مهد الفلسفة والعلوم السياسية
كان اليونان أول من اشتغل بالنظريات السياسية والفلسفة السياسية كعلمٍ من العلوم، ووصلوا فيها إلى استنتاجاتٍ معينة؛ نتيجة مشاهدات ومقارنات مختلفة؛ وبذلك أقاموا الفلسفة السياسية على أساسٍ علمي.
وقد قامت قبل اليونان عدَّةُ ممالك وإمبراطوريات، وفي كل واحدة من هذه الممالك القديمة، استقرَّتْ أنظمة حكومية على درجةٍ عظيمة من الرقيِّ والتقدُّم، غير أن هذه الأنظمة رغم وجودها عمليًّا، لم يظهر كاتبٌ أو باحثٌ بين الشعوب التي نشأت فيها لكي يشتغل ببحث النظريات والقواعد الأساسية والفلسفة التي تقوم عليها الدولة، فإننا لا نجد مثلًا من يبحث أنواع النظم الحكومية الموجودة في البلاد المختلفة، ومزايا وخصائص كل نوعٍ منها، والقواعد الأساسية التي يجب أن تقوم عليها علاقة الحكومة بالشعب أو الحاكم بالمحكوم.
بين هذه الشعوب القديمة التي سبقت اليونان كانت الأنظمة الحكومية قائمةً على أساس الملكية المستبدة المطلقة، التي فيها يحكم الملك، والشعب يخضع ويطيع، دون أن تكون في يد الشعب ضماناتٌ من القوانين والأنظمة الدستورية؛ لحماية هذا الشعب من سلطة الملك الغاشم.
أما عند اليونان فإننا نقابل كثيرًا من الفلاسفة الذين اشتغلوا بالبحث النظري والفلسفة الخاصة بنشأة الدولة، وكيفية تكوينها، والأنظمة الحكومية التي تقوم فيها، وفي واجبات الشعب نحو الحكومة، وواجبات الحكومة نحو الشعب.
يمكننا أن نقابل في اليونان عددًا من هؤلاء الفلاسفة بين السفسطائيين، كما أن أبحاث أفلاطون وأرسطو — والأخير بوجهٍ خاص — وصلت إلى درجةٍ كبيرة من التقدم العلمي في بحوث الفلسفة السياسية، حتى أُطلِق على أرسطو اسم «مؤسس علم الفلسفة السياسية» بالمعنى الصحيح؛ ولذلك اعتبر اليونان أصحاب الفضل الأول على الفلسفة السياسية بمعناها الصحيح.
وإذا أردنا الإلمام بحقيقة العوامل التي ساعدت اليونان على ذلك، لوجدنا أن اليونان أكثر من أي قومٍ آخرين في التاريخ القديم، كان لديهم مجالٌ واسعٌ لممارسة التجارب السياسية؛ وذلك راجع لطبيعة بلادهم التي أخَّرَتْ قيام وَحْدَةٍ سياسية بينهم، وقسمتهم إلى وحدات سياسية صغيرة أو ولايات منفصلة عن بعضها، كل واحدة منها وحدة سياسية قائمة بذاتها، لها أنظمتها الاجتماعية والسياسية والدستورية الخاصة بها.
وقد ساعدت هذه الحالة على ظهور مجموعة من الأنظمة السياسية والحالات الفكرية، استمد منها المشتغلون بالبحث السياسي النظري، بعد نضوجها، المواد الأولية التي أسَّسوا عليها بحوثهم؛ ولهذا السبب تم الجزء الأكبر من بحوث العلوم السياسية في القرنين الخامس والرابع (على الخصوص) قبل الميلاد.
