شعراء الأحزاب
١
ويجب على الناقد حين يوازن بين شاعرين أن يعرف حياتهما بالتفصيل، وأن يتثبت مما أحاط بهما من مختلف الظروف، وعلى الأخص إذا مرت حياتهما في غمرة من الغمرات الدينية، أو فتنة من الفتن السياسية، فقد يكون أحد الشاعرين من الحزب الغالب، وثانيهما من الحزب المغلوب، ثم تعصف الفتن بما ترك شاعر الأقلية من الشعر الرائع، وتبقي العصبية الحزينة على ما ترك شاعر الأكثرية من العث والسمين، والويل كل الويل للمغلوب!
ولقد حان الوقت لمحو تلك الخرافة التي كاد يجمع عليها مؤرخو الآداب العربية: وهي أن الشعر كان في خمود في زمن البعثة والخلافة الراشدة، استنادًا إلى ندرة ما روي من شعر ذلك العهد، وقلة من عرف فيه من الشعراء.
ولو تنبه الباحثون إلى تلك الحملة الشديدة التي وجهتها الشريعة إلى الشعر والشعراء لتريثوا في الحكم أو احترسوا بعض الاحتراس، فقد كان الشعر في زمن البعثة قويًّا وعزيزًا، وكان الشعراء في كثرة وعزة، ولكن النبي ﷺ رأى أكثرهم من معارضيه، فعمد إلى إخفات صوتهم، وكان ما أراد.
فإن كنت في ريب من ذلك فحدثني عن سبب نزول هذه الآية:
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ
ثم أذكر أن عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت قالوا: يا رسول الله لقد أنزل الله هذه الآية، وهو يعلم أننا شعراء، هلكنا! فأنزل الله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا.
ومعنى ذلك أن الشعر لا يذم إلا إن أعدت به حملة على النبوة، وإلا فقد روي أن النبي ﷺ قال ليلة وهو في بعض أسفاره: أين حسان بن ثابت؟ فقال حسان: لبيك يا رسول الله وسعديك! قال: احد! فجعل ينشد ويصغي إليه، فما زال يستمع إليه وهو سائق راحلته حتى فرغ من إنشاده، فقال ﷺ: لهذا أشد عليهم من وقع النبل، وروي أيضًا أنه قال له: اهجهم! فوالله لهجاؤك أشد عليهم من وقع السهام، في غلس الظلام! وكذلك كان حسان يقول لأهل مكة:
وإنما نقلت لك هذه القطعة من شعر حسان؛ لأنها تمثل خصومة ذلك العهد أصدق تمثيل، فليس عندي شك في أنه كان لقريش شعراء فحول يقارعون شعراء الرسول، وليس عندي شك في أنه كان لليهود شعراء يجمعون بين حسن القول وظلمة الارتياب، وحسبك أن تعرف أنه كان فيهم من يقول:
ولكن رأى النبي أن يقضي قضاءً مبرمًا على من عارضه من شعراء قريش، وشعراء اليهود: لأن الدين في نفسه أعز من أن يهادن أعداءه أو يفتر عن حرب خصومه من الشعراء، وكذلك باد وانقرض ما ترك حزب المعارضة لذلك العهد منهم الآثار الأدبية والفنية، وما خلف من الآراء الفلسفية والاجتماعية، وأصبحنا لا نعرف من الحركة العقلية في ذلك العصر غير ما رواه المسلمون، وهم لا يروون بالطبع إلا ما فيه للإسلام نصر وتأييد، وصار من المتعذر على الباحث أن يضع لذلك العصر صورة صحيحة مضبوطة، لم تلونها الأغراض والأهواء، وأقول: الأغراض والأهواء؛ لأن القضاء على آثار الحزب المعارض لعهد النبوة إنما كان طاعة للأهواء الجامحة التي لم يعرف أصحابها خطر هذه الجناية على تقدير قوة الإسلام من الوجهة الروحية، والعقلية والاجتماعية.
أفتحسب أن من مجد الإسلام أن تثبت أن العالم كان محطم الأركان، مهدم الجوانب، وأن العقول كانت خلت من روعة الإيمان، ثم جاء الإسلام، فلم يجد غير أنقاض من الهمم، وأطلال من العزائم، وخرائب من العقول والقلوب؟
هيهات هيهات!
إن مجد الإسلام في أن تثبت خطر العهد الذي نشأ فيه من الوجهة العقلية؛ لترى كيف تقارعت الحجج، وتصاولت البراهين؛ ولترى كيف انتصر النبي على خصومه الأقوياء، الذين وصفهم القرآن بقوة النطق حين قال: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ. وبعنف الخصومة حين قال: وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا. وبسحر البيان حين قال: أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ وبشدة المكر حين قال: وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ. وبرجاحة العقل حين قال: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ.
