في شرب الشمول، ومن الخير أن تقف حيث أقامها الله، فلا تقول: هات وهاك!
لا تحسبوني أمزح، فالمصري لا ينقع غلته غير الماء القراح، وقد ترونه في مجالس السلاف يصرخ فجأة في طلب كوب من الماء، والطبيعة الأصلية تميز خصائص الشعوب.
ما هذا؟ أتصدقون أنني أهرب من الهمزيات الثلاثة؛ لأني لا أجد من الحماسة لنقدها بعض ما وجد أدباء العراق.
ولنواجه الموضوع فنقول:
همزية أبي نواس لا تزيد على عشرة أبيات، ولكنها تحدثنا عن أمور جوهرية في حياة العراق، تحدثنا أولًا عن قيمة الخمر في العلاج، وهي عادة عراقية، وجدت من قبل عند العرب في الجاهلية، فقد رووا أن الأعشى قال:
وكان الأعشى شاعرًا فاجرًا عرف الخمر والنساء. ومشت به شهواته إلى الحدود الفارسية فنقل من تقاليد الفرس ما شاء.
فجاء أبو نواس وأفصح عن عادات قومه أبرع إفصاح حين قال:
وبين الأعشى وأبي نواس تفلسف مجنون بني عامر فقال:
والتداوي بالخمر يراه أهل مصر من المشكلات، وله فتوى في العدد الأخير من مجلة الأزهر ختمها المفتي بعبارة «والله أعلم» كأن الله لم يهد خلقه إلى بعض أسرار الصهباء.
وتحدثنا الهمزية ثانيًا عن عادة اجتماعية كان لها خطر في بغداد، وتلك العادة هي إلباس الجواري ملابس الغلمان، والظاهر أن الفتنة في عالم الجمال لم يكن يراها البغداديون المترفون إلا في تلك الثياب، فكانت الجارية لا تملح إلا مذكرة، ولهذه النزعة المقلوبة بقايا في أدب أهل الشرق والغرب فقد حدثنا الأستاذ لطفي جمعة في رواية (عائدة)، التي نشرها في (البلاغ) أن محبوبته في السويس لبست ثياب الفتى فبدت له جميلة جدًّا، واندفع يقبلها بعنف حتى أدمى خديها بالتقبيل.
وقد رأينا بأعيننا بعض الفتيات في أوروبا يلبسن ملابس الفتيان، فإن لم يكن هذا بدعًا حديث العهد، فهو إذن بقية من عبث أهل بغداد القدماء الذين أطغاهم الغنى والملك.
وهذا بيت أبي نواس:
والدعارة واضحة في هذا البيت، ولكن ناقل الكفر ليس بكافر، وناقل الفسق ليس بفاسق.
وتحدثنا الهمزية ثالثًا بأن فسقة بغداد كان عندهم نزعة صوفية ترمي إلى الاعتماد على عفو الله، ومن الصوفية من يرى من الإثم أن تتخوف من الذنوب:
لأن التخوف من الذنب يشعر بأنك تعتد بالأعمال، والاعتداد بالأعمال ينافي أدب الأبرار، وذلك ما عناه الفاجر أبو نواس حين قال:
تلك هي الأمور التي أفصح بها أبو نواس عن بعض الأحوال الاجتماعية في بغداد، فلم يبق إلا النص على ما في قصيدته من المعاني الشعرية.
ونبادر فنذكر أن النقاد القدماء أجمعوا على سبقه بهذا البيت:
أما نحن فنستجيد قوله في الراح:
وهذه الأبيات في غاية من الجودة، وللقارئ أن يتأمل هذه الشطرة:
فهي كلمة شاعر مبدع يتمثل الصور الشعرية تمثل الشاعر الفنان.
وفي البيتين الآخرين تنزيه للخمر عن ملابسة الماء، ورجعها إلى التوافق مع عنصر أشرف هو عنصر النور، وهذا معنى لا يلتئم إلا مع خمر الفردوس.
أما قوله:
فهو صورة لجماعة من الندمان الفتيان الذين مكنهم الغنى والشباب من ناصية الزمان، وأبو نواس الفاجر يرى أعداء الرح من الجاهلين، ويقول:
وهي سخرية لو يجه مثلها إلى أهل التقى والعفاف.
