اليونان الحديثة
إن بلاد اليونان المشمسة التي تعرضت لما لم تتعرَّض له أية أمة في أوروبا، لسنين طويلة من الحروب، والاحتلال الأجنبي، والحرب الداخلية المريرة، أصبحت اليوم تستمتع باستقرارٍ سياسي واقتصادي، ودرجة لا بأس بها من الرخاء.
ولكن مع ما أحرزته اليونان من تقدُّم في الصناعة والفنون، خلال السنوات الثلاثين المنصرمة، فإنها ما برحت عاجزة عن أن تكفل لمعيشة شعبها مستوى رفيعًا، ومنذ جيل مضى نزعت الدولة الملكيات الكبيرة من الأراضي، ووزعتها على أسر الفلاحين الفقراء، ولكن نصيب كل أسرة من الأراضي الموزعة لم يسد عوزها، فضلًا عن أنه آخذ في الانحسار والانكماش، مع تكاثر السكان وتزايد العمران على كر الأيام، ورغم اصطناع الأساليب الحديثة في الزراعة، والإكثار من إنشاء المصانع، وإنجاز العديد من مشروعات الإصلاح، فإن الإحصاءات الرسمية تُنبئنا بأن مليونين من اليونانيين، أو ما يناهز ربع سكان البلاد، ما يزالون يعيشون على مستوى ضعيف من الحياة.
فهذا العسر الذي ابتليت به اليونان مقترنًا بجدب أراضيها، قد جعل من اليوناني رجلًا واسع الحيلة، متفتق الذهن، جم المرونة، سهل التكيف، يعرف كيف «يعتصر الماء من الحجر» كما يقولون.
والجهود التي بذلتها اليونان في هذا العصر الحديث؛ لكي تسير مع ركب الحضارة الأوروبية، وتدرك ما فاتها من أسباب التقدم — كانت جهودًا شاقة حينًا ومضنية أحيانًا. ولم يكن في الوقت متسعٌ للتفريط ولا بقيةٌ للتكاسل، فالثورة الصناعية كانت قد بدأت تترعرع في الغرب، وأخذت أوضاع الحياة تتبدل هناك، وفي أوروبا الشرقية نبتت قوميات جديدة، وراحت تتدجج بالسلاح تأهُّبًا للدخول في مغامراتٍ إقليمية جديدة، ولم يقف اليونانيون مكتوفي الأيدي بل فعلوا في تذليلهم للعقبات المادية كل ما في طوقهم أن يفعلوه للنهوض بأمتهم إلى مستوى العصر الذي يعيشون فيه؛ فنقلوا عن إنجلترا وفرنسا العلوم السياسية والنظم البرلمانية وما إليها، واقتبسوا من فرنسا الأنظمة القضائية والإجراءات الإدارية، وأخذوا عن ألمانيا نظمها الجامعية وأساليبها العلمية.
وكانت اليونان متأثرة بالمدرسة الإيطالية في حقل الفنون والآداب، فاتجهت فيما بعد إلى المدرسة الفرنسية. أما طرق التفكير والأنظمة الاجتماعية فقد وردت ينابيعها العذبة في جميع بلدان أوروبا.
إن اليونان تجدد اليوم شبابها، وتمضي قدمًا في سعيها إلى حياة أكثر إشراقًا وأعلى مكانة.
وبلاد اليونان التي وضعت أسس الحضارة الغربية منذ أكثر من ألفي سنة، تعتبر اليوم أنموذجًا للتقدُّم الاقتصادي بعد الحرب، وهي أيضًا ميدان من الميادين المقاومة للشيوعية، والسلام والأمن مستتبَّان فيها في ظل حكومة مدنية تسيطر على الموقف من جبال مقدونيا حتى جزيرة كريت، ومن البحر الأيوني حتى بحر إيجة.
ومنذ بضع سنوات انتهى التضخم المالي، وبدأ عهد جديد من الاستقرار.
وتدل التقارير على أن قيمة المنتجات الزراعية والصناعية تفوق ما كانت عليه قبل الحرب، كما زاد احتياطي الدولارات والعملات الأجنبية، كما أن هناك توازنًا في أرقام المدفوعات الدولية واختفت السوق السوداء، بعد أن تبين أن نسبة الأسعار في السوق السوداء والسوق الحرة تكاد تكون واحدة، وفي وسع كل يوناني أن يستورد أي سلعة يريدها من أية جهة، وأن يدفع ثمن ما استورده بالدراخمة.
فالتجارة في بلاد اليونان اليوم تجارة حرة، وكل المعاملات التجارية تسير وفق نظام موحد وثابت، ولا تدفع الحكومة أية إعانات للصادرات، وليس هناك قيود على الواردات، كما أن احتياطي الذهب والدولار يزداد باستمرار؛ وبذلك أصبحت اليونان إحدى الدول القلائل في أوروبا، التي تتوازن معاملاتها المالية مع الولايات المتحدة.
