الحاسة الفنية
١
وقد بينا في البحث الأول: أنه يجب أن يصل من يتصدر للموازنة بين الشعراء إلى درجة عليا في فهم الأدب، وأن يصبح وله في النقد حاسة فنية تنأى به عن كل ما يفسد حكمه من الأهواء والأغراض، وذكرنا أن من الناس من يطرب للشعر لا لأنه شعر؛ بل لأنه طرق موضوعًا يحبه، وكشف عن معنى تميل نفسه إليه، وقد لا يكون ما سمعه، أو قرأه جميلًا من الوجهة الفنية، ثم ضربنا لذلك الأمثال.
والآن نعود إلى «الحاسة الفنية» بشيء من التفصيل: فنذكر كيف عَوّل عليها المتقدمون من رجال البيان، ونبين الوسيلة إلى الظفر بهذه الموهبة العزيزة المنال، ثم نميط اللثام عن حقيقة هذه الحاسة، التي لا تظهر ظهورًا جليًّا إلا حين نمعن في الخفاء.
٢
ومعنى هذا أن كتب القواعد لا تورث القارئ «الذوق» ولا تمنحه «الحاسة الفنية». وإنما يكسب ذلك بالدربة والإدمان على مطالعة الكلام البليغ، والقواعد لا تنفع من لا ذوق له: كما لا ينفع السيف من لا قلب له.
ولكن لا تحسب أن إدمان الاطلاع كاف لكسب الذوق، بل يجب أن تكون المطالعات مصحوبة بالفهم، والتذوق لجمال القول وسحر البيان. أما إذا كان الغرض من القراءة حفظ الشواهد والأمثال — كما يفعل رجال اللغة والرواية — فإنه يبعد أن يظفر القارئ بالحاسة الفنية، وهذا أبو العباس المبرد كان في عمله واطلاعه يذكر أنه كان يحتاج إلى اعتذار من فلتة، أو التماس حاجة، فيجعل المعنى الذي قصده نصب عينيه، ثم لا يجد سبيلًا إلى التعبير عنه بيد ولا لسان … ولا سبب لذلك فيما يرى إلا أن المبرد لم يعن بدرس أسرار البلاغة، وإنما انصرفت همته إلى اللغة والرواية، والنحو، والتصريف. ومن هنا لم يحسن الاختيار.
قال الجاحظ: طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يحسن إلا غريبه، فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فوجدته لا ينقل إلا ما اتصل بالأخبار وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت، لا عند أدباء الكتاب كالحسن بن وهب ومحمد بن عبد الملك الزيات.
وكقول محمد بن عبد الملك الزيات:
وكقول ابن رشيق:
وكان أستاذنا المرحوم الشيخ محمد المهدي يقول: «كما أن اللسان لا يمرن على النطق بالصواب إلا بالمحاكاة كذلك الذهن لا يمرن على الفهم الصحيح، ولا يجول في ميدان فسيح من المعاني، ولا يقدر الأشياء قدرها، إلا بالمقارنات الكثيرة التي تمثل في النفس لكل شاعر صورة وتقرر له حكمًا غير مزعزع ولا مدافع».
وما نسميه (الحاسة الفنية) كان يسميه (ملكة الأدب)، وكانت السبيل عنده لتحصيل هذه الملكة هي المقابلة بين المعاني والألفاظ، والمقارنة بين المفردات والأساليب، وتعليل كل تحسين وتقبيح بما يقنع المتأدب، ويدنيه من الفهم الصحيح.
٣
وأعود فأذكر أن الحاسة الفنية عزيزة المنال، ومع هذا يدعيها جميع الناس، وإنما كانت عزيزة المنال؛ لأننا نزن بها البيان، والبيان كالجمال كثير التعقيد. ألا ترى أنك لا تعتد برأي من يحسب البياض نصف الحسن، ويرى تمام الصباحة في الجمع بين سواد الشعر وبياض الجبين؟ وكان ذلك لأن الجمال نوعان: معقد وبسيط، وأريد بالجمال البسيط ذلك النوع من الوسامة الذي يدركه أكثر الناس، والذي يعرف بتناسب الأعضاء، وهذا النوع في سهولته وبساطته يشبه الألوان الأخاذه التي يهش لها صغار الأحلام من النساء والأطفال. أما الجمال المعقد — وما أروع الجمال المعقد — فهو ذلك النوع الخطر الذي لا يفهمه إلا أصحاب الأذواق، وهذا النوع من الصباحة لا يرجع إلى فتنة الخدود، وسحر العيون، وإنما يرجع إلى ما هو أخطر من ذلك، يرجع إلى دقائق من الحس، وغرائب من الملاحة، لا يعرف تأويلها غير الراسخين في علم الجمال.
