اليونان بين الأمس واليوم
سافرت إلى بلاد اليونان لأول مرة في عام ١٩٣٤م، فوجدت فيها بلادًا رخيصة يحصل المصري فيها على عدد كبير من الدراخمات نظير كل جنيه يقدمه؛ ولذلك فقد كانت تستهوي في تلك السنوات، عددًا كبيرًا من المصريين الذين كانوا يترددون على مصايفها الجبلية والبحرية، وعلى مدن المياه المعدنية المنتشرة في ربوعها.
ولم تكن المسافة التي تفصل بين ميناء الإسكندرية وميناء بيريه، تستغرق في البحر أكثر من ٣٦ ساعة، وهي الآن أقل من هذا. أما المسافة من بيريه إلى أثينا عاصمة اليونان، فيقطعها قطار يشبه «المترو» في ١٥ دقيقة تقريبًا.
كانت المقاعد في أكبر مشارب المدينة مصنوعة من القش، ولم يكن في إمكان أحد أن يقارن بينها وبين المشارب الكبيرة في القاهرة أو الإسكندرية، ولكن طبيعة اليونان الجبلية وهواءها المنعش، ومياهها الزرقاء الهادئة، وسماءها الصافية، كل هذه الأشياء كانت من المغريات على زيارتها.
كانت أسعار الإقامة وأسعار الحاجيات رخيصةً جدًّا، لا يكاد يصدِّقها أبناء الجيل الحاضر إذا سمعوا بها، ولكن أهم من الأسعار الرخيصة كان هناك الشعب الكريم المضياف، الذي يرحب بالمصريين ترحيبًا قلبيًّا ويعمل على تسهيل إقامتهم.
كان اليوناني إذا عرف مصريًّا في أثينا أو في غيرها من المدن اليونانية، أسرع إلى تحيته والترحيب به، وسؤاله عما إذا كان يحتاج إلى مساعدة، ولم يكن اليوناني يرحب بالمصري باعتباره أجنبيًّا، بل كان يرحب به باعتباره أخًا له، فقد كانت الجالية اليونانية، وما زالت حتى الآن، أكبرَ جالية أجنبية في مصر، كما أن اليوناني كان الأجنبي الوحيد في مصر، الذي لم يقصر إقامته على العاصمة والمدن الكبرى.
لقد تغلغل اليونانيون في مصر حتى وصلوا إلى أصغر القرى؛ حيث أقاموا بين الفلاحين وعقدوا معهم أواصر الصداقة، ولا أذكر الآن من الذي قال: إنك لو ذهبت إلى أي مكان في الصحراء القفراء ورفعت حجرًا، لوجدت تحته يونانيًّا!
أذكر أنني تقدمت في أثينا من جندي المرور اليوناني أسأله عن الطريق المؤدي إلى الفندق فحدثته بالفرنسية، ونظر إليَّ الرجل، ثم سألني بالعربية: إنت مصري؟
فذهلت وأجبته: نعم! ولكن كيف عرفت …
وابتسم الرجل وقاطعني قائلًا: طيب يا أخي، تكلم بالعربي!
وعرفت أن الرجل كان من اليونانيين الذين عاشوا سنواتٍ في مصر.
وعدد اليونانيين الذين وُلدوا في مصر، أو عاشوا فيها، أو مرُّوا بها كبير جدًّا، واليوناني الذي لم يولد في مصر أو يَعِشْ فيها أو يمر بها، لا بد أن يكون له فيها بعض الأهل أو الأقارب، أو الأصدقاء أو الذكريات!
وإنهم جميعًا لَيذكرون هذه البلاد المضيافة بالخير، ويحفظون لها الجميل، ويرجون لها التقدم والاستقرار، فقد فتحت لهم ذراعيها في كل وقت، واستقبلتهم كما تستقبل أبناءها، وسهلت لهم سبل الحياة، فاقتحموا ميادين الأعمال والتجارة والزراعة والصناعة، وسجَّل معظمهم نجاحًا مرموقًا في هذه الميادين، فكان منهم على سبيل المثال: أشهر منتجي الكحول «السبيرتو» والبيرة والنبيذ، وأشهر زارعي الكروم.
•••
وعدتُ بعد ذلك إلى اليونان في عام ١٩٤٨م، فوجدت البلاد لا تزال متأثرة بما أصابها خلال الحرب العالمية الثانية، وقد أتيحت لي الفرصة عامئذٍ فرأيت الجهود الضخمة التي تُبذل في سبيل شق طرق جديدة، وفي سبيل إعادة فتح قناة كورنث للملاحة، بعد أن سدت أثناء الحرب.
وكان مما راعني خلال هذه الزيارة التضخُّم النقدي الذي كانت تعانيه اليونان، وقد حدث في إحدى الليالي أن تناولْتُ العشاء مع أربعة من الأصدقاء، وكان عشاءً متواضعًا من النوع الذي يساوي في مصر ٣٠ أو ٤٠ قرشًا للفرد الواحد، ومع ذلك فقد قدم لي الجرسون كشف الحساب، فإذا به ٣٦٨٠٠٠ دراخمة بخلاف البقشيش، فإذا اقتصرت على بقشيش قدره ١٠٪ كان يجب أن تضيف إلى الحسبة ٣٦٨٠٠ دراخمة، فيصل الحساب إلى ٤٠٤٨٠٠ دراخمة، أو ما يقرب من نصف المليون دراخمة!
