اليونان وقبرص
كانت قبرص هي البلد الأوروبي الوحيد الذي رزح زمنًا تحت نير الحكم الأجنبي، وسكان هذه الجزيرة — ونسبة اليونانيين منهم ٨٠٪ — قد لقوا في جهادهم للتحرر ألوان العنت والاضطهاد، لا لذنبٍ جنوه إلا أنهم اجترءوا على المطالبة بحق تقرير مصيرهم السياسي، طيلة السنوات الثمانين الماضية.
ومنذ أن احتلت الجيوش البريطانية أرض الجزيرة عام ١٨٧٨م، والساسة البريطانيون يعترفون بحقوق قبرص، بل كانوا يؤازرونها.
غير أن القبرصيين لما راحوا يستنجزون الوعود قوبلوا بالرفض، فأفضَتْ هذه التصرفات إلى تلك الأحداث المفجعة، التي كانت تجري في هذه الجزيرة حتى وقتٍ قريب.
وقد ظلت الحكومة اليونانية سنوات عديدة تتحاشى أي تعقيد للنزاع الناشب بين البريطانيين وبين القبرصيين، غير أنها قامت فيما بين عامي١٩٥٠ و١٩٥٤م ببذل جهود قصد الوصول إلى تسوية ودية؛ وذلك بمفاتحة الحكومة البريطانية مباشرة في موضوع هذه المشكلة. فطلبت الحكومة اليونانية إلى الحكومة البريطانية أن تكاشفها بنياتها حيال مستقبل الجزيرة، وسرعان ما جاءها الرد، معجلًا في وروده باردًا في لهجته، بالرفض الباتِّ لإجراء أي حديث في شأن مستقبل قبرص، مؤكدًا أنه لا يوجد شيء اسمه مشكلة قبرصية!
إذ ذاك لم يسع الحكومة اليونانية إلا أن تُقرِّر رفع الأمر إلى الأمم المتحدة، غير أن الحكومة اليونانية قبل لجوئها إلى هذه المنظمة الدولية، وفي غضون اتصالاتها المباشرة مع الجهات المعنية بهذا الموضوع، كانت قد أعربت عن موافقتها على قبول أي حل من الحلول، يصون مصالح الفريقين المتنازعين.
كذلك قدمت الحكومة اليونانية ضمانات دولية لصون حقوق الأقلية التركية في الجزيرة، وللمحافظة على المصالح البريطانية والمصالح التركية العادلة، كما قبلت هذه الحكومة، وقبل معها القادة القبرصيون حلًّا مؤقتًا للمشكلة؛ ابتغاء العودة بالجزيرة إلى حالتها الطبيعية.
ولكن رغم هذا المسلك المتزن من جانب الحكومة اليونانية، فقد ظلت المشكلة زمنًا طويلًا تتفاقم وتزداد ابتعادًا عن سبيل الحل السوي؛ لأن السياسة التي كانت تنتهجها الحكومة البريطانية في قبرص إزاء المشكلة القبرصية؛ خلقت ارتباكات لم يكن لها وجود، بل زادت المسألة تعقيدًا فوق تعقيد.
ومن الأمثلة على ذلك: دستور رادكليف؛ فقد جاء هذا الدستور مشفوعًا بتصريحٍ من الحكومة البريطانية فحواه أنه إذا قيض لقبرص أن تمارس أصلًا حق تقرير المصير، فإن للأقلية التركية، وتبلغ نسبتها في الجزيرة ١٨٪ من سكانها، أن تصوِّت على حدة في الانتخابات، ويكون لها الحق في أن تختار التقسيم إذا شاءت ذلك.
غير أن الجمعية العمومية للأمم المتحدة خذلت دستور رادكليف، ووصمته بأنه دستور منافٍ للحرية والديمقراطية.
ولكن الحكومة البريطانية بدلًا من أن تعتبر بهذا الرفض، وتتخذ منه درسًا، تقدمت بمشروعٍ آخر كان أكثر مخالفة ومجافاة للديموقراطية؛ وهو مشروع «التقسيم» فهو رغم ما أدخله عليه تصريح ماكميلان في ١٥ أغسطس عام ١٩٥٨م، كان يدلُّ على روح استعمارية أصيلة.
ولكن رغم كل هذه العقبات والأحداث، ما لبث العقل أن سيطر على الموقف، فحل التفكير الهادئ السليم محل المطامع والأهواء، ودارَتْ من وراء الستار مفاوضات غير رسمية لوضع نهاية لذلك النزاع الدموي الطويل، وفي يوم ٦ فبراير عام ١٩٥٩م بدأت في زيورخ مباحثات بين كلٍّ من رئيس وزراء اليونان، اشترك فيها طائفة من الخبراء، ووزيرَيْ خارجية الدولتين.