حدثني بربك كم في هذه «الأعداد» التي تراها في طريقك ممن يتذوق جمال اللفتة، والخطرة، والمشية؟، وكن فيهم ممن يتخطى سواد العين، ثم يحاول فهم ما في العين من رموز وألغاز، وفي العين ما شئت وشاء السحر من اللبس والتعقيد!!
وكم فيهم يعذر أبا الأسود إذ يقول:
وهذا الجمال المعقد هو الذي أسمعك صرخة الحكم الخضري حين قال:
وهو الذي صدق في وصفه أبي نواس إذ يقول:
وكذلك البيان يا صاح فيه معقد وبسيط. أما البيان البسيط فهو ذلك النوع السهل الذي يفهمه سواد الناس كقول طرفه بن العبد:
وكقول لبيد:
وكقول شوقي:
ويكثر هذا النوع في القرآن حين تمس الحاجة إلى ترغيب الجماهير، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، وكقوله عز شأنه: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ۖ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وكقوله تبارك اسمه: قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
وهذا النوع من البيان هو المرجع في المعاملات، وقد تجب فيه البساطة المطلقة حين يستخدم في تحرير الاتفاقات والمعاهدات والعقود، وما إلى ذلك مما تحدد به العلاقات بين الأمم والأفراد، وهذا النوع لا يحتاج إلى الحاسة الفنية، وإنما يحتاج إليها البيان المعقد الذي قيل فيه: «إن من البيان لسحرًا». والذي قيل فيه: «شيئان لا نهاية لهما: البيان والجمال». وفي الناس من يفتنه إشراق الديباجة، وتخلبه رشاقة الأسلوب كما يسحره الجبين المشرق، ويضله القد الرشيق.
والتعقيد الذي أعنيه غير التعقيد المعروف في علم المعاني، فلست أريد اللبس والغموض المعقد، وإنما أصف البيان والحسن بالتعقيد حين يكون للوجه الوسيم، والأسلوب الجميل، قوة في التأثير يحار في تعليلها اللبيب، ومن هنا كان الأقدمون يظنون أن الشعر من وحي الشياطين، ومن أقدر من الشيطان على العبث بالعقول؟
والقصة المشهورة التي جاء فيها أن أحد أقيال اليمن قدم إلى دار الندوة فبصر فيها بالنبي ﷺ وهو إذ ذاك غلام مراهق، فقال لمن حضر من القوم: إن هذا الغلام ينظر إليكم بعيني لبوءة، وتارة بعيني عذراء خفرة، فلو أن نظرته الأولى كانت سهمًا لانتظمت أفئدتكم فؤادًا فؤادًا، ولو أن نظرته الثانية كانت نسيمًا لأنشرت أمواتكم! هذه القصة فيها شيء من التعليل للجمال المعقد، ولكن يظهر أننا انتقلنا إلى عالم النفسن ويظهر أيضًا أن الجمال لا يعقد إلا حين تعقد النفس، والنفس لا تعقد إلا حين تصبح كالبحر تصطخب فيه الأمواج، أو كالميدان تشتجر فيه الرماح أو كالقلب تقتتل فيه الأشجان، ومن يدرينا لعل جمال يوسف عليه السلام كان من هذا القبيل … فما نظن أن صواحباته قطعن أيديهن، وعذرن فيه امرأة العزيز: لإسالة خده، وسواد شعره، وإشراق جبينه، وإنما نحسب أن تلك النفس النبوية التي تضمر ما تضمر من دقائق الغيوب، تلك النفس الجبارة السحارة، القهارة، تلك النفس المفردة في عالم النفوس، هي التي جعلت لجمال يوسف ذلك السحر الذي تقطعت به الأيدي بعد تمزيق القلوب. وسبحان من يعلم ما كان يجول بخاطر ذلك الغلام الجميل أينظر بعيني لبوءة، أم بعيني عذراء خفرة؟ وحسبنا أن نذكر أن الله كان بعده لحمل الرسالة، ويرشحه لتبليغ تلك الدعوة التي لا يزال صداها يرن في أجواز الوجود.
وللبيان المعقد مثل هذا النصيب من بعد الغور، ودقة المدلول، فهو ذلك النوع المعجز الذي تسكن إليه القلوب، وتحار في تعليله العقول، هو ذلك النوع الذي يقرؤه سواد الناس فيفهمونه، ثم يقرؤه الخاصة فيفتنون به، ويحارون في تعليل حسنه، ثم لا يحسن واصفهم إلا أن يقول: هذا هو السحر الحلال.
