الفصل التاسع
أهمية الصور الشعرية
عرف القارئ شيئًا عما أريده من الصور الشعرية، ولكنه شيء يسير لا يغني في إماطة اللثام
عن
هذا الفن الجديد، وسأعود بعد قليل إلى تحقيق الفرق بين الصورة الشعرية، والتمثيل المعروف
في
علم البيان، فقد ظن بعضهم أن الصورة الشعرية هي الاستعارة التمثيلية، وهو خطأ مبين.
والآن أرجع إلى توضيح ما ذكرته في الكلمة الماضية من أن فضل الصورة الشعرية إنما هو
تمكين
المعنى في النفس؛ لأن غاية الكلام البليغ من نثر أو شعر إنما هي التأثير، والصورة الشعرية
لما فيها من تحليل المعنى وتعليله كافية في تحقيق غاية البيان، ولنضرب لذلك الأمثال.
١
من الحكم المأثورة قول أبي الدرداء: «من لك بأخيك كله». يريد أن الصديق لن يكون من
كل
نواحيه ملكًا لأخيه. هذا هو أصل المعنى، وتلك هي صورته الأصلية، فلننظر كيف بسطه بشار
بن برد حين قال:
إذا كٌنْتَ في كُلِّ الأُمور مُعاتِبًا
صَديِقَكَ لمْ تَلْقَ الْذي لا تُعاتِبُهُ
فَعِشْ واحِدًا أو صِلْ أخاك فإِنَّهُ
مُقارفُ ذَنْبٍ مَرْةً ومُجانِبُهُ
إذا أَنْتَ لَمْ تَشْربْ مِرارًا عَلَى الْقَذَى
ظَمِئْتَ وَأيُّ النَّاسِ تَصْفو مَشارِبُهْ
فإذا وازنت بين هذه الأبيات وبين كلمة أبي الدرداء رأيت أن كلمة: «من لك بأخيك كله».
كلمة مبهمة لا تقر في النفس إلا بعد التأمل والترديد: ورأيت صاحب هذه الأبيات الثلاثة
يخاطب عقلك ووجدانك، إذ يذكر أنك إن عاتبت صديقك في كل الأمور فلن تلقى الصديق الذي لا
تعاتبه؛ لأنه يندر أن يخلو صديق من العيوب، وأنك مضطر إلى إحدى اثنتين: إما أن ترضى
الوحدة، وإما أن تصل أخاك، فقد يقارف الذنب مرة ويجانبه مرة أخرى، وإذا لم تشرب
«مرارًا» على القذى ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه في هذا الوجود؟!
فأنت ترى أن كلمة بشار أوقع في النفس، وأملأ للقلب، من كلمة أبي الدرداء، وإليك كلمة
الشريف الرضي في نفس المعنى:
وكمْ صَاحِبٍ كالرُّمْحِ زَاغَتْ كُعُوبُه
أَبى بَعْدَ طولِ الغَمْزِ أَن يَتَقَوَّما
تَقَبَّلْتُ مِنْهُ ظاهِرًا مُتَبَلِّجًا
وَأَدْمَجَ دوني باطِنًا مُتَجَهِّما
فَأَبْدَى كَرَوْضِ الحَزْنِ رَقَّت فُروعُهُ
وَأَضْمَرَ كَاللَّيْلِ الخِدارِيِّ مُظْلِما
وَلَو أَنَّني كَشَّفتُهُ عَنْ ضَميرِهِ
أَقَمْتُ عَلَى ما بَيْنَنا اليَوْمَ مَأتَما
فَلا باسِطًا بِالسُّوءِ إِن ساءَني يَدًا
وَلا فاغِرًا بِالذَّمِّ إِنْ رابَني فَما
كَعُضْوٍ رَمَتْ فيهِ اللَّيالي بِقادِحٍ
وَمَنْ حَمَلَ العُضْوَ الأَليمَ تَأَلَّما
إِذا أَمَرَ الطِّبُّ الّلَبيبُ بِقَطْعِهِ
أَقولُ عَسَى ضَنًّا بِهِ وَلَعَلَّما
صَبَرْتُ عَلى إيلامِهِ خَوْفَ نَقْصِهِ
وَمَنْ لامَ مَنْ لا يرْعَوي كان ألوَمَا
هِيَ الْكَفُّ مَضٌّ تَرْكُها بَعْدَ دائِها