وفي يوم ١٠ فبراير أعلن في زيورخ أنه قد تم الاتفاق بين أفانجلوس أفيروف وزير خارجية اليونان، وبين فطين زورلو وزير خارجية تركيا، على تذليل الصعاب التي كانت تعترض الوصول إلى تسوية سلمية لمشكلة قبرص.
وفي يوم ١١ فبراير ١٩٥٩م صدر بيان مشترك، جاء فيه أن مشكلة قبرص قد بحثت في النهاية بروح من التفاهم المتبادل، وأن كرامنليس رئيس وزراء اليونان، وعدنان مندريس رئيس وزراء تركيا، قد توصَّلا إلى اتفاقٍ يجعل من قبرص جمهورية مستقلة.
وعُقد بعد ذلك في لندن مؤتمر ضم ممثلين لليونان وتركيا وبريطانيا وممثلي الشعب القبرصي.
وفي ١٩ فبراير ١٩٥٩م وقعت وثائق التصفية النهائية لمشكلة قبرص، وتتضمَّن هذه الوثائق اتفاق زيورخ، ومعاهدة تحالف بين كل من قبرص وتركيا واليونان، ومعاهدة ضمان استقلال قبرص بين كل من بريطانيا وتركيا واليونان، وألحقت بهذه الوثائق جميعًا التحفظات البريطانية.
وأهم ما جاء في اتفاق زيورخ أن يكون رئيس الجمهورية من الجالية اليونانية، ونائب الرئيس من الجالية التركية، ويتألَّف مجلس الوزراء من بين ٧ يونانيين و٣ أتراك، ويختار الرئيسُ اليونانيين ويختار نائبُه الأتراك، وتصدر قرارات المجلس بالأغلبية المطلقة.
ونص الاتفاق كذلك على قيام مجلس تشريعي ينتخب كل خمس سنوات بالاقتراع العام، ٧٠٪ من أعضائه يونانيون و٣٠٪ أتراكًا، وتصدر قراراته بالأغلبية المطلقة، أما تعديل الدستور فتشترط فيه أغلبية الثلثين من نواب كل جالية.
ويتألَّف جيش الجمهورية من ٢٠٠٠ جندي، ٧٠٪ منهم يونانيون و٣٠٪ أتراك، وتتألَّف قوة البوليس من ٢٠٠٠ بنسبة ٧٠٪ و٣٠٪ على التوالي.
أما معاهدة التحالف بين كلٍّ من قبرص وتركيا واليونان، فنصَّت على إنشاء قيادة ثلاثية تتبعها قوة من ١٦٠٠ ضابط وجندي، منهم ٩٥٠ يونانيًّا و٦٥٠ تركيًّا، ويتولى قيادتها بالتناوب ضابط يوناني وضابط تركي، ترشحه حكومته ويوافق عليه الرئيس أو نائب الرئيس حسب جنسيته، وهذا القائد هو الذي يتولى تدريب القوات القبرصية.
أما التحفظات البريطانية فتقضي بالاحتفاظ بسيادة بريطانيا على المنطقتين الساحليتين اللتين تضمان القواعد البريطانية، وبأن تضمن لها تركيا واليونان وقبرص جميع الحقوق التي تمكنها من استخدام قواعدها في الجزيرة على الوجه الأكمل.
•••
هذا ملخص عاجل لتاريخ المشكلة القبرصية وتطوراتها، منذ نشأتها إلى نهايتها بالاتفاق بين الدول الثلاث على ذلك الحل السعيد الذي أرضى جميع الأطراف، حتى وصف في جميع أنحاء العالم بأنه معجزة سياسية لم يسبق لها مثيل، ولم يكن ذلك للسرعة التي تمَّت بها التسوية، رغم الصعاب التي كانت تتحطم على صخورها كل المحاولات السابقة، بل للسهولة المدهشة التي اكتشف بها هذا الحل الموفق، على كثرة الحلول والمقترحات والعروض التي عولجت بها المشكلة في مؤتمرات ومفاوضات ومحادثات وموائد مستديرة لا عد لها ولا حصر.
وقد كان بطل جهاد قبرص الحقيقي ورمزها في سبيل تحقيق الأماني القومية؛ هو الأسقف مكاريوس الذي تحمل من الاستعمار آلام النفي والتشريد، حتى لقد أُلقِيَ به فترة من الزمن في جزيرة سيشل، وهي نفس الجزيرة التي نُفِيَ إليها الزعيم المصري الخالد سعد زغلول في مطلع الحركة الوطنية المصرية، في الأعوام العشرينية من هذا القرن.