ومع ذلك كان نصف المليون دراخمة المذكور، لا يوازي بعملتنا المصرية أكثر من ستة جنيهات!
وهكذا كنت تستطيع أن تصبح مليونيرًا في بلاد اليونان، إذا كنت تحمل اثني عشر جنيهًا مصريًّا فقط!
فقد كان الجنيه المصري عامئذٍ يساوي نحو ٨٥ ألف دراخمة، ولكنك مع ذلك تشعر أنك مليونير فقير؛ لأن آلاف الدراخمات أو ملايينها كانت تتسرب من الجيب بسرعة البرق!
•••
وزرت اليونان بعد ذلك مرة ثالثة في صيف عام ١٩٥٤م، وخرجت يوم وصولي من الفندق، وأنا أحس بأنني من أصحاب الملايين، ولكن قبل خروجي مررت على حارس الباب وخطر لي أن أسأله: كم يساوي فنجان القهوة في المشرب القريب من هذا الفندق!
وهز الرجل رأسه ثم قال: ٢ أو ٣ دراخمة!
ودهشت لهذا الجواب وظننت الرجل مجنونًا؛ إذ كان معنى هذا أن أشرب ٤٢٥٠٠ فنجان قهوة بما يوازي الجنيه المصري! وقلت في نفسي: «لقد أصبحت هذه البلاد أرخص بلاد في الدنيا، إنها جنة عدن!»
وأردت أن أتأكد مما يقول الرجل، فأخرجت ورقة من فئة الألف دراخمة ثم سألته: هل معنى هذا أنني أشرب ٥٠٠ فنجان قهوة بهذه الورقة؟!
وضحك الرجل ثم أمسك بالورقة المالية، وأخرج من جيبه قلمًا ضرب به على الأصفار الثلاثة المطبوعة إلى يمين الواحد، وردها إلي قائلًا: هذه الأصفار كلها لا قيمة لها!
فقلت له ضاحكًا: ولكنها أصفار على اليمين!
فأجاب: سيان، على اليمين أو الشمال!
ومعنى هذا أن الألف دراخمة = ١ فقط.
أو بمعنى آخر أنه يجب أن أدفع في فنجان القهوة ٣٠٠٠ دراخمة!
وذهب الرجل بعد ذلك فأحضر لي بيانًا صغيرًا مطبوعًا من منشورات مصلحة السياحة اليونانية، وفيه أن الحكومة اليونانية قد اعتزمت طبع أوراق نقد جديدة من فئة ١٠ و٢٠ و٥٠ دراخمة، وهي وإن كانت في الحقيقة ١٠٠٠٠ و٢٠٠٠٠ و٥٠٠٠٠، إلا أن الأصفار لن تظهر فيها، وجاء في النشرة أن حذف الأصفار الألفية، لا يؤثر في الأسعار بأي حالٍ من الأحوال!
وعندئذٍ — فقط — علمت قيمة ملايين الدراخمات التي أحملها!
وكان أول ما اصطدمت به في شوارع أثينا عامئذٍ، تلك السيارات الفاخرة التي تعمل بوصفها سيارات «تاكسي».
إنني لم أر مثلها في لندن ولا في باريس، ولا في بروكسل ولا في أمستردام، ولا في أي بلدٍ آخر في أوروبا، إنها السيارات الأمريكية الفاخرة التي تعادل سيارات التاكسي التي تستعمل في نيويورك في ضخامتها وأناقتها ونظافتها!
وتعددت بعد ذلك مظاهر الرخاء في العاصمة اليونانية.
كانت اليونان بعد الحرب العالمية الثانية، قد عانت الكثير؛ نتيجة عدم استقرار النقد، وتعرضت طيلة عشر سنوات لتضخمٍ خطير في النقد وارتفاع في الأسعار؛ نتيجة لازدياد الطلب على السلع وتقييد الواردات.
ولكن في سنة ١٩٥٣م خفضت قيمة الدراخمة بنسبة ٥٠٪ من سعرها الرسمي، وتحررت الواردات من قيودها، وبدأ الاقتصاد اليوناني يدخل مرحلة جديدة، تتميز باستقرار النقد، واستمر هذا التقدم حتى بلغ أعلى مستوى له خلال عامي ١٩٥٦ و١٩٥٧م؛ إذ بدأت الودائع تتدفق على البنوك، وزاد احتياطي الدولة زيادة ملحوظة، وتوطد سعر الدراخمة، وبدأ يرتفع في أسواق النقد الدولية، وزال التضخم، وبدأ الاقتصاد يأخذ أوضاعه الطبيعية.
وهكذا انتعشت اليونان وبدأت عهدًا جديدًا من الاستقرار.
•••
وسيحاول المؤلف في صفحات هذا الكتاب أن يرسم لك صورة من تاريخ وحياة هذا الشعب المجاهد المكافح، في الماضي والحاضر، فلقد كان (والحق يقال) شعبًا وفيًّا، وقد أثبت هذا الوفاء في مختلِف المناسبات والظروف والأزمات، وقد آثر أن يقف بجانب العرب دائمًا، ولا عجب في ذلك فإنه يحس بإحساسهم ويشعر بشعورهم، والفضل في هذا للمغتربين من أفراد هذا الشعب، ممن عاشوا سنواتٍ طويلةً بين العرب، ثم عادوا إلى بلادهم وهم يحملون له أطيبَ الذكريات وأخلصَ الود؛ بسبب ما لقوه من أهله من كرم الضيافة والحب والصداقة.