وَإِن قُطِعَت شانَتْ ذِراعًا وَمِعْصَما
أَراكَ عَلَى قَلْبي وَإِنْ كُنْتَ عاصِيًا
أَعَزَّ مِنَ القَلْبِ المُطيعِ وَأَكْرَما
حَمَلْتُكَ حَمْلَ الْعَينِ لَجَّ بِها القَذَى
فَلا تَنْجَلي يَوْمًا وَلا تَبْلُغُ العَمَى
دَعِ المَرْءَ مَطْوِيِّا عَلَى ما ذَمَمْتَهُ
وَلا تَنْشُرِ الدَّاءَ العُضَالَ فَتَنْدَما
إِذا العُضوُ لَمْ يُؤلِمْكَ إِلّا قَطَعْتَهُ
عَلى مَضَضٍ لَمْ تُبْقِ لَحْمًا وَلا دَمَا
وَمَنْ لَمْ يُوَطِّنْ لِلصَّغِيرِ مِنَ الأَذَى
تَعَرَّضَ أَنْ يَلْقَى أَجَلَّ وَأَعْظَما
فهذه صورة شعرية يندر أن تجد مثلها في هذا المعنى لغير الشريف الرضي، وانظر كيف حدثك
عن صديقه الذي صبر عليه، وكيف شبهه بالرمح الذي زاغت كعوبه، وأبى بعد طول الغمز أن
يتقوم، وكيف تقبل من ذلك الصديق ظاهره المتبلج، وتغافل عن باطنه المتجهم، وكيف مثل ما
أبداه بروض الحزن رقت فروعه، وما أضمره بظلمة الليل، وانظر كيف راعك حين ذكر أنه لو كشف
صديقه عن ضميره لأقام على ما بينهما مأتمًا أي مأتم، ومع ذلك لا يبسط يده بالسوء إن
ساءه، ولا يفتح فاه بالذم إن رابه، ثم انظر كيف صور هذا الصديق الذي كثر دغله وساءت
طويته بصورة العضو الذي رمته الليالي بقادح، والذي يؤلم حمله، ولكنه مع هذا مرجو البرء
مأمول الشفاء، ومن ذا الذي يجهل أن داء الكف مضُّ بغيض، ولكن من ذا الذي يرضى أن يشين
بقطعها المعصم والذراع؟
ولم يقف الشريف الرضي، عند ذلك، بل مثل صديقه بالعين لج بها القذى، وهو أفضل من العمى
على كل حال، ثم أرسل هذه الحكمة الرائعة:
دَعِ المَرْءَ مَطْوِيِّا عَلَى ما ذَمَمْتَهُ
وَلا تَنْشُرِ الدَّاءَ العُضَالَ فَتَنْدَما
إِذا العُضوُ لَمْ يُؤلِمْكَ إِلّا قَطَعْتَهُ
عَلى مَضَضٍ لَمْ تُبْقِ لَحْمًا وَلا دَمَا
وهل ينكر أحد بعد هذا التفصيل أن كلمة يشار أولًا، وكلمة الشريف الرضي ثانيًا، أدعى
لتمكين المعنى في النفس من كلمة أبي الدرداء، لما فيهما من تحليل المعنى وتعليله، وذلك
داعية التأثير، وهو ثمرة الكلام البليغ؟
٢
رثى مويلك المزموم امرأته أم العلاء فقال:
أُمْرُرْ عَلَى الجدثِ الّذِي حلّتْ بِهِ
أمُّ الْعَلاءِ فنادِها لوْ تَسْمَعُ
أنّى حللْتِ وكُنْتِ جدَّ فروقةٍ
بلدًا يمْرُّ بهِ الشُجاعُ فيفْزَعُ
صلّى عليْكِ اللهُ مِنْ مَفْقودَةٍ
إذْ لا يُلائِمُكِ المَكانُ الْبَلْقَعُ
فَلقدْ تَركْتِ صغيرةً مرْحومةً
لَمْ تدْرِ ما جزَعٌ عَليْكِ فتَجْزَعُ
فَقَدَتْ شمائِلَ مِنْ لِزامِكِ حُلْوَةً
فَتبِيتُ تُسْهِرُ أَهْلَهَا وَتُفَجِّعُ
وَإذا سَمِعْتُ أنينَها في لَيْلِها
طُفِقَتْ عَليْكِ شئونُ عَيْني تدْمَعُ
وهذه قطعة مختارة في بكاء المرأة تخلي طفلها وتروح إلى عالم الفناء، وهي بعد التحليل
ترجع إلى فكرتين:
- الأولى: التعجب من قرار هذه المرأة الهيوب في ذلك المكان البلقع.