عدت منذ أيام من قبرص، وأنا أعجب من الهدوء الذي يسود الجزيرة، ومن روح المسالمة التي يُبديها أهلها، رغم القنابل التي تنفجر هناك كل يوم ضد جيش الاحتلال البريطاني.
وتفتح الصحف البريطانية التي تصدر في قبرص، فتقرأ أنباء بعض المحاكمات والأحكام التي صدرت ضد الشبان المتحمسين الذين يثيرون القلاقل في الجزيرة، ومن بينها قصة ذلك الشاب المسكين الذي تسلل إلى أحد المعسكرات البريطانية، وبدأ يقطع الأسلاك الكهربائية، فصعقه التيار العالي وحوَّله إلى قطعةٍ من الفحم الأسود!
وينتظر القبرصيون بفارغ الصبر موسم السياحة الذي يبدأ في يوليو، وهم يعتمدون عليه في حياتهم الاقتصادية إلى حدٍّ كبير. وكان كل سؤال يُلقى علينا في أي مكان نحل فيه: هل يحضر إلينا كثيرون من سكان مصر في هذا الصيف؟ وهل سمحت لهم الحكومة بمبالغ كبيرة؟ ومتى يبدأ حضورهم إلى الجزيرة؟
إن السائحين المصريين من أحسن عملاء جزيرة قبرص، ويحبهم القبرصيون أكثر من غيرهم؛ وذلك لأنه لا يكاد يوجد قبرصي ليس له أقارب في مصر، ولا يكاد يوجد قبرصي من المشتغلين بصناعة الفنادق أو المشارب، لم يشتغل فترة من الزمن في مصر، إن كثيرين من القبرصيين الأثرياء، وخاصة أصحاب الفنادق، كونوا ثرواتهم في مصر؛ حيث اشتغلوا بالتجارة أو عملوا (جرسونات) في الفنادق أو المشارب الكبيرة!
كنت لا أكاد أحل مع أصدقائي في مدينةٍ أو قرية قبرصية، مهما كانت نائية حتى نرى من يتقدَّم إلينا من السكان، وهو يقول: أهلًا وسهلًا! من مصر!
ثم يسرع في الحال إلى سرد علاقاته وصِلاته بمصر، وكيف ذهب إليها، وكيف عاد منها، ومن ترك هناك، ولا ينتهي من حديثه إلا بعد أن يؤكِّد أنه لا بد أن يعود يومًا ما إلى مصر؛ «لأن مَنْ شرب من ماء النيل مرة لا بد أن يعود إليه».
وفي المدينة الجبلية المشهورة براتراس، وعلى عتبة باب فندق «فورست بارا» رحب بنا بالعربية مدير الفندق «كوستى»، وجلسنا حوله في بهو الفندق نستمع إلى تاريخه العجيب في مصر التي قضها فيها أكثر من ٤٠ عامًا.
ذكر لنا أنه عمل في بادئ الأمر مع الخديو عباس الثاني، واشتهر باسم «كوستى بتاع الخديو»، ثم عمل مع السكك الحديدية المصرية، وانتهى به المطاف إلى نادي محمد علي؛ حيث أصبح شخصية مشهورة، يعرفها جميع «الباشوات» كما لا يزال يسميهم هو!
وذكر كوستى أن جميع أعضاء نادي محمد علي كانوا يعتبرونه والدًا لهم؛ وذلك لأنه شهد شبابهم وتدرَّج معهم، حتى أصبح ملمًّا بعادات كل عضو منهم، عارفًا بما يحب ويكره من أصناف الطعام والمشروبات.
قال لي كوستى: إن لطفي السيد كان العضو الوحيد الذي يقول له إذا خاطبه: يا ابني!
وقال: إنه كان يعرف بوصول أحمد عبد الغفار إلى النادي، بمجرد وقوف سيارته أمام الباب الخارجي، فإن صوته كان يدوي في داخل النادي إذا تكلم في الشارع!
وقال لي: إن أحمد عبد الغفار كان يقول له أمام الأعضاء كلهم: «إن كوستى يسافر كل سنة إلى أوروبا، ونحن هنا لا يمكن للواحد منا أن يسافر إلى الإسكندرية!»
وقال كوستى في شيءٍ من الأسف: لقد كان أحمد عبد الغفار يحسدني على السفر كل عام إلى قبرص! وها أنا ذا قد استقرَّ بي المقام في قبرص، وإلى الأبد!
