أسطورة الطوفان
كان الرومان أول من أطلق اسم اليونان على هذا الجزء الصغير من العالم الذي يقع في شبه جزيرة البلقان، وهو مشتق من اسم أولى القبائل التي اصطدموا بمقاومتها عندما غزوا تلك البلاد، أما الاسم القديم للبلاد فكان هيلاس، وكان يطلق على سكان هذه البلاد الهللينيين، وتتكوَّن البلاد اليوم من مجموعةٍ كبيرة من جزر بحر إيجة، ومن جزيرةٍ كبيرة تقع في جنوب هذا البحر وهي جزيرة كريت.
ولم يكن الإغريق أول من سكن شبه الجزيرة المسماة باسمهم، بل سكنها قبل الميلاد بأكثر من عشرين قرنًا قبائل من الجنس الإيجي، تحضروا وأبحروا إلى مصر وغيرها، وأقاموا المدن ونظَّموا الجيوش.
وأخيرًا نزح من الأجزاء المحيطة ببحر قزوين قومٌ من الجنس الآري، الذي تنتمي إليه معظم شعوب أوروبا وبلاد الهند، وكانوا أقل في درجة حضارتهم من الإيجيين، واستولَّوْا بالتدريج على ساحل آسيا الصغرى، وجزائر إيجة وأراضي أوروبا الوسطى، ثم اختلطوا بالإيجيين فنشأ من هذا الاختلاط الشعب اليوناني أو الهلليني الذي صنع التاريخ.
ورغم أن التاريخ لا يعي شيئًا عن ذلك الشعب في بَدْءِ نشأته، فقد أحاط الإغريقُ أنفسَهم بالأساطير الكثيرة، التي خلَّدها تاريخهم وأهمُّها أسطورة الطوفان.
وخلاصة هذه القصة أن بؤس الإغريق لما بلغ مبلغًا لم يسبق له مثيل في عهد حاكم يدعى «ديوقاليون»، فلما رأى كبير الآلهة وربُّ الأرباب «زيوس» أن الحالة تتطوَّر من سيِّئ إلى أسوأ، رغب في القضاء على ذلك الجنس بأسره، فأرسل عليهم ماءً من السماء هطل على تساليا، حتى غمر الطوفان كل البلاد وهلك الناس جميعًا، ونجا «ديوقاليون» وزوجته «بيرا» بأن صنعا لنفسيهما قاربًا، بقيا فيه على الماء تسعة أيام بلياليها حتى قذف بهما اليمُّ أخيرًا إلى قمة «بارناسوس» فانتظرا حتى انحسر الماء، ووجدا أنهما وحيدان، فحزنا وابتهلا إلى إله الآلهة «زيوس» أن يعمر الأرض، فجاء إليهما «هرميس» رسول الآلهة وأمرهما أن يرفعا الأحجار من الأرض، وأن يلقيا من فوق كتفيهما، فلما فعلا ذلك استحالت الأحجار التي رماها «ديوقاليون» كلها إلى رجال، أما التي ألقت بها زوجته فتحولت إلى نساء.
وهكذا استوطن هذه البلادَ شعبٌ جديد، ورزق الله «ديوقاليون» ولدًا أسماه «هيلين»، وحكم ذلك الجيش الجديد بعد والده، وأطلق عليه اسم الجنس الهلليني نسبة إليه!
ولم يحتل الآريون شبه الجزيرة دفعة واحدة، بل جاءت قبائلهم تباعًا تسعى وراء الرزق، وكانت أقدم القبائل استيطانًا لبلاد الإغريق قبيلة «الأخيين»، وتلتها قبيلة «الدورين»، الذين قدموا إلى بلاد الإغريق قبل الميلاد بأكثر من خمسة عشر قرنًا، وأسَّسوا مدينة اسبرطة العظيمة، وبعد هذا بما يقرب من أربعة قرون، جاءت قبائل «الأيونيين» وانتشر الجميع في أنحاء شبه الجزيرة والجزر المحيطة بها.