- والثانية: الأسف على ما لقيت طفلتها من فقد شمائلها الحلوة.
وقد سرد الشاعر هاتين الفكرتين بشيء من الجفاف، وكان في مقدوره أن يزيد
الفكرة الأولى شيئًا من الوضوح، وأن يعمد في الفكرة الثانية إلى أن يشرك معه القارئ في
حزنه وبته؛ لأن الغرض من الشعر إنما هو التأثير.
وإلى القارئ ما يقوله في هذا المعنى محمد بن عبد الملك الزيات:
أَلَا مَنْ رَأَى الطِّفْلَ المُفارِقَ أُمَّهُ
بُعَيْدَ الكَرَى عَيْنَاهُ تَبْتَدرانِ
رَأى كلَّ أُمٍّ وَابْنَها غَيْرَ أُمِّهِ
يَبيتانِ تَحْتَ اللَّيْلِ يَنْتَجَيانِ
وَباتَ وَحيدًا في الْفِراشِ تحُثُّهُ
بَلابِلُ قلْبٍ دَائِمِ الْخَفَقَانِ
أَلا إنَّ سَجْلًا واحدًا قدْ أرَقْتُهُ
مِنْ الدَّمْع أوْ سَجْلَيْنِ قدْ شَفَيَاني
فَلا تَلْحَياني إِنْ بكيْتُ فإنَّما
أُداوي بِهذا الدَّمْع ما تَرَيانِ
وإِنَّ مَكانًا في الثَّرَى خُطَّ لحْدُهُ
لِمَنْ كانَ في قلْبي بكُلِّ مَكَانِ
أحقُّ مَكانٍ بِالزِّيارَةِ والْهَوَى
فَهلْ أنْتُما إِنْ عُجْتُ مُنْتَظِرانِ
فَهَبْني عَزَمْتُ الصَّبْرَ عَنْها لأنَّني
جَليدٌ فَمَنْ بِالصَّبْرِ لابْنِ ثَمَانِ
ضعيفِ الْقُوَى لا يَعْرِفُ الْأجْرَ حِسْبَةً
ولا يأْتَسي بِالنَّاس في الْحَدَثانِ
ألا مَنْ أُمنِّيهِ المُنَى فَأعِدُّهُ
لِعَثْرةِ أيامي وَصَرْفِ زَماني
أَلا مِنْ إِذا ما جئْتُ أَكْرَمَ مَجْلِسي
وَإِنْ غِبْتُ عنْهُ حاطَني وَرَعاني
فَلَمْ أرَ كالْأَقْدارِ كَيْفَ يصبنَني
ولا مِثلَ هَذا الدَّهْرِ كَيْفَ رَماني
فإذا وازنا بين هذه القطعة وبين تلك وحدنا في الأخيرة صورة شعرية بديعة، تمثل الطفل
المفجع في أمه، والرجل المفجع في زوجه. وانظر كيف صور الطفل اليتيم بقوله:
رَأى كلَّ أُمٍّ وَابْنَها غَيْرَ أُمِّهِ
يَبيتانِ تَحْتَ اللَّيْلِ يَنْتَجَيانِ
وَباتَ وَحيدًا في الْفِراشِ تحُثُّهُ
بَلابِلُ قلْبٍ دَائِمِ الْخَفَقَانِ
وانظر كيف علل جزع الطفل بضعف قواه، وجهله بالأجر والتأسي، وتأمل كيف فهم قدر
الحليلة، وكيف تغلغل في وصف ما للحلائل من الوفق، وما للرجل من الأنس بزوجه حين يطارحها
الأحاديث بالليل، وكيف اعتمد فأعدها لعثرة أيامه وصرف زمانه، وكم في الأيام من عثرات،
وكم في الدهر من صروف!
