جولة في أثينا
إن هذه الجزر التي تسير السفن بينها، ويرتسم الفناء على جبينها الماحل، هذه الجزر رفعت بالأمس الأنوار الصادقة، في صفاء الجو وفي مهبِّ العواصف؛ لاستمالة سفن الحق والحرية والجمال، فكل جزيرة كانت وحدة قائمة بذاتها، مكوَّنة من دولة شبه مستقلة، لها أفكار ومعتقدات خاصة، ونظرات في الدين والأخلاق والفلسفة، حتى نما من اختلاط أفكار أهل الجزر ما انتفعت به العقلية الإغريقية من الوجهة العملية، وفي هذا المحيط الممتزجة أمواجه بصنوف المعرفة، ومذاهب الحكمة والفلسفة والتشريع، طغت المدنية الإغريقية حتى عَمَّت العالم.
وانطلقنا من الباخرة نتجول في شوارع بيريه، ومررنا ببعض المقاهي ودور شركات الملاحة، ويقلُّنا ترام المترو في دقائق معدودة نحو «إلهة السلام وحامية العذارى»، ولكن ليس في أثينا ما يجذب الناس إليها أكثر من آثارها التي تخلع عليها روعة وجلالًا، وتجعل منها مهبط عشرات العلماء والمشتغلين بالحفريات الحديثة وآلاف السائحين، يأتون شتاءً أو صيفًا من أقاصي المعمورة؛ ليرتووا من الينبوع الذي تفجَّرت فيه العبقرية الإنسانية.
سألت نفسي وأنا أستقبل هذه العاصمة القديمة لأول مرة: أغربية هي أم شرقية؟ لقد حاول الأثينيون يوم أحرقوا الأسطول الفارسي أن يقسموا العالم إلى شرقٍ وغرب، وأن يقطعوا أوصال بلادهم من الشرق لتستغرب، ولكن نظرة واحدة إلى أثينا تدفعنا إلى الاعتقاد الجازم بأنها ليست غربية ولا شرقية، وأن أهلها يقتبسون من كل بلد، ويحاكون كل حضارة.
من المعتقدات اليونانية القديمة أن أثينا اكتسبت هذا الاسم؛ لأن نبتون وأثينا تناظرا في الحصول على شرف سيادة العاصمة، وقام الملك أركتيوس حكمًا بينهما، فمن يقدم أعزَّ الهِبَات وأنفسَ الهدايا ظفر بالأولوية، فتقدَّم نبتون وضرب الأرض بعكازه، فشقت وخرج منها جوادٌ يقفز، وفسر ذلك بأنه «رمز الحرب» وتقدَّمت أثينا، وكانت قد خرجت من رأس زيوس أب الآلهة مدججة بسلاح الحكمة، ومسَّت الأرض بعصاها فنبتت للحال شجرة زيتون، وغصن الزيتون كان دائمًا رمزًا للسلام، وكانت هدية أثينا بالطبع هي المقبولة.
من ذلك الحين أطلق على أثينا اسم «إلهة السلام وحامية العذارى»، والتصق الفوز والنصر باسمها، وظلت عذراء كما صانت عذرة الإثينيات، وقد أشير إلى ذلك برمز رُفِع فوق الأكروبول على هيئة غصن زيتون، بل إن أعظم نصب أقيم في الأكروبول كان لأثينا، وقد صوَّرها المثَّالون بشكلين؛ الأول: وهي جالسة على عرش ويداها إلى ركبتيها أو فوق صدرها، والثاني: وقد مدت ساقها كأنها تخطو إلى الأمام.
وأثينا عاصمة اليونان ظلت طوال ألف عام مركزَ العالم الغربي دون منازع، وهي اليوم مدينة حديثة يسكنها نحو ٨٠٠٠٠٠ من السكان، وتقع في وادٍ يبعد عن مينائها الصغير بيريه بأميالٍ قليلة. وفي داخل أثينا يطل جبلان؛ أحدهما: جبل ليكابيتوس، وتقع على قمَّته كنيسة بيضاء، ويبلغ ارتفاعه ٩٠٠ قدم، وجبل الأكروبول (ارتفاعه ٥٩٠ قدمًا) وتعلوه هضبة صخرية يتوسطها معبد بارثينون، وعندما تغمر الأضواء الكشافة هذا المعبد ليلًا، ويتعذر على الناظر رؤية الجبل نفسه، يبدو المعبد وكأنه أنموذج مضيء من المباني، معلق في الهواء، لم تمسه يد الدهر بسوء.
وحول مدينة أثينا ثلاثة جبال صخورها رمادية اللون، وعليها بعض الأشجار، وهي جبل هايمثوس (٣٤٠٠ قدم) ويقع شرق المدينة، وجبل بنتلي (٣٧٠٠ قدم) الذي كان معدًّا لاستخراج الرخام الأبيض الذي كان يستعمل في بناء جميع مباني أثينا في العصور القديمة، يقع في الشمال الشرقي، وجبل بارنس (٤٧٠٠ قدم) ويقع في الشمال الغربي.
وعلى قمة الأكروبول بجوار البارثينون تقع عدة آثار، أهمها: البروبيلاي وهي بوابة قديمة، تؤدي إلى القلعة ذات الأعمدة الفخمة.
وعند قاعدة الأكروبول يقع مسرح ديونيسوس وقوس هدريان ومعبد جوبيتر، وبقايا مباني مدينة عتيقة تنتمي إلى المدينة القديمة التي شيدت حول قاعدة القلعة.
وبالإضافة إلى الآثار القديمة تشتهر أثينا بكثيرٍ من الكنائس البيزنطية التي تزيِّن جدرانها الصور الملونة وروائع القيشاني، وأهمها دير دافني والكابنيكاريا وكنيسة القديس تيودور.
وهناك متاحف عديدة ممتازة في أثينا، مثل: متحف الآثار القديمة الوطني، ومتحف الأكروبول، والمتحف البيزنطي، ومجموعة بيناكي للملابس والفنون.
وعلى مرمى حجر من المدينة، يستطيع السائح أن يستمتع بمصايف عديدة، منها: الجزر والشواطئ الرملية الممتدة على طول الساحل في خليج سارونيك وسونيون التي تشتهر بمعبد بوسيدون ماراثون، وبها بحيرة وسد، وكيفيسيا وجبل بارنس.