ولقد تأثر الشعب الهلليني بحضارة كريت، التي ازدهرت في «كنوساس» قبل الميلاد بأكثر من ثلاثين قرنًا، والتي يقول المؤرخون: إنها استمدت من الفراعنة؛ لوجود تشابه بين لغة كريت واللغة الهيروغليفية، كما أن الإغريق استفادوا من الفينيقيين، فنقلوا عنهم صناعة السفن وركوب البحار.
وقد اعتمد الإغريق، بعد أن نزلوا في شبه الجزيرة على الرعي، ولم يكن لهم حكومة منظمة، تجمع شملهم، وتوحد كلمتهم. وظلت الحال كذلك زمنًا طويلًا أخذوا بعدها يزرعون الأرض، ويستقرون فيها، ويقيمون لأنفسهم مساكن ثابتة، فنشأت بذلك القرى، وخضعت كل قرية منها لرئيسٍ يعاونه جماعة من ذوي الرأي فيها. ارتقت بعض القرى واتَّسعت، فصارت مدنًا عامرة، لكلٍّ منها حكومة مستقلة، وجيش خاص وآلهة مقدسة، ويطلق على كل من هذه المدن اسم «المدينة الحكومية».
وبنشأة المدن الحكومية مرَّ تاريخ بلاد اليونان بعهدٍ انقسمت فيه إلى ولاياتٍ صغيرة، قوام كل ولاية منها المدينة الحكومية، ويرجع ذلك إلى ما يقرب من ستة قرون قبل الميلاد.
وكانت المدينة الحكومية تشمل بلدًا محاطًا بأسوارٍ منيعة، خارجها منطقة واسعة من الحقول تحيط بهذه المدن التي كان لكل مدينة منها قوانينها وجيشها وحكومتها.
وقد كان للعوامل الطبيعية أكبر الأثر في حضارة الإغريق؛ فإن الجبال الكثيرة ساعدت على تقسيم البلاد إلى هذه الوحدات الصغيرة التي سارت كل وحدة منها في سبيل الرقي والتطور مستقلة عن غيرها.
وعلى هذا نشأت حكوماتٌ عديدة، وتأخَّر نشوءُ شعبٍ موحَّدٍ له حكومة واحدة.
وساحل بلاد اليونان كله تعاريج وفجوات صالحة لرسو السفن، أضف إلى ذلك وجود الجزر المبعثرة في البحر الأيوني في الغرب وبحر إيجة في الشرق، ثم إن أرخبيل إيجة يتصل بالساحل الشرقي لآسيا الصغرى؛ لهذا كله لم يكن غريبًا أن يشتغل اليونانيون — بحكم موقع بلادهم — بالتجارة والملاحة والاستعمار.
وفوق هذا كله فالمناخ معتدل، والأرض خصبة، والمناظر ساحرة جميلة؛ لذا كانت بلاد اليونان بطبيعتها مرتعًا خصبًا لقيام جنس متحضر، ترك من بعده مدنية خالدة، هي التي أخذت عنها أوروبا الحديثة أصول نهضتها.
وهكذا كان للطبيعة أثرُها في انقسام بلاد الإغريق، واتخاذ المدن الحكومية أساسًا للمجتمع، حتى أصبحت كل مدينة دولة قائمة بذاتها؛ بسبب ضيق البلاد، وعزلة أجزائها بواسطة الجبال العالية والخُلجان الكثيرة، ومن أشهر المدن الحكومية الإغريقية أثينا واسبرطة.
وقد اتجهت عناية اسبرطة إلى الأمور الحربية؛ فكان أهم ما يشغل أهلها التدرُّب على القتال، والتأهُّب للحرب، حتى صارت اسبرطة أشبهَ بثكنة عسكرية، وكانت الحكومة هي القائمة بأمر التربية الاسبرطية، التي استهدفت تخريج رجال أشدَّاء يدافعون عن الوطن.
أما أثينا فاهتمَّتْ بتثقيف العقول، والعناية بالعلوم والفنون والآداب؛ لذلك كان فضلها عظيمًا على العلم والمدنية؛ إذ أقامت ببلاد الإغريق حضارة عظيمة، تعدُّ منبع الحضارة الأوروبية، وقد ازدهرت حضارة الإغريق في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.