وأي كلام أبلغ في وصف الحليلة الرفيقة الأمينة من قوله في تلك الفقيدة
الغالية:
أَلا مِنْ إِذا ما جئْتُ أَكْرَمَ مَجْلِسي
وَإِنْ غِبْتُ عنْهُ حاطَني وَرَعاني
وأحب لو أعاد القارئ النظر في هذين البيتين:
وإِنَّ مَكانًا في الثَّرَى خُطَّ لحْدُهُ
لِمَنْ كانَ في قلْبي بكُلِّ مَكَانِ
أحقُّ مَكانٍ بِالزِّيارَةِ والْهَوَى
فَهلْ أنْتُما إِنْ عُجْتُ مُنْتَظِرانِ
فإنهما غابة في تمثيل الحنو على القبر المأهول برفات الحبيب، وسفى الله كل بقعة من
هذا القبيل!
٣
أراد الطغرائي أن يستعطف أحبابه، وأن يذكرهم بأن في صروف الدهر ما يغني عن القطيعة،
وذلك قوله:
وَيَا رُفْقَةً مَرَتْ بِجرْعَاء مالِكٍ
تَؤُمُّ الحِمَى أنضاؤُها والْمطَاليا
نَشدْتكُمُو باللهِ إلّا نشدتُمُو
بهِ شُعْبةً أضْللْتُها مِنْ فُؤادِيا
وقُلْتُمْ لِحيٍّ نازلِين بِقُرْبِهِ
أَقامُوا بهِ واسْتَبْدلوا بجواريا
رُويْدَكُمُو لا تَسْبِقوا بِقطِيعتي
صُروفَ اللّيالي إنَ في الدّهْرِ كافيا
وأصل هذا المعنى لإياس بن القائف إذ يقول:
فأَكْرمْ أخاكَ الدَّهْرَ ما عِشْتُما مَعًا
كَفَى بِالْمَمَاتِ فُرْقةً وَتنَائيا
إذا زُرْتْ أرْضًا بَعْد طُول اجْتِنابها
فَقدْتُ صَديقي والْبِلادُ كما هيا
وللنظر كيف تناول سعيد بن حميد هذا المعنى حين قال:
أقْلِلْ عِتَابَكَ فالْبَقَاءُ قَلِيلُ
والدَّهْرُ بَعْدِلُ تارَةٌ وبَمِيلُ
لمْ أبْكِ مِنْ زَمَنٍ ذَمَمْتُ صُروفَهُ
إلَّا بَكيْتُ عَلَيْهِ حين يَزولُ
وِلكُلِّ نائِبةٍ ألمَّتْ مُدَّةٌ
ولِكُلِّ حالٍ أقْبلْت تحْويلُ
والْمُنْتَمون إلّى الْإِخاءِ جَماعَةٌ
إنْ حُصِّلوا أَفْنْاهُمُ التَّحْصيلُ
وَلَعَلَّ أحْداثَ المْنِيَّة والرَّدى
يَوْمًا سَتصْدعُ بَيْنَنا وَتَحولُ
فَلَئِنْ سَبَقْتُ لَتَبْكينَّ بِحَسْرةٍ
وَليَكْثُرَنَّ عَلَيَّ مِنْكَ عَويلُ
وَلَتَفْجَعَنَّ بِمُخْلِصٍ لَكَ وامِقٍ
حَبْلُ الْوَفاءِ بِحَبْلِه موْصولُ
وَلَئِنْ سَبَقْتَ ولا سَبَقْتَ لَيَمْضيَنْ
منْ لا يُشاكِلُهُ لَدَيَّ خليلُ
وَلَيَذْهَبَنَّ بهاءُ كُلِّ مُروءَةٍ
وَلَيُفْقَدَنَّ جَمالُها المأْهولُ
وأرَاكَ تَكْلَفُ بِالْعِتَابِ وَودُّنَا
صاف عَليْهِ مِن الْوفاءِ دَليلُ
وُدُّ بَدا لِذوي الْإِخِاءِ جَمالُهُ
وَبَدَتْ عَليْهِ بَهْجَةٌ وَقَبولُ
وَلَعَلَّ أيَّامَ الْحَياةِ قَصيرَةٌ
فَعَلامَ يَكْثُرُ عَتْبُنا وَيَطولُ
وهذه غاية في تحليل المعنى وتعليله: فإنا نراه ابتدأ بشكوى الزمان، ونصح صديقه
بانتهاب الفرص السوانح، ثم أخذ يقنع صديقه بأن الحر في الدنيا قليل، وبأن من الحزم ألا
ينجنى المرء على صديق لا ذنب له، فقد تصدع بينهما أحداث المنية، أو عاديات
الليالي.