٢
ونعود فنذكر أن الحملة التي وجهت إلى الشعر على أثر ما كان من لدد شعراء اليهود، وتوثب شعراء المشركين، أثرت تأثيرًا عميقًا في حياة المسلمين من الوجهة الأدبية، فرأيناهم يسرفون في بغض الشعر، والنيل من الشعراء، وكان من ذلك أن قيل لسعيد بن المسيب: إن قومًا بالعراق يكرهون الشعر فقال: نسكوا نسكًا أعجميًّا! وسئل ابن سيرين في المسجد عن رواية الشعر في رمضان — وقد قال قوم: إنها تنقض الوضوء — فقال:
ثم قام فأمّ الناس!
وسئل ابن عباس: هل الشعر من رفث القول؟ فأنشد:
وقال: إنما الرفث عند النساء، ثم أحرم للصلاة!
ثم جرى على ألسنة الجماهير أن الشعر لا يليق بالفقهاء والمحدثين، فرأيناهم يسألون عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أتقول الشعر في فقهك وورعك؟ فأجاب: لا بد للمصدور أن ينفث!
وهذا الفقيه هو صاحب هذه الأبيات الرائعة:
ورأيناهم يزعمون أن الإمام الشافعي قال:
ولا يزال شيوخ الأزهر مختلفين في بدء الشعر بالبسملة؛ لأنه فيما يرون ليس من الأمور ذوات البال!
ولا أدل على هوان الشعر في نظر الفقهاء من قول الغزالي: «وأما الشعر فكلام حسنه حسنٌ وقبيحه قبيح». وهذا كله من أثر الحملة التي وجهت إلى الشعر والشعراء.
ولكن الشعر من الفنون الفطرية التي كلف بها الإنسان منذ عهد بعيد، والمسلمون ككل الأمم لم يكن لهم بد من حياة الفنون، وكذلك نهضوا داعين إلى رواية الشعر وإجارة الشعراء، ولكنهم لم يدعوا إلى الشعر باعتبار أنه فن جميل، وإنما دعوا إليه باسم الدين، فقالوا: إن النبي كان يرتجز بقول ابن رواحة، وقد أصيبت إصبعه في إحدى المواقع:
وحبروا الفصول الضافية في أشعار الخلفاء والقضاة والفقهاء: فنسبوا لأبي بكر الصديق قصيدة طويلة مطلعها:
ونسبوا إلى عمر وعثمان طائفة من المقطوعات، ونسبوا إلى عليّ طائفة من القصائد، ونقل الفيروزآبادي عن المازني وصوبه الزمخشري أنه لم يصح أن علي بن أبي طالب تكلم بشيء من الشعر غير هذين البيتين:
وقد كان جماعة من أصحاب مالك بن أنس يرون الغناء بغير آلة جائزًا، وهو مذهب جماعة من أهل مكة والمدينة والغناء حلة الشعر إن لم يلبسها طويت، ومحال أن يحرم الشعر من يحل الغناء به.
وحسب الشعر هوانًا أن تقول: إنه مباح!
أفترى بعد هذا البيان أن مقدور الناقد أن يوازن بين حسان بن ثابت مثلًا وبين واحد ممن عاصروه من شعراء المشركين واليهود؟ كيف، وقد عصفت الحوادث بما ترك شعراء الحزب المغلوب، وبقي شعر حسان بفضل ما صاغ له رسول الله من عقود الثناء؟ على أن هذا لا يمنع أن يكون حسان سيد الشعراء في عصره، ولكن هات ما ترك أقرانه لنستطيع الموازنة؛ ولنصل بها إلى علم اليقين، فقلما تنفع الظنون.
وإنك لتجد ما يدعوك إلى الحذر إذا تخطيت عهد النبوة، وانحدرت إلى عهد بني أمية، أو عصر بني العباس: هناك ترحم نفسك من التوغل في بيداء الضلال، وهناك تجد شعراء العلويين في عهد بني أمية، وشعراء الأمويين في عصر بني العباس، تجد هؤلاء وأولئك يقاسون ألوان العنت وصنوف الجهد في كتم ما ينم عن مشاربهم الاجتماعية، ومنازعهم السياسية، وأكتفي الآن بمثال واحد، ولو شئت لضربت لك عشرات الأمثال:
ذكروا أن المتوكل على الله كان في اجتيازه إلى دمشق قد وجد في حائط من حيطان دير الرصافة رقعة ملصقة فيها هذه الأبيات:
قال ياقوت: فارتاع المتوكل عند قراءتها واستدعى الديراني وسأله عنها، فأنكر أن يكون علم من كتبها، فهم بقتله، فسأله الندماء فيه، وقالوا: ليس ممن يتهم بميل إلى دولة دون دولة. فتركه ثم بان أن الأبيات من شعر رجل من ولد روح بن زنباع الجذامي من أخوال ولد هاشم بن عبد الملك.
وكذلك عصفت السياسة بما ترك شعراء الأحزاب، وتهدمت صروح من الآداب بما ضاع من الشعر السياسي فيما خلا من العصور، وكلنا يذكر ما لقي شعراء البرامكة من عنف الرشيد.
ومن هنا وجب على الناقد حين يوازن بين شاعرين أن يعرف ما أحاط بهما من مختلف الظروف ليكون في حكمه قريبًا من الصواب، فقد رأينا كيف تطمس القوة معالم الشعر البليغ.