وقبرص جزيرة منيعة في البحر الأبيض، تشرف على البحر من فوق ربوةٍ عالية، تصل إلى ارتفاع ألفي متر فوق سطح البحر في بعض الجهات، ومصر تقع جنوب قبرص على مسافة ٣٢٠ كيلومترًا، كما تقع سوريا إلى شرق قبرص ولا تزيد المسافة بينهما على ٨٠ كيلومترًا، كما تقع تركيا في شمال قبرص، والمسافة بينهما لا تزيد على ٥٥ كيلومترًا.
وقد أقام الاستعمار البريطاني في قبرص معسكراتٍ لجنود الجيش، جعلها أشبه بالمدن الصغيرة، كما اختار منطقة «إبيسكوبي» على الجبل مقرًّا لرئاسة القوات الجوية في الشرق الأوسط، كما أنشأ مطارًا كبيرًا على مقربةٍ من ليماسول، وجعل من قيادة قبرص الجوية أكبر قيادة جوية بريطانية عبر البحار، وعقد لها السيطرة على جميع القوات البريطانية الأخرى في الشرقين الأدنى والأوسط، وأقام الاستعمار كذلك فوق قمة جبل «ترودس» على ارتفاع ٢٠٠٠ متر فوق سطح البحر، أعلى محطة لاسلكية في الشرق الأوسط، ووضع آلات «الرادار» كعينٍ ساهرة، تفرض رقابة على جميع الطائرات التي تتحرك في هذه المنطقة.
هذه هي القلعة المنيعة الجبارة التي تحركت منها الطائرات والأساطيل والقوات في أواخر عام ١٩٥٦م؛ للاعتداء على استقلال مصر، وتقدمت من بورسعيد المدينة الباسلة؛ حيث لقيت شر هزيمة وخزي وعار، لقيتها الجيوش المعتدية في أي مكان في العالم، وما لبثت بعد ذلك أن عادت من حيث أتت؛ لتحدث العالم عن معنى الهزيمة. واعتذر قائد الحملة الفاشلة على مصر فيما بعد بأن «قبرص» لا تصلح لأن تكون قاعدة لقوات الاستعمار، وأن عدم صلاحيتها هو السبب الرئيس في فشله!
وبعد، فإن جزيرة قبرص من أجمل البقاع التي زرتها وقد ذكرتني جبالها بجبال لبنان وجبال تشيكوسلوفاكيا، وإن كانت الغابات فيها أقل كثافة من الغابات في تشيكوسلوفاكيا، وهي لا تزال تدعى إلى اليوم جزيرة إفروديت، إذ تروي الأساطير أن فينوس أو «إفروديت» إلهة الحب والجمال ظهرت على شواطئ الجزيرة الغربية أمام «باقوس»، وقد برزت من زبد البحر.
وقد عرفت هذه الحسناء باسم إفروديت القبرصية؛ تمييزًا لها عن إفروديت اليونانية.
وكانت إفروديت عند القبرصيين رمزًا لكل شيء جميل، وما زالت كذلك! وقد بقي معبدها الجميل قائمًا بالجزيرة إلى نهاية القرن الرابع للميلاد.
إن قبرص هي المصيف الطبيعي لكل عربي لا تتسع موارده للسفر إلى أوروبا فهي قريبة المنال، والإقامة فيها ميسورة والعربية فيها متداولة!
ولا شك أن أبوابها ستفتح لأبناء الجمهورية العربية المتحدة يوم تستقر أحوالها نهائيًّا بعد أن تحقَّقت أمانيها.
قابلته في الصباح المبكر، ووجدته جالسًا وراء مكتبه في انتظاري، وكان أول سؤال ألقيته عليه بعد أن جلست، هو هذا السؤال الذي كان يحيرني منذ مدة طويلة، قلت له: أنت رجل من رجال الدين، فكيف قدر لك أن تصبح الزعيم السياسي لهذه الجزيرة، وأن تقود هذه الحركة الثورية؟
وابتسم الرجل وقال في هدوء: إن مركز رئيس الأساقفة في قبرص يختلف عن مركز غيره من الأساقفة؛ وذلك لأنه يُنتخب بواسطة الأهالي؛ ليكون رئيسًا دينيًّا لهم، ولكنه في نفس الوقت رئيسهم السياسي بحكم هذا الانتخاب، ففي الدول الأخرى لا ينتخب الناس رؤساءهم الدينيين، وإنما يعين رؤساء الأديان تعيينًا بواسطة غيرهم، وما دام أهالي قبرص هم الذين ينتخبون رئيسهم الديني، فمن حقه أن يتكلم باسمهم!