•••
تلك همزية أبي نواس، فاذا قال الخليع الحسين بن الضحاك؟
لقد بدأ فسخر من العرب الذين يقنعون بألبان الإبل والشاء بين أشواك البادية، فقال:
والسخرية من العرب ومعايش العرب نزعة شعوبية كان لها في ذلك العهد مجال، فكان أبو نواس وندماؤه من شياطين بغداد لا يملون القدح في شمائل الأعراب، وكانت السخرية من الأزهار البدوية والأشواك البدوية هي الفاتحة والخاتمة لكل قصيد، وكذلك صح للخليع أن ينقل نديمه إلى حياة الحضارة فيقول:
وقد أطال الخليع في قصيدته إطالة ممّلة تملّنا نحن المصريين، ولكنها تمتع أمثال العراقيين. فقد وصف تنقل الراح من عهد إلى عهد، وسره أن تدفن في الأرض، وأن تمر عليها أزمان وهي سر مكنون، فلننس ما لا نعرف من تلك العهود، ولننتقل إلى عهدها الأخير بعد أن رأت نور الوجود:
هذه الأبيات تخيرناها تخيرًا، ولو عرضنا هذه القصيدة كاملة لبدت فيها أشياء لا يفهمها أهل هذا الجيل.
•••
ونحن لا نستسيغ اليوم وصف الخمر بأنها بدت مِثْلِ رَقْرَقَةٍ في جَفْن مَرْهاء، ولا يسرنا أن يكون الحبب ألف فوقها صورة تشبه ظهر الحية الرقشاء، ولكنها تستظرف وصف الراح بأنها تمازج الروح في أدنى مداخله ممازجة الأنوار للأضواء، ولعل هذه الصورة هي أجمل ما في قصيدة الخليع.
ولا ننس النص على أن الخليع ختم قصيدته بغمز العرب فقال:
فكانت الفاتحة والخاتمة من النزوات الشعوبية.
•••
بقي ابن المعتز، فماذا قال:
إن ابن المعتز جرى في همزيته مجرى الفتك فانطلق يحدث عن صبواته حديث الغويّ المفتون، ويقول:
والبيت الأول مولد من صدر قصيدة أبي نواس، والبيت الثالث بيت عذب والمعنى فيه قديم، ولكنه ورد في معرض طريف، أما البيت الرابع فهو تحفة؛ لأنه جعل محبوبته في الثياب البيض كالشمس تسبل أذبال الألاء، وفي البيت الخامس حنين إلى النواقيس، ولكن أي حنين؟ أهو حنين الخاشعين؟ هيهات، إنه حنين الفجرة الذين كانوا يتخذون الديرة ملاعب صبابة ومجالس سلاف.
ثم مضى يذكر أعمار الخمر فقال:
وجملة القول: إن هؤلاء الشعراء ركضوا في ميدان واحد، فوصفوا الخمر والسقاة وصفًا يختلف بعض الاختلاف، وكان أقصرهم نفسًا أبو نواس، ولكنه كان أعرفهم بأسرار الصهباء.
والقصيدة الوحشية هي قصيدة الخليع فقد أكثر فيها من التعمل والافتعال، فظلت سجينة لا يعرفها من الناس غير أهل العراق، وقد وقع ابن المعتز في بعض ما وقع فيه الخليع، فأخذ يؤرخ الخمر يوم كان لها تاريخ، فأصبحت قصيدته غريبة في زمن تكتهل فيه الصهباء وهي بنت يوم واحد؛ لأن أهل هذا الزمان عرفوا من العناصر، ما لم يعرفه الأقدمون واستطاع آثمهم أن يكوي الصهباء فيردها نارًا تأكل الهشيم من أحلام الرجال.
أما أبو نواس فقد وقف عند المعاني الفطرية التي يعرفها الناس في جميع البلاد، وكذلك ظلت قصيدته موصولة الأواصر بأرباب الأذواق. وأجود الشعر ما استطاع مداعبة القلوب في كل أرض وفي كل جيل.