لمحة من تاريخ اليونان
شهدت السنوات الأخيرة من حياة أرسطو، والسنوات التي أعقبت موته؛ بدء تغير هام في ظروف اليونان السياسية، وهو تطور «المدينة الحكومية»، وتحولها إلى وحدةٍ أكبر، وقد استمر هذا التغيير مدةً من الزمن، بل يمكن القول: إنه منذ بدأ التغيير، لم تقم للمدن الحكومية اليونانية قائمة بالشكل الذي كانت قائمة به من قبل.
وكان قيام مملكة مقدونيا أولًا، ثم الإمبراطورية المقدونية بعد ذلك، أكبر عامل ساعد على القضاء على استقلال المدن الحكومية اليونانية، حتى فقدت هذه المدن كيانها ومظاهرها الأساسية القديمة، عندما كانت كل مدينة منها عبارةً عن وحدة سياسية اجتماعية قائمة بذاتها.
وفي منتصف القرن الثاني قبل الميلاد (١٤٩ق.م.)، تمكنت روما من بسط سيادتها على شبه جزيرة اليونان، وبهذه الكيفية أصبحت الولايات اليونانية جزءًا من الإمبراطورية الرومانية التي كانت في ذلك الوقت بسبيلها إلى إقامة إمبراطورية عالمية.
ولكن على الرغم من أن بلاد اليونان أصبحت من الوجهة السياسية إقليمًا رومانيًّا، إلا أن روما؛ نظرًا لتأصل نظام المدن الحكومية بها، أبقت على معظم المدن الحكومية في اليونان، كما احتفظت لها بأنظمتها الدستورية وتقاليدها وقوانينها، رغم خضوعها للسيادة الرومانية.
ولما شبَّت الحرب الأهلية في روما بين قيصر وبومبي، انحازت أثينا — وكانت ولا تزال إذ ذاك مستعمرة رومانية — إلى جانب بومبي، ومع ذلك فإنه لما انهزم بومبي وانتصر قيصر، عامل خصومه بمنتهى الرفق، ولكن الاعتراف بالجميل لم يدُم طويلًا، فما لبثت أثينا أن ربطت عجلتها ببروتس وكاسياس، إذ إنها تصورت في قاتلي قيصر بطولة تشبه البطولة التي كانت تتغنى بها في أبطالها.
وفي الصراع الذي شب بعد ذلك بين أوكتافياس وأنطوني، انضمت أثينا إلى أنطوني، فلما انتصر أوكتافياس شدَّد قبضته على أثينا، ولما جاء الإمبراطور أدريان بذل محاولة كريمة لكي يعيد إلى أثينا عظمتها، ولكن غزوات القوط كانت قد بدأت تصل إلى أثينا.
وفي القرن الثالث عشر للميلاد سقطت أثينا في يد بالدوين، وحكمها بعد ديلتر من بيت أراجون، وعند وفاته سقطت في يد بيازيد إمبراطور الأتراك.
وتناوب الحكم عليها بعد ذلك الأسبانيون والفينيسيون، ولكن في عام ١٤٦٠م سقطت شبه الجزيرة كلها في يد الأتراك، وقرب ختام القرن السابع عشر غزا الفينيسيون بلاد اليونان مرة أخرى، واستعادوا أثينا من يد الأتراك، ولكن الحكومة المركزية في فينيسيا لم تكن من القوة بحيث يمكنها الاحتفاظ بأثينا؛ ولذلك فإن هذه البلاد ما لبثت أن عادت ثانية في عام ١٨١٧م إلى حكم الأتراك، وعندما تولى علي باشا حكم هذه البلاد، ساءت حالة أهلها أكثر من ذي قبل.
ومنذ ذلك الوقت بدأ جهاد الشباب اليوناني في سبيل الحرية، وتألَّفَتْ أول جمعية سرية للجهاد من أجل الحرية في سانت بيترسبرج، ولكن يوسف باشا أخضع الثورة التي قامت في جالاتز.
وقد كانت الروابط الاقتصادية بين اليونان وتركيا وثيقة، كما كان اليونانيون يتمتعون بمركزٍ تجاري ممتاز في القسطنطينية، وكان الأتراك يعتمدون عليهم اعتمادًا كبيرًا من هذه الوجهة.
ولكن هذا المركز الممتاز الذي كان يتمتع به اليونان في داخل الإمبراطورية العثمانية، هو الذي مهد لهم سبيل الثورة والاستقلال، كما سنرى في الفصل القادم، عندما نسرد الأحداث التي مهدت لحركة الانفصال، ثم الاستقلال التام عن الإمبراطورية العثمانية.
وقبل أن يمر قرن كامل على استقلال اليونان حاول اليونانيون، عند نشوب الحرب العظمى (١٩١٤–١٩١٨م)، الاستيلاء على بعض الأجزاء الساحلية من بلاد الأناضول، ومع أنهم لم ينجحوا في ذلك، إلا أن هذه المحاولة تدل دلالةً واضحة على مدى طموحهم.