ولا يمكن أن نجد وصفًا للإغريق في عهود بداوتهم الأولى أدقَّ مما جاء في قصائد الشاعر هوميروس؛ فهو يصوِّرهم يرعَوْنَ الأغنام والماشية، ويَفلَحُون الأرض، ويصيدون، ويحاربون، ويُبحرون، ثم يتحدَّث عن عقائدهم الدينية وعواطفهم النفسية؛ فيعدِّد آلهتهم، ويبيِّن إلى أي حدٍّ كانوا يقاسون في سبيل الحب والحرية والوطن والواجب، وإلى أي حدٍّ كانوا يحترمون النساء.
وأهم ملامح هوميروس الشعرية «الإلياذة» و«الأوديسية»، وتقص الإلياذة أخبار اليونان في حربهم مع أهل تروادة بآسيا الصغرى، أما الأوديسية فتتضمَّن أخبار القائد اليوناني العظيم «أوديسياس» بعد أن وضعت هذه الحرب أوزارها، وتصف ما لاقاه من الأهوال والمخاطر وهو في طريقه إلى بلاده.
وناظم هاتين القصيدتين هو شاعر اليونان الخالد هوميروس، وتعتبر قصائده الروائية البذرةَ الأولى في البلاغة اليونانية ودِعامةً للأدب اليوناني، ويرجع تاريخه إلى القرن العاشر أو التاسع قبل الميلاد، وكل ما يعرف عنه أنه كان ضريرًا في أُخريات أيامه، ولما لم تكن الكتابة شائعةً في عصره، فإنه كان يحفظ شعره عن ظهر قلب، وينشده على الناس وهو يعزف على قيثارته، متنقلًا من بلدٍ إلى آخر، أو يلقِّنه لجماعات المنشدين، الذين يُحيون الحفلات الخاصَّة والأعياد العامة، لإلقائه أو غنائه هناك.
وانتقل الشعر بوساطة المنشدين من جيلٍ إلى جيل، ولم تدوَّن الملحمتان إلا في عهد «سولون» المشرِّع الأثيني العظيم، الذي ولد حوالي سنة ٦٣٩ق.م.
ورغم أن ملحمتي الشاعر «هوميروس» وقصائده ملأى بالأساطير الخرافية، فقد أمكن للمؤرخين أن يستنبطوا منها أن سكان اليونان، كانوا يعرفون طرق زراعة الأرض وإقامة المدن المحصنة، وأنهم كانوا يتكلمون لغة، ولكنهم لم يتعارفوا ويتحدوا لوجود الحواجز الطبيعية، التي تعوق اتصالهم كالجبال والخلجان.
ورغم وجود هذه الحواجز الطبيعية، كانت تربط اليونان اجتماعات مقدسة عامة، يحجون فيها إلى معابد الآلهة في مواسم خاصة.
فمثلًا كان يعقد ممثِّلو كل الولايات اجتماعًا كبيرًا، مرة في كل أربعة أعوام بمكانٍ مرتفع يسمى «أوليمبيا»؛ حيث أقيم معبد كبير الآلهة زيوس فتقدم القرابين والضحايا، وتجري الألعاب المختلفة وأهمها: سباق على الأقدام، وسباق الخيل، وسباق العربات، والملاكمة والمصارعة، وكان الفوز في هذه الألعاب يعتبر شرفًا رفيعًا، مع أن الجائزة التي تقدم للفائز، ما كانت تعدو إكليلًا مصنوعًا من غصن الزيتون، وقد كانت هذه الألعاب هي نواة الألعاب الأوليمبية، وما زالت هذه الألعاب الدولية التي تقام كل أربع سنوات، وتشترك فيها جميع دول العالم تسمى بالأوليمبية، ومن أهم المجامع الدينية الاحتفال بالإله أبولو في معبده بجزيرة ديلوس.
وكانت الروح الوطنية قوية عند الإغريق، وهي التي جعلتهم يصدُّون الفرس فيما بعد، كما دفعت الإسكندر المقدوني إلى مد إمبراطوريته حتى بلاد الهند شرقًا.
وهكذا كانت الألعاب الأوليمبية والمجامع الدينية، واللغة وأشعار «هوميروس» من مظاهر الوحدة الهللينية.