٤
على أنه يمكن الناقد أن يذكر بعض خواص هذا النوع من البيان: فهو تارة يرتكز على سمو الخيال، كقول بعض الحكماء: «من غمس يده في مال السلطان، فقد مشى بقدمه على دمه». ففي هذه الكلمة من روعة التخييل، وحسن التصوير، ما يدهش العقول، ويحير الألباب. وكقول أرطاة بن سهية المري:
فقد صور لك البحر الذي عجزت عن حربه الليالي بصورة بشعة مخيفة يهابها الوهم وتتحاماها الظنون، فهو يذكر أن البحر الزاخر، الذي يجن ما يجن، ويظهر ما يظهر، والذي يروعك منظره، ويهولك مخبره، يذكر أن ذلك البحر لو بذل مثل ما يبذل قوم هذا الجواد في سبيل الحمد لأصبحت السفن راكدة فوق صبابات من الماء، وقد كانت قبل في لجج رهيبة السواد، وهذه الصورة هي التي بررت مبالغة الشاعر في وصف قومه الأجواد، وإن عز البحر عن النظائر، وجل عن الأشباه.
ومن رائع الخيال قول أبي نواس:
فأنت تراه، وقد وقف أمام ذلك الرسم الذي نال منه العفاء، وغيره الدروس حتى ارتاب فيه، وغصت به عينه، ولفظه وهمه، ثم أغرقك في بحر من التخيل حين قال:
وعليك أن تستوعب هذا المعنى، فقد فتحت لك الباب.
وكان الرشيد يعجب بقول صريع الغواني:
وكان يقول قاتله الله! ما كفاه أن جعله مقيدًا حتى جعله في وحل! وهذا كما ترى أبدع ما يصور به النشوان.
ولا تنس القرآن، فإنه غاية الغايات في روعة الخيال، وانظر قوله تعالى: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ.
ولا يدرك هذا المعنى الفخم إلا من ذاق بأساء الحياة، ورأى كيف يكون هوج الريح، وجنون الموج، وعسف الظلام، وكم في الحياة من أهوال!
وقد يرتكز البيان المعقد على بساطة الأداء، وهذا أحسن تأويل لكلمة: «المطمع الممتنع» فقد تقرأ الكلام السهل البسيط فتحسب أنك على مثله قدير، حتى إذا حاولت أن تأتي بشيء من مثله عز عليك وامتنع، وإليك قول ابن الدُّمينة يوصي حبيبته بالقسوة على الوشاة، وبالصلابة حين يجور اللائمون:
فهذا كلام سهل، يسكن إليه القلب، وتخلد إليه النفس، ولكنه يعز على من يرومه، ويطول على من يسمو إلى محاكاته. ومثله في بساطته ودقته قول بعض الأعراب:
وهي فكاهة رقيقة يبسم لها ثغر الحزين.
وأظرف منه قول الآخر، وقد تمردت عليه امرأته وضريت على إيذائه:
فقد مثلها بالحية النضناض، التي يُقتلها المرء تقتيلًا، ثم لا تزال تبدو لعينيه، وكأنها تسعى.
٥
وقد يرجع تعقيد البيان ودقته وسحره إلى نفس المبين: من شاعر، أو كاتب أو خطيب، فإن هناك نفوسًا خطرة قد تضلك وقد تهديك حين يكتب أصحابها وحين يتكلمون. وانظر قول موسى بن جابر، وقد رأى تجمع الأعداء وتوثبهم:
فهذه النفس المعقدة في أغراضها ومراميها هي التي وقفتك موقف الحيرة أمام هذه الأبيات، فأنت ترى فتى شجاعًا مقدامًا لم تنسه شجاعته، ولا إقدامه ما يحيط به من عظائم الأخطار، فهو ينصح لرفيقه ويوصيه بالحذر والرفق، ويدعوه إلى وضع الحرب إن وضعها الأعداء، وإلى شب وقودها بالحطب الجزل إن أبوا إلا القتال، وهذا هو الجمع بين الحزم والشجاعة، وقل من يجمع بينهما من أفذاذ الرجال.
وانظر قول الآخر يتوجع من الوحدة والغربة في بلاد الأعداء:
٦
وحكى إسحاق الموصلي قال: سألني محمد الأمين عن شعرين متقاربين وقال: اختر أحدهما. فاخترت فقال: من أين فضلت هذا على هذا، وهما متقاربان؟ فقلت: لو تفاوتا لأمكنني التبيين، ولكنهما تقاربا ففاضلت بينهما بشيء تشهد به الطبيعة ولا يعبر عنه اللسان.
والطبيعة في كلام إسحاق هي ما نريده من الحاسة الفنية. وفي هذا القدر كفاية فقد طال بنا الحديث.