بلاد عريقة في الديمقراطية
ينص الدستور اليوناني على أن اليونان دولة ديمقراطية يرأسها ملك، أو بعبارة أخرى حكومة ملكية دستورية.
والملك الحالي «بول الأول» تولى الحكم بعد وفاة أخيه الملك جورج الثاني في سنة ١٩٤٧م، وهو من أصل دانمركي، كما أن زوجته الملكة فردريكا تنتمي إلى أسرة ساكس كوبورج، وعقب الحرب مباشرة لقيت الحكومة الملكية بعض المتاعب، ولكنها أصبحت اليوم حكومة شعبية تتمتع بمحبة جميع أفراد الشعب.
والملك بول هو الابن الثالث للملك كونستانتين والملكة صوفيا، وقد ولد بأثينا في عام ١٩٠١م، وهو حفيد الملك جورج الأول الذي أسَّس الأسرة المالكة اليونانية الثانية عام ١٨٦٣م.
ولما أتم «الأمير» بول دراسته الثانوية التحق بمدرسة البحرية اليونانية، وتخرج فيها وهو في الحادية والعشرين من عمره، وقد خاض غمار القتال في حرب آسيا الصغرى سنة ١٩٢٢م، والحرب اليونانية الإيطالية سنة ١٩٤٠م.
وكان قد اضطر في عام ١٩٢٢م إلى مغادرة اليونان قبل أن يغادرها أخوه الملك جورج الثاني بمدةٍ قصيرة؛ وذلك على أثر الأحداث السياسية التي وقعت في البلاد خلال تلك السنة.
وقد أقام في الخارج بعيدًا عن وطنه حتى سنة ١٩٣٥م، وفي خلال هذه الأعوام التي قضاها في المنفى زار بريطانيا والولايات المتحدة، وقضى في كل منهما مدة من الزمن، وفي خلال إقامته في بريطانيا التحق بالبحرية البريطانية للدرس والتمرين، ثم اشتغل عاملًا تحت اسم مستعار لمدة سنة في مصانع «آرمسترونج» للطائرات بكوفنتري ببريطانيا، وانتقل بعد ذلك إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث قضى سنتين، ثم دفعه الحنين للوطن إلى زيارة اليونان مُتخفِّيًا سنة ١٩٣٠م.
وأخيرًا عاد إلى بلاده نهائيًّا مع أخيه الملك جورج الثاني وبقية أعضاء الأسرة، وذلك بعد إحياء الملكية في عام ١٩٣٥م، والتحق عقب عودته إليها بالبحرية اليونانية، كما قضى مدة في سلاح الطيران والقوات البرية.
وفي ٩ يناير من سنة ١٩٣٨م عقد قرانه على الأميرة فردريكا، وكانت تلقب بأميرة هانوفر، وسرعان ما ظفرت الأميرة بمحبة الشعب اليوناني وتقديره لها، وقد أنجبت للملك أولادًا كانوا وما زالوا موضع حب الشعب، وهي تشاركه دائمًا حياة الوطن وأمانيه القومية.
ومما يذكر للأمير بول أنه خاض غمار المعارك دفاعًا عن بلاده ضد الألمان، عندما سارعوا إلى مساعدة حلفائهم الإيطاليين في غزوهم اليونان إبان الحرب العالمية الثانية، وذلك بعد أن صد اليونان الجيش الإيطالي الفاشيستي وأرغموه على التراجع.
ويذكر الشعب اليوناني بالفخر أن الأمير بول استبسل في الذود عن وطنه، وأنه لم يغادر البلاد مع أخيه الملك جورج وبقية أفراد الأسرة إلى المنفى في مصر، إلا قبل استيلاء الألمان على اليونان كلها بأيامٍ قليلة.
وفي المهجر واصل الأمير بول نشاطه الحربي والسياسي لتحرير بلاده، فكان يتفقَّد القوات اليونانية في الشرق الأوسط، كما اشترك في العمليات الحربية بجبهة العلمين، وساهم في الأعمال التي قامت بها البحرية اليونانية، ومنها الهجوم الجريء الذي شنته المدمرة «مياوليس» في المنطقة الواقعة بين الإسكندرية وتارانتو، وكثيرًا ما وجه بالراديو أحاديث وطنية رائعة إلى شعب اليونان المحتلَّة وإلى القوات المسلحة؛ مما دفع الكثير من الضباط اليونانيين إلى الالتجاء إلى مصر للاشتراك في القتال ضد المحور.
وانتهت الحرب وعاد الأمير إلى وطنه.
وبعد عودته إلى اليونان سنة ١٩٤٦م، اهتم الأمير بول بتعمير البلاد ورفع مستوى حياة الشعب اليوناني.
ولما تولى العرش بعد وفاة أخيه الملك جورج، أنشأ في ٢٥ مايو سنة ١٩٤٧م مؤسسة الإصلاح الأهلية التي يتناول نشاطها جميع النواحي الاجتماعية، وفي ذلك الوقت أخذت اليونان تبذل جهودًا كبيرة لمكافحة الثورة الشيوعية، فساهم الملك بول بوصفه قائدًا أعلى للجيش اليوناني، مساهمة فعالة في كفاح الشعب ضد تلك الثورة المخرِّبة.
وفي خلال السنوات الثلاث التي استمرَّت فيها محاربة الشيوعيين زار الملك ميادين القتال، ولما انتهت الحرب بسحقهم مضى الملك بول في نشاطه الإصلاحي العظيم.
وإلى جانب ما يتمتع به الملك بول من ميزاتٍ جليلة، كجندي باسل ورئيس عظيم ومصلح كبير، فإنه ذو ثقافة غزيرة في الفلسفة والآداب العالمية، ونذكر على سبيل المثال أنه درس فلسفة أفلاطون دراسة عميقة.
أما الملكة فردريكا فقد ولدت في ١٨ أبريل سنة ١٩١٧م، لأبويها دوق ودوقة برونسويك لونبورج من نبلاء بريطانيا، وتلقَّت علومها في المدارس البريطانية والإيطالية الراقية، وهي تبذل معظم جهودها ونشاطها في الأعمال الخيرية، ولا سيَّما ما يتعلق منها بالأطفال.
وفي أثناء الهجوم الإيطالي على اليونان، قامت ملكة اليونان وأميرتها في ذلك الوقت بتنظيم المستشفيات والمصحات لعلاج الجرحى من رجال القوات اليونانية المحاربة، وأنشأت مؤسسة إعداد الملابس والأغذية للجنود.
وفي أثناء إقامتها الاضطرارية في المهجر، بعد استيلاء الجيش الألماني على اليونان، أنشأت منظمة الإغاثة والترفيه لخدمة جنود الحلفاء، ولما عادت إلى بلادها في أكتوبر سنة ١٩٤٦م، استأنفت نشاطها في ميدان الخير على مدى واسع، ومما يذكر لها أنها كانت ترافق الملك في زيارته للمناطق الخطرة إبان حرب مكافحة العصابات الشيوعية؛ لتواسي المنكوبين وتشجِّع المكافحين، واتفق أن مرض الملك ذات مرة، فنابت عنه في زيارة إحدى هذه المناطق، وحمل رسالته إلى جنود الجيش.
وفي أثناء هذه الحرب القاسية وبعدها، قامت الملكة بتنفيذ مشروعات واسعة النطاق؛ لإيواء اللاجئين من الأقاليم المنكوبة ورعاية الأطفال اليتامى والمشردين؛ مما ضاعف محبة الشعب اليوناني لها، ولقد بلغ من رعايتها للأطفال اليونانيين أن الهيئة العالمية لرعاية الطفولة انتخبتها عام ١٩٤٩م «الأم الأولى» لذلك العام.
أما ولي العهد الأمير كونستانتين فقد ولد في اليوم الثاني من شهر يونيو سنة ١٩٤٠م، والتحق سنة ١٩٤٨م بمدرسة أنا فرينا الأهلية اليونانية التي يقوم نظام التعليم والتربية فيها على أساسٍ من فلسفة أفلاطون وروح التقاليد اليونانية المسيحية، وكانت تضم في ذلك الوقت ١٧٠ تلميذًا من مختلف الطبقات الاجتماعية، ولم تخصَّه هذه المدرسة دون زملائه من الطلاب بأية ميزة، وإنما كان يتلقَّى علومه ويعامل على قدم المساواة معهم جميعًا.
وفي سنة ١٩٥٦م بدأ ولي العهد تدريبه العسكري في مختلف أقسام الجيش اليوناني، وفي صيف تلك السنة أقسم يمين الولاء التقليدي للوطن في حفلةٍ رسمية خاصة، ثم التحق بمدارس الجيش والطيران والبحرية على التوالي.
وفي ٢ يونيو سنة ١٩٥٨م بلغ سن الرشد، وأدَّى اليمين بوصفه ضابطًا في القوات المسلحة اليونانية، وقد عُنِي الملك والملكة بتلقينه التعاليم الدينية التي يحرصان عليها أشد الحرص، وهو إلى جانب ذلك يُبدي تفوقًا ملحوظًا في دراسة الآداب والفنون، والإلمام بالتاريخ اليوناني، وفي الألعاب الرياضية، ويتمتع كوالديه بمحبة الشعب.
•••
ودور الملك في الحكم ببلاد اليونان دور رمزي كما هو الحال في إنجلترا، فهو الذي يعين الزعيم السياسي صاحب الأغلبية في البرلمان كي يرأس الوزارة، وهو الذي يوقِّع القوانين كي تصبح نافذة المفعول، ولكن كل هذه السلطات ذات صبغة اسمية فقط.
ويحكم اليونان مجلس تشريعي واحد اسمه «الفولي»، وتتألف الوزارة من حزب الأغلبية، أو من مجموعة مؤتلفة من الأحزاب إذا لم يحصل أحد الأحزاب على الأغلبية في الفولي. ويرأس الوزارة الحالية المسيو كارامانليس.
وقد عدل الدستور وصدر الدستور الجديد في أول يناير سنة ١٩٥٢م، وأعطى حق الانتخاب للذكور والإناث الذين يزيد عمرهم على الحادية والعشرين.
وقد اشترك ٧٥ في المائة ممَّن لهم حقُّ الانتخاب في انتخابات سنة ١٩٥٢م.
وقد حصل حزب الأغلبية في تلك الانتخابات على ٢٣٩ مقعدًا من ٣٠٠ مقعدًا في البرلمان، وكان هذا الحزب قد أنشأه في العام السابق المارشال باباجوس بطل اليونان في الحرب، وكان صاحب الفضل في موقف اليونان المجيد خلال الحرب العالمية الثانية، والقضاء على حرب العصابات، ثم استقال من الجيش؛ لكي يكون حزبًا ائتلافيًّا وطنيًّا، ويقضي على الموقف المائع الذي ساد بلاد اليونان بعد انتهاء الحرب الأخيرة، وعلى الرغم من أن للحزب أعضاء من ذوي الآراء التقدمية، إلا أنه يعتبر حزبًا محافظًا أو حزبًا يمينيًّا.
وقد أجريت الانتخابات العامة التالية في ١٩ فبراير من عام ١٩٥٦م، وكان على رأس الحكومة عندئذٍ المسيو كونستنتين كرامنليس، الذي ألف حكومته الدستورية بعد فوز حزبه في الانتخابات، وكان ذلك في ٢٨ فبراير من عام ١٩٥٦م.
ثم أجريت انتخابات عامة أخرى في ١١ مايو من عام ١٩٥٨م؛ ولذلك فإن الحكومة اليونانية الحالية هي ثالث حكومة دستورية تتولى الحكم، وقد أدت اليمين الدستورية في ١٧ مايو من عام ١٩٥٨م.
ورئيس الوزراء الحالي المسيو كرامنليس، وهو الذي زار مصر في السنوات الأخيرة، يعتبر من أكبر السياسيين اليونانيين، كما يعتبر بحق خليفة المارشال باباجوس.
فقد حدث على أثر وفاة المارشال باباجوس، أن كلفه الملك بول بتأليف الحكومة، وتقبَّل الشعب اليوناني هذا الاختيار بسرورٍ عظيم وحماس بالغ.
وقد واجه رئيس الوزراء الجديد عددًا كبيرًا من المشاكل الخطيرة، ففي ميدان السياسة الخارجية واجه مشكلة قبرص، أما في الداخل فقد واجه الحاجة الماسَّة للإسراع في إعادة بناء المساحات التي تأثرت من جراء الزلازل التي وقعت في اليونان، علاوة على التطوير الاقتصادي للبلاد.
وهذا الشاب الطموح الذي اكتسب خبرة أكيدة واتصف بقوة عزيمة، لم يتزحزح أمام الصعوبات التي قابلها، ورغبة منه في تهدئة الحالة السياسية للبلاد، والعمل على حل مشاكلها، كوَّن في خلال أربعة أشهر الحزبَ الراديكالي الوطني المتحد، الذي انضم إليه في الحال ١٩٠ عضوًا من أعضاء البرلمان.
وفي انتخابات ١٩ فبراير سنة ١٩٥٦م كوَّنت جميع أحزاب المعارضة بما فيها الحزب الشيوعي جبهةً ضد الحزب الراديكالي الوطني، وتحت تأثير الحزب الشيوعي المنظم اتخذت هذه المعارضة ميولًا تُعارض الاتجاه الغربي، وكانت هذه السياسة في ذلك الوقت سياسةً محبوبةً بسبب مشكلة قبرص.
وأثناء الانتخابات لم يتردَّد مسيو كرامنليس في التقدُّم ببرنامج مُوالٍ لسياسة الغرب، وواجه الرأي العام بشجاعة.
ورغم دقة هذا الموقف فقد فاز في الانتخابات، وحاز ١٦٥ صوتًا ضد ١٣٥ صوتًا حصلت عليها جميع أحزاب المعارضة المتحدة.
وفي ١٨ فبراير ١٩٥٦م ألف مسيو كرامنليس حكومته الجديدة الثانية، التي استمرَّت تحكم حتى آخر مارس من عام ١٩٥٨م، وخلال ذلك أخذ مسيو كرامنليس ووزراؤه على عاتقهم حلَّ عدة مسائل شائكة، واجهوها بثقةٍ وإيمان تام.
وقد استمر في كفاحه من أجل الحق الشرعي لجزيرة قبرص؛ وهو حق تقرير المصير.
وعلاوة على ذلك لم يتوان مسيو كرامنليس وحكومته عن تنمية الاقتصاد اليوناني، وقد نجحوا في رفع الدخل الزراعي بنسبة ٣٥٪ تقريبًا، وفتح أسواق للإنتاج الزراعي في الخارج.
وأثناء هذه المدة حقق الرئيس كرامنليس استقرار الدراخمة، التي أصبحت من العملات القوية في أوروبا بعد الانهيار الذي أصابها في أعقاب الحرب، وأنهى عدة مشروعات هامة للأشغال العمومية، مكملًا بذلك العمل الذي عُهد به إليه، عندما كان وزيرًا للأشغال العمومية.
وتوقف العمل الإنشائي الذي كان يقوم به كرامنليس وحكومته في أول مارس ١٩٥٨م، بعد تخلي ١٥ نائبًا من حزبه كان بينهم وزيران، إذ سحبوا ثقتهم من الحكومة بدعوة أنهم لا يقرون قانون الانتخابات الذي وضعته الحكومة. وعلى الرغم من أنه كان صاحب أغلبية في البرلمان؛ إذ يناصره ١٥٢ عضوًا، وكان في استطاعته أن يشكل في الحال وزارة جديدة، إلا أن كرامنليس قدم استقالته للملك، الذي أشار بحل البرلمان وإجراء انتخابات عامة.
وقد فاز حزبه في الانتخابات بأكثرية ١٧٢ عضوًا، وقام كرامنليس بتشكيل وزارته الثالثة في ١٧ مايو سنة ١٩٥٨م، وفي نفس اليوم تعهد للشعب اليوناني بالمحافظة على الاستقرار الاقتصادي في اليونان، والعمل على زيادة الدخل الوطني بالاستجابة إلى احتياجات الشعب، والنضال لتحرير الشعب القبرصي، والمحافظة على الكتل الشعبية من الانحرافات الضارة.
وحياة كرامنليس بسيطة وهو متواضع في اتصالاته الشعبية، ويمكن أن يقال: إن شخصيته وسلوكه يعتبران مثلًا طيبًا للجميع. وعلاوة على ذلك فقد أظهر كياسة سياسية وحسن تصريف للأمور، وقدرة على حل الأزمات بسرعة وإحكام خلال توليه رئاسة الحكومة، وبهذه المواهب نجح في تثبيت مركزه كزعيم سياسي قوي.