كذلك كان تعدُّد الأنظمة الحكومية في الولايات اليونانية؛ مما شجع الفلاسفة اليونان على عمل مقارنات بين هذه الأنظمة ومزاياها؛ مما أدى إلى الاشتغال بتحليل هذه الأنظمة إلى عناصرها الأولية، وهذا بدوره تطرَّق بهم إلى البحث في مسائل مختلفة، مثل: أصل الدولة ونشأة الدولة، وغير ذلك من موضوعات البحث السياسي النظري؛ ولذلك فقد اشتغل عدد من الفلاسفة اليونان ببحث النظريات المختلفة المتعلِّقة بأصل الدولة، ومنها: نظرية الغلبة، ونظرية الزعامة الأبوية التي أخذ بها أرسطو، وكذلك نظرية التعاقد التي يرجع منشؤها إلى اليونان، والتي نادى بها السفسطائيون في القرن الخامس، وأفلاطون في النصف الأول من القرن الرابع ق.م.
ومما يستحق الذكر أيضًا أن اليونان بطبيعة بلادهم، كانوا قومًا يميلون إلى الأسفار والهجرة والاستعمار، وكانت لهم مستعمرات عديدة على سواحل آسيا الصغرى وسورية وجزر البحر الأبيض، والأرخبيل وكريت وإيطاليا وصقلية، وقد أدى هذا إلى توسيع مدارك اليونان فيما يتعلق بالأنظمة الحكومية السائدة في البلاد الأخرى، واقتباس تجارب سياسية جديدة ساعدت الفلاسفة اليونان على التوسُّع في بحوثهم بميدان النظريات السياسية.
أما طبيعة البلاد وانتشار الجبال فيها، فقد خلق من اليونان شعبًا يميل إلى الحرية ولا يخضع بسهولة لاستبداد الملوك، بعكس أهل البلاد التي ينبسط فيها السطح، فتتصل جميع أقسامها اتصالًا وثيقًا، ويرتبط أهلها ارتباطًا شديدًا بالأرض التي يعيشون عليها من الوجهة السياسية والاجتماعية؛ مما كان يساعد الملوك في مثل هذه البيئات على إقامة سلطة استبدادية مطلقة لأنفسهم.
ومن الطبيعي ألَّا ينفسح المجال أمام الشعوب في مثل هذه البيئات؛ للبحث في أنظمة الحكم أو أشكاله؛ إذ لا شك أن هذه البحوث تتعارض مع نوع الحكم السائد ومع رغبة الحكام.
ولما كان نظام «المدينة الحكومية» هو النظام السائد في اليونان، فقد سهل ذلك دراسة الأنظمة الحكومية وتحليلها إلى عناصرها وتطورها، فقد كانت المدينة الحكومية بسيطة التكوين، لا تدخلها عوامل معقدة من جهة حجمها أو عدد سكانها الذي لم يكن ليزيد غالبًا عن ٣٠٠٠٠ نسمة، وقد سهل هذا مهمة البحث أمام المشتغلين بالفلسفة السياسية من اليونان، كما جعل من الميسور إقامةَ أنظمةٍ دستورية وسياسية، لم يكن من الممكن إقامةُ مثلها في البلاد ذات الحدود البعيدة، والمساحات الكبيرة، كما كان الحال في الجهات الأخرى.
وفي مدينة حكومية محدودة المساحة وعدد السكان، تكون الرابطة التي تجمع بين الفلاسفة الذين يظهرون فيها أقوى من الرابطة التي قد تقوم بين الفلاسفة في بلادٍ واسعة المساحة؛ ولذلك كان الفلاسفة اليونان يشعرون شعورًا مباشرًا بالحالة السائدة في ولايتهم، كما قامت بينهم وبين سكان الولاية عدة روابط على أساس المصالح المشتركة؛ مما شجعهم على التغلغل في بحث النواحي المختلفة السائدة في الولاية، ومن بينها النواحي السياسية والحكومية والدستورية.
ولا يمكن أن نغفل في هذا المقام تأثير التقاليد.
وقد تضافرت جميع هذه العوامل الطبيعية والوراثية، فساعدت على قيام أنواع متعددة راقية من النظم الدستورية، وكان قيام هذه النظم علاوة على الظروف الأخرى عاملًا مساعدًا على نشأة البحث السياسي النظري في هذه البلاد، حتى نالت اليونان شرفَ خلق العلوم السياسية.