وقلت له: ولكن مسألة قبرص ليست مسألة عادية …
فاستوقفني بهدوء وهو يقول: إن مسألة قبرص ليست مشكلة سياسية فحسب، إنها مسألة تتعلق بالعدالة الدولية والأخلاق، وأنا كرجل دين في المقام الأول يهمني أن تسود العدالة.
وسألته: هل أنت تسعى لاستقلال قبرص حتى تتخلص من حكم بريطانيا، أم أنك تسعى لاتحاد قبرص مع اليونان؟
فأجاب رجل الدين بكل صراحة: إنني شخصيًّا أؤيد اتحاد قبرص مع اليونان، ولكني لا أطالب اليوم بأكثر من حق تقرير المصير لأهالي قبرص، حتى يبتوا في أمر مستقبلهم بنفسهم، فإذا تقدموا للاستفتاء الذي نطالب به، كان لهم أن يعطوا أصواتهم في جانب الاتحاد مع اليونان أو الاستقلال التام أو أي شيء آخر.
قلت: ولنفرض أنكم نلتم هذا الحق وانفصلتم عن حكم التاج البريطاني، فهل توافق على أن تمنح قبرص إنجلترا بعد ذلك حق إنشاء القواعد الحربية التي تطالب بها؟
وتخلص الرجل من هذا السؤال المحرج فقال: إن هذه مسألة سوف تبت فيها الحكومة اليونانية إذا تم الاتحاد معها فيما بعد!
ولكني لم أتركه يفلت من الإجابة فقلت له: لقد سبق لي أن تحدثت في هذا الموضوع، في الصيف الماضي، مع الماريشال باباجوس رئيس وزراء اليونان، وفهمت منه أن الحكومة اليونانية لا تمانع في منح بريطانيا قواعد حربية بجزيرة قبرص، حتى بعد اتحادها مع اليونان، فما رأيك في هذا؟
وقال الأسقف: لا شك أن من الممكن استعمال قبرص في مثل هذه الأغراض، ما دامت اليونان عضوًا في حلف الأطلنطي.
وسألت الأسقف: هل لديكم شكاوى محددة من الحكم البريطاني؟
فأجاب الأسقف وهو يبتسم: لدينا شكاوى عديدة وفي مقدمتها أننا بلد فقدَ حريته.
-
إن بريطانيا تتدخل في التعليم حتى تصبغه بالصبغة البريطانية، وتؤثِّر في شباب قبرص لكي ينسوا صلتهم باليونان.
-
إن السلطات البريطانية لا تسمح بتعليق صور أبطال اليونان في المدارس.
-
إن السلطات البريطانية لا تسمح بعزف النشيد الوطني اليوناني في قبرص.
-
إن السلطات البريطانية تستغل قبرص استغلالًا اقتصاديًّا، فقد ظلت حتى سنة ١٩١٤م تجمع من السكان ضريبة؛ بحجة أنها إيجار الجزيرة الذي يجب أن يدفع لتركيا، وبعد ذلك ضمَّت الجزيرة لبريطانيا، ومع ذلك استمر تحصيل هذه الضريبة! كما أن فائض إيراد الجزيرة يرسل لبريطانيا، حيث يستغل بفائدة قدرها ١٫٥ في المائة فقط، وإذا احتاجت قبرص بعد ذلك إلى قروضٍ قدمتها إليها بريطانيا بفائدة قدرها ٤ في المائة!
وكان أطرف ما قصه عَلَيَّ الأسقف من أسباب غضبه على بريطانيا أنه في حفلات نهاية العام الدراسي أجبر الإنجليز تلاميذ المدارس وتلميذاتها على تقديم رقصات أسكتلندية في برنامج الاحتفال!
وتساءل الأسقف: «لماذا لا يسمح للتلاميذ والتلميذات بتقديم رقصات يونانية؟!»
وقلت للأسقف: يقول الإنجليز: إن هذه الجزيرة لم تخضع قط لحكم اليونان، فبأي حق تطالبون بضمها لليونان؟
وأجاب: إن الإنجليز ينسون التاريخ، والمسألة ليست مسألة لمن تتبع الجزيرة، وإنما هي منح حق تقرير المصير لسكانها.
فقلت له: والأقلية التركية؟
قال: ليس من حق الأقلية أن تتحكم في الأكثرية، ولكن من واجب الأقلية أن تحرص على حقوقها.
واختتم البطريرك حديثه قائلًا: «أرجو أن تحمل إلى الشعب المصري الباسل تحياتي وحبي وتقديري، ذلك الشعب الذي ضرب لنا أروع الأمثلة بجهاده في سبيل الاستقلال، وها هو يسير اليوم في طريق التقدم، حتى لقد احتل مركزًا من مراكز القيادة في الميدان العالمي.»