وهبوط الأسعار الذي حدث عام ١٩٥٣م، قد ضاعف من دخول المُصدِّرين اليونانيين، و٦٠٪ من السكان يعتمدون على الزراعة، بينما ٩٠٪ من الصادرات تعتمد على الزراعة أيضًا.
وكان لهبوط الأسعار أكبر الأثر في جعل بلاد اليونان مركزًا سياحيًّا هامًّا في أوروبا؛ فإن تدفق الزائرين الأجانب يتزايد يومًا بعد يوم بنسبةٍ تزيد على أي بلدٍ آخر في أوروبا، كما ضاعف هبوط الأسعار من القوة الشرائية، وزاد من كمية التحويلات المالية التي يرسلها اليونانيون المقيمون في الخارج كل عام.
وقال أحد الخبراء في أثينا وقتئذٍ: «إن بلاد اليونان قد أصبحت جنة علماء الاقتصاد.» فإنه يندر أن يسيطر علماء الاقتصاد سيطرة كاملة على الاقتصاد الكامل لأمةٍ ما، كما سيطروا عليها في اليونان، زد على ذلك الموارد الكبيرة التي وضعت تحت يدهم في تلك البلاد.
ولقد قام الصندوق المالي الدولي بوضع تقرير في عام ١٩٥٠م، تضمن المشروع الأساسي لخطة التنمية الاقتصادية، وكان أهم ما طالب به وقف التضخم المالي، وضرورة فرض فترة للاستقرار، ثم تخفيض الأسعار عندما تصبح للعملة قيمةٌ يعتد بها، ولقد نفذ المشروع بنجاح.
ومن الطبيعي أن تعتمد القيمة الحقيقية للعملة على المقدرة على الإنتاج؛ ولذلك كان الجزء الأكبر من المشروع الاقتصادي مخصصًا لإعادة الإنشاء والتوسُّع في وسائل الإنتاج، وقد ظهر مدى النجاح الذي وصل إليه هذا المشروع في السنوات الثلاث الأولى من تنفيذ البرنامج، عندما بلغت قيمة الواردات ٤٠٠ مليون دولار سنويًّا، فما لبثت أن هبطت في عام ١٩٥٣م إلى النصف؛ وذلك لأن الاقتصاد اليوناني ركز اهتمامه على الزراعة التي جعلت من بلاد اليونان مركزًا لتصدير الأطعمة.
وقد ارتفعت قيمة الصادرات، ومعظمها يعتمد على الزراعة، كما ظهرت هناك صناعات جديدة، أهمها: صناعة التعدين، وما لبثت قيمة الصادرات أن تضاعفت، وتبلغ قيمتها اليوم نحو ١٥٠ مليونًا من الدولارات في العام، إن أرقام الواردات والصادرات، يضاف إليها الإيرادات غير المنظورة، مثل: إيراد السياحة والشحن التي ارتفعت إلى أربعة أضعاف، قد وازنت ميزانية الدولة، ولقد ساعد نجاح هذا البرنامج على الإقلال من اعتماد البلاد على المساعدات الأجنبية.
ولقد أثبت هذا أن بلاد اليونان استطاعت العودة إلى ميزانها التجاري العادي في وقتٍ سريع، وأنها اليوم تسير على أوضاعٍ اقتصادية سليمة، ولكن مع كل هذا لا تزال هناك بعض المشاكل التي قد يستغرق حلُّها عدة سنوات.
ومن أهم هذه المشاكل ازدياد عدد السكان، وتزايد عدد المتعطلين في المدن، أما مشكلة المشاكل فهي عدم وجود مجالٍ كافٍ للعمال في الريف، ويقول أحد كبار موظفي حكومة اليونان: إن عددًا كبيرًا من العمال في الريف، لا يعمل الواحد منهم سوى مائة يوم في السنة.
كذلك يلاحظ أن نسبة المواليد في بلاد اليونان مرتفعةٌ جدًّا بالمقارنة مع باقي دول أوروبا، ولا تستطيع الصناعات الصغيرة أن تستوعب هذا العدد المتكاثر من العمال الزراعيين؛ ولذلك لم يكن هناك من حلٍّ إلا الاعتماد على سياسة التصنيع، وهو ما فعلته اليونان.
ومشكلة تزايد عدد السكان في سوق العمل، قد تُحَلُّ أيضًا بواسطة الهجرة على نطاقٍ واسع، ولكن من الصعب الاعتماد على هذه السياسة اعتمادًا تامًّا؛ ذلك لأن مناطق الهجرة في الولايات المتحدة وجنوب أمريكا واستراليا لا تستطيع أن تستوعب إلا نصف العدد، الذي يزيد سنويًّا في اليونان طبقًا للنسب المقرر قبولها هناك.