الشاعر واليونان
لم يكن الشاعر بيرون، ولا بروك، هما وحدهما اللذان أحبا بلاد اليونان وامتدحا جمالها في شعرهما، وضحى كلٌّ منهما بحياته من أجلها، إن كثيرين غيرهما من الكتَّاب والشعراء لا يملُّون من الكتابة عن اليونان، برغم كثرة ما كتب عنها وعن تاريخها، وعن حضارتها وعن جمالها وعن آثارها وعن أهلها.
إن اليوناني لا يعرف الحسد، فإذا كان لديك سيارة والفلاح اليوناني ليس لديه مثلها، فإن أول ما يخطر على باله هو قوله: «ما أسعد حظنا؛ لأن واحدًا منا قد أسعده الحظ بسيارة!»
وكرم الضيافة شيء مقدس عند اليوناني؛ إنه يقدم لك كل ما لديه ويرحب بك في كوخه الصغير ذي الغرفتين، الذي لا يكاد يتسع حتى للموقد!
ومنذ أن وهبت الإلهة «أثينا» الزيتون لليونانيين، أصبح الشعب اليوناني زراعيًّا، ولعل الأدوات التي قدمتها لهم الإلهة يومئذٍ لا تكاد تختلف في شيءٍ عن الآلات التي يستخدمونها اليوم.
إن فأس اليوناني أشبه بالمطرقة، يغوص بها الفلاح في الأرض ثم يجذبها نحوه، والتربة اليونانية صلبة كالحجر الصوان، وهناك صعوبة أخرى تواجه الزراعة في اليونان هي «العنزة»، فإن كل بيت في الريف يحتفظ بعنزة، وكل عنزة لها أسرة؛ ولهذا قلَّ أن يسلم أي محصول غض من هذه العنزات! ومما يزيد الطين بلة للاقتصاد اليوناني، أن العنزة تعيش على لا شيء، والأمة كلها تعيش على العنز!
وفي دولةٍ لا تعد البقرة فيها من الأشياء الشائعة، يصبح لبن العنزة ضرورة أولية للحياة، أما كيف يتحمَّل اليونانيون عناء العمل بهذا النزر اليسير من الطعام الذي يتناولونه، فأمر يثير حيرة علماء التغذية!
إن الإفطار هناك عبارة عن ملء فنجان صغير جدًّا من القهوة مع كسرة من الخبز الجاف، والعشاء غالبًا كمية وفيرة من الأعشاب والحشائش، وقد قيل لنا: إن هناك ٣٦ نوعًا مختلفًا منها يصلح للأكل، وأنت ترى أكياسًا ضخمة منها أمام حانوت البقال، ويتناولها العامل مع بعض النبيذ الخفيف.
ومن أنواع الشراب اللاذع الشائعة في اليونان «الرتسينا»، وهي عبارة عن نبيذٍ حريف، مشبع بالراتنج، وهو السلوى اليومية لأغلب اليونانيين.
•••
إن الجمال والتاريخ يحيطان بالمسافر في اليونان، والحديث يتحول بصورةٍ طبيعية إلى الكلام عن الحفريات والتنقيب عن الآثار.
وفي «فترينة» في المتحف توجد أمثلة من بعض الأدوات، وهي أغطية القواقع التي كانت تستخدم في الاقتراع، وهذه القواقع غير قطع من الخزف صقلت بطريقةٍ ملائمة؛ لتتيح للمقترع الإعراب عن رغبته كتابة.
وفي ميدان السوق القديم عدد كبير منها عثر عليه، يحمل اسم «تيموستكليس»، وقد وضعت أصوات المقترعين على نفيه أو إبقائه في قدورٍ خاصة، والطريف أنه تبين أن عددًا من هذه القواقع كان مكتوبًا بخط واحد متماثل؛ مما يثبت أن عملية الاقتراع كانت زائفة مدبرة!
وكثيرًا ما كنا نقف خلال جولاتنا عند بعض الأكواخ، وكان مرشدنا صديقًا ودودًا من اليونان؛ ولهذا كان الترحيب بنا صاخبًا: قبلات على الوجنات، ومصافحة حارة باليدين، وقسم على الإخاء، يتبعه ذبح للدجاج مبالغة في الاحتفال بنا!
وفي إحدى القرى الفقيرة، كنا نبحث في يأس عن مكانٍ مريح نقضي فيه ليلتنا، عندما سمعنا فجأة صيحات مرح، جعلت قلوبنا تدق بسرعة، وفي وسط ميدان المحطة، كان هناك فريق من الأهلين يحتفل بالليلة السابقة لزفاف عروسين، أو «ليلة الحناء» كما يسميها الناس في مصر، وقد راح عازفو القيثار يعزفون بقوة أبدع ألحانهم، واجتمع الرجال والفتيات يرقصون في حلقاتٍ منفصلة، بعضها صاخب وبعضها هادئ رزين، والكل يغنِّي ويصفق في نفس الوقت، بينما أشاع برميل الرتسينا البهجة والسعادة على الاحتفال، وكان البعض يرقص وقد أمسك بقنينة الخمر في يد، وبالقدح في اليد الأخرى! لم يكن هناك غير شراب وراء شراب، وازداد المرح عنفًا، حتى إذا ما بلغ الذروة، وصل موكب يشرف ملكةُ سبأ أن تسير به!
كان هناك جوادٌ وثلاثة بغال وحمار، تحمل كلها أثاث العروس وهدايا زفافها، فتكدَّس فوق ظهر الجواد حَشِيَّة من القطن وست وسائد و١٢ غطاء، أما البغال فقد حملت صندوقين متماثلين من صناديق العرس، وأربعة مقاعد ومائدة والأواني الخزفية، وحمل الحمار فوق ظهره أكداسًا من السجاجيد والشيلان تزيد على ضعف حجمه، وفوق الجميع هدية الهدايا: مهد للطفل!
كان الجميع في سرور حماسي، وعندما أنزل المهد الصغير أمام باب الكوخ الخالي، ارتسمت بسمة ثقة على شفتي كل عروس في القرية.
وكانت هناك هدية أخرى ثمينة جدًّا، لا يمكن ائتمان البغال والحمير عليها؛ ولهذا جاءت في المؤخرة تهتز من جانبٍ لآخر، وقد حملها أحد ضيوف الفرح وهو يلوح بها عاليًا، لقد كانت مرآة طويلة كاملة!
إن السعادة لا تزال تغمر الجو، هنا في اليونان، عبر القرون الطويلة، على الرغم من كل ما عانته البلاد من احتلال الأتراك والروس والبلغاريين، وحرث للأرض غير المجزية، هنا الهناء غير المصطنع، الذي لا تستطيع كل سيارات العالم وأجهزة الحياة المدنية وملاعب الجولف أن تخلقه.