وقد بلغ غاية الرفق حين شرع يذكر لصديقه أنه إن سبقه إلى الموت فسيكثر عويله عليه،
وستعظم فجيعته فيه، وهذا اعتراف منه لصديقه بالوفاء، وهذا الاعتراف نفسه نوع من التألف
والاستعطاف. وانظر كيف دق ولطف في قوله:
وَلَئِنْ سَبَقْتَ — ولا سَبَقْتَ — لَيَمْضيَنْ
منْ لا يُشاكِلُهُ لَدَيَّ خليلُ
ولعل الجملة الاعتراضية لم تقع موقعًا أدق من هذا ولا أظرف. وهذه القصيدة من الصور
الشعرية البديعة، وهي بلا شك أوفى من أبيات ابن القائف، وأبرع من أبيات الطغرائي، وهي
فوق ذلك نص فيما قصد الشاعر إليه: من رد صديقه إلى شرعة الإلفة، وصرفه عن موارد
الصدود.
٤
أراد العباس بن مرداس السلمي أن ينصف أعداءه، وهو يفخر بقومه ويذكر صبرهم على الجلاد،
وصدقهم في اللقاء، فقال:
ولَمْ أرَ مِثْلَ الحَيِّ حَيِّا مُصَبَّحًا
ولا مِثْلَنا يوْم الْتَقَيْنَا فَوَارِسَا
أكرَّ وأحْمَى للحَقيقَةِ مِنهُمُو
وَأضرَبَ مِنَّا بِالسُّيوفِ الْقوانِسَا
١
إذَا مَا شَدَدْنَا شَدَّةً نَصَبُوا لنَا
صُدُورَ المَذَاكِي والرِّماحَ المَدَاعِسَا
٢
إذَا الخَيْلُ جالَتْ عَنْ صَرِيعٍ نُكُرُّهَا
عَلَيْهِمْ فَمَا يَرْجِعْنَ إلا عَوَابِسَا
ولهذه الأبيات قيمة أي قيمة: ولكن أتراها تبلغ في تقرير المعنى، وتمكينه، في النفس،
ما يبلغه قول عبد الشارق بن عبد العزى الجهني:
أَلَا حُيِّيتِ عَنَّا يَا رُدَيْنَا
نُحَيِّيها وإنْ كَرُمَتْ عَلَيْنَا
رُدَيْنَةُ لَوْ رَأيْتِ غَدَاةَ جِئْنا
عَلَى أضَمَاتِنَا وَقَدِ احْتَوَيْنَا
٣
فأرْسَلْنَا أبا عَمْروٍ رَبِيئا
فَقالَ ألا انْعَمُوا بالقَوْمِ عَيْنَا
وَدَسُّوا فَارِسًا مِنْهُمْ عِشَاءً
فَلَمْ نَغْدِرْ بفَارِسِهِمْ لَدَيْنَا
فَجَاءُو عَارِضَا بَرِدًا وجِئْنَا
كَمِثْلِ السَّيلِ نَرْكَبُ وَازعِينَا
تنَادَوا يا لَبُهْثَةَ إذْ رَأوْنَا
فَقُلْنا أحْسِني ضربًا جُهَيْنَا
سَمْعْنَا دَعْوَةً عَنْ ظَهْرَ غَيْبٍ
فَجُلْنَا جَوْلَةً ثُمَ ارْعَوَيْنَا
فلمَّا أنْ تَواقَفْنَا قَليلًا
أنَخْنَا للكَلاكِلِ فارْتَمَيْنَا
٤
فلمَّا لَمْ نَدَعْ قَوْسًا وَسَهْمًا
مَشَيْنَا نَحْوَهُمْ وَمَشوْا إليْنَا
تَلأَلؤَ مُزْنَةٍ بَرَقَتْ لأَخْرَى
إذَا جَحَلُوا بأسْيَافٍ رَدَيْنَا
٥
شَدَدْنا شَدَّةً أُخْرَى فَجَرُّوا
بأرْجُلِ مِثْلِهِمْ وَرَمَوْا جُويْنَا
٦
وكانَ أخي جُوَيْنٌ ذا حِفَاظٍ
وكانَ القَتْلُ للفِتْيَانِ زَيْنَا
فآبوا بالرِّماحِ مُكَسَّرَاتٍ
وأُبْنَا بالسُّيوفِ قد انْحَنْيْنَا
وباتوا بالصَّعِيدِ لهُمْ أُحَاحٌ
وَلوْ خَفَّتْ لَنَا لكَلْمَى سَرَيْنَا
فهذه صورة شعرية مثل الشاعر بها الموقعة أحسن تمثيل. وإنك لتراه ينتقل من وصف إلى
وصف
في سهولة ورفق، ونراه في الوقت نفسه صادقًا فيما يقول، إذا لم يرد في قصيدته ما يحمل
القارئ على تكذيبه، أو رميه بالغلو والإسراف، وانظر كيف اكتفى في رثاء أخيه حين صرع
بهذا البيت السهل المقبول:
وكانَ أخي جُوَيْنٌ ذا حِفَاظٍ
وكانَ القَتْلُ للفِتْيَانِ زَيْنَا
وأي فتى لا يتمنى أن يرمي بنفسه في سعير تلك الحرب التي يقول فيها هذا الفتى النبيل،
وهو فيما يقول غير ظنين:
تنَادَوا يا لَبُهْثَةَ إذْ رَأوْنَا
فَقُلْنا: أحْسِني صَبْرًا جُهَيْنَا
سَمْعْنَا دَعْوَةً عَنْ ظَهْرَ غَيْبٍ
فَجُلْنَا جَوْلَةً ثُمَ ارْعَوَيْنَا
فلمَّا أنْ تَواقَفْنَا قَليلًا
أنَخْنَا للكَلاكِلِ فارْتَمَيْنَا
تَلأَلؤَ مُزْنَةٍ بَرَقَتْ لأَخْرَى
إذَا جَحَلُوا بأسْيَافٍ رَدَيْنَا
والشاعر الواحد قد يكلف بترديد معنى من المعاني، فلا يزال يبدأ ويعيد حتى يضع له صورة
شعرية يصل بها إلى ما يريد، كالعباس بن الأحنف في ولوعه بكتمان الوجد، وجحود الحب، فقد
افتن في هذا المعنى ووضع له صورًا عديدة، فتارة يعتذر عن هجره فيقول:
الله يَعْلمُ ما أرَدْتُ بِهجْرِكُمْ
إلَّا مُصَانَعَةَ الْعَدُوِّ الكاشِحِ
وَعَلِمْتُ أَنَّ تَباعُدي وَتسَتُّري
أَدْنَى لِوَصْلِكِ مِنْ دُنُوٍّ فاضِحِ
وأحلى من هذا قوله في تعيين نوع الصدود:
سَأهْجُرُ إِلْفي وَهِجْرانُها
إذا ما الْتَقَيْنا صُدودُ الخُدودْ
كِلانا مُحِبٍّ وَلكِنَّنا
نُدافِعُ عَنْ حُبِّنا بِالصُّدودْ
وتارة يعلل الكتمان فيقول:
سَأَسْتٌرُ والسَّتْرُ مِنْ شِيمَتِي
هَوَى مَنْ أُحِبُّ بِمَنْ لا أُحِبْ
ولا بد مِنْ كَذِب في الهوى
إذا كان دَفْعُ الأَذَى بالكَذِبْ
وحينًا يصف اضطراب الناس في الحديث عن وجده فيقول:
قدْ سحَبَ النَّاسُ أَذْيالَ الظُّنون بنا
وفَرَّق النَّاسُ فينا قوْلَهُمْ فِرَقا
فجاهِلٌ قَدْ رَمَى بِالظَّن غَيْركُمو
وَصادقٌ ليْسَ يدْري أَنَّهُ صَدَقا
وأظنه لم يبلغ من البيان ما أراد إلا حين قال:
كَذبْتُ عَلَى نَفْسي فحَدّثْتُ أَنْني
سَلَوْتُ لِكيْما يَنْكِرُوا حينَ أصْدُقُ
وَما مِنْ قِلىً مِنِّي وَلا عَنْ مَلالَةٍ
وَلَكِنّني أُبْقي عَلَيْكِ وَأُشْفِقُ
عُطَفْتُ عَلَى أسْرَارِكُمْ فكَسَوْتُها
قَمِيصًا مِنَ الكِتمَانِ لا يَتَخَرّقُ
وللقارئ أن يحلل هذا المعنى، فقد مهدت